خاتمة
أفق الخرافة وبداية التاريخ اليهودي

(١) خلاصة ما تقدم

لقد تتبعنا في القسم الأول من هذه الدراسة إسرائيل التوراتية كما رسمتها الأسفار المُسمَّاة بالأسفار التاريخية في كتاب التوراة، وبذلنا كل جهدٍ ممكن من أجل التحقق من الوجود التاريخي لكل مرحلةٍ من مراحل تشكُّلها وتطورها، وذلك ابتداءً من عصر الآباء، وانتهاءً بانهيار المملكة الموحدة وانقسامها إلى مملكتين في أواخر القرن العاشر قبل الميلاد، فلم نعثر على بيِّنة واحدة تؤكد ذلك الوجود. وعلى العكس، فإن الشواهد الجديدة التي تجمعت لدينا تنفي نفيًا قاطعًا أية إمكانيةٍ لظهور كيانٍ سياسي أو إثني من أي نوعٍ اسمه إسرائيل قبل أواسط القرن التاسع قبل الميلاد، وذلك عقب بناء مدينة السامرة التي صارت عاصمةً لمنطقة الهضاب المركزية في فلسطين، فهنا يظهر لأول مرة كيانٌ سياسي اسمه إسرائيل، وتأخذ ملامحه الإثنية بالتوضح عقب الاتجاه نحو المركزية السياسية التي بدأت تجمع تدريجيًّا القرى الزراعية التي نشأت حديثًا في عصر الحديد الأول، والتي جاء مستوطنوها من مصادرَ متنوعة لا من مصدرٍ واحد. ومرةً أخرى، فإن إسرائيل-السامرة هذه لا يربطها بصورة إسرائيل-السامرة في التوراة إلا أَوْهى الروابط. وكذلك يهوذا التي نشأت بعدها بقرنين من الزمان. فالدولتان قد نشأتا تباعًا في فلطسين بعد القرن العاشر قبل الميلاد، ولم تسبقهما مملكةٌ واحدة كانت أصلًا لهما، ولا وجود لأرضيةٍ مشتركة جمعت بينهما. وكما نشأت هاتان الدولتان تباعًا فقد دُمِّرتا تباعًا أيضًا، واختلفت مصائرهما التاريخية أيما اختلاف.

إن البحث عن التاريخ في النص التوراتي هو عملٌ أشبه بالبحث عن السمسم في كيسٍ من البندق؛ لأن النص التوراتي ليس نصًّا تاريخيًّا بأي معيارٍ حديث أو قديم، وهو لم يقصد لأن يكون نصًّا تاريخيًّا، إنه قصة أصول يغيب فيها الحدث المدقَّق المحقَّق لصالح العقدة القصصية. وحتى عندما تتوفر للمحرر التوراتي بعض المعلومات التاريخية عن الفترات المتأخرة من حياة مملكتَي إسرائيل ويهوذا فإنه لا يضع هذه المعلومات في سياقها التاريخي الصحيح، ولا يعمد إلى فهمها من خلال الإطار العام للأحداث الجارية في المنطقة، بل من خلال المنظور الأيديولوجي اللاهوتي، الذي لا يرى في الحدث المرصود إلا نتاجًا لردود الفعل المتبادلة بين الإله وشعبه. إن الأسفار المدعوة بالتاريخية هي سلسلةٌ من المرويات الشعبية ذات الأصول المختلفة، جُمِعت إلى بعضها في نسيجٍ واهي الحبكة، وترتيب زمني مفروض عليها من خارجها، سواء فيما يتعلق بأحداث القصة الواحدة، أم فيما يتعلق بالقصص المتتابعة التي أُلصق بعضها إلى بعض، والتي تُظهر فجواتٍ لا يمكن عبورها بشكلٍ منطقي. أما الزمرة الثانية الرئيسية من أسفار التوراة، وهي أسفار الأنبياء، مثل إشعيا وإرميا وحزقيال، فليست إلا مجموعاتٍ من أقوالٍ ومأثوراتٍ حكموية قديمة، تختصر ألف عام تقريبًا من التقاليد النبوئية في فلسطين والمناطق المجاورة لها. وموضوع هذه التقاليد هو إدانة السلوك العام للناس، ونقد الحكومات، والكشف عن الانحرافات والمظالم والانحطاط الخلقي والنفاق الديني في المجتمع. وقد قام المحررون التوراتيون بجمع هذه المادة الغنية القديمة، فرتَّبوها وصنَّفوها ووضعوها على لسان شخصياتٍ نبوية متميزة قد يكون بعضها من أصل تاريخي. ثم جعلت هذه المادة تدور حول فكرةٍ أساسية في أسفار الأنبياء جميعها، وهي أن دمار إسرائيل ويهوذا كان بمثابة عقابٍ إلهي على خطايا الجماهير والحكام، وتجاهلهم عبادة الإله الحق، وأن الرحمة الإلهية سوف تلحق بالتوابين العائدين من السبي البابلي إلى حظيرة الرب. ورغم احتواء أسفار الأنبياء على العديد من الأخبار المتعلقة بدولتَي إسرائيل ويهوذا وأخبار فترة السبي البابلي إلا أن هذه الأخبار ترد خارج سياقاتها التاريخية، وتُوظَّف لخدمة الرؤية اللاهوتية.

إنَّ همَّ المحرر التوراتي ليس همًّا تاريخيًّا بالدرجة الأولى، بل همٌّ تراثي، إنه يعمل على جمع وتصنيف وإعادة صياغة تركةٍ ثقافية شعبية متعددة النشأة والأصول وخطوط التداول، ليصنع منها قصة أصول. وضِمن هذا الجنس الكتابي فإن المحرر يلجأ إلى استبعاد ما حصل فعلًا، هذا إذا توفرت لديه المادة الموثقة، لصالح رغبته في تصديق سلسلةٍ ما من الأحداث، أو جَعْل قارئه في حالة تصديقٍ لها. وليس الناتج الأخير لهذه العملية الشاقة فعلًا والمعقدة إلا جنسًا كتابيًّا هجينًا لا يربطه بجنس الكتابة التاريخية إلا أَوْهى الروابط.

لقد استطعنا من خلال النقد النصي والتاريخي والأركيولوجي للأسفار التاريخية أن نُظهر وبالتفصيل أن محرري التوراة في الفترات المتأخرة إبان العصر الفارسي لم يكن بين أيديهم معلومات تتعلق بتلك الفترات الموغلة في القِدَم التي يروون عن أحداثها، سواء أكانت هذه المعلومات مُتناقَلة شفاهًا أو كتابة، وذلك من عصر الآباء إلى انهيار المملكة الموحدة. أما المصادر الكتابية — التي يدَّعي المحررون في بعض المواضع الاستناد إليها — فإننا غير متأكدين من وجودها أصلًا، ولا من الطريقة التي عمد المحررون إلى الإفادة منها، وذلك مثل سفر ياشر وسفر موسى وغيرها.

ففيما عدا مصر — التي لم يذكر النص التوراتي اسم فرعونها في سفر التكوين وفي سفر الخروج، ولم يورد أية معلوماتٍ يمكن أن تساعد على تبيُّن الحقبة الموازية في التاريخ المصري — فإن النص التوراتي لم يتعرض إلا للشعوب والقبائل المجاورة للمناطق الهضبية التي قامت على أراضيها فيما بعد دولتا إسرائيل ويهوذا، وذلك مثل موآب وآدوم وعمون في الشرق، وفلستيا في الغرب. وغالبًا ما وردت أسماء هذه الشعوب في سياقٍ زمني يتضمن مفارقةً تاريخية واضحة. فممالك شرقي الأردن التي قهرها موسى في آخر مراحل ملحمة الخروج لم تكن موجودةً في ذلك الوقت على ما يبينه المسح الأركيولوجي للمنطقة. ومنطقة الساحل الفلسطيني الجنوبي — التي يدعوها سفر الخروج بأرض الفلسطينيين (= الفلستيين) — لم تكن قد استقبلت زمن الخروج أية موجةٍ من موجات شعوب البحر من فلستيين وغيرهم. ومن بين الممالك الفينيقية على الساحل السوري جميعها لم يَرِد إلا ذكر صيدون. أما بقية تلك الممالك من أوغاريت إلى صور فغائبةٌ تمامًا. ومثلها تلك الممالك الكبرى التي ازدهرت من حول أولئك الإسرائيليين المفترضين عبر عصورهم. فبابل حمورابي في بلاد النهرين، وماري على الفرات الأوسط، وحلب (يمخاض) وآلالاخ في الشمال السوري، وقطنة وقادش في سوريا الوسطى؛ غائبةٌ عن سير عصر الآباء الذين كانوا يرتحلون بين الفرات وفلسطين، وكأنما يتحركون على مسرحٍ خالٍ تمامًا إلا من القبائل الرُّحَّل وآبار المياه في الواحات. وكذلك الأمر فيما يتعلق بالممالك الحثية الجديدة في الشمال السوري، والممالك الآرامية الجديدة على الخابور والفرات وفي المناطق الغربية، التي ازدهرت منذ مطلع عصر الحديد، فجميعها غائبٌ عن عصر يشوع وعصر القضاة، وكذلك مصر التي كانت تسيطر في ذلك الوقت على وادي يزرعيل وعددٍ من النقاط الاستراتيجية الأخرى. وفي عصر المملكة الموحدة لا يَرِد ذكرٌ لآشور التي كان نفوذها قد تجاوز الفرات ووصل إلى مناطق الساحل، ولا للممالك الآرامية القوية التي كانت تقارع آشور على الفرات وفي الشمال السوري. وبدلًا من هذه الممالك التي تُجمِلها أخبار الملك داود تحت عنوان «آرام التي في عَبْر النهر»، فإن محرر سفر الملوك الأول يبتكر ممالك لم يَرِد لها ذكرٌ في التاريخ، ولم تقم الدلائل الأركيولوجية على وجودها، وذلك مثل آرام صوبة ومعكة وبيت رحوب وجيشور وغيرها. وبالمقابل فإنَّ السجلات الكتابية للحضارات القديمة جميعها لم تورد خبرًا واحدًا يدعم الرواية التوراتية من عصر الآباء إلى قيام أسرة الملك عُمري وبناء مدينة السامرة في النصف الأول من القرن التاسع قبل الميلاد.

فمع قيام أول أسرة حاكمةٍ في إسرائيل، وهي أسرة الملك عُمري الذي بنى السامرة حوالي عام ٨٨٠ق.م.، يبدأ اسم إسرائيل بالظهور في وثائق الشرق القديم، ولكن بصيغة إسرائيل-السامرة لا بصيغة دولة كل إسرائيل التوراتية. أما دولة يهوذا فلم يَرِد ذكرها، ولا ذكر أحدٍ من ملوك أورشليم إلا بعد مرور قرنٍ ونصف القرن على ورود اسم إسرائيل وأسرة عُمري. فقد ورد اسم آحاز ملك يهوذا في وثائق آشور حوالي عام ٧٣٢ق.م. بشكلٍ عارض، وضمن لائحة الملوك الذين أرسلوا الجزية إلى الملك تغلات فلاصَّر في نينوى، وهذا أول ذكرٍ في التاريخ لأي ملكٍ من ملوك يهوذا أو أورشليم، الأمر الذي يقدِّم بيِّنة إضافية على أن مملكة يهوذا قد نشأت بعد مملكة إسرائيل ولم تعاصرها إلا فترةً قصيرة فقط. من هنا، فإن ملوك أورشليم السابقين الذين يَرِد ذكرهم في المرويات التوراتية على أنهم ملوك يهوذا لم يكونوا (في حال صحة الأخبار التوراتية عن أسمائهم وسنوات حكمهم) سوى أمراء محليين لمدينة أورشليم التي كانت صغيرةً ومنعزلة عن الأحداث الدولية.

وتقدِّم نتائج علم الآثار صورةً أكثر تخييبًا للآمال في العثور على إسرائيل التوراتية. فالمواقع الفلسطينية جميعها في منطقتَي الهضاب المركزية ومرتفعات يهوذا، وخارجهما؛ تُظهر استمرارية ثقافية محلية كنعانية فيما بين عصر البرونز الأخير وعصر الحديد الثاني، ولا يوجد أي دليلٍ أثري على حلول أقوامٍ جديدة في هذه المنطقة جلبت إليها تقاليد ثقافية مغايرة. وقد سقطت اليوم إلى غير رجعة نظرية الاقتحام العسكري لأرض كنعان من قِبَل القبائل الإسرائيلية الموحدة تحت قيادة يشوع بن نون، وتدمير مدنها الرئيسية؛ لأن نتائج التنقيب الأثري في هذه المواقع تنفي الرواية التوراتية. أما عن المملكة الموحدة، فإن المسح الأركيولوجي للمناطق الهضبية — التي كانت نواة هذه المملكة — ينفي وجود قاعدةٍ سكانية واقتصادية في هذه المناطق خلال القرن العاشر، تسمح بقيام مثل هذه المملكة. فمملكة داود وسليمان ليستا مستبعدتين تاريخيًّا فقط، بل إنهما مستحيلتا الوجود. ناهيك عن نتائج التنقيب الأثري في موقع أورشليم ذاتها، والذي أظهر أن مدينة أورشليم في القرن العاشر قبل الميلاد لم تكن إلا بلدةً صغيرة جدًّا، ومن غير الممكن أن تكون هذه البلدة قد استطاعت بناء هيكل ديني يربو على مساحتها، وبناء قصورٍ ملكية لسليمان وزوجاته، وصروحًا مدنية وإدارية ضخمة. وذلك إضافةً إلى عدم العثور على أي شاهدٍ أثري على أن هذه الأبنية قد قامت في يومٍ من الأيام.

أما في القسم الثاني من دراستنا فقد تتبعنا اتجاهات البحث التاريخي الحديث في أصول إسرائيل، وبسطنا أمام القارئ أهم النظريات الحديثة في هذا الموضوع، فوجدنا أنه فيما عدا البقية المتعنتة من أصحاب الاتجاه المحافظ التقليدي فإن نظريات الباحثين المحدثين قد نحَّت جانبًا الرواية التوراتية في أصول إسرائيل، وحاول كلٌّ منها على طريقته البحث عما حدث فعلًا خلال الفترة الانتقالية من عصر البرونز الأخير إلى عصر الحديد وأدى إلى نشوء إسرائيل. ثم انتقلنا اعتمادًا على النتائج الميدانية للمسح الأركيولوجي الشامل لمنطقتَي الهضاب المركزية ومرتفعات يهوذا إلى رسم الصورة الأكثر قربًا إلى الحقيقة التاريخية لتشكُّل مملكة إسرائيل التاريخية ومملكة يهوذا، ووجدنا أن هاتين الدولتين قد نشأتا على الخلفية الثقافية العامة لعصر البرونز الأخير في فلسطين في حقبتين متباعدتين وشروطٍ مختلفة. فبينما اكتملت القاعدة السكانية والاقتصادية لقيام إسرائيل في أوائل القرن التاسع قبل الميلاد، فإن القاعدة السكانية والاقتصادية اللازمة لقيام يهوذا لم تكتمل قبل أواخر القرن الثامن قبل الميلاد. وقد جاء سكان هاتين الدولتين من مصادر فلسطينية محلية متعددة ومن المناطق الرعوية في البلاد المجاورة، إضافةً إلى شرائحَ سكانية مُقتلَعة من مواطنها في حوض المتوسط. ويُظهر الطابع الثقافي الكنعاني السائد في المواقع التي تم التنقيب فيها جميعها أن الشريحة السكانية المحلية لا بد وأنها كانت الغالبة على التركيب السكاني في إسرائيل ويهوذا. من هنا، فإن الروابط التي يمكن أن تكون قد جمعت بين هاتين المملكتين ليست أكثر من الروابط التي جمعت أية دولتين أُخريَين في منطقة فلسطين والجنوب السوري، والقاعدة المشتركة بينهما ليست إلا من ابتكار قصة الأصول التوراتية. وقد بيَّنا أن المساحة التي شغلتها كل من إسرائيل ويهوذا لم تتعدَّ المناطق الهضبية من فلسطين إلا في الأزمنة المتأخرة، وعلى شكل مدٍّ استعماري قصير الأجل، لم يتوصل إلى استيعاب سكان المناطق المُستعمَرة وضم أراضيها بشكلٍ كامل. وإذا كان كلٌّ من إسرائيل ويهوذا قد حقق في منطقته الهضبية نوعًا من الإثنية خلال الفترة القصيرة لحياته، فإن هذه الإثنية لم تصمد أمام التخريب الشامل للطابع الإثني لفلسطين نتيجة لسياسة الاقتلاع والتهجير الآشورية، ثم البابلية. ودخلت مناطق فلسطين جميعها العصر الفارسي وقد تغيرت بشكلٍ جذري.

إضافة إلى تباين أصول إسرائيل ويهوذا، واختلاف مسار حياتهما ومصائرهما التاريخية، فإن القاعدة الدينية التي جمعت بينهما لم تكن أكثر تجانسًا من القاعدة الدينية التي جمعت أية مملكتين في فلسطين وسوريا الجنوبية خلال تلك الفترة من حياتهما. لقد ابتكرت قصة الأصول التوراتية كيانًا إثنيًّا اسمه «كل إسرائيل» منذ مرحلة الخروج من مصر، ثم ابتكرت له صيغةً سياسية وجدتها في مملكة داود وسليمان. ولكي تكتمل وحدة هذا الكيان فقد سحب محررو التوراة تصوراتهم الدينية التي نَضِجت خلال العصر الفارسي على مراحل قصة الأصول جميعها، وجعلوا الإله الواحد المجرَّد الذي بشَّرت به أسفار الأنبياء إلهًا للقبائل الإسرائيلية منذ بداياتها الأولى. فهذا الإله المتأخر هو نفسه إله الآباء، وهو الذي أعطى الشريعة لموسى على جبل حوريب، وهو الذي بنى له سليمان هيكلًا في أورشليم. إلا أن المحررين لم يفلحوا في ضبط الإطار الأيديولوجي الديني لتلك القصص القديمة التي بقيت تسبح في أجوائها الدينية الأصلية، وكهنوت أورشليم في العصر الفارسي الذي كان مدفوعًا بهاجسٍ لاهوتي توحيدي بتأثير المناخ الفكري السائد خلال العصر البابلي الجديد والعصر الفارسي قد أخفق في فرض رؤياه عبر تفاصيل قصة الأصول.

يطالعنا سفر إشعيا على وجه الخصوص بعددٍ من التصورات الجديدة حول إلهٍ واحد شمولي لم نعهدها عبر أسفار الكتاب. فنقرأ فيه على سبيل المثال: «أنا هو. أنا الأول وأنا الآخر، ويدي أسست الأرض ويميني نشرت السموات. أنا أدعوهن فيقفن معًا» (٤٨: ١٢–١٣). «هكذا قال الرب: السماء كرسيي والأرض موطئ قدمي. أين البيت الذي تبنون لي، وأين مكان راحتي، وكل هذه قد صنعتها يدي» (٦٦: ١–٢). «أنا الرب ولا إله غيري، إلهٌ بارٌّ ومخلص ليس سواي. التفتوا إليَّ وأخلصوا يا جميع أقاصي الأرض، لأني أنا الله وليس آخر. بذاتي أقسمت، خرج من فمي الصدق كلمة لا ترجع: أنه لي تجثو كل ركبةٍ، يحلف كل لسان» (٤٥: ٢١–٢٣). وهذا الإله الجديد — الذي يعلن نفسه إلهًا للشعوب جميعها في أقاصي الأرض — لا يرضى بالذبائح، ولا تلذُّ له رائحة المُحرَقات مثل ذلك الإله القديم، بل يطلب الخير في الناس والعمل الصالح. نقرأ في عاموس: «اطلبوا الخير لا الشر لكي تحيوا … بغضتُ كرهتُ أعيادكم، ولست ألتذُّ باعتكافاتكم. إني إذا قدَّمتم لي مُحرَقاتكم وتقدماتكم لا أرضى، وذبائح السلامة من مُسمَّناتكم لا ألتفت إليها. أبعد عني ضجة أغانيك، ونغمة ربابك لا أسمع. وليَجرِ الحق كالمياه، والبر كنهرٍ دائم» (عاموس، ٥٥: ١٤). وفي هوشع نقرأ: «إني أريد رحمةً لا ذبيحة، ومعرفة الله أكثر من مُحرَقات» (هوشع، ٦: ٦). وفي إشعيا نقرأ أيضًا: «لماذا لي كثرة ذبائحكم؟ يقول الرب. أُتخِمتُ من مُحرَقات كباش وشحم مُسمَّنات … اغتسلوا، تنقوا، اعزلوا شر أفعالكم من أمام عيني» (إشعيا، ١: ١١–١٧). وبالطبع فإن إشعيا، أو أي واحدٍ من هؤلاء الأنبياء، سوف يصاب بالهلع إذا قرأ في الأسفار السابقة أن الله قد تناول وجبة الغداء تحت الشجرة في ضيافة إبراهيم وسارة، وأن يعقوب قد صارعه حتى طلوع الفجر عند مَخاضة يبوق، وأن سبعين من شيوخ إسرائيل قد صعدوا جبل حوريب مع موسى ورأوا الله وجهًا لوجه، وأكلوا وشربوا هناك، إلى آخر هذه القصص التي تنتمي إلى أيديولوجيا مختلفة تمامًا عن أيديولوجيا أسفار الأنبياء.

وقد انتقل بنا البحث أخيرًا إلى دراسة وتفسير الأحداث التي جرت في فلسطين وبلاد الشام خلال النصف الأول من الألف الأول قبل الميلاد، وألقينا الضوء على دور مملكة آرام دمشق في تلك الأحداث وعلاقاتها مع آشور وبقية دول المنطقة، ورصدنا بالتفصيل المجريات التي قادت إلى نهاية دمشق كمملكةٍ مستقلة، وإلى دمار كلٍّ من إسرائيل ويهوذا، وذلك من خلال منهجٍ علمي يعتمد بالدرجة الأولى على السجلات التاريخية والوثائق الكتابية، ويربط الأسباب بالنتائج دون شَطط في الخيال، أو تغليب للهوى الشخصي، أو مسايرة لما يعرفه الناس على حساب ما يجب أن يعرفوه.

عند هذه النقطة، أعتقد أن السؤال الكبير الذي صرنا مُطالَبين بالإجابة عليه هو التالي:

إذا لم تكن إسرائيل التوراتية قد وُجدت قط، وإذا لم تكن دولتا السامرة ويهوذا قد نشأتا عن المملكة الموحدة لداود وسليمان، ولم يكن لهما قاعدةٌ مشتركة جمعتهما على أي صعيد، وإذا لم يكن للدين التوراتي أي أثرٍ في فلسطين قبل العصر الفارسي، ولم يكن ليهود ما بعد السبي علاقات مباشرة بأهل إسرائيل ويهوذا ما قبل السبي؛ فلماذا وكيف تم خلق هذه الخرافة الكبرى؟

(٢) اليهودية والنظام العالمي الجديد للإمبراطورية الفارسية

لم تكن عمليات التهجير الجماعي التي مارسها الآشوريون بمثابة عقاب للشعوب المغلوبة فقط، وإنما هدفت إلى تحقيق حالةٍ من التوازن الإثني والسياسي في المناطق التي تم ترحيل الشعوب المسبية إليها. فكان الآشوريون، ومِن بعدهم البابليون، يمنحون المهجَّرين في مناطقهم الجديدة أراضي خصبةً، ويبسطون حماية الدولة عليهم لكي يغدو هؤلاء بمثابة ممثلين للسلطة الإمبراطورية في تلك المناطق، فيعملون على معارضة أو قمع النزعات التحررية التي يمكن أن تنشأ بين السكان ضد الحاكم. وقد لعب المهجَّرون هذا الدور المرسوم لهم حتى في بعض المدن الكبرى في الإمبراطورية، حيث شكَّلوا جيوبًا اجتماعية تعمل على تهدئة القلاقل وتخفف من حدة المعارضة. وقد تابع حكام الإمبراطورية البابلية الجديدة وحكام الإمبراطورية الفارسية هذه السياسة على نطاقٍ واسع، وحاولوا من خلال التحكم بتحركات الشعوب خلق شرائح اجتماعية مدعومة ومدرَّبة من قِبَل السلطة وموالية لها، ولكن إلى الحد الذي لا يؤدي إلى خلق قوًى إقليمية تخرج في النهاية عن تابعيتها للإمبراطورية.١
وكورثة لإمبراطورية مؤسسة ومستقرة تقريبًا، لم يكن على البابليين والفرس أن يدافعوا عن «حق المنتصر» على أراضي المقهورين وثرواتهم، فهؤلاء الورثة كانوا يتعاملون مع شعوبٍ قد تم قهرها وترويضها، ولا حاجة بهم إلى إعادة توكيد السلطة عليها. من هنا فإن الإدارة الإمبراطورية الجديدة قد توجَّهت في سياستها إلى توكيد «حق الوراثة» لا «حق المنتصر». وتحولت أساليبها الدعائية من فرض الخوف والرعب إلى كسب الدعم والولاء للوارث الجديد. ذلك أن البُنى التحتية للمقاطعات الآشورية السابقة يمكن الآن إعادة بنائها لكي تساهم في الإنعاش الاقتصادي العام للإمبراطورية، بعد أن زال الخوف تقريبًا من تشكيلها تهديدًا حقيقيًّا لأمن الحاكم. إن نصوص التهجير، أو إعادة الترتيب السكاني في الإمبراطورية البابلية أقلُّ بكثيرٍ من النصوص الآشورية، وهي مختلفةٌ جوهريًّا من حيث أدواتها الخطابية والإعلامية. ونحن هنا أمام نغمةٍ إعلامية جديدة تهدف إلى إقناع الشعوب بقبول السيد الجديد، وما جلبه حكمه من تغييراتٍ جذرية، والحصول على الولاء الطوعي من قِبَل التركيب السكاني المعقَّد للإمبراطورية الواسعة الأرجاء. فالسيد الجديد، كما تعيد هذه النصوص وتكرِّر، هو محرر الشعوب من نِير الاستعباد، ومخلصهم من الحاكم البربري السابق الذي داس على كرامتهم، وشتتهم وسبى آلهتهم.٢
ورغم أن حكام الإمبراطورية الجديدة قد تابعوا عمليات السبي والتهجير الجماعي على الطريقة الآشورية، إلا أنهم قد ابتدءوا في الوقت نفسه سياسة إعادة توطين المهجَّرين السابقين في أراضيهم، ووضعوا النظرية الإعلامية لهذه السياسة، وهي النظرية التي تبناها حكام الإمبراطورية الفارسية بعد ذلك، وصارت عماد دعاوتهم السياسية. ولدينا أكثر من نصٍّ بابلي يؤسِّس لنظرية وممارسة إعادة التوطين، منها نصٌّ لنبوخذ نصَّر يقدِّم فيه نفسه كمحررٍ للقرى اللبنانية من القمع الأجنبي؛ فهو من أعاد السكان إلى مواطنهم، وهو الذي جمعهم ووجههم إلى أراضيهم … إلخ.٣ وهنا يجري التأسيس لأول مرة لفكرة «العودة» كعنصرٍ مركزي في سياسة التهجير وإعادة التوطين البابلية. وتظهر هذه الفكرة بشكلٍ خاص في نصوص الملك نابونيد الذي يقدم نفسه فيها محررًا للآلهة من الأسر، ومحرر رعاياه الذين أعاد توطينهم في أراضيهم، وباني المعابد المهجورة التي عهد بها إليه الإله مردوخ. ولعل أهم نصوص نابونيد التي تؤسِّس لنظرية وممارسة السياسة السكانية البابلية هو نص إعادة بناء مدينة حران، الذي يتحدث فيه عن إحياء المدينة المهجورة، وإعادة بناء معبد الإله سن فيها، وجمع السكان إليها من عددٍ من بقاع الإمبراطورية البابلية. نقرأ في النص:
«هذه هي المعجزة التي أظهرها الإله سن. المعجزة التي لم يكن لإلهٍ آخر أن يُظهِر مثلها. لقد هبط سن، سيد الآلهة والإلهات في السموات العلا، نزل من عليائه إليَّ أنا نابونيد، ودعاني لأن أكون ملكًا بعد أن تضرَّع إليه كل الآلهة والإلهات ليفعل ذلك. وفي منتصف الليل، جاءني في الحلم وقال لي: أعد بناء إهلهول؛ معبد سن في حران، ولسوف أُسلِّم إلى يديك قِياد البلاد جميعًا … سن يا سيد الآلهة، أنت الذي يمسك بيده قوى الإله آنو، ويستخدم كل قوى الإله إنليل، ويسيطر على قوى الإله إيا، فيجمع بذلك إليه كل القوى السماوية. أيها السيد بين الآلهة، يا ملك الملوك ويا رب الأرباب، أمرك لا يعارضه أحدٌ، وكلمتك لا يطالها تغيير. تنفيذًا لأمر إلهي أعدتُ بناء إهلهول معبد سن، وسُقت إلى حران جماعاتٍ من بابل ومن سوريا العليا، من حدود مصر عند البحر الأعلى (المتوسط) إلى شواطئ البحر الأدنى (الخليج العربي)، وجميعهم ممن عهد بهم إليَّ الإله سن ملك الآلهة. وعند اكتمال المعبد أتيت إليه بالإله سن، وننجال ونسكو وسادرنونا، فأقمت صورهم على قواعدَ راسخة، وقرَّبت إليهم القرابين الكثيرة. فأكملت بذلك فريضة سن؛ ملك الآلهة ورب الأرباب في السماء، أولئك الأرباب المعيَّنين من قِبَله، المنفذين لأوامر الهلال المقدس الذي يعلوهم جميعًا.»٤
يتخذ هذا النص مكانةً هامة بين بقية نصوص الإمبراطورية البابلية الجديدة،٥ لكونه مفتاحًا لفهم المنعطف الذي اتخذه مسار الأيديولوجيا الدينية في المنطقة، والذي وجد أحد تجسيداته المهمة بعد ذلك في كتاب التوراة. فنحن هنا أمام ثلاث فِكَر رئيسية جديدة، هي: (١) فكرة الإله الواحد. (٢) فكرة إعادة بناء هيكل هذا الإله الواحد. (٣) فكرة بناء مجتمعٍ جديد يتمركز حول الهيكل وإلهه.

فالإمبراطور البابلي يُعيد إلى حران المهدَّمة والمهجورة إلهها القديم التقليدي سن، ولكن لا كإلهٍ محلي، بل كإلهٍ شمولي أوحد يجمع إليه سلطات بقية الآلهة العظام ممن تحولوا إلى أتباعٍ معيَّنين في وظائفهم من قِبَله، يستمدون قدرتهم على الفعل من الألوهة الكلية القدرة المتجسِّدة في سن. وتحمل عملية إحياء عبادة الإله القديم هنا كل معاني الخلق الجديد لمعتقدٍ وعبادةٍ وطقوس لا تربطها بالصورة الماضية إلا أَوْهى الروابط. ولكن هذا المعتقد الجديد — الذي يدور حول إلهٍ قديم في صورةٍ جديدة — يحتاج إلى مجتمعٍ جديد يتلاحم حول الهيكل الذي قام في منطقة خلت من سكانها الذين شتتهم الأَسر والنفي أو الهجرة. من هنا، فقد ساق نابونيد إلى حران جماعاتٍ من مناطق متفرقة من الإمبراطورية، بعضهم ولا شك من سكان حران السابقين، وبعضهم من المهجَّرين من مناطقَ أخرى، وأعطاهم وطنًا يعملون على بنائه، وإلهًا شموليًّا هو الإله القديم لحران وقد غدا الآن ممثلًا للصورة الإلهية في عالم الإمبراطورية البابلية الجديدة.

إن تقديم الإمبراطور البابلي هنا في صورة المنقذ الذي يعيد الآلهة المنفية إلى معابدها، والشعوب المهجَّرة إلى أراضيها، والأفكار الجديدة التي يقوم عليها هذا النص ونصوص التهجير البابلية الأخرى؛ يدلنا على أن الإدارة الإمبراطورية كانت في طريقها إلى جمع شعوب الإمبراطورية تدريجيًّا تحت معتقدٍ ديني، يبحث في كل إلهٍ محلي عن صورة للإله الأوحد البابلي، الذي بدأ يتخذ اسم «إله السماء» لا بالمفهوم القديم لإلهٍ موكل بالسماء في مقابل آلهةٍ أخرى موكلةٍ بالأرض أو بالهواء أو بغيرها، بل بالمفهوم الشمولي الجديد لقوة السماء باعتبارها القوة الإلهية المطلقة. إلا أن عمر الإمبراطورية البابلية القصير، وسقوط بابل أخيرًا بيد الفاتح الفارسي؛ قد وضع إكمال هذا المشروع بين يدي القوة الجديدة الصاعدة التي ورثت كلًّا من بابل وآشور لفترةٍ طويلة قادمة.

سار الإعلام الفارسي — الذي وضع مبادئَه الملكُ قورش عقب دخوله بابل — على نسق إعلام الإمبراطورية البابلية الجديدة. ففي نص قورش المشهور، الذي يُعتبر بمثابة البيان السياسي للإمبراطورية الفارسية، يتهم الحاكم الفارسي سَلَفه بالظلم والاستبداد، وتسخير الرعية وتهجيرهم، وبالإساءة إلى الآلهة وتجاهل عبادتها. وهو يَدَّعي أن الإله مردوخ الذي هجر بابل مع بقية الآلهة قد دعاه لينقذ الشعب ويعيد الأمور إلى نصابها، وأسلمه بابل التي فتحت ذراعيها لاستقباله دون مقاومة. وهو من بابل التي قصدها ملوك الجهات الأربع لتقديم ولائهم يعلن عن سياسته في إعادة بناء المدن المقدسة وهياكلها التي نُقلت منها صور الآلهة، وإعادة المهجَّرين مع آلهتهم إلى تلك المدن التي جعلها البابليون خرابًا. وعلى حد قول النص في نهايته: «لقد أرجعتُ إلى المدن المقدسة على الجهة الأخرى من الدجلة معابدها التي كانت خرابًا لمدةٍ طويلة، كما أعدتُ إليها صور الآلهة التي كانت تعيش فيها، وجمعتُ سكانها المنفيين وسُقتهم إلى أوطانهم. وتنفيذًا لأمر مردوخ الإله العظيم، فقد أعدتُ صور آلهة سومر وأكاد — التي جلبها نابونيد إلى بابل — سليمة إلى محاريبها السابقة، الأماكن التي تسرُّ فؤادها.»٦
هذا البيان السياسي الفارسي — رغم أسلوبه الدعائي الموجَّه إلى شعوب الإمبراطورية لكسب ولائها — قد وُضع بالفعل موضع التنفيذ العملي، وسارت عملية إعادة الشعوب والآلهة إلى مواطنها على قدمٍ وساق خلال فترة حكم قورش وخلفائه، وذلك تحت شعارات «التجديد» و«إعادة البناء». إلا أن الخيال يجب ألا يذهب بنا إلى تصور الإمبراطور الفارسي في حُلَّة المنقذ الحقيقي الذي يهب الشعوب كرامتها واستقلالها، ويسمح بعودة القوى الإقليمية إلى ما كانت عليه سابقًا، ذلك أن ما هدفت إليه السياسة الفارسية هو خلق نظام إداري للإمبراطورية ذي طابعٍ لا مركزي من حيث الشكل، يساعد على حكم المناطق الشاسعة للإمبراطورية بكفاءةٍ عاليةٍ وبنفقاتٍ أقل، كما يساعد على فرض القوانين والشرائع الفارسية بعد إعطائها طابعًا إقليميًّا محليًّا. وفي سعيها إلى خلق هذه الكيانات الإقليمية التابعة، التي تستقبل عن طيب خاطر القوانين والشرائع الفارسية التي توحدها مع جسد الإمبراطورية، فقد عملت الإدارة الفارسية على مطابقة الآلهة المحلية في المجتمعات الجديدة — التي تم خلقها أو إحياؤها في حُلَّة جديدة — مع «إله السماء» الفارسي أهورا مزدا؛ الإله الواحد الحق الذي بشَّر به زرادشت قبل قرنٍ من الزمان تقريبًا. إن إمبراطوريةً على هذا القدر من الاتساع لا يمكن ضبطها إلا بنظام قانوني تشريعي واحد، وإلهٍ واحد تتنوع أسماؤه وتجلياته في الأقاليم، ولكنها تتحد في النهاية تحت مفهوم الإله الواحد للإمبراطورية. وهذه السياسة الفارسية لم تكن في واقع الحال إلا تطويرًا لما كان الملوك البابليون قد وضعوه موضع التطبيق، ولكن لم يساعدهم الوقت على إتمامه.٧

في هذا السياق التاريخي والمناخ الفكري نستطيع فهم الأخبار التوراتية حول «إعادة بناء» هيكل الرب في أورشليم، وإحياء المجتمع القديم في المنطقة. إن «العائدين» إلى أورشليم منذ أواخر القرن السادس قبل الميلاد لم يكونوا استمرارًا لأولئك المهجَّرين على يد نبوخذ نصَّر، وما بنوه في أورشليم من هيكلٍ ومدينةٍ لم يكن استمرارًا للبنية القديمة، بل بنية جديدة تحتضن مجتمعًا جديدًا تم تصميمه وفق التصورات العامة السياسية والأيديولوجية للنظام العالمي الفارسي. إن قراءةً تحليلية متأنية لسفر عزرا ونحميا — اللذين يقدمان لنا معظم المادة الإخبارية عن «العودة» و«إعادة البناء» — سوف تكشف لنا بقية القصة. فمع هذين السفرين نغادر تاريخ إسرائيل وندخل في تاريخ «اليهودية».

رغم أننا لا نملك وثيقةً فارسية تخبر عن عودة المهجَّرين من يهوذا في زمن الملك قورش أو في زمن خلفائه، إلا أنه لا يوجد لدينا من الأسباب ما يدعو إلى الشك في الخطوط العامة لقصة «العودة» كما يرويها سفرا عزرا ونحميا؛ لأنها تتفق مع الإطار العام للسياسة الفارسية، وعلى الأخص بيان الملك قورش الوارد في الإصحاح الأول من سفر عزرا، الذي يسير على النهج الإعلامي الفارسي الذي عرفناه، حيث نقرأ ما يلي: «في السنة الأولى لكورش ملك فارس، عند تمام كلمة الرب بفم إرميا، نبَّه الرب روح كورش ملك فارس فأطلق نداءً في كل مملكته وبالكتاب أيضًا قائلًا: هكذا قال كورش ملك فارس: جميع ممالك الأرض دفعها لي الرب إله السماء، وهو أوصاني أن أبني له بيتًا في أورشليم التي في يهوذا. مَن منكم مِن كل شعبه ليكن إلهه معه ويصعد إلى أورشليم التي في يهوذا فيبني بيت الرب إله إسرائيل، هو الإله الذي في أورشليم. وكل من بقي في أحد الأماكن حيث هو متغرب، لينجده أهل مكانه بفضةٍ وبذهبٍ وبأمتعةٍ، مع التبرع لبيت الرب الذي في أورشليم … والملك كورش أخرج آنية بيت الرب التي أخرجها نبوخذ نصَّر من أورشليم وجعلها في بيت آلهته، أخرجها كورش ملك فارس وعدَّها لشيشبصَّر رئيس يهوذا، وهذا عددها … والكل أصعده شيشبصَّر عند إصعاد السبي من بابل إلى أورشليم» (عزرا، ١: ١–١١).

نلاحظ في هذا النص المطابقة التامة بين إله قورش وإله المجتمع الجديد في أورشليم، واستعمال لقب «إله السماء» لأول مرة في معرض الإشارة إلى الإله القديم يهوه الذي لبس الآن لَبوسًا جديدًا باعتباره صورةً محلية عن الإله الشمولي للإمبراطورية الفارسية. وهذا ما يُظهِره بكل وضوحٍ قول قورش: «جميع ممالك الأرض دفعها لي الرب إله السماء، وهو أوصاني أن أبني له بيتًا في أورشليم.» كما نلاحظ أيضًا تطابق هذا النص مع إعلان الملك البابلي نابونيد الذي قال: «تنفيذًا لأمر إلهي، أعدتُ بناء إهلهول معبد سن، وسُقت إلى حران جماعاتٍ من بابل ومن سوريا العليا … إلخ، وجميعهم ممن عهد إليَّ بهم الإله سن ملك الآلهة. وعند اكتمال المعبد أتيت إليه بالإله سن … إلخ فأكملت بذلك فريضة سن ملك الآلهة ورب الأرباب في السماء.» وبشكلٍ خاص، تظهر المطابقة بين «إله السماء» الجديد ويهوه القديم في سفر إشعيا الذي يُلقِّب قورش بمسيح الرب: «هكذا يقول الرب لمسيحه كورش، الذي أمسكتُ بيمينه لأدوس أمامه أُممًا … أنا أسير قُدامك، والهضابَ أُمهِّد، وأعطيك ذخائر الظلمة وكنوز المخابئ، لكي تعرف أني أنا الرب إله إسرائيل. أنا الرب وليس آخر. لا إله سواي» (إشعيا، ٤٥: ١–٦). وفي الواقع، فإن كل التصورات الواردة في سفر إشعيا عن الإله الشمولي، والجديدة تمامًا على المناخ الديني التوراتي (وخصوصًا في الإصحاحات من ٤٠ إلى ٤٨) تأتي في سياق المطابقة بين الإله المحلي القديم والإله الشمولي الجديد للإمبراطورية الفارسية؛ إله السماء، وهذا الإله العائد مع المسبيين ليقيم في هيكله الجديد لا يربطه بالإله القديم يهوه إلا الاسم فقط.

يقصُّ علينا سفرا عزرا ونحميا القصة الكاملة للعودة وبناء الهيكل ثم أسوار المدينة. ونعرف أن العودة قد جاءت على عدة موجات؛ كانت أولاها بقيادة المدعو شيشبصَّر ابن الملك يهوياقين الملك الأسبق ليهوذا. ويبدو أن هذه الموجة قد تحركت نحو أورشليم بأعدادٍ قليلة عقب دخول قورش إلى بابل عام ٥٣٩ق.م. بوقتٍ قصير. وقد جاء شيشبصَّر إلى أورشليم واليًا عليها، وباشر بوضع الأساسات لبناء الهيكل، ولكنه لم يستطع متابعة المهمة (عزرا، ١: ٧–١١، و٥: ١٤–١٦)، ثم يختفي شيشبصَّر من مسرح الأحداث دون تفسيرٍ ظاهر. وفي السنوات الأولى لحكم الملك داريوس (٥٢٢–٤٨٦ق.م.) تنطلق الموجة الثانية من العائدين، وتعدادها ٤٢٣٦٠ عدا العبيد، بقيادة الوالي الجديد على أورشليم المدعو زَرُبابل ومعه يشوع الكاهن. وقد زودهم داريوس بمخططٍ لهيكل أورشليم أُعد في عهد الملك قورش، وأعطى أوامره إلى عامله على مناطق غربي الفرات ليقدم لزَرُبابل نفقة بناء الهيكل من خراج تلك المناطق، ويعطيه كل ما يحتاجه في ذلك دون تقصيرٍ أو تردد (عزرا، ٦: ١–١٢). وهنا يبدو بوضوحٍ تام من مضمون أمر داريوس المتضمن بناء الهيكل أن الإله الذي يُقام له هذا الهيكل هو إله داريوس بالدرجة الأولى قبل أن يكون إلهًا للعائدين. نقرأ في خاتمة أمر داريوس ما يأتي: «وما يحتاجون إليه من الثيران والخراف والكباش محرقةً لإله السماء لتُعطَ لهم يومًا بيوم، حتى لا يهدءوا عن تقريب روائح سرور لإله السماء، والصلاة لأجل حياة الملك وحياة بنيه … والله الذي أُسكن اسمه هناك يُهلك كل ملكٍ وشعبٍ يمد يده لتغيير أو هدم بيت الله هذا الذي في أورشليم. أنا داريوس قد أمرتُ، فليُفعلْ عاجلًا» (عزرا، ٦: ٩–١٢).

إن اهتمام الملك داريوس ببناء الهيكل وإرسال الدفعة الثانية من العائدين لإنعاش المجتمع الأورشليمي؛ ينبغي أن يُفهم من خلال عملية الإصلاح الإداري الشامل التي قادها في أنحاء الإمبراطورية جميعها، وعملية ترميم وتنشيط البُنى السياسية المحلية في كل مكان، سيرًا على المبادئ الأولى التي وضعها الملك قورش. وقد اكتمل بناء هيكل أورشليم في السنة السادسة لحكم داريوس (عزرا، ٦: ١٤–١٥). ولكننا لا ندري بالفعل فيما إذا كان زَرُبابل هو الذي أنهى بناء الهيكل، لأن نص سفر عزرا يتوقف عن ذكره بشكلٍ مفاجئ وقبل إنهاء الهيكل عام ٥١٦ق.م.، كما يتوقف أيضًا عن ذكر الكاهن يشوع؛ الرجل الثاني بعد زَرُبابل. وعند تدشين الهيكل لا تظهر هاتان الشخصيتان في الاحتفال الديني الكبير الذي أُقيم بهذه المناسبة.

بعد عامٍ من انتهاء العمل في بناء هيكل أورشليم، يقوم المدعو عزرا الكاهن بقيادة الموجة الثالثة من العائدين بأمرٍ من الملك أرتحشتا (أرتازكسريس)؛ خليفة داريوس الأول. نقرأ في سفر عزرا: «في مُلك أرتحشتا ملك فارس؛ عزرا بن سرايا صعد من بابل، وهو كاتبٌ ماهر في شريعة موسى التي أعطاها الرب إله إسرائيل. وأعطاه الملك حسب يد الرب إلهه كل سؤله. وصعد معه من بني إسرائيل والكهنة واللاويين … إلخ، إلى أورشليم في السنة السابعة لأرتحشتا الملك … لأن عزرا هيَّأ قلبه لطلب شريعة الرب والعمل بها، وليُعلِّم إسرائيل فريضةً وقضاءً، وهذه صورة الرسالة التي أعطاها الملك أرتحشتا لعزرا الكاهن الكاتب، كاتب وصايا الرب وفرائضه على إسرائيل: من أرتحشتا ملك الملوك إلى عزرا الكاهن كاتب شريعة إله السماء الكامل، قد صدر مني أمرٌ أن كل من أراد في مُلكي من شعب إسرائيل وكهنته واللاويين أن يرجع إلى أورشليم معك فليرجع. من أجل أنك مرسلٌ من قِبَل الملك ومُشيريه السبعة لأجل السؤال عن يهوذا وأورشليم حسب شريعة الرب إلهك التي بيدك، ولحمل فضةٍ وذهبٍ تبرع به الملك ومشيروه لإله إسرائيل، الذي في أورشليم مسكنه … ومني أنا أرتحشتا الملك صدر أمرٌ إلى كل الخَزَنة الذين في عَبْر النهر أن كل ما يطلبه منكم عزرا الكاهن كاتب شريعة إله السماء فليُعمَل بسرعة … كل ما أمر به إله السماء فليُعمَل باجتهادٍ لبيت إله السماء … أما أنت يا عزرا فحسب حكمة إلهك التي بيدك ضع حكامًا وقضاة يقضون لجميع الشعب الذي في عَبْر النهر، مِن جميع مَن يعرف شرائع إلهك، والذين لا يعرفون فعلِّمهم. وكل من لا يعمل شريعة إلهك وشريعة الملك فليُقضَ عليه عاجلًا إما بالموت أو بالنفي أو بغرامة المال والحبس» (عزرا، ٧: ١–٢٦).

منذ أيام الملك داريوس بدأت الإدارة الفارسية بخطةٍ جادة تهدف إلى مركزة وتنميط البُنى القانونية والاقتصادية للإمبراطورية، واعتمدت في ذلك على فرض ما يُسمى «بشريعة الملك» وهي الشريعة التي تلقاها من إله السماء أهورا مزدا. وقد تم فرض هذه الشريعة في صيغٍ محلية تجعلها تبدو وكأنها إحياءٌ للممارسات والتقاليد والأعراف المحلية في البلدان المختلفة، وخصوصًا في تلك المجتمعات الجديدة التي تم إحياؤها بعد أن خرَّب الآشوريون بُناها الفوقية والتحتية.٨ وهذه الشريعة هي التي أُعطيت لعزرا من قِبَل الملك الفارسي ليعمل على تطبيقها في مقاطعة اليهودية. فلقد جاء عزرا إلى أورشليم لا كوالٍ سياسي مثل زَرُبابل، بل كمُتفقِّه في «شريعة الرب» و«شريعة الملك»، على حد تعبير النص التوراتي. وبما أن عزرا، كما سوف نرى بعد قليل، قد قرأ شريعة الرب على مسامع جميع الرعية وأفهمهم إياها، ولم يقرأ شريعة الملك، فإن النتيجة الوحيدة التي يمكن الخروج بها هي أن الشريعتين ليستا في حقيقة الأمر سوى شريعةٍ واحدة قد أرسلها الملك الفارسي بيد عزرا، من أجل تنظيم شئون المجتمع الجديد من النواحي الاعتقادية والطقسية والإدارية، بحيث تم تأييد القوانين المدنية بالأوامر والنواهي الدينية لتزويدها بسلطانٍ ذاتي.

لقد جاء عزرا بسفر الشريعة، كما يسميه نص عزرا ونص نحميا، ومصدره البلاط الفارسي، ثم قرأ فقراته على مسامع الشعب — الذي لم يكن يعرف عنه شيئًا — في احتفالٍ عظيم، وأخذ عليهم عهدًا وميثاقًا بقبوله. نقرأ في نحميا: «اجتمع كل الشعب كرجلٍ واحد إلى الساحة التي أمام باب الماء، وقالوا لعزرا الكاتب أن يأتي بسفر شريعة موسى التي أمر بها الرب إله إسرائيل. فأتى عزرا بالشريعة أمام الجماعة … وقرأ بها من الصباح إلى نصف النهار أمام الرجال والنساء والفاهمين، وكانت آذان الشعب نحو سفر الشريعة … وبارك الرب الإله العظيم عزرا. وأجاب جميع الشعب: آمين آمين، رافعين أيديهم، وخرُّوا وسجدوا للرب على وجوههم إلى الأرض. ويشوع وباني … إلخ، واللاويون أفهموا الشعب الشريعة، والشعب في أماكنهم، وقرءوا في السفر في شريعة الله ببيانٍ، وفسَّروا المعنى، وأفهموهم القراءة … وفي اليوم الثاني اجتمع رؤساء آباء جميع الشعب والكهنة واللاويون إلى عزرا الكاتب ليُفهمهم كلام الشريعة» (نحميا، ٨: ١–١٣). وبعد ذلك يعطي الشعب عهدًا وميثاقًا بقبولهم للشريعة أمام عزرا الكاهن الكاتب، ونحميا الإداري والسياسي الذي عيَّنه الفرس واليًا على أورشليم: «ومن أجل ذلك، نحن نقطع ميثاقًا ونكتبه، ورؤساؤنا ولاويونا وكهنتنا يختمون … والذين ختموا هم نحميا وصدقيا و… إلخ. وباقي الشعب والكهنة واللاويين وكل الذين انفصلوا من شعوب الأراضي إلى شريعة الله، ونسائهم وبنيهم وبناتهم، كل أصحاب المعرفة والفهم لَصِقوا بإخوتهم وعظمائهم، ودخلوا في قسم وحِلف أن يسيروا في شريعة الله التي أُعطيت عن يد موسى عبد الله، وأن يحفظوا ويعملوا جميع وصايا الرب سيدنا وأحكامه» (نحميا، ٩: ٣٨، و١٠: ١–٢٩).

إن ما تقوله لنا هذه الفقرات السابقة من سفر نحميا هو أن عزرا هذا قد جاء إلى أورشليم بشريعةٍ، أو بنواة شريعةٍ، جديدة كل الجِدَّة على المجتمع الآخذ بالتشكُّل في هذه المنطقة التي يعاد إحياؤها وفق السياسة العامة لترميم مقاطعات الإمبراطورية الفارسية، التي أُفرغت من سكانها، وعانت من تخريب الحاكم السابق. وقد كان الشعب يستمع إلى فقرات هذا القانون لأول مرة، من هنا فقد كان على عزرا أن يشرح فقراته للكهنة واللاويين ورؤساء الشعب ليعمل هؤلاء على شرحها للبقية وإفهامهم مضمونها. وبالطبع فإن هذا الشرح وإعادة الشرح لا يمكن أن يكون موضوعه شريعةً موجودة بين أيدي الشعب، تنظم أحواله الدينية والدنيوية، وترقى إلى أيام موسى. وليست تسمية هذه الشريعة في سفرَي عزرا ونحميا بشريعة موسى إلا لمسةً تحريرية وضعها المحررون عندما ألحقوا أخبار الفترة الفارسية بالقصة التوراتية الطويلة. وفي الحقيقة فإن الميثاق الذي أخذته الجالية الجديدة في أورشليم على نفسها بقبول شريعة الله وشريعة الملك هو «العهد الأول» الذي يتم بين إله السماء الجديد في هيكل أورشليم وبين شعبه الجديد، وهو الذي أسقطه المحررون على قصة الأصول فعقدوه منذ البداية بين إبراهيم وإلهه، وجددوه مع بقية الآباء.

ورغم أن اللمسة التحريرية تجعل من هذا العهد نتاجًا للرضا العام به وقبوله غير المشروط من قِبَل الشعب، إلا أن المضامين الأصلية للخبر واضحةٌ كل الوضوح وتؤدي عكس ذلك، فالجالية الجديدة في أورشليم لم يكن أمامها إلا أحد خيارين؛ فإما قبول شريعة الله وشريعة الملك أو مواجهة أقسى العقوبات. وهذا ما تنص عليه آخر فقرات أمر الملك الفارسي التي تنص على أن «كل من لا يعمل شريعة إلهك وشريعة الملك فليُقضَ عليه عاجلًا إما بالموت، أو بالنفي، أو بغرامة المال والحبس» (عزرا، ٧: ٢٦). وهذا يعني أننا أمام نوعٍ من «عقد الإذعان» المفروض من قِبَل السلطة الفارسية، وأن مجتمع أورشليم لم يكن أمامه سوى خيارٍ واحد هو القبول بلائحة القوانين الجديدة التي تنظم أحواله الدينية والاجتماعية والسياسية، وفق الخطة الموضوعة لهذه المنطقة من الإمبراطورية.

لا يعطي سفر عزرا ونحميا كثيرًا من التفاصيل حول مضمون الشريعة الجديدة، والفقرات القليلة المذكورة في نحميا ١٠ لا تشبه في صياغتها ومضمونها شريعة موسى التي فصَّلتها الأسفار الخمسة، إلا أننا نستطيع تخمين مصادر وموضوعات سفر الشريعة هذا. فأما الموضوعات فقد تركزت حول المعتقد الديني والطقوس المكملة له، وحول القضايا الإدارية والتنظيمية للبنية المدنية الجديدة، والأحوال الشخصية للجالية الجديدة في منطقة اليهودية، وهي أورشليم وما يحيط بها. وقد تم ربط هذه القوانين الناظمة للحياة الدنيوية للجماعات بالمعتقد الديني لإعطائها تأييدًا مزدوجًا. وأما مصادر سفر شريعة عزرا فمتعددة. فلدينا أولًا: الأيديولوجيا الدينية الفارسية المتعلقة بإله السماء الفارسي أهورا مزدا، الذي سعى ملوك فارس لرفعه إلهًا أوحد للإمبراطورية عن طريق مطابقته تعسفيًّا مع الآلهة المحلية للمقاطعات المحكومة، وخصوصًا تلك المقاطعات الداخلة في برنامج التجديد والإحياء. وثانيًا: لدينا القوانين والشرائع الفارسية التي حاولت الإدارة الإمبراطورية من خلالها تنميط أساليب الإدارة والحكم في المقاطعات. وثالثًا: لدينا التقاليد المحلية المُتجذرة في المنطقة منذ القِدَم.

وبالطبع، فإن هذه النواة الأولى للشريعة — والتي صَلُحت في البداية لخلق الاستقرار في مجتمع أورشليم — لم تبقَ على حالها. والكاهن عزرا الذي يمكن أن يُدعى بحق «أبا اليهودية» قد عمد فيما بعد إلى توسيع وتطوير هذه النواة بما يتلاءم مع التقاليد القديمة في المنطقة من جهةٍ، ومع مستجدات حياة الجماعة. ثم جاء تلامذته وخلفاؤه، ممن شكَّلوا الآن كهنوتًا رسميًّا راسخًا في أورشليم، فتابعوا هذه المهمة، وأخذوا على عاتقهم فوق ذلك ابتكار أصولٍ لهذه الشريعة تجعل منها تقليدًا مترسخًا في المنطقة لا أمرًا عارضًا مفروضًا عليها من الخارج. وهكذا ابتدأ العمل في قصة إسرائيل التوراتية. ففي سياق عملية ابتكار تاريخٍ للشريعة بهدف تأصيلها وتثبيتها كان لا بد من ابتكار أحداثٍ وشخصياتٍ تحمل هذا التاريخ وتطوره من مرحلةٍ إلى أخرى، فابتدأت القصة بشكلها الجنيني المتواضع ثم أخذت بالتشعب والتوسع، ونشأت على جوانب الخط الرئيسي لها قصصٌ متفرقة متنوعة معظمها مُستمَد من التراث المحلي، تم اقتباسه وإدماجه في النسيج العام للرواية التوراتية.

وتكبر الخرافة وتتسع، وتستكمل حلقاتها خلال قرنين أو ثلاثة من عودة عزرا بسفر الشريعة من البلاط الفارسي، ويتم ربط تاريخ اليهودية بتاريخ ما قبل اليهودية؛ أي تاريخ إسرائيل ويهوذا. وتُتابِع قصة الأصول توغُّلها في الماضي المجهول مما سبقهما. ثم كان لا بد من إيقاف هذه العملية عند حدٍّ معين، فعمد كهنة أورشليم أخيرًا إلى جمع هذه الأدبيات وإعادة صياغتها بشكلٍ أخير وفق إطارٍ أيديولوجي وكرونولوجي يضم التقاليد المتفرقة في كلٍّ مُوحَّد. وبذلك أُنجز كتاب التوراة، وظهرت إسرائيل التوراتية ككيانٍ ذهني وأدبي على أنقاض تاريخ السامرة ويهوذا المطمور تحت ركام الدمار الآشوري والبابلي.

إن الرواية التوراتية هي قصة أصولٍ مبتكرة لدينٍ جديد ومجتمع جديد، يحاول أن يُثبِت أقدميته وتجذُّره في المنطقة. وإن المحررين الذين صاغوا هذه القصة كانوا مدفوعين بهاجسٍ تراثي لا بهاجسٍ تاريخي. لقد جمعوا ما وصل إلى أيديهم من شذرات الأخبار القديمة، والأدب الشعبي الفلسطيني، ونُتَف من الأخبار عن السامرة ويهوذا، وبعض الوثائق القليلة المكتوبة، فصاغوا منها مادة قصصهم التي ضُمت إلى بعضها من خلال منظورٍ أيديولوجي فضفاض، وتسلسلٍ زمني مليءٍ بالفجوات والانقطاعات. وفي الحقيقة، فإن ما يبدو لأول وهلة تسلسلًا زمنيًّا في القصص التوراتي ليس إلا إيهامًا من صنع المحرر التوراتي الأخير، الذي جعل القصص ذات المنشأ المستقل تبدو وكأنها حلقاتٌ في سلسلةٍ متتابعة. والناتج الأخير لهذه العملية هو روايةٌ خيالية لا تتقاطع مع التاريخ الفلسطيني ولا مع تاريخ الشرق القديم في كل تفاصيلها هبوطًا إلى موت الملك سليمان، ولا تتقاطع مع هذا التاريخ إلا في نقاطٍ غامضة ومبعثرة من حياة مملكتَي السامرة وإسرائيل. أما عن ذلك المنظور الأيديولوجي الذي حاول كهنوت أورشليم فرضه على روايتهم فقد بقي غريبًا عن جو القصص التوراتي التي استقل كل منها برؤياه الدينية الخاصة. فإله الآباء لا يشبه إله الخروج، وهذا لا يشبه إله القضاة، وإله إشعيا غريبٌ كل الغرابة عن كل ما سبقه من تصورات، وسفرا أيوب والجامعة لا يمكن قراءتهما بعينَي إرميا، ونشيد الأنشاد لا يمكن وضعه في أي سياقٍ ديني توراتي. وهذا يعني أننا لسنا أمام أيديولوجيا دينيةٍ متسقة، تعلن عن نفسها بالطريقة نفسها عبر أسفار الكتاب، بل أمام أيديولوجيا توفيقية لا تملك الحد الأدنى من الوحدة والانتظام.

إن إسرائيل التوراتية تظهر إلى الوجود، لأول مرة، كناتجٍ فكري من نواتج الوضع الخاص للمجتمع الأورشليمي المصطنع في العصر الفارسي. من هنا، فإن هذه الإسرائيل لا تتمتع بوجودٍ موضوعي خاضع لعملية الاستقصاء التاريخي، وأي مجهود يُبذل في هذا الاتجاه هو مجهودٌ لا طائل من ورائه، ذلك أن العملية التحريرية التي قادت إلى إنتاج إسرائيل التوراتية لم تكن تهدف إلى إنتاج نصٍّ أمين عن الماضي، بقدر ما هدفت إلى صياغة نص يعطي معنًى للحاضر، ويرسم صورةً للمستقبل. والمضمون الذي يتكشف لنا عبر أسفار الأنبياء والأسفار التاريخية ليس موجهًا نحو الكشف عن الماضي إلا بقدر ما يقدمه هذا الماضي من دعمٍ وتثبيت للمؤسسة الدينية والدنيوية الناشئة. وبمعنًى آخر، فإن ما يبدو في هذه الأسفار على أنه تأملٌ تاريخي ليس في حقيقة الأمر إلا تأملًا مستقبليًّا يرسم صورةً للمجتمع الجديد باعتباره وريثًا لمجتمعٍ قديم آلَ إلى اللعنة والتحلل والدمار. وهذه الصورة عن إسرائيل الجديدة هي التي تتحكم بنوع الأحداث التي يتم جمعها وتذكرها باعتبارها تاريخًا.

من هنا نستطيع أن نفهم أصول الأفكار الرئيسية الموجهة للتقاليد التوراتية الرئيسية. وهذه الأفكار يمكن تلخيصها في خمسة، هي: العهد، والوعد، والغربة، والعصر الذهبي والسقوط، والتجديد.

لقد كان العهد الذي قطعه أهل أورشليم أمام عزرا الكاهن بقبول شريعة الملك وشريعة الرب بمثابة بدايةٍ للتاريخ اليهودي. كما كان في الوقت ذاته النقطة المثالية التي ابتدأ منها المحرر التوراتي بابتكار قصة الأصول. فهذا العهد بين الشعب وإلهه ليس جديدًا، بل هو تجديدٌ لعهدٍ عتيق كان الأسلاف الأولون لهذه الجماعة الأورشليمية قد أبرموه مع إلهٍ عتيق أيضًا. وكما ارتبط إبرام العهد مع ممثلي السلطة الفارسية عزرا ونحميا، مع تثبيت العائدين في أرض عودتهم (لأن كل من لا يعمل بشريعة الملك وشريعة الرب يُقتل أو يُنفى، وفق أمر الملك الفارسي)؛ كذلك ارتبط العهد العتيق مع إبراهيم وخلفائه بالوعد بالأرض. فالرب قد أعطى أرض كنعان لإبراهيم وذريته، وتعهَّد بحمايتهم مقابل عبادتهم له وحده، ثم جدد عهده مع إسحاق ويعقوب. وهذه الوعود القديمة كلها ليست إلا نموذجًا بدئيًّا للوعد الجديد الذي يقطعه إله السماء الفارسي مع بقية يهوذا فيقودهم إلى الأرض الموعودة ذاتها. ولقد قاد إحساس القلَّة الباقية من يهوذا بالغربة في «أرض العودة» التي جاءوا إليها مع من رافقهم من مسبيِّي المناطق الأخرى؛ إلى إدخال عنصر «الغربة الدائمة» في قصتهم الطويلة عن الأصول. فالآباء المؤسسون كانوا غرباء عن أرض كنعان وفدوا إليها من بلاد الرافدين، مثلما وفد إليها من بلاد الرافدين أيضًا بقية سبي يهوذا والغرباء الآخرون المشتَّتون في الأرض. وجماعة موسى كانت غريبة في مصر وغريبة مرة أخرى في كنعان التي دخلتها مع يشوع، وقصة استعبادهم في مصر هي نموذجٌ بدئي لقصة سَبْيهم في بابل، وفرعون القديم هو نبوخذ نصَّر الجديد. وبذلك ترتبط الأفكار الثلاثة عن العهد والوعد والغربة ارتباطًا عضويًّا على مستوى الرواية لا على مستوى الواقع. كما تؤسِّس هذه الأفكار الثلاثة بدورها لفكرة التجديد وإعادة البناء؛ فالمسبيون قد عادوا من بابل لتجديد وإعادة بناء أورشليم، مثلما عاد المستعبَدون من مصر وبنوا المملكة الموحدة في كنعان. وعملية التجديد وإعادة البناء هذه لا تأخذ معناها إلا بارتباطها بفكرة العصر الذهبي والسقوط، ذلك أن العائدين قد جاءوا لتجديد مُلك زال، ودولة آلت إلى الانحدار والسقوط. فقصة الأصول، والحالة هذه، يجب أن تبلغ ذروتها في العصر الذهبي لمملكة داود وسليمان، ثم تئول إلى الانحدار فالسقوط عبر المصائر القاتمة لكل من مملكتي السامرة ويهوذا. وكل ذلك يأتي وفق مخططٍ من الرب الذي قضى على عالمٍ فاسد قديم لكي يقيم على أنقاضه عالمًا نقيًّا جديدًا. نقرأ في سفر حزقيال إحدى المعالجات الدقيقة والواضحة لهذه الفكرة، حيث يقول الرب: «… إن أرسلتُ أحكامي الرديئة على أورشليم سيفًا وجوعًا ووحشًا رديئًا ووباءً، لأقطع منها الإنسان والحيوان، فهو ذا بقيةٌ فيها ناجية تُخرِج بنين وبنات. هو ذا يخرجون إليكم فتنظرون طريقهم وأعمالهم، وتتعزون عن الشر الذي جلبته على أورشليم، عن كل ما جلبته عليها. ويعزونكم إذ ترون طريقهم وأعمالهم، فتعلمون أني لم أصنع بلا سبب كل ما صنعته فيها، يقول السيد الرب» (حزقيال، ١٤: ٢١–٢٣).

والسؤال الأخير الذي يطرح نفسه الآن هو التالي: إذا كان المجتمع الجديد في مقاطعة اليهودية قد أنشأته بقية المسبيين من يهوذا، فلماذا بنى كهنوت أورشليم قصة الأصول حول إسرائيل، وجعلوا من هذه البقية آخر من تبقَّى من سلالة بني إسرائيل؟ الجواب على هذا السؤال متشعب، ولكنني أود أن أطرح مبدئيًّا فكرةً مفادها أننا لسنا متأكدين بالفعل من أن بُناة المجتمع الجديد في أورشليم هم حصرًا من بقية يهوذا المسبية في بابل؛ لأن مصدرنا الوحيد عن هذه المرحلة من الرواية التوراتية هو النص التوراتي وحده. ومن المُرجَّح أن تكون الجماعات التي سِيقت إلى أورشليم قد ضمت — إلى جانب بقية سبي يهوذا — شرائح من شعوبٍ مسبيةٍ أخرى قد فقدت ارتباطها بمواطنها الأصلية، ولا تمانع من التوجه إلى أي منطقةٍ مستفيدةً من سياسة الإنعاش وإعادة البناء. كما نُرجِّح أن تكون الإدارة الفارسية قد ضمت إلى هؤلاء في أورشليم جماعاتٍ كانت تعيش حياة البؤس والكفاف في المناطق الفلسطينية الأخرى التي آلت إلى الخراب. وبما أن دولة إسرائيل-السامرة كانت أقوى الدويلات الفلسطينية وأكثرها شهرة، وكان إلهها الرسمي يهوه أعلى الآلهة الفلسطينية شأنًا؛ فقد تم إفهام جماعات العائدين والمرحَّلين إلى أورشليم الجديدة بأنهم ورثة مملكة إسرائيل، وأن إله السماء الفارسي هو الآن يهوه القديم في حُلَّته العالمية الشمولية الجديدة.٩

لقد هدفت سياسة الترحيل الآشورية إلى التخريب المنظَّم للبُنى التحتية للمقاطعات المقهورة، وسِيقت إلى مناطق آشور الشرائح المتنورة في هذه المقاطعات، واليد الفنية الماهرة والكُتاب والمعلمون والكهنة والعسكريون المدربون، أي كل الشرائح التي تعطي للمجتمع هيكليته وتطلق فعاليته. وقد طالت عمليات الترحيل في كثيرٍ من الأحيان مناطق زراعية بأكملها، فتُركت بواديَ قاحلة لفترةٍ طويلةٍ لاحقة. أما المقاطعات التي تم الحفاظ على هيكليتها السياسية فقد تم استغلالها إلى أبعد الحدود، وخضعت للنهب المنظَّم عن طريق الجزية، وعن طريق سلب مواردها الطبيعية، ودُفع إليها بجماعاتٍ مسبية غريبة لتقيم بين ظهرانيها وتُفتِّت وحدتها الإثنية. وفيما يتعلق بفلسطين، فقد خلت بعض مناطقها من السكان تمامًا، وتضاءل عدد السكان في المناطق الأخرى وآلت إلى الفقر المدقع. ومنذ نهاية القرن السادس افتقدت فلسطين إلى الحد الأدنى من التلاحم الإثني واللغوي والديني والسياسي، وتوزع من تبقَّى من سكانها بين جماعاتٍ غير متجانسة سِيقوا إليها من المناطق المغلوبة الأخرى.

وبما أننا لا نعرف عن أي مشروعٍ فارسي آخر للإحياء في منطقة فلسطين، غير مشروع إحياء أورشليم، فإننا نرجِّح أن يكون الهدف منه هو تجميع تلك الجماعات المتفرقة ذات الأصول العرقية المختلفة التي بقيت خارج الأطر السياسية والاجتماعية في عالمٍ متهدم تمامًا، إضافةً إلى من يود العودة من بقية يهوذا المسبية في بابل؛ لصهرها في بوتقةٍ واحدة، وإفهامها بأنها الآن وريثة إسرائيل البائدة، في عملية إحياءٍ لمنطقة يهوذا تحت شعار تجديد المجتمع القديم. وقد قام على تنفيذ هذه السياسة ولاةٌ من يهوذا تدرَّبوا في البلاط الفارسي، ووصلوا فيه إلى أعلى المناصب، مثل نحميا الذي كان ساقيًا للملك الفارسي وموضع ثقته يرافقه في حله وترحاله (نحميا، ٢). وقد تم تجميع هذا المجتمع الجديد حول هيكل إله السماء الفارسي الجديد، بعد أن تم إفهام الجميع من خلال سفر الشريعة الذي أتى به عزرا من بابل، بأن هذا الإله هو نفسه الإله القديم يهوه إله السامرة وإله يهوذا السالفتين، وصار الدخول في هذه العبادة الجديدة شرطًا للانتماء إلى المجتمع الجديد.

ورغم أن كهنة أورشليم قد ابتدءوا منذ عزرا الكاهن بعملية تدوين تاريخ لهذه الجماعة على أنه تاريخ إسرائيل، وابتكار أصول لديانة إله السماء ضاربة في أعماق هذا التاريخ، إلا أن تسمية «اليهودي» و«اليهودية» صارت عَلمًا على دين أورشليم وعلى الأفراد المنتمين إلى المجتمع الأورشليمي، من دون «الإسرائيلي». فكل ما هو «إسرائيلي» ينتمي إلى الماضي، إلى «القصة»، وكل ما هو «يهودي» ينتمي إلى الحاضر، حاضر ذلك المجتمع الجديد الذي يحاول مستميتًا أن يؤكد تلاحمه وتجانسه كشعبٍ مختار من قِبَل إله السماء. لقد اختار إله السماء هذه الفئات التي تم تجميعها في منطقة أورشليم لتكون له شعبًا، كما وجدت هذه الفئات وحدتها وتجانسها من خلال إحساسها بالانتماء إلى ذلك الإله وإقامة العهد معه.

وهكذا، ومع تشكيل مقاطعة اليهودية ككيان سياسي ينتمي إلى النظام العالمي الفارسي الجديد، تدخل القصة التوراتية عتبة التاريخ. من هنا يتوجب علينا أن نعيد فهم مسألة «السبي البابلي» كحادثةٍ تاريخية من جهة، وكفكرةٍ ملهمة في سياق القصة التوراتية من جهةٍ أخرى، ذلك أن تقسيم تاريخ «بني إسرائيل» إلى ثلاث فترات — هي ما قبل السبي، وفترة السبي، وما بعد السبي — هو تقسيمٌ باطل على ضوء ما تقدمنا به حتى الآن. فبنو إسرائيل ليس لهم وجود خارج مجال قصة الأصول التوراتية، وتاريخ دولتي السامرة ويهوذا قد انتهى وصار مُلكًا للذاكرة البشرية الجمعية بعد زوال إسرائيل عام ٧٢١ق.م. وزوال يهوذا عام ٥٨٧ق.م. أما التاريخ اليهودي الذي ابتدأ مع بناء أورشليم الجديدة وهيكلها الجديد فليس استمرارًا على أي صعيدٍ للتاريخ الفلسطيني في العصر الآشوري والعصر البابلي، رغم النغمة الإعلامية الفارسية التي تحدثت بلغة «الإحياء» و«التجديد». إن ما تم «إحياؤه» في مقاطعة اليهودية لم يكن إحياءً ليهوذا القديمة ولا لإسرائيل القديمة، بل خلقًا من جديدٍ لمجتمعٍ قوامه فئاتٌ اجتماعية دخلت العصر الفارسي وقد تغيرت تغيرًا تامًّا.

وفي الحقيقة، فإن «مسألة السبي» لم تعد بالنسبة لجماعة أورشليم الجديدة واقعةً تاريخية بقدر ما غدت «فكرة» و«واقعة نفسانية» تساعد على فهم هذه الجماعة لنفسها باعتبارها البقية الناجية من «إسرائيل». فأفراد هذه الجماعة، سواء تحدروا من بقية يهوذا المسبية في بابل أم من غيرها، يستطيع واحدهم الانتماء إلى تلك الإسرائيل عن طريق تصور جذوره في المنفى البابلي، ومن خلاله صعودًا نحو المجد المفقود في مملكة سليمان، ويتجاوز ذلك ليدخل كنعان مع يشوع، ثم يتطوح في الصحراء مع موسى، ويتنقل بعد ذلك مع قوافل إبراهيم وبقية الآباء المؤسسين.

إن التاريخ اليهودي ليس صفحةً جديدة في تاريخ فلسطين القديم، بل تاريخٌ مستقل في أصوله ومساره ومصائره، ويجب أن يُدرَس على هذا الأساس. وبما أن دراسة التاريخ اليهودي تتطلب منهجيةً ومرجعيةً مختلفة تمامًا عن تاريخ فلسطين القديم، فإنه لا يدخل في منظور هذا الكتاب، كما أنه لا يدخل ضمن اهتمامي الشخصي في الوقت الحاضر.

حلب، تموز (يوليو) ١٩٩٥
١  Th. L. Thompson, op. cit., pp. 345–416.
٢  Ibid., pp. 346–416.
٣  Leo Oppenheim, op. cit., p. 307.
٤  ترجمة مُلخصة عن نص أوبنهايم. انظر المرجع السابق ص ص٥٦٢–٥٦٣.
٥  لفت نظري إلى أهمية هذا النص وقدَّم لي مفاتيح تحليله الباحث ت. ل. تومبسون.
Th. L. Thompson, op. cit., pp. 346-347.
٦  Leo Oppenheim, op. cit., pp. 315-316.
٧  هذا التفسير والتحليل يستند إلى أفكار ت. ل. تومبسون. انظر:
Thomas L. Thompson, op. cit., pp. 349-350, 417–423.
٨  Th. L. Thompson, op. cit., p. 418.
٩  في معالجتي لهذه النقطة تطوير لأفكار ت. ل. تومبسون. انظر بشكلٍ خاص الصفحة ٤١٨ وما بعدها من المرجع السابق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤