الفصل الثالث

العبوديةُ في مصر، والخروجُ

(١) استطراد حول يوسف

تمثِّل شخصية يوسف نقطة الاتصال بين عصر الآباء وعصر العبودية في مصر والخروج منها؛ فيوسف قد قضى شطرًا من حياته في كنعان، والشطر الآخر في مصر، وهو الذي جاء بأبيه وإخوته وأولادهم إلى مصر، التي صاروا فيها إلى العبودية بعد مماته. فقصة يوسف لا تنتمي إلى قصص الآباء ولا إلى ملحمة الخروج، وقد تم التقاطها بعناية من قِبل المحرر التوراتي لملاءمتها التامة للربط بين تقليدين مستقلين كل الاستقلال.

يتضح للوهلة الأولى مدى خصوصية قصة يوسف في نهاية سفر التكوين، وغرابتها عن بقية قصص الآباء، وذلك في أسلوبها الأدبي وعقدتها القصصية وجميع تفاصيلها. تُبدي القصة عناصر شائعة ومألوفة في الأدب الشعبي شرقًا وغربًا، وذلك مثل: (١) محبة الأب للابن الأصغر وتفضيله على بقية إخوته. (٢) مكائد الإخوة والأخوات للابن الأصغر أو البنت الصغرى. (٣) النجاة من المكائد المدبرة بتدخل قوة ما ورائية من نوع ما، كالجن والسحرة والآلهة … إلخ. (٤) اغتراب الشاب المستضعف في أرضه، ونجاحه في أرض غربته، ثم عودته مظفرًا إلى أهله، الذين يُخفقون في التعرف عليه للوهلة الأولى، ورفعه لهم من حياة الفقر إلى حياة الجاه والعز. (٥) إغواء الشاب الوسيم المستقيم من قِبل امرأة فاتنة، هي زوجة الأب أحيانًا، أو زوجة ولي النعمة أحيانًا أخرى، ثم رفضه للغواية وافتراء المرأة عليه، وما يتبع ذلك من نبذه واضطهاده، ومروره بفترة بؤس وشقاء قبل أن تظهر براءته. (٦) هناك عنصر ميثولوجي يضاف إلى هذه العناصر، وهو فترة السنوات السبع الخصيبة التي تليها فترة سنوات سبع عجاف، مما هو معروف في أدبيات مصر وبلاد الرافدين، وبشكل خاص في أدبيات أوغاريت الكنعانية.

فالقصة، والحالة هذه، تنتمي إلى الرومانس أكثر من انتمائها إلى التاريخ الموثَّق. ويبدو للقارئ المتمعن بالتفاصيل أن محرر القصة لم يكن يملك معرفة وثيقة بطبيعة مصر وأحوالها العامة وثقافتها؛ فاسم الفرعون الذي استوزر يوسف غير مذكور، ولا يوجد في تفاصيل الأحداث إشارات مباشرة يمكن أن تساعد على وضع القصة ضمن فترة معروفة من تاريخ مصر، أما الإشارات غير المباشرة فتدل على أن القصة قد كُتبت في زمن متأخر لا يتجاوز الألف الأول قبل الميلاد. وهذا ما يتناقض مع الرأي الشائع الذي يُرجع أحداث قصة يوسف إلى عصر الهكسوس (١٧٣٠–١٥٧٠ق.م.) عندما اعتلى عرشَ مصر ملوكٌ آسيويون. فلقب فرعون، الذي يستخدمه النص التوراتي، لم يُستخدم في مصر إلا بعد طرد الهكسوس وتأسيس الأسرة الثامنة عشرة، وكان أول من تلقَّب به تحوتمس الثالث (١٤٩٠–١٤٣٦ق.م.) وكلمة «فرعون» تُلفظ بالمصرية «برعو»، وتعني «البيت العظيم». أما بقية الألقاب، التي يعزوها النص التوراتي للشخصيات المصرية الرسمية، وأسماء مناصبهم؛ فإنها تشبه الألقاب والمناصب الرسمية المعروفة لنا من سوريا وفلسطين أكثر من شبهها بمتوازياتها في مصر. والأرض التي أَسكن فيها يوسف إخوته وأهلهم، والتي دعاها أرض رعمسيس، قد اكتسبت اسمها في عصر الفرعون رمسيس (أو رعمسيس) الثاني (١٢٩٠–١٢٢٤ق.م.) الذي بنى مدينة له في الدلتا أطلق عليها اسم بي-رمسيس. وأسماء العلم المصرية الواردة في القصة لا تَرِد في النصوص المصرية قبل القرن الحادي عشر قبل الميلاد؛ فاسم زوجة يوسف المصرية المدعوة «أسنات» غير موثَّق قبل أواسط حكم الأسرة العشرين (حوالي ١١٨٠ق.م.)، واسم أبيها المدعو فوطي فارع غير موثَّق قبل أواسط حكم الأسرة الحادية والعشرين (حوالي ١٠٠٠ق.م.) ويبدو أن اسم فوطيفار ولي نعمة يوسف ليس إلا شكلًا مختصرًا من الاسم فوطي فارع. أما الاسم المصري ليوسف، وهو «صفنات فعنيح»، فله أشباه في الأسماء المصرية الموثَّقة في فترة حكم الأسرة الحادية والعشرين. وهناك ملاحظة طريفة تدل إما على جهل المحرر بالأحوال المناخية والطبيعية في مصر، أو على محاولته نقلها إلى أجواء سورية محلية. فعندما يقص فرعون حلمه على يوسف يتحدث عن الريح الشرقية التي تلفح السنابل: «هو ذا سبع سنابل طالعة في ساق واحد، ممتلئة وحسنة. ثم هو ذا سبع سنابل يابسة رقيقة ملفوحة بالريح الشرقية، نابتة وراءها …» (تك، ٤١: ٢٢–٢٣). ومن المعروف أن الريح التي تلفح السنابل في مصر تهب من الجنوب لا من الشرق كما هو الحال في سوريا.١
إن هذه المسائل، التي يثيرها النقد النصي لقصة يوسف، تعطينا المسوِّغ الكافي للقول بثقة بأن القصة تعود في أصولها إلى زمن ما غير محدد في الألف الأول قبل الميلاد، وأن المحرر التوراتي قد اعتمد عدة أشكال للقصة، بعضها سوري وآخر مصري، وأضاف إلى عناصرها الخيالية عناصر أخرى واقعية مستمَدة من أحداث معروفة قريبة إليه؛ ففي النصوص المصرية٢ هناك ذكر لأكثر من شخصية آسيوية توصلت إلى مناصب عالية في الدولة، بين هؤلاء رجل اسمه عرشو استلم زمام السلطة في مصر لفترة قصيرة إبان فترة الفوضى التي جاءت في نهاية حكم الأسرة التاسعة عشرة، حوالي ١٢٠٠ق.م. إن ربط قصة يوسف بعصر الهكسوس — مما كان شائعًا بين الباحثين — لم يعد مقبولًا الآن، والقصة برمتها عبارة عن أُخيولة أدبية معلقة في فضاء تاريخي، استخدمها المحرر التوراتي بكل براعة من أجل إغلاق عصر الآباء، وافتتاح عصر العبودية في مصر، الذي مهَّد لملحمة الخروج.

(٢) الخلفية التاريخية للخروج

تم طرد الهكسوس من مصر حوالي عام ١٥٧٠ق.م. على يد القائد العسكري أحموس، الذي حكم فيما بين ١٥٧٠ و١٥٤٥ق.م. وأسس الأسرةَ الثامنة عشرة، فاتحةَ المملكة الحديثة في التاريخ المصري التي دامت خمسة قرون (حتى عام ١٠٧٨ق.م.) وقد خَلَف أحموس عددٌ من الملوك يحملون اسم تحوتمس. وسَّع تحوتمس الأول نفوذ مصر السياسي جنوبًا حتى الشلال الرابع في أعماق أفريقيا، وبذلك أصبح وادي النيل بأكمله تحت السيطرة المصرية. أما باتجاه آسيا الغربية فقد وصل تحوتمس الأول في إحدى حملاته إلى نهر الفرات، على ما يذكره في أحد سجلاته الحربية. وقد كانت هذه الحملة ذات طابع استعراضي بالدرجة الأولى، وهدفت مصر من ورائها إلى الإعلان عن دخولها حلبة السياسة الدولية إلى جانب القوتين العُظمَيَيْن في ذلك الوقت؛ مملكة ميتاني ومملكة حاتي، وإشعارهما بأن لها مصالح حيوية في آسيا الغربية مثل ما لهما.

توقف اهتمام مصر بالسياسة الدولية إبان حكم الملكة حتشبسوت (١٤٦٩–١٤٩٠ق.م.) بسبب انشغال هذه الملكة بالمسائل الداخلية. وعندما خَلَفها زوجُها وشريكها في الحكم تحوتمس الثالث، بدأ عقب وفاتها مباشرة بشنِّ حملات عسكرية متوالية، باتجاه الجنوب نحو أفريقيا، وباتجاه الشمال نحو آسيا الغربية، بلغت اثنتي عشرة حملة خلال فترة حكمه الطويلة التي دامت من ١٤٩٠ إلى ١٤٣٦ق.م. وقد وصل في إحدى حملاته الآسيوية إلى الفرات، وأجبر ميتاني على الاعتراف بسيادته، وكانت في ذلك الوقت القوةَ الرئيسية في منطقة الجزيرة العليا والشمال السوري. كما شنَّ حملة شهيرة في سجلاته على فلسطين معروفة بحملة مجدو، حيث التقى قرب مدينة مجدو الفلسطينية بجيوش تحالف سوري يقوده ملك قادش، وهزمها. وفي عهد خليفته تحوتمس الرابع مالت السياسة المصرية إلى الديبلوماسية، فتزوج هذا الملك من أميرة ميتانية وأنجب منها أمنحوتب الثالث (١٤١٣–١٣٧٧ق.م.) الذي حكم خلال الفترة المعروفة بعصر العمارنة، والتي شملت حكمه وحكم ابنه أمنحوتب الرابع، واشتَهَرت بالوثائق الهامة التي عُثر عليها في عاصمة أمنحوتب الثالث بموقع تل العمارنة، والتي تتضمن مراسلات بين البلاط المصري والملوك السوريين. في عهد أمنحوتب الرابع — الذي دعا نفسه «إخناتون» عقب إصلاحه الديني الشهير، وإعلانه عن معتقده الجديد في إله واحد، دعاه آتون — خفَّ الضغط على مناطق آسيا بسبب انشغال الملك بالمسائل الداخلية والتبشير الديني.

عندما أفلح الكهنة التقليديون في إقصاء إخناتون عن الحكم، رُفع إلى العرش الفتى توت عنخ آمون (١٣٥٨–١٣٤٩ق.م.) وقد أعقب موتَ هذا الفرعون الصغير فترةٌ من الاضطرابات والتهديدات العسكرية الخارجية، انتهت بصعود القائد العسكري حور محب إلى السلطة (١٣٤٥–١٣١٨ق.م.) وتأسيسه للأسرة التاسعة عشرة. كان رمسيس الأول أول فراعنة الأسرة التاسعة عشرة، وفي عهده انتقلت العاصمة المصرية إلى الدلتا الشرقية، فبُنيت مدينة تانيس عاصمة الرعامسة، في مكان لا يبعد كثيرًا عن موقع عاصمة الهكسوس القديمة أفاريس. ثم وَلِيَه ابنه سيتي الأول (١٣١٧–١٣٠١ق.م.) المعروف بحملته على فلسطين، والتي استهدفت البدو المثيرين للقلاقل، والحثيين الذين كانوا يؤلِّبون حكام الدويلات الفلسطينية ضد مصر. ثم تبعه ابنه رمسيس الثاني (١٢٩٠–١٢٢٤ق.م.)٣ الذي اصطدم مع الحثيين في موقعة شهيرة عند مدينة قادش في سوريا الوسطى، ثم وقَّع معهم بعد ذلك بسنوات المعاهدة المعروفة، وهي أشهر معاهدات التاريخ المشرقي القديم.

وهناك رأي سائد بين المؤرخين يضع تاريخ خروج الإسرائيليين من مصر خلال الهزيع الأخير من فترة حكم هذا الفرعون.

(٣) ملحمة الخروج

ينتهي سفر التكوين بوفاة يوسف، حيث تقول آخر فقراته: «ثم مات يوسف وهو ابن مائة وعشر سنين. فحنَّطوه ووُضع في تابوت في مصر» (تك، ٥٠: ٣٦). ثم يلتقط سفر الخروج في مطلعه الفقرة نفسها ويقول: «ومات يوسف وكل إخوته وجميع ذلك الجيل. وأما بنو إسرائيل فأثمروا وتوالدوا ونمَوْا وكثروا جدًّا وامتلأت الأرض منهم. ثم قام ملك جديد على مصر لم يكن يعرف يوسف» (خروج، ١: ٦–٨). رأى الملك الجديد تكاثر بني إسرائيل وخاف من تزايد عددهم، فدفعهم إلى السُّخرة في أعمال البناء، ووضع عليهم مراقبين أشداء يذلونهم ويسومونهم سوء العذاب، وابتدأت فترة العبودية التي دامت بضع مئات من السنين. بنى المُستعبَدون لفرعون مدينتين، هما «مخازن فيثوم» و«رعمسيس»، ولكن السُّخرة والأعمال الشاقة لم تنفع في التقليل من عددهم، فأمر فرعون القابلتين القائمتين على توليد نسائهم بقتل المواليد الذكور في المهد. ولكن القابلتين خافتا الله ولم تفعلا، مدعيتين أن النساء العبرانيات قويات البنية يلدن قبل وصول القابلة، فنما الشعب كثيرًا. وهنا عَمَد الفرعون إلى أسلوب آخر، حيث أمر الإسرائيليين أن يُلقوا إلى النهر بكل مولود ذكر (الخروج، ١: ١٥–٢٢).

يلي ذلك مباشرةً قصة ولادة موسى، حيث يبدأ الإصحاح الثاني بالقول: «وذهب رجل من بيت لاوي وأخذ بنت لاوي، فحبلت المرأة وولدت ابنًا، ولما رأته أنه حَسَن خبأته ثلاثة أشهر. ولما لم يمكنها أن تخبئه بعدُ أخذت سَفَطًا من البردي ووضعت الولد فيه، ووضعته بين الحَلْفاء على حافة النهر. ووقفت أخته من بعيد لتعرف ماذا يُفعل فيه. فنزلت ابنة فرعون إلى النهر لتغتسل، وكانت جواريها ماشيات إلى جانب النهر، فرأت السَّفَط بين الحَلْفاء، فأرسلت أَمَتها وأخذته، ولما فتحته رأت الولد، وإذا هو صبي يبكي، فرقَّت له وقالت: هذا من أولاد العبرانيين. فقالت أخته لابنة فرعون: هل أذهب وأدعو لك امرأة مرضعة من العبرانيات لتُرضع لك الولد؟ فقالت لها ابنة فرعون: اذهبي. فذهبت الفتاة ودعت أم الولد، فقالت لها ابنة فرعون: اذهبي بهذا الولد وأرضعيه لي وأنا أعطيك أجرتك، فأخذت المرأة الولد وأرضعته. ولما كَبِر الولد جاءت به إلى ابنة فرعون فصار لها ابنًا، ودعت اسمه موسى، وقالت: إني انتشلته من الماء» (الخروج، ٢: ١–١٠).

ويبدو أن موسى قد شبَّ وهو يعرف أصله العبراني؛ ففي أحد الأيام رأى رجلًا مصريًّا يضرب رجلًا عبرانيًّا من إخوته، فقتل المصري وطمره في الرمل. ولما انكشف أمره هرب من وجه فرعون الذي طلب قتله، وأتى إلى أرض مديان (عند خليج العقبة) وجلس عند البئر. وكان لكاهن مديان المدعو رعوئيل سبع بنات، فأتين لملء الجرار، ولكن الرعاة صرفوهن، فأعانهن موسى. وعندما عُدن وأخبرن أباهن بما حصل، دعاه الأب وأكرمه وأسكنه عنده، وزوَّجه ابنته صفورة التي أنجبت له ولدًا أسماه جرشوم. وعندما كان يرعى غنم حَمِيه، الذي يدعوه النص في هذا الموضع من القصة يثرون عوضًا عن رعوئيل، ساق الغنم إلى جبل يُدعى حوريب، فرأى شجرة عُلَّيقة تتوقد بالنار ولا تحترق، فلما اقترب منها «ناداه الله من وسط العُلَّيقة وقال: موسى، موسى. فقال: ها أنا ذا. فقال: لا تقترب إلى ها هنا. اخلع حذاءك من رجليك؛ لأن الموضع الذي أنت واقف عليه أرض مقدسة. ثم قال: أنا إله أبيك، إله إبراهيم وإله إسحاق وإله يعقوب. فغطى موسى وجهه لأنه خاف أن ينظر إلى الله. فقال الرب: إني قد رأيت مذلة شعبي وسمعت صراخهم … فنزلت لأنقذهم من أيدي المصريين، وأُصعِدهم من تلك الأرض إلى أرض جيدة وواسعة، إلى أرض تَفيض لبنًا وعسلًا … والآن هلمَّ فأرسلك إلى فرعون، وتُخرج شعبي بني إسرائيل من مصر. فقال موسى لله: من أنا حتى أذهب إلى فرعون، وحتى أُخرج بني إسرائيل من مصر؟! فقال: إني أكون معك، وهذه تكون لك العلامة أني أرسلتك. حينما تُخرج الشعب من مصر، تعبدون الله على هذا الجبل … وقال الله لموسى: هكذا تقول لبني إسرائيل: يهوه إله آبائكم؛ إله إبراهيم وإله إسحاق وإله يعقوب أرسلني إليكم» (الخروج، ٣).

«فأجاب موسى وقال: ولكن ها هم لا يصدقون ولا يسمعون لقولي، بل يقولون: لم يظهر لك الرب. فقال الرب: ما هذه في يدك؟ فقال: عصًا. فقال: اطرحها إلى الأرض. فطرحها فصارت حية، فهرب موسى منها. ثم قال الرب لموسى: مُد يدك وأمسك بذَنَبها. فمد يده وأمسك به، فصارت عصًا في يده. لكي يصدقوا أنه قد ظهر لك الرب إله آبائهم؛ إله إبراهيم وإله إسحاق وإله يعقوب.» وبعد أن يزوده بآيتين أُخريين؛ يده التي يُدخلها في جيبه فتخرج بيضاء، وماء النهر الذي يسكبه على اليابسة فيصير دمًا، يطلب منه التوجه فورًا إلى مصر لأن الفرعون الذي كان يطلب دمه قد مات. فيشتكي موسى من ثقل لسانه وقلة فصاحته، فيأمره الرب أن يستعين بأخيه هارون الفصيح اللسان، والذي تقع عليه مهمة مخاطبة الشعب، ويكون لموسى فمًا. فأخذ موسى امرأته وبَنيه وأركبهم على الحمير، ورجع إلى أرض مصر بعد أن ودَّع حماه يثرون (الخروج، ٤).

في مصر يتصل موسى وهارون بالشعب، الذي يؤمن بهما وبالآيات التي صَنَعاها أمام عيونهم. ثم يدخل الاثنان على فرعون ويطلبان منه إطلاق بني إسرائيل، فيرفض فرعون مستهزئًا بالطلب، ويزيد من أعباء السُّخرة على بني إسرائيل. بعد ذلك يتكرر دخول موسى وهارون على فرعون عشر مرات ملتمسَيْن إطلاق الشعب، وفي كل مرة يرفض فرعون الطلب، فيرسل عليه الرب كارثة تحل به وببيته وبقومه، فيصرخ فرعون إلى موسى أن يصلي لربه فيرفع غضبه عنه، وعندما يرتفع غضب الرب يقسو قلب فرعون ويرفض من جديد إطلاق الشعب. وأخيرًا يرضخ فرعون ويسمح بخروج بني إسرائيل جميعًا مع غنمهم وبقرهم وجميع أمتعتهم. وقبل أن يغادروا مساكنهم قال لهم موسى أن يستعير كل واحد منهم من جاره أدوات فضية وذهبية وثيابًا. وقد زيَّن الرب للمصريين إعارة جيرانهم فأعطَوْهم ما طلبوا، فسرق الإسرائيليون المصريين ورحلوا تحت جنح الليل. وكانت إقامتهم في مصر أربعمائة وثلاثين سنة (الخروج، ٥–١٢).

وكان لما أطلق فرعون الشعب أن الله لم يَهدِهم في طريق أرض الفلسطينيين المحاذية للساحل، مع أنها قريبة؛ لكيلا يُعرِّضهم للحرب مع أهلها فينقلبون على أعقابهم راجعين إلى مصر، بل أدارهم نحو بحر سوف (الذي هو خليج السويس وما يتلوه شمالًا من البحيرات المُرة)، فرحلوا من مساكنهم في أرض رعمسيس ونزلوا في «سكوت»، وارتحلوا من «سكوت» ونزلوا في إيثام. وكان الرب يسير أمامهم نهارًا في عمود من سحاب ليهديهم في الطريق، وليلًا في عمود من نار ليضيء لهم. ولكن فرعون ندم على إطلاق بني إسرائيل، فلحق بهم بجنوده ومركباته فأدركهم وهم نازلون قرب بحر سوف عند فم الحيروت أمام بعل صفون. ففزع بنو إسرائيل وقالوا لموسى: «هل لأنه ليست قبور في مصر أخذتَنا لنموت في البرية؟! ماذا صنعت بنا حتى أخرجتنا من مصر؟! خير لنا أن نخدم المصريين من أن نموت في البرية. فقال موسى للشعب: لا تخافوا، قفوا وانظروا خلاص الرب الذي يصنعه لكم اليوم … فقال الرب لموسى: قل لبني إسرائيل أن يرحلوا، وارفع أنت عصاك ومد يدك على البحر وشُقه، فيدخل بنو إسرائيل في وسط البحر على اليابسة … ومد موسى يده على البحر، فأجرى الرب البحر بريح شرقية شديدة كل الليل، وجعل البحر يابسة وانشق الماء، فدخل بنو إسرائيل في وسط البحر على اليابسة، والبحر سور لهم عن يمينهم وعن يسارهم، وتبعهم المصريون ودخلوا وراءهم … فقال الرب لموسى: مُد يدك على البحر ليرجع الماء على المصريين، فمد موسى يده على البحر، فرجع الماء وغطى مركبات وفرسان جميع جيش فرعون، ولم يبقَ منهم ولا واحد» (الخروج، ١٣-١٤).

ثم ارتحل بنو إسرائيل من بحر سوف وهدفهم برية سيناء. وفي طريقهم يمرون بالمواقع الآتية على التوالي: برية شور، مارة، إيليم، برية سين. في برية سين يتمرد الشعب على موسى وهارون ويقول لهما: «ليتنا متنا بيد الرب في مصر إذ كنا جالسين عند قدور اللحم نأكل خبزًا للشِّبَع، فإنكما أخرجتمانا إلى هذا القفر لكي تميتا كل هذا الجمهور بالجوع.» فأرسل لهم الرب المن والسلوى غذاءً؛ فالمن نوع من الفطريات تنبت على وجه البرية عند ارتفاع ندى الصباح، والسلوى نوع من الطيور المهاجرة كانت تحط قرب منازلهم للراحة. «ثم ارتحل كل جماعة بني إسرائيل ونزلوا في رفيديم. ولم يكن ماءٌ ليشرب الشعب، فخاصم الشعب موسى وقالوا: أعطونا ماءً لنشرب … فصرخ موسى إلى الرب قائلًا: ماذا أفعل بهذا الشعب؟! بعد قليل يرجمونني.» فأمر الرب موسى أن يضرب صخرة معينة بعصاه، ففعل موسى وتفجَّر من الصخرة ماءٌ وشرب الجميع. وبينما هم في رفيديم يجتمع شعب العماليق لقتالهم، وهم قبائل بدوية تتجول في مناطق شمال الجزيرة العربية. فوقف الرب إلى جانب الشعب، وهزم الإسرائيليون أعداءهم، وتابعوا مسيرتهم نحو برية سيناء (الخروج، ١٥–١٧).

وصل الشعب إلى برية سيناء في الشهر الثالث بعد خروجهم من مصر، ونزلوا أمام الجبل. وهناك يأتي إلى موسى حَمُوه يثرون كاهن مديان، بعد أن سمع بكل ما صنع الله إلى موسى وإلى إسرائيل. ويأتي يثرون معه بصفورة امرأة موسى التي كانت مقيمة عند أبيها وابنَيْها جرشوم وأليعازر. وعند هذه النقطة من القصة فقط نعرف أن موسى كان قد صرف زوجته إلى أهلها لسبب غير معروف. وقال يثرون لموسى: «مباركٌ الرب الذي أنقذكم من أيدي المصريين. الآن علمت أن الرب أعظم من جميع الآلهة؛ لأنه في الشيء الذي بغَوْا به كان عليهم.» وفي اليوم التالي غادر يثرون إلى أرضه بعد أن أعطى موسى نصائح قيمة في كيفية إدارة وتنظيم هذا الشعب الكثير. وأما موسى فصعد إلى الله، فناداه الرب من الجبل قائلًا: «هكذا تقول لبيت يعقوب وتخبر بني إسرائيل، أنتم رأيتم ما صنعت بالمصريين. وأنا حملتكم على أجنحة النسور وجئت بكم إليَّ. فالآن إن سمعتم لصوتي وحفظتم عهدي تكونون لي خاصةً من بين جميع الشعوب.» فرجع موسى إلى الشعب وكلَّمه بما سمع، فأجاب الشعب وقال: كل ما تكلم به الرب نفعل. واستعدوا لإبرام العهد مع إلههم في صباح اليوم الثالث، فغسلوا أنفسهم وتطهروا، وعندما حل الموعد «صارت بروقٌ ورعود وسحاب ثقيل على الجبل، وصوت بوق شديد جدًّا. فارتعد الشعب الذي في المحلة، وأخرج موسى الشعب من المحلة لملاقاة الله، فوقفوا في أسفل الجبل. وكان جبل سيناء كله يدخن من أجل أن الرب نزل عليه بالنار، وصعد دخانه كدخان الأتون … ودعا الله موسى إلى رأس الجبل، فصعد موسى. وكان صوت البوق يزداد اشتدادًا، وموسى يتكلم والله يجيبه بصوت. ثم تكلم الله معه وأعطاه الوصايا العشر» (الخروج، ١٨–١٩).

يصعد موسى مرة أخرى إلى الجبل بأمر الرب ليستلم لوحَيْن من الحجارة، منقوشٌ عليهما الوصايا العشر والشريعة، ليُعلِّم بهما الشعب. فدخل موسى وسط السحاب وبقي هناك أربعين نهارًا وأربعين ليلة. ولما رأى الشعب أن موسى قد تأخر جاءوا إلى هارون وقالوا له: «قم اصنع لنا آلهة تسير أمامنا؛ لأن هذا موسى — الرجل الذي أصعدنا من مصر — لا نعلم ماذا أصابه. فقال لهم هارون: انزعوا أقراط الذهب التي في آذان نسائكم وبنيكم وبناتكم وائتوني بها … فأخذ ذلك من أيديهم وصوَّره بالإزميل، وصنعه عجلًا مسبوكًا. فقالوا: هذه آلهتك يا إسرائيل التي أصعدتك من أرض مصر … فقال الرب لموسى: اذهب انزل؛ لأنه قد فسد شعبك الذي أصعدته من مصر. زاغوا سريعًا عن الطريق الذي أوصيتهم به … فانصرف موسى ونزل من الجبل ولَوْحا الشهادةِ في يده … وكان عندما اقترب إلى المحلة أنه أبصر العجل والرقص. فحمي غضب موسى، وطرح اللوحين من يديه وكسرهما في أسفل الجبل. ثم أخذ العجل الذي صنعوا وأحرقه بالنار، وطحنه حتى صار ناعمًا، وذراه على وجه الماء وسقى بني إسرائيل» (الخروج، ٣٢). وبعد أن يُعمل موسى في الشعب مذبحةً كبرى يقودها اللاويون الكهنة، يهدأ غضبه ويستغفر للشعب أمام الرب. ثم يصعد إلى الجبل مرة أخرى ليستلم من الرب لوحين جديدين بدل اللذين كسرهما (الخروج، ٣٣–٣٤).

لا تحتوي بقية إصحاحات سفر الخروج على أحداث جديدة؛ فجميعها مخصص لتفصيل بعض القواعد الطقسية، وشرح كيفية صنع خيمة الاجتماع، التي هي المسكن المتنقل لإله إسرائيل، وكيفية صنع تابوت العهد الذي يُودَع فيه لوحا الشريعةِ، كما يخصص كامل التالي (سفر اللاويين) لتفصيل القواعد التشريعية التي أنزلها الرب على موسى. وعندما تُستأنف القصة في سفر العدد، نجد أن الإسرائيليين قد أمضَوْا سنة كاملة في برية سيناء. وفي السنة الثانية لخروجهم من مصر، في الشهر الثاني، تركوا سيناء وتوجهوا إلى برية فاران، وهدفهم الوصول إلى قادش برنيع، وهي واحة معروفة في شمال سيناء، وقريبة من الحدود الجنوبية لأرض كنعان. ومن هناك يبعث موسى رسلًا ليتجسسوا في أرض كنعان، ويرَوُا الشعب الساكن فيها «أقوي هو أم ضعيف، قليل أم كثير؛ وكيف هي الأرض التي هو ساكن فيها، أجيدة أم رَدِيَّة؛ وما هي المدن التي هو ساكن فيها، أمُخيَّمات أم حصون؛ وكيف هي الأرض، سمينة أم هزيلة.» فذهب الرجال وعادوا بالخبر: «فساروا حتى أتَوْا إلى موسى وهارون وكل جماعة بني إسرائيل … وأرَوْهم ثمر الأرض وقالوا: قد ذهبنا إلى الأرض التي أرسلتنا إليها، وحقًّا إنها تَفيض لبنًا وعسلًا، وهذا ثمرها، غير أن الشعب الساكن في الأرض معتز، والمدن حصينة، عظيمة جدًّا … فرفعت كل الجماعة صوتها وصرخت، وبكى الشعب تلك الليلة، وتذمر على موسى وعلى هارون جميعُ بني إسرائيل، وقال لهما كل الجماعة: ليتنا متنا في أرض مصر، أو ليتنا متنا في هذا القفر … ثم ظهر مجد الرب في خيمة الاجتماع لكل بني إسرائيل، وقال الرب لموسى: حتى متى يهينني هذا الشعب؟! وحتى متى لا يصدقونني بجميع الآيات التي عملت في وسطهم؟! إني أضربهم بالوباء وأُبيدهم، وأُصيِّرك شعبًا أكبر وأعظم منهم.» ولكن موسى يفلح بعد جهد جهيد في تهدئة غضب الرب، وإقناعه بالعدول عن إبادة الشعب، فيصفح الرب ولكنه يحكم على جميع أفراد الجيل الذي يسير مع موسى أن يُمضي بقية حياته في القفر، ولا يرى أرض كنعان التي يدخلها أولاد الجيل الثاني من أبنائهم (العدد، ١٣–١٤).

فأقام بنو إسرائيل في قادش برنيع مدة ثمانٍ وثلاثين سنة، حتى أكملوا أربعين سنة لخروجهم من مصر، ومات كل الجيل الذي تمرد على موسى وخاف من دخول كنعان. وقد تخلل هذه الفترةَ الطويلةَ عددٌ من حوادث التمرد والعصيان، وأهمها محاولة المدعو قورح بن يصهار الانقلابية، التي سعى من خلالها إلى إقصاء موسى وهارون عن القيادة، يدعمه في ذلك مائتان وخمسون من رؤساء الجماعات. ولكن الرب خسف الأرض بقورح والمتمردين جميعهم فهبطوا إلى الهاوية السفلى (العدد، ١٦). كما وقع تمرد جديد على موسى بسبب نقص الماء أيضًا، وقد قادت طريقة تعامل موسى وهارون مع هذا التمرد، والكيفية التي نفَّذوا بها أمر الرب؛ إلى غضب الرب عليهما وحرمانهما من دخول أرض كنعان. فلقد أمر الرب موسى أن يقف أمام صخرة معينة ويكلِّمها هو وهارون أن تعطي ماءها، لا أن يضربها بعصاه كما فعل في مرة سابقة. ولكن موسى الذي طفح به الكيل من سلوك هذا الشعب العنيد، وفي نوبة شك عارمة من قدرة إلهه، وقف أمام الصخر وصرخ بالجمهور المحتشد حوله: «اسمعوا أيها المَرَدة، أمِن هذه الصخرة نُخرج لكم ماءً؟ ورفع موسى يده وضرب الصخرة بعصاه مرتين، فخرج ماء غزير، فشربت الجماعة ومواشيها. فقال الرب لموسى وهارون: من أجل أنكما لم تؤمنا بي أمام أعين بني إسرائيل؛ لذلك لا تُدخلان هذه الجماعة إلى الأرض التي أعطيتهم إياها.»

بعد انتهاء المدة التي حددها الرب بأربعين سنة، وموت أفراد الجيل السابق جميعهم، تحرك موسى بجماعته لتحقيق الوعد القديم بأرض كنعان، فوصلوا تخوم آدوم الواقعة إلى الجنوب من البحر الميت. وهناك أرسل موسى رسله إلى ملك آدوم طالبًا منه السماح بعبور بني إسرائيل في أراضيه، ولكن ملك آدوم رفض الطلب، وخرج للقائه بعدد غفير من الجند. فاتخذ موسى طريقًا آخر نحو شرقي الأردن يدور حول مناطق الآدوميين شرقًا فشمالًا حتى لا يصطدم بهم. وعندما حلوا في جبل اسمه هور جاءت هارونَ المنيةُ، ودُفن هناك لتحقيق قول الرب. وصل موسى إلى شرقي الأردن، وخيَّم في موقع أرنون، وهو الحد الفاصل بين أراضي موآب وأراضي الآموريين. ثم أرسل رسله إلى ملك الآموريين يطلب منه السماح لقومه بالعبور بسلام، ولكن الملك رفض الطلب وخرج للقاء إسرائيل. وفي هذه المرة لم ينسحب موسى كما انسحب أمام آدوم، بل قرر المواجهة، فضرب الآموريين ضربة قوية وأخذ كل مدنهم وقراهم. ولسبب غير مفهوم، لا يتابع موسى طريقه نحو أرض كنعان، ولا يصطدم مع موآب وعمون المملكتين القويتين في شرقي الأردن، بل يتابع طريقه شمالًا نحو باشان في سوريا الجنوبية (مناطق حوران)، ويصطدم مع ملك باشان في موقع إذرعي (إزرع)، فيضربه ضربة قوية، ويمتلك أرضه وقراه أيضًا، ثم يقفل راجعًا إلى شرقي الأردن، وينزل في موقع عربات موآب على ضفة نهر الأردن في مقابل مدينة أريحا الواقعة على الجهة الأخرى للنهر داخل كنعان (العدد، ٢٠–٢١).

فزع الموآبيون مما فعله الإسرائيليون بخصومهم، فأرسل ملك موآب إلى عراف معروف في المنطقة اسمه بَلعام بن بعور، ليأتي إليه ويلعن بني إسرائيل، لأن الذي يلعنه بَلعام ملعون، والذي يباركه مبارك، وبعث مع رسله بهدايا إلى بَلعام، فأتى إليه، ولكن الله وضع في فم بَلعام بركات بدل اللعنات، فقال: «وحي بَلعام بن بعور، وحي الرجل المفتوح العينين، وحي الذي يسمع أقوال الله … ما أحسن خيامك يا يعقوب، مساكنك يا إسرائيل … مبارِكُكِ مبارَكٌ، ولاعِنُكِ معلونٌ … إلخ» (العدد، ٢٢–٢٤). فيُحجم موآب عن مضايقة إسرائيل، ويتفرغ موسى لقتال مديان بأمر مباشر من الرب؛ لأن الشعب قد زنى مع بنات مديان وتعلق بآلهتها «فتجنَّدوا على مديان كما أمر الرب وقتلوا كل ذَكر. وملوك مديان قتلوهم فوق قتلاهم. وسبى بنو إسرائيل نساء مديان وأطفالهم، ونهبوا جميع مواشيهم وكل أملاكهم، وأحرقوا جميع مدنهم بالنار، وأتوا إلى موسى … فسخط موسى على وكلاء الجيش، وقال لهم: … اقتلوا كل ذكر من الأطفال، وكل امرأة عرفت رجلًا. لكن جميع الأطفال من النساء اللواتي لم يعرفن ذكرًا أبقوهن لكم حيات …» (العدد، ٣١). وبعد ذلك يقوم موسى بتقسيم الأراضي المكتسبة في شرقي الأردن ويعطيها لسبط راؤبين، وسبط جاد، ونصف سبط منسي.

وعندما تحضر المنيَّةُ موسى يُصعده الرب من معسكره في عربات موآب إلى جبل نبُّو، ويُريه أرض كنعان في عبر الأردن، ويكرر على مسامعه بأنه لن يُدخله إلى الأرض الموعودة بسبب خطيئته وخطيئة هارون في القفر «وصعد موسى من عربات موآب إلى جبل نبُّو إلى رأس الفِسْجة الذي قُبالةَ أريحا. فأراه الرب جميع الأرض من جلعاد إلى دان … إلخ، وقال له الرب: هذه هي الأرض التي أقسمت لإبراهيم وإسحاق ويعقوب قائلًا: لنسلك أعطيها. قد أريتك إياها بعينيك، ولكنك إلى هناك لا تعبر. فمات هناك موسى عبد الرب في أرض موآب حسب قول الرب، ودفنه في الجواء في أرض موآب مقابل بيت فغور، ولم يعرف إنسان قبره إلى هذا اليوم. وكان موسى ابن مائة وعشرين سنة حين مات … ولم تكلَّ عينه ولا ذهبت نضارته» (التثنية، ٣٤). وبموت موسى تنتهي قصة الخروج لتبدأ قصة دخول كنعان.

النقد النصي لقصة الخروج

لقد أشرنا سابقًا إلى أن قصة يوسف قد استُخدمت من أجل الربط بين تقليدين توراتيين غريبين عن بعضهما كل الغرابة، هما قصص الآباء وقصة الخروج. ولكن هذه القصة لم تقدم في الواقع إلا تسويغًا غير مقنع لوجود بني إسرائيل في مصر، وبقي تقليد الخروج مستقلًّا عن قصة يوسف وعن قصص الآباء في آنٍ معًا. ومما يَلفت النظر بشكل خاص أن نص سفر الخروج يصمت صمتًا تامًّا عن الفترة التي قضاها بنو إسرائيل في مصر بين وفاة يوسف وولادة موسى، ولا نعلم سوى أن هؤلاء قد وقعوا تحت نِير العبودية بعد أن قام ملك جديد على مصر لم يكن يعرف يوسف. أما متى قام هذا الملك الجديد على مصر، وكم امتدت فترة العبودية، وما الذي كان يفعله الإسرائيليون قبل العبودية، فأمور لا يلقي عليها النص أية إضاءة. ومما يزيد الوضع غموضًا أن هؤلاء الأُجراء المُسخَّرين تركوا مصر ومعهم مواشٍ وأغنام كثيرة (الخروج، ١٢: ٣٨) الأمر الذي يتنافى ووضعَ العبيد الذين لا يملكون في الواقع شيئًا. أما عن مجموع سنوات إقامتهم في مصر مما سبق العبودية وتلاها، فإن النص التوراتي يعطينا معلومات متناقضة. فإقامة بني إسرائيل في مصر وَفق سفر الخروج (١٢: ٤٠) هي أربعمائة وثلاثون سنة. أما في سفر التكوين (١٥: ١٣ و١٦) فهي أربعمائة سنة فقط. وفي نهاية قصة يوسف لدينا إشارة واضحة إلى أن فترة الإقامة في مصر لم تتجاوز حياة جيل واحد فقط من أحفاد يوسف. ففي سنوات حياته الأخيرة يشهد يوسف ولادة أولاد أحفاده «وأولاد ماكير بن منسي أيضًا ولدوا على ركبتي يوسف» (تك، ٥٠: ٢٣). ولكننا ما نلبث أن نرى أولاد ماكير هؤلاء، الذين ولدوا على ركبتي يوسف في مصر، يحاربون مع يشوع في كنعان (يشوع، ١٣: ٣١، و١٧: ١)، وهذا يعني أن المدة الفاصلة بين موت يوسف ودخول كنعان، بما فيها فترة الإقامة في مصر وفترة الخروج، لم تتجاوز المائة سنة على أبعد تقدير، وأن الذين ولدوا في حياة يوسف هم الذين استُعبدوا من قِبل المصريين، وهم الذين خرجوا أيضًا مع موسى ودخلوا مع يشوع.

إلى جانب استقلالها عن قصة يوسف وقصص الآباء، فإن قصة موسى والخروج من مصر قد حِيكت من أربع قصص مستقلة من حيث الأصل على ما يبدو، إن لم يكن أكثر. القصة الأولى هي قصة ميلاد وفتوة موسى، التي عملت على تزويد هذه الشخصية المركزية في التقاليد التوراتية بأصل ملكي نبيل وأصل كهنوتي؛ فهو ابن بنت فرعون بالتبني، نشأ وترعرع في البلاد كأمير فرعوني، وهو في الوقت نفسه سليل أسرة لاوية من جماعة الكهنة المكرسين للشئون الدينية. ورغم حياته المترفة في القصور فإن موسى على ما يبدو كان يعرف أصله العبراني، على ما تدل عليه حادثة قتله للمصري انتصارًا لأخيه العبراني، ثم هربه من وجه فرعون الذي طلب دمه. وكما يمكن أن يلاحظ القارئ بسهولة، فإن هذه القصة تقوم على عدد من العناصر المعروفة في الأدب الشعبي والخرافي لثقافات الشرق القديم، ولها متوازيات واضحة في آداب الشعوب الأخرى. فالرضيع الذي يوضع في سلة تُلقَى إلى الماء، ثم تعتني به قدرة إلهية حتى يشب ويغدو حاكمًا أو ملكًا، هو عنصر شائع ومعروف وله تنويعات عديدة. فإما أن يكون الطفل من أصل عامي ثم تتعهده أسرة ملكية بالرعاية حتى يغدو واحدًا من أفرادها، أو أن يكون من أصل ملكي ثم تتعهده أسرة فقيرة حتى يَكبَر ويعرف أصله الملكي، ويعود للمطالبة بحقوقه ومكانته السابقة. وقد يُستبدل عنصر الإلقاء بالماء داخل سلة بالإلقاء في الغابة، حيث تقوم غزالة أو ذئبة بإرضاع الطفل حتى يَكبَر. كما يتنوع الدافع إلى التخلص من الطفل الرضيع في هذه القصص؛ فهو مؤامرة داخل القصر الملكي للتعديل في حقوق الوراثة، أو غيرة الزوجة الأولى من ولادة الزوجة الثانية، أو نبوءة عن قيام المولود الجديد حين يَكبَر بقتل الأب والاستيلاء على العرش … إلخ.

القصة الثانية هي قصة موسى في مديان، والتي تعود بنا إلى أجواء عصر الآباء. فموسى يلتقي بصفورة عند بئر الماء، وهي تقوده إلى أبيها الذي يستضيفه، ثم يعهد إليه برعاية غنمه، ويزوِّجه ابنته. وبينما هو يرعى غنم حَمِيه يكلمه الرب من داخل الشجرة التي تحترق، كما كلم من قبل إبراهيم وإسحاق ويعقوب في مواقف مختلفة، ولكن متشابهة. وتبدو قصة موسى المدياني هذا وكأنها منتزعة من الذخيرة القصصية ذاتها التي استخدمها محرر سفر التكوين. ونلاحظ هنا، كما في قصة طفولة وشباب البطل، أن المحرر لم يُعنَ بنسب موسى، ولم يُعنَ بذكر اسم أبيه وأمه وإخوته. فالإصحاح الثاني من سفر الخروج الذي يروي لنا عن ولادة موسى يكتفي بالقول: «وذهب رجل من بيت لاوي وأخذ بنت لاوي، فحبلت المرأة وولدت ابنًا. ولما رأته أنه حَسَن خبأته ثلاثة أشهر … إلخ.» ولكن عندما تبدأ القصة الثالثة، وهي قصة تبشير موسى بين بني إسرائيل ودخوله على فرعون، يأخذ المحرر بإعطائنا بعض المعلومات الجديدة كليةً. فعندما يأمره الرب بالتوجه إلى مصر نعلم أن له أخًا اسمه هارون، دون أن ندري كيف استطاعت الأم أن تربي هارون وتحتفظ به ولم تستطع تربية موسى والاحتفاظ به في بيتها. وبعد أن يدخل موسى على فرعون يعطينا المحرر تفصيلات كاملة عن نسبه المتسلسل من المدعو لاوي الجد الأكبر، وصولًا إلى المدعو عمرام، الذي تزوج المدعوة يوكابد، فأنجبت له هارون وموسى (الخروج، ٦: ١٠–٢٠). وبعد الخروج من مصر يخبرنا النص أن لهارون وموسى أختًا أيضًا اسمها مريم، وذلك في سفر العدد (١٢: ١–١٦). وفي الموضع نفسه أيضًا نعرف أن زوجة موسى بطل هذه القصة الثالثة ليست صفورة ابنة كاهن مديان، بل امرأة كوشية.

أما القصة الرابعة فتبدأ بعد انتهاء مدة الأربعين سنة المحددة من قِبل الرب لموت جميع أفراد الجيل الذي تمرد عليه وخاف من دخول كنعان. فهنا تنتهي ملامح شخصية موسى المبشر، ورجل العقيدة الذي يميل إلى السَّلم ويجنح لها، والذي يجر وراءه جماعة من الهاربين الخائفين، ولا يدخل في معركة لم تُفرض عليه فرضًا، وتبدأ شخصية موسى القائد الدموي العسكري الذي يبادر إلى الحرب، ويشن حملات الإبادة والتدمير. ونحن في الحقيقة لا نستطيع أن نجد أرضًا مشتركة تجمع موسى الذي يطلب من ملك آدوم أن يمر في أرضه بسلام، ثم يُضطر إلى الدوران حول آدوم في رحلة طويلة وشاقة، إلى موسى الآخر، الذي يصل في فتوحاته العسكرية إلى سهول حوران في سوريا الجنوبية، والذي يُنهي حياته بإبادة جميع أهالي مديان من الذكور والإناث، والإبقاء على البنات الصغيرات فقط. ويمكن أن نلاحظ بسهولة أن أحداث هذه القصة الرابعة تنتمي في معظمها إلى أحداث الفتح العسكري لكنعان مما يرويه سفر يشوع، وأنها مستمدة من الذخيرة القصصية نفسها التي استخدمها محرر هذا السفر، حتى إننا لا نستطيع تمييز شخصية موسى في شرقي الأردن عن شخصية يشوع في حروب كنعان.

وينجم عن هذا التداخل غير المحكم بين الأصول المتنوعة لتقليد الخروج، وعن أسلوب المحرر التوراتي، الذي وصفناه سابقًا بأسلوب الجمع التراثي؛ عددٌ من التناقضات الفرعية التي لا نستطيع تَعدادها جميعًا، نظرًا لكثرتها في سفر الخروج وبقية الأسفار الخمسة التي تتابع قصة موسى. ففي الإصحاح الثاني من سفر الخروج يُدعى كاهن مديان بالاسم يثرون، أما في الإصحاح الثالث فيُدعى بالاسم رعوئيل. فإذا اجتزنا الأسفار الخمسة إلى سفر القضاة وجدنا أن حما موسى يحمل اسم حوباب، وأنه ليس مديانيًّا بل قينيًّا، رغم الفروق الكبيرة بين المديانيين والقينيين سواء من حيث النسب أو من حيث مناطق السكن. نقرأ في القضاة (٤: ١٠): «وحابر القيني انفرد من قاين من بني حوباب حَمِي موسى، وخَيَّم حتى إلى بَلُّوطة …» فإذا عدنا إلى سفر العدد (١٠: ٢٩) وجدنا أن حوباب هذا ليس حما موسى، بل ابن حَمِيه، وهو مدياني مرة أخرى وليس قينيًّا «وقال موسى لحوباب بن رعوئيل المدياني حَمِي موسى: إننا راحلون … إلخ.» كما نستدل من هذين الموضعين في سفر العدد وسفر القضاة على أن حما موسى قد انضم مع أهله إلى موسى، وسار في حملة الخروج، وهذا ما يتناقض مع الإصحاح ١٨ من سفر الخروج، الذي يخبرنا بأن حما موسى المدعو يثرون قد زار موسى في طريق الخروج، وأقام لديه فترة ثم انصرف. نقرأ في الخروج (١٨: ٢٤–٢٧): «فسمع موسى لصوت حَمِيه وفعل كل ما قال … ثم صرف موسى حماه فمضى إلى أرضه.» كما نعلم من زيارة يثرون هذه أن موسى كان قد صرف زوجته صفورة، فأقامت عند أبيها مع ابنَيْها، دون أن ندري متى صرف موسى زوجته أو لماذا صرفها. وفيما يتعلق بابنَيْ موسى، اللذين يدعوهما النص هنا بجِرْشوم وأليعازر، نلاحظ عدم وجود دور لهما في ملحمة الخروج، وذلك على عكس ابنَيْ هارون المدعوَّيْن أليعازار وإيثامار، اللذين يشاركان في معظم الأحداث، ويتكرر اسماهما مرارًا كمساعدين لأبيهما في الإجراءات الطقسية (انظر على سبيل المثال اللاويين، ١٠: ١٢–١٥). وفي سفر العدد (١٢: ١) نعرف أن لموسى زوجة كوشية (حبشية)، دون أن يورد النص اسمها أو أية تفاصيل عن كيفية زواجه منها، ثم تختفي بعد ذلك كما ظهرت. والأغرب من ذلك كله أن موسى عندما يموت على جبل نبُّو مقابل أريحا، يموت وحيدًا، ولا يوجد حوله أحد من زوجاته أو أولاده.

وعن استلام موسى للشريعة والوصية على الجبل لدينا روايتان مختلفتان كل الاختلاف؛ في الأولى يأمر الرب موسى أن يصعد إلى الجبل مع هارون، ويحذره من صعود أو اقتراب أحد من الكهنة وإلا بطش به «ونزل الرب على جبل سيناء، إلى رأس الجبل. ودعا الله موسى إلى رأس الجبل فصعد موسى. فقال الرب لموسى: انحدر حذِّر الشعب لئلا يقتحموا إلى الرب لينظروا فيسقط منهم كثيرون … فقال موسى للرب: لا يقدر الشعب أن يصعد إلى جبل سيناء؛ لأنك أنت حذرتنا قائلًا: أقم حدودًا للجبل وقدِّسه. فقال له الرب: اذهب انحدر ثم اصعد أنت وهارون معك. وأما الكهنة والشعب فلا يقتحموا ليصعدوا إلى الرب لئلا يبطش بهم. فانحدر موسى إلى الشعب وقال لهم» (الخروج، ١٩: ٢٠–٢٥). ثم يلي ذلك نزولُ الوصية والشريعة. أما في الرواية الثانية، فإن موسى يصعد إلى الجبل بأمر الرب ومعه بعض الكهنة، وعدد كبير من شيوخ إسرائيل، وذلك على عكس التحذير الوارد في الرواية الأولى، وهؤلاء جميعًا يرون الله وجهًا لوجه «وقال لموسى: اصعد إلى الرب أنت وهارون وناداب وأبيهو وسبعون من شيوخ إسرائيل، واسجدوا من بعيد، ويقترب موسى وحده إلى الرب وهم لا يقتربون، وأما الشعب فلا يصعد معه … ثم صعد موسى وهارون وناداب وأبيهو وسبعون من شيوخ إسرائيل، ورأوا إله إسرائيل وتحت رجليه شبه صنعة من العقيق الأزرق الشفاف، وكذات السماء في النقاوة. ولكنه لم يمد يده إلى أشراف بني إسرائيل. فرأوا الله وأكلوا وشربوا. وقال الرب لموسى: اصعد إلى الجبل وكن هناك، فأعطيك لوحَيِ الحجارة والشريعة والوصية التي كتبتُها لتعليمهم …» (الخروج، ٢٤: ١–١٢).

وفيما يتعلق بموقع جبل الرب، الذي يدعى أحيانًا جبل حوريب، وأحيانًا أخرى جبل سيناء، لدينا عدد من الإشارات المتناقضة التي لا يمكن التوفيق بينها. فأول ذكر للجبل يوحي بأنه قائم في منطقة مديان التي تقع على الجهة الشرقية لخليج العقبة، لأن الرب عندما تجلى لموسى وهو يرعى غنم حَمِيه كاهن مديان في لهيب الشجرة، قال له: «إني أكون معك، وهذه تكون لك علامة أني أرسلتك. حين تُخرج الشعب من مصر تعبدون الله على هذا الجبل» (الخروج، ٣: ١٢). أي إن موسى كان يستطيع من ذلك الموقع، الذي كان يرعى فيه غنمه وهو في مديان، أن يرى بالعين المجردة جبل حوريب. غير أن موسى عندما قاد جماعته خارجًا من مصر لم يتوجه إلى مديان، بل إلى برية سيناء، وهناك نزلوا في البرية مقابل الجبل (الخروج، ١٩). وتزداد المسألة تعقيدًا عندما نرى إشارات إلى مواقع أخرى في فاران وسعير الواقعة في آدوم على أطراف الصحراء العربية. من ذلك ما ورد في سفر التثنية (٣٣: ١–٢)، وفي سفر القضاة (٥: ٤)، وحبقوق (٣: ٣).

وفي سفر التثنية لدينا تقليد غريب كل الغرابة عما ورد في قصص الآباء، التي تصف الأسلاف المؤسسين بأنهم عبريون (تك، ١٤: ١٣، و٤١: ١٢). فهنا يوصف هؤلاء الأسلاف بأنهم آراميون. نقرأ في قاعدة طقسية من شريعة موسى: «… فيأخذ الكاهن السلة من يدك ويضعها أمام مذبح الرب إلهك، ثم تصرخ وتقول أمام الرب: آراميًّا تائهًا كان أبي، فانحدرَ إلى مصر وتغرَّب هناك في نفر قليل، فصار هناك أمة كبيرة وعظيمة …» (التثنية، ٢٦: ٤–٥).

إضافةً إلى هذه الروايات المتناقضة، التي لا نستطيع إيرادها جميعًا هنا، فإن القراءة المتصلة لسفر الخروج وبقية الأسفار الخمسة تجعلنا نلاحظ فجوات وانقطاعات واضحة في سياق القصة؛ وذلك كالفجوة الواقعة بين استلام الوصية والشريعة على جبل سيناء، ومتابعة مسيرة الخروج بعد سنتين من ذلك، والفجوة الواقعة بين إقامة الشعب في قادش برنيع، والصعود إلى شرقي الأردن بعد ثمانٍ وثلاثين سنة. وقد رأينا سابقًا مثل هذه الفجوات في سفر التكوين، وألمحنا منذ قليل إلى الفجوة الكبرى بين سفر التكوين وسفر الخروج. إن هذا التعاقب غير المحبوك بدقة للرواية التوراتية لا يجد تفسيره في أننا نتعامل مع عدد من التقاليد المتنوعة فقط، بل يجب أن يجد تفسيره على مستوًى آخر أيضًا.

إن طريقة صياغة الأسفار الخمسة، وطريقة تطوير الرواية التوراتية وصولًا إلى نهاية سفر الملوك الثاني، توحي للوهلة الأولى بوجود وحدة ضمنية بين التقاليد المتتابعة. غير أن هذه الوحدة الظاهرية لا تنبع من انسجام الحبكة الروائية ولا من تطويرها المنطقي، وإنما من طريقة رصف التقاليد المتنوعة في سياق مفروض عليها من الخارج، ومن وجهة نظر «جامع تراثي» لا من وجهة نظر مؤرخ مدقق. وبتعبير آخر، فإن طريقة ضم الوحدات الأدبية المستقلة إلى بعضها يوحي بوجود ترتيب زمني بين هذه الوحدات، التي انتظمتها سلسلة مصطنعة. فسفر التكوين يبدأ بسلسلة أنساب تقوم على تسويغات أيديولوجية سياسية ودينية، ثم تتابع التقاليد عبر الأسفار الخمسة وما وراءها، لتبني على هذه الأسس التي تم ترسيخها، وتنسج القصص حول عدد من القادة العظام؛ فمن آدم إلى قايين فنوح فإبراهيم فيعقوب فيوسف فموسى فيشوع فالقضاة فشاول فداود … إلخ. ومن خلال جمع وترتيب الأخبار المتعلقة بكل شخصية، فإن الروايات المختلفة وذات الأصل والمضمون المستقل تُنسَج إلى بعضها، فيما يبدو — للوهلة الأولى — إطارًا زمنيًّا منتظمًا ومتتابعًا، يوحي بما يشبه التاريخ. من هنا، فإن عملية الجمع التراثي هذه تسمح بكثير من المرونة فيما يتعلق بإيراد الروايات المختلفة للحادثة الواحدة، كما تسمح بشكل تلقائي بوجود الفجوات التي لا يُعنَى الجامعون كثيرًا بردمها. وكما قلنا سابقًا، فإن الترتيب الزمني في حد ذاته لا يصنع تاريخًا، وهو نابع هنا عن قصد ورؤية مسبقة عند المحررين الذين كانوا يواجهون بالفعل مَهمة على قدر كبير من الصعوبة والتعقيد، قِوامها تنظيم تركة ضخمة من التقاليد في سياق متتابع، من شأنه خلق ماضٍ لإسرائيل التوراتية، باعتبارها شعبًا موحدًا منذ البداية، تحت خط قيادي متسلسل واحد، ومعتقد ديني واحد.

إن هاجس «الأصول» يسيطر على الأسفار الخمسة سيطرة تامة، ويتعداها إلى بقية الأسفار، وخصوصًا تلك التي يدعوها الباحثون بالأسفار التاريخية من يشوع إلى الملوك الثاني. وما نعنيه بالأصول هنا هو نشأة وتكوين تلك الجماعات التي شكَّلت فيما بعد إسرائيل. وقد حملت عملية البحث عن الأصول المحررين بعيدًا نحو بداية الأزمان، فابتدءوا من تكوين العالم وخلق البشر وتوزع شعوبهم وقبائلهم، وذلك من أجل توضيح نسب إسرائيل، ومكانة شعبها بين الشعوب الأخرى. فقصص الآباء تبدأ عقب الطوفان، وبعد تشتت شمل الشعوب وتفرقها، مما تقصه أسطورة برج بابل. وفي بقية الأسفار الخمسة التي تقص ملحمة الخروج نواجه حشدًا من التقاليد المتفرقة التي تعزف على نغمة الأصول، أو تتعلق بها مباشرة؛ أصول إسرائيل كأمة، اختيار إسرائيل من قِبل الرب، أصول المفاهيم الأيديولوجية المركزية، مثل التوراة والفصح والكهنوت وتابوت العهد، والعهد الإلهي. وبعد الأسفار الخمسة يأتي سفر يشوع وسفر القضاة ليؤسسا لأصول إسرائيل في الأرض، وذلك من خلال روايات عن الفتح العسكري والاستقرار في الأرض، دُبِّجت بأسلوب قوي وحيوي جعل المؤرخين خلال حقبة طويلة من الزمن ينظرون إليها باعتبارها ذكريات تاريخية عن بدايات تشكُّل الشعب الإسرائيلي. فإذا انتقلنا إلى سفر صموئيل الأول وسفر صموئيل الثاني وجدنا هذه المفاهيم والأفكار وقد وصلت مرحلة النضج من خلال التقاليد التي تقص عن نشأة وصعود المملكة الموحدة، واستمرار فهم إسرائيل لنفسها كأمة الله. وهذا الصعود مرتبط بالانهيار والدمار الذي يقصه سفر الملوك الأول وسفر الملوك الثاني.

إن خلاصة الأمر، فيما يمكن للنقد النصي لقصة الخروج أن يوصلنا إليه، هو أن هذه القصة في شكلها ومضمونها هي من نوع الملاحم التي يُدبِّجها عادةً الخيالُ الشعبي عن البدايات التي تلامس عالم الأسطورة. ولكن بينما تنمو الملحمة الشعبية بشكل تلقائي يعبر عن شخصية الشعب وقيمه، فإن ملحمة الخروج قد جاءت كقصة ناجزة، ومؤلفة بعناية وقصد، رغم اعتمادها على عناصر ملحمية متفرقة مُغرِقة في القِدَم، ومُنتزَعة من سياقاتها الأصلية.

النقد التاريخي والأركيولوجي لقصة الخروج

لقد أخفقت حتى الآن كل الجهود التي بُذلت من أجل إثبات تاريخية أحداث قصة الخروج، ولم يستطع المؤرخون وضع هذه الأحداث ضمن إطار تاريخي محدد. فالمصادر المصرية لا تذكر شيئًا عن وجود الإسرائيليين في مصر، ولا عن خروجهم منها، سواء بالطريقة الموصوفة في التوراة أم بأية طريقة أخرى. ومن جهة أخرى، فإن النص التوراتي نفسه لا يورد أية معلومة عن الأوضاع في مصر والأحداث الجارية فيها، يمكن مقاطعتها مع ما نعرفه تاريخيًّا عن تلك الفترة، ولا يورد اسم شخصية مصرية معروفة لنا وموثَّقة تاريخيًّا. وفيما يتعلق بفرعون الخروج، فقد أغفل النص ذكر اسمه أو اسم أحد من حاشيته وقواده، ومعلوماتنا عن فراعنة الأسرة الثامنة عشرة والتاسعة عشرة تنفي أن يكون أحدهم قد مات غرقًا. والشيء نفسه ينطبق على القسم الثاني من أحداث الخروج، الذي يُفترض وقوعه في مناطق شرقي الأردن وسوريا، فلا المصادر الخارجية تؤيد الرواية التوراتية، ولا تسعفنا هذه الرواية بأية معلومة تساعدنا على تثبيت الإطار التاريخي لها. من هنا، فإن قصة الخروج من مصر تبقى معلقة في فضاء تاريخي تام، ولا يستطيع التاريخ إثبات أي جزء من أجزائها، بل إن المؤرخين الجدد يميلون إلى نفيها جملةً وتفصيلًا.

في ظل هذه الحقائق غير الواعدة، هل نستطيع وضع تاريخ للخروج، ولو من الناحية النظرية، اعتمادًا على المادة التوراتية وحدها؟ لتحقيق هذه الغاية يمكن لنا إجراء تمرينين ذهنيين؛ فإما أن نأخذ نقطة ما في الزمن تسبق حادثة الخروج ثم نبدأ العد الزمني هبوطًا إليه، أو أن نأخذ نقطة ما في الزمن تالية للخروج ثم نأخذ بالعد صعودًا. ففي الحالة الأولى نستطيع جمع الفترات الزمنية لحياة الآباء إبراهيم وإسحاق ويعقوب، وهي ٣٧٠ سنة (راجع التكوين، ٢٥: ٧، و٣٥: ٣٧، و٤٧: ٢٨) ثم نضيف إليها فترة العبودية في مصر، وهي ٤٣٠ سنة (راجع الخروج، ١٢: ٤٠–٤١) لنخرج بالرقم ٧٣٧ سنة. ولكن هذه الطريقة غير مُجْدية لسببين؛ الأول هو أن النص التوراتي يُعْلِمنا كم دام عصر الآباء، ولكنه لا يُعْلِمنا متى ابتدأ هذا العصر. والسبب الثاني هو أن النص يناقض نفسه في أكثر من موضع حول الفترة التي قضاها الإسرائيليون في مصر، وقد تعرضنا لهذه النقطة سابقًا. فإذا انتقلنا إلى العد العكسي من نقطة متقدمة في الزمن عن حادثة الخروج، بدا الأمر لنا واعدًا بنتائج أفضل. ففي النص التوراتي لدينا حادثة واحدة فقط مرتبطة زمنيًّا بالخروج، هي حادثة بناء هيكل سليمان في أورشليم. فسفر الملوك الأول يخبرنا أن الملك سليمان قد بنى هيكل الرب بعد أربعمائة وثمانين سنة من مغادرة بني إسرائيل لمصر: «وكان في سنة الأربعمائة والثمانين لخروج بني إسرائيل من أرض مصر، في السنة الرابعة لمُلك سليمان على إسرائيل؛ أنه بنى البيت للرب» (الملوك، ٦: ١). وبما أنه من المتفق عليه بين المؤرخين أن سليمان قد اعتلى عرش المملكة الموحدة حوالي عام ٩٦٢ق.م. فإن العد الصاعد نحو الخروج يعطينا العام ١٤٣٨ق.م. كتاريخ محتمل لهذه الحادثة.

غير أن مثل هذا التاريخ في أواسط القرن الخامس عشر قبل الميلاد يطرح صعوبات تاريخية يصعب حلها. ففي هذه الفترة بلغ التوسع الإمبريالي لفراعنة الأسرة الثامنة عشرة في مصر ذروته، وذلك خلال حكم الفرعون تحوتمس الثاني وابنه تحوتمس الثالث، الذي شنَّ عدة حملات على كنعان ووصل إلى الفرات متحديًا النفوذ الميتاني في تلك المنطقة. لذلك فمن غير المحتمل على الإطلاق أن يكون الخروج من مصر قد تم خلال حكم هذين العاهلين القويين، ناهيك عن مسألة دخول كنعان، التي كانت واقعة تحت السيطرة الإمبراطورية المباشرة لمصر. وقد لاحظ بعض الباحثين٤ أن الرقم ٤٨٠ — الذي وضعه المحرر التوراتي للسنوات الفاصلة بين بناء الهيكل وحادثة الخروج من مصر — ذو دلالة رمزية؛ لأنه يجعل بناء الهيكل في موقع الوسط تمامًا من تاريخ إسرائيل التوراتية. ذلك أن فترة ٤٨٠ سنة قد انقضت أيضًا بين بناء الهيكل وعودة المَسْبيين من بابل. يضاف إلى ذلك ما للرقم أربعين من رمزية خاصة في التقاليد التوراتية؛ فالتيه في الصحراء قد دام أربعين سنة، وحُكْم كلٍّ من الملك داود وسليمان قد دام أربعين سنة، وكذلك فترة حكم معظم القضاة الذين حكموا القبائل قبل المملكة الموحدة. فإذا أضفنا رمزية الرقم ٤٠ إلى رمزية الرقم ١٢ (والأمثلة عليها كثيرة في التقاليد التوراتية، مثل الأسباط الاثني عشر … إلخ) لتوصلنا أيضًا إلى الرقم ٤٨٠، وهو حاصل ضرب ١٢ جيلًا ﺑ ٤٠ سنة، كمتوسط عمر لكل جيل. وبذلك يُستبعد هذا الرقم من الحسبان كمعلومة يمكن الاعتماد عليها.
أمام هذه الظلال القاتمة التي يرميها التاريخ، والنص التوراتي نفسه، على مسألة الخروج، لم يجد المؤرخون الساعون إلى تقصِّي تاريخية الحدث التوراتي سوى معلومة واحدة في سفر الخروج يمكن الانطلاق منها لربط قصة الخروج بتاريخ مصر، وهي المعلومة المتعلقة بأرض رعمسيس ومدينة رعمسيس. فبنو إسرائيل قد بنَوْا للفرعون مدينتين، إحداهما تُدعى رعمسيس (الخروج، ١: ١١)، ومن هذا المكان انطلقت مسيرة الخروج: «فارتحل بنو إسرائيل من رعمسيس إلى «سكوت» …» (الخروج، ١٢: ٣٧). وبما أن الفرعون رمسيس الثاني — الذي حكم فيما بين ١٢٩٠ و١٢٢٤ق.م. — قد بنى بالفعل مدينة اسمها بي-رمسيس في منطقة الدلتا قرب عاصمة الرعامسة تانيس، فإن هؤلاء المؤرخين يضعون الخروج في وقت ما من بداية فترة حكم هذا الفرعون أو أواسطها. فوليم فوكسويل أولبرايت يضع الخروج في تاريخ لا يتعدى عام ١٢٨٠ق.م. أي خلال السنوات الأولى لحكم رمسيس، وهي الفترة التي شهدت عددًا من أحداث التمرد والعصيان على الحكم المصري في المناطق الآسيوية، الأمر الذي سهَّل في رأيه تنفيذ مخطط الهروب من مصر. ويُقدِّر أولبرايت الفترة الفاصلة بين الخروج من رعمسيس في مصر واقتحام مدن كنعان بستين عامًا، ويقسمها إلى المراحل التالية: (١) التجول في الصحراء. (٢) التسلل التدريجي إلى مناطق فلسطين الشرقية. (٣) فترة استقرار وتَمازُج مع الجماعات العبرانية المقيمة سابقًا، وذلك تحضيرًا للانقضاض الأخير على المدن الكنعانية. وهو يعتقد أن مرحلة التجول في الصحراء لم تدم أربعين سنة بل بضع سنوات فقط، بينما استغرقت المرحلتان الثانية والثالثة معظم زمن الخروج. وبذلك يكون الإسرائيليون قد أسسوا أنفسهم فعلًا في أرض كنعان حوالي عام ١٢٠٠ق.م. وهو تاريخ نُصُب الفرعون مرنفتاح الذي ورد فيه الاسم إسرائيل لأول مرة في التاريخ.٥
وقد سار معظم المؤرخين الباحثين عن تاريخية الخروج على خطى أولبرايت، مع تعديلات طفيفة. فهم يرَوْن أن فترة الرعامسة هي الفترة الوحيدة التي بنى فيها الفراعنة المصريون لأنفسهم عاصمة في الدلتا (هذا إذا صرفنا النظر عن فترة الهكسوس المعترِضة)، فقد بنى رمسيس الأول مدينة تانيس عاصمةً له في الدلتا، ثم بنى رمسيس الثاني عاصمته في مكان لا يبعد كثيرًا، ودعاها بي-رمسيس. وقد اشتَهَر رمسيس الثاني بأعمال التشييد والبناء، واستخدم في مشاريعه العمرانية الواسعة كثيرًا من اليد العاملة المُسخَّرة، التي شكَّل الإسرائيليون جزءًا كبيرًا منها. كما يرى هؤلاء — فيما تذكره الرواية التوراتية عن قرب مساكن الإسرائيليين من بلاط الفرعون، وسهولة تنقل موسى وهارون بين الشعب المُسخَّر وبين البلاط الملكي — عواملَ مُرجِّحة في إرجاع الخروج إلى زمن الرعامسة، وعلى وجه الخصوص زمن حكم رمسيس الثاني. إلا أن معظمهم يعارض وليم فوكسويل أولبرايت في تاريخه المقترح للخروج، وهو عام ١٢٨٠ق.م.، ويفضل تاريخًا يقع حوالي عام ١٢٥٠ق.م.، مع الأخذ بعين الاعتبار أن فترة التجول في الصحراء هي بالفعل أربعون عامًا. وبذلك يتزامن دخول كنعان مع حالة الضعف التي ميزت الفترة الانتقالية بين حكم رمسيس الثاني، وحكم مرنفتاح الذي اضطرته التمردات في فلسطين إلى شن حملته المعروفة عليها.٦ وقد قدَّم علم الآثار لأصحاب هذا الرأي مادة غنية باكتشافه لآثار تدمير واسع للمدن الفلسطينية خلال هذه الفترة المفترضة لدخول الإسرائيليين إلى كنعان، الأمر الذي سهَّل أمامهم ربط هذا التدمير بعمليات يشوع العسكرية، على ما في هذا الربط من تعسف تاريخي كما سنرى في حينه لاحقًا.

وفي الحقيقة فإن أرض رعمسيس ومدينة رعمسيس — مما ورد ذكره في سفر الخروج — مسألة لا يمكن الاعتماد عليها في تحديد زمن الخروج؛ لأن المحرر التوراتي قد استخدم اسم أرض رعمسيس في الإشارة إلى منطقة الدلتا منذ أيام يوسف، أي قبل بناء مدينة رمسيس بحوالي خمسمائة سنة. نقرأ في التكوين (٤٧: ١١): «فأسكن يوسف أباه وإخوته وأعطاهم مُلكًا في مصر في أفضل الأرض، في أرض رعمسيس، كما أمر فرعون.» وهذا يعني أن المحرر التوراتي، الذي كان يكتب سفر الخروج في فترة متأخرة من الألف الأول قبل الميلاد، قد استخدم الاسم الذي يعرفه لمنطقة الدلتا بصرف النظر عن ارتباط هذا الاسم بفترة تاريخية معينة. ومن ناحية أخرى، فإنه يحق لنا هنا أن نتساءل: لماذا ذَكرت رواية الخروج اسم أرض رعمسيس أو مدينة رعمسيس، وغفلت عن ذكر اسم فرعون الخروج الذي من المفترض أن يكون رعمسيس نفسه؟

ورغم أن فريقًا آخر من المؤرخين قد التزم الخطوط العريضة للتفسير التاريخي المطروح، إلا أنه في مواجهة الغموض الشامل للمعطيات التاريخية قد لجأ إلى صياغة «سيناريو» معقول، يستبدل التاريخ الموثق بسلسلة مُتصوَّرة من الأحداث التي يمكن أن تكون قد وقعت. ولعل من أكثر هذه السيناريوهات جاذبيةً وحُسنَ صنعةٍ وخيال ما تقدمت به عالمة الآثار السيدة كاثلين كينيون على هامش دراستها الأركيولوجية القيمة للأرض المقدسة، تقول كينيون: «تكمن صعوبة التقييم التاريخي لمسألة الخروج في أن الأسفار الأولى للكتاب المقدس قد جاءت نتاجًا لتجميع عدد كبير من التقاليد القبلية، حاول المحررون صياغتها في نص مطَّرد عن تحركات جماعات اعتقدوا أنها كانت تشكل شعبًا واحدًا منذ البداية. ولقد كان من نتائج إعادة الصياغة هذه أن المحررين قد أظهروا أن تلك القبائل كلها قد شاركت في الخروج، ومرت بالتجربة الدينية ذاتها في سيناء. ولكن الاحتمال الأقوى هو أن القبائل التي استقرت في فلسطين كانت من أصول مختلفة ومتنوعة. ويبدو لي أن طلائع الإسرائيليين كانت مؤلفة من ثلاث جماعات رئيسية؛ الأولى كانت تقيم في بعض مناطق فلسطين وشرقي الأردن، ولم تشارك أبدًا في الرحيل إلى مصر أو الخروج منها. والثانية نزحت إلى مصر ثم طُردت منها، فيما يمكن وصفه بالخروج الإجباري إثر مشاركتها في حوادث عصيان وتمرد، وقد حاولت هذه الجماعة المطرودة دخول فلسطين من الجنوب.٧ أما الجماعة الثالثة، وهي الجماعة التي تدور حولها معظم أحداث الخروج، فقد تشكَّلت من أشتات من المُستعبَدين المُسخَّرين في بناء المشاريع العامة، تضافروا على الهروب من وجه أسيادهم، فعبروا سيناء نحو الأطراف الصحراوية لشرقي الأردن، فعاشوا هناك حياة رعوية لفترة لا بأس بها قبل أن يدخلوا فلسطين من الجهة الشرقية عبر نهر الأردن. وإن مثل هذا الخروج يناسب تاريخيًّا فترة حكم رمسيس الثاني، وهي الفترة الوحيدة التي كان للمصريين، بعد الهكسوس، عاصمة في الدلتا. فصعد هؤلاء بقيادة موسى حوالي عام ١٢٦٠ق.م. هاربين من مدينة رمسيس …»٨

يطرح مسار الخروج — من أرض رعمسيس إلى قادش برنيع فشرقي الأردن — إشكالاتٍ أخرى لا تقل عن إشكالات زمن الخروج. فلقد تفادى الهاربون الطريق الدولي المعروف بطريق البحر، وهو الطريق الأقصر الذي يصل الدلتا بمناطق فلسطين الساحلية، وفضلوا عليه الدوران عبر مسلك صحراوي طويل جدًّا. ويُسوِّغ النص التوراتي هذا الخيار غير المنطقي بالخوف من المواجهة العسكرية المتوقعة في أرض فلسطين: «وكان لما أطلق فرعون الشعب أن الله لم يَهدِهم في طريق أرض الفلسطينيين مع أنها قريبة. لأن الله قال: لئلا يندم الشعب إذا رأَوْا حربًا ويرجعوا إلى مصر. فأدار الله الشعب في طريق برية بحر سوف …» (الخروج، ١٣: ١٧–١٨). نلاحظ هنا أن المحرر قد استخدم تسمية أرض الفلسطينيين للدلالة على المناطق الساحلية الجنوبية لفلسطين، علمًا أن أول ذكر للفلسطينيين (أو الفلستيين) ورد في نص للفرعون مرنفتاح، الذي رد هجوم شعوب البحر عن مصر، وبينهم هؤلاء الفلستيون، حوالي عام ١١٨٥ق.م. أي بعد التاريخ المفترض للخروج بنصف قرن على الأقل، وعندما لم يكن هؤلاء قد توطنوا على الساحل وأسسوا مدنهم الخمس المعروفة. وهذا يدل بوضوح على أن المحرر كان يستند إلى التسميات الجغرافية المعروفة لديه وقت تحرير الأسفار؛ لأن هذه المناطق الساحلية من فلسطين بقيت تُدعى بأرض الفلستيين حتى العصر الفارسي. بعد عبورهم البحر يتجه الهاربون إلى أعماق سيناء وهدفهم جبل حوريب، وبعد إقامتهم عند الجبل سنة وتسعة أشهر تقريبًا يتحركون شمالًا نحو قادش برنيع.

وفي الحقيقة، فإن البحث الأثري والتاريخي قد أخفق حتى الآن في تحديد مسار الخروج اعتمادًا على الرواية التوراتية. فالمواقع التي مر بها الإسرائيليون، مثل مارة وإيليم وغيرها، غير مذكورة خارج النص التوراتي، والمواقع التي تحمل أسماء مشابهة في سيناء لم يعطِ المسح الأركيولوجي فيها نتائج تشجع على إجراء أية مطابقة بينها وبين مواقع الخروج، بما في ذلك موقع جبل موسى المعروف تقليديًّا بأنه جبل حوريب. فتسمية جبل موسى هي تسمية حديثة وليست قديمة، وجاءت عقب بناء كنيسة القديسة كاترين البيزنطية في الموقع. وفيما يتعلق بموقع قادش برنيع، الذي أقام فيه الإسرائيليون ثمانيًا وثلاثين سنة، فإن التنقيب الأثري لم يتوصل إلى الكشف عن آثار سكنية ترجع إلى ما قبل أواخر القرن العاشر قبل الميلاد. وكذلك الأمر في موقع حشبون الذي انتزعه الإسرائيليون من سكانه الآموريين في شرقي الأردن، فقد جرت مطابقة هذا الموقع مع الموقع الحديث لبلدة حسبان، ولكن التنقيب في حسبان لم يعطنا آثارًا سكنية ترجع إلى زمن الخروج.٩ أما الممالك التي واجهها الإسرائيليون في مناطق شرقي الأردن، فلم تكن قائمة على الإطلاق إبان زمن الخروج، والمنطقة بكاملها كانت خالية من السكان تقريبًا خلال أواخر البرونز الأخير ومطلع عصر الحديد، وذلك بسبب الجفاف الذي حل بالمنطقة. ولم يعد الاستيطان البشري إلى مناطق شرقي الأردن — بشكل يساعد على قيام بُنًى سياسية مستقرة — حتى حلول عصر الحديد الثاني ابتداءً من عام ١٠٠٠ق.م.١٠ وهذا كله يدل على أن المحرر التوراتي كان يستلهم الجغرافيا البشرية والسياسية المعروفة لديه وقت تحرير الأسفار، وأنه كان على جهل مُطبِق بأحوال الزمن المفترض للخروج.
ومن الجدير بالذكر أن الشخصية الوحيدة في قصة الخروج، التي توفرت لدينا عنها معلومات غير توراتية، هي شخصية بَلعام بن بعور العراف الذي دعاه ملك موآب ليلعن له إسرائيل (العدد، ٢٢: ١–٤٨)، فقد اكتُشف مؤخرًا في موقع دير العلا بشرقي الأردن عدد من النصوص الآرامية، بينها نص يذكر بَلعام بالذات، ويصفه بناظر أو عراف الآلهة. يقول النص: «هذه كلمات بَلعام بن بعور ناظر (عراف) الآلهة …»١١ غير أن نصوص دير العلا هذه ترجع إلى حوالي عام ٧٥٠ق.م. أي إلى فترة قريبة من زمن تدوين التوراة، عندما كانت ذكريات ما عن هذه الشخصية الروحية في المنطقة ما زالت حية ومتداولة، بينما يفصل عصر بَلعام التاريخي هذا عن عصر الخروج حوالي خمسمائة سنة.
أخيرًا أود أن أختم هذا النقد التاريخي لقصة الخروج برأي للباحث N. M. Sarna، وهو مؤرخ وباحث توراتي يهودي أميركي، وله أبحاث قيمة ورصينة في هذا المجال. يقول Sarna في دراسة جديدة له حاول من خلالها جادًّا تقصي تاريخية أحداث الخروج ما يلي: «إن خلاصة البحث الأكاديمي حول مسألة تاريخية الخروج تشير إلى أن الرواية التوراتية تقف وحيدةً دون سند من جهة، وهي مليئة بالتعقيدات من جهة ثانية. وهذا كله لا يساعدنا على وضع أحداث الخروج ضمن إطار تاريخي. إضافةً إلى ذلك، فإن النص التوراتي يحتوي على مُحدِّدات داخلية ذاتية ناشئة عن مقاصد وأهداف المؤلفين التوراتيين. فهؤلاء المؤلفون لم يكونوا يكتبون تاريخًا، وإنما يعملون على إيراد تفسيرات لاهوتية لحوادث تاريخية منتقاة. وقد تمت صياغة الروايات التوراتية بشكل يتلاءم مع هذه المقاصد والأهداف، وبالتالي فإننا يجب أن نقرأها ونستخدمها تبعًا لذلك. إننا نفتقد إلى المصادر الخارجية التي تذكر عن تجربة الإسرائيليين في مصر، أو تشير إليها بشكل مباشر، والبينة الموضوعية الواضحة على تاريخية النص التوراتي هنا مفقودة تمامًا، بما في ذلك نتائج التنقيب الأثري.»١٢
١  K. McCarter, op. cit., pp. 26-27.
٢  Ibid., p. 27.
٣  أستخدم هنا التاريخ الأكثر شيوعًا بين المؤرخين لفترة حكم رمسيس الثاني. أما التاريخ الآخر فيجعل الفترة فيما بين ١٣٠١ و١٢٣٤ق.م.
٤  N. M. Sarna, Israel in Egypt (in: Hershel Shanks, edt. Ancient Israel, p. 51).
٥  W. F. Albright, Yahweh and the Gods of Canaan, pp. 159–164.
٦  N. M. Sarna, op. cit., pp. 36–38.
٧  تقدم السيدة كينيون هذا التفسير استنادًا إلى ما ورد في سفر العدد (١٤: ٣٩–٤٥) حين حاول الإسرائيليون الصعود من قادش برنيع لقتال الكنعانيين، والنفاذ إلى فلسطين من الجنوب دون إذن موسى، فهزمهم الكنعانيون شر هزيمة.
٨  Kathleen Kenyon, Archaeology in the Holy Land, p. 205.
٩  N. M. Sarna, op. cit., pp. 43-44, 49-50.
١٠  Th. L. Thompson, Early History of the Israelite People, pp. 293–300.
١١  د. علي أبو عساف: الآراميون، دار أماني، طرطوس، سوريا ١٩٨٨، ص٧.
١٢  N. M. Sarna, op., cit., p. 51.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤