فاتحة

يُعتبر كتاب التوراة بالنسبة للباحث في الميثولوجيا وتاريخ الأديان أحد المفاتيح المهمة لفهم آخر حلقات التاريخ الديني في منطقة الشرق القديم. كما يُعتبر تاريخ فلسطين مقدمةً لا غنى عنها لفهم كتاب التوراة، وتوضيح السياق التاريخي لظهور أسفاره، وفهم الوسط الثقافي الذي أنتجها، والوضع الفكري لمحرريها، وبذلك يغدو تاريخ فلسطين جزءًا لا يتجزأ من تاريخ الدين في المنطقة المشرقية.

من هنا جاء اهتمامي الشخصي بهذا التاريخ، وسعيي لكشف غوامضه والتعمق في إشكالياته، وذلك على هامش بحثي الأساسي في الميثولوجيا وتاريخ الدين، ثم تحول الهم الهامشي تدريجيًّا إلى هم رئيسي، فوضعت كتابي الأول في تاريخ فلسطين عام ١٩٨٩ وكان بعنوان «الحدث التوراتي والشرق الأدنى القديم». ولكن فيض المعلومات الأركيولوجية الجديدة — الذي تراكم خلال ثمانينيات ومطلع تسعينيات القرن العشرين، والذي أخذ الآن فقط ينتظم في شبكة مفهومة أمام المؤرخ — قد دفع الموضوع مجددًا إلى بؤرة اهتماماتي؛ لأن هذه المعلومات الجديدة أخذت تفرش الأرضية اللازمة لإعادة النظر في تاريخ فلسطين، ومسألة نشوء إسرائيل القديمة وزوالها في السياق العام لهذا التاريخ، وفهم علاقة تاريخ إسرائيل بالتاريخ اليهودي، وهي علاقة قد بدأت الآن بالاتضاح على خلفية المعلومات الجديدة، وذلك بعد فترة طويلة من اختلاط البحث التوراتي بالبحث التاريخي، وسيطرة الأول على الثاني.

وبما أن تاريخ آرام دمشق قد تقاطع مع تاريخ مملكتي إسرائيل ويهوذا خلال النصف الأول من الألف الأول قبل الميلاد، وهي الفترة التي شهدت نشوء هذه الممالك الثلاث وحروبها وتحالفاتها واختلاف مصائرها، فقد تهيأت لي فرصةٌ انتظرتها طويلًا لأقول في تاريخ مملكة دمشق الآرامية ما لا يعرفه القارئ العربي حتى الآن، بسبب قلة الدراسات التي تعرضت لهذا التاريخ، وسيطرة وجهة النظر التوراتية عليها، فسلطتُ الضوء على حقبة مهمة من تاريخ سوريا الآرامية لم يتم حتى الآن إضاءتها والربط بين أحداثها. فلقد جعلتْ مملكة دمشق من نفسها في تلك الحقبة القوة العظمى الثانية بعد آشور في منطقة الشرق القديم، ودافعت عن استقلال مناطق غربي الفرات في مواجهة آشور فترةً طويلةً من الزمن، استطاعت خلالها الثقافة الآرامية الناشئة تثبيت أقدامها، وتفتيح إمكاناتها الذاتية. وعندما تهاوت دمشق، وانهارت الممالك الآرامية سياسيًّا أمام آشور، قامت هذه الثقافة بالاستيلاء على غازيها من الداخل، فتكلمت آشور الآرامية بدلًا عن لغتها، وعندما شرب الفاتح الآشوري من الكأس التي سقاها للشعوب المغلوبة، وورث الكلدان ثم الفرس فيما بعد أملاكه الغربية، شمل المدى الجغرافي للثقافة الآرامية المنطقة الممتدة من حدود الهند إلى البحر المتوسط، فيما يدعوه المؤرخ أرنولد توينبي بالعالم السوري.

ورغم أن اهتماماتي الأصلية بالميثولوجيا وتاريخ الأديان كانت وراء إنجازي هذا الكتاب، إلا أن القارئ سوف يلاحظ منذ البداية أن المسألة الدينية لم تأخذ أكثر من الحيز اللازم لها، فهذه الدراسة تبقى حتى النهاية ضمن إطار البحث التاريخي الصرف، وذلك في كل ما يتعلق بالمرجعية والمقتربات والمنهج. وهي تعتمد أحدث المعلومات التي قدمها علم الآثار وعلم التاريخ والعلوم المساعدة الأخرى، خلال سبعينيات وثمانينيات ومطلع تسعينيات القرن العشرين، وهي معلومات مختلفة جذريًّا، وتضع بين أيدينا المقدمات اللازمة للانعطاف نحو آفاقٍ جديدة في كتابة تاريخ فلسطين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤