الفصل الرابع

إسرائيل في كنعان

عصر يشوع وعصر القضاة

(١) الخلفية التاريخية العامة

مرة أخرى تشهد مناطق آسيا الغربية موجة جفاف طويلة ومتصاعدة، مشابهة لتلك الموجة التي أنهت ثقافة عصر البرونز المبكر. فقد ترافق حلول عصر البرونز الأخير (١٦٠٠–١٢٠٠ق.م.) مع مَيل تدريجي للمناخ نحو الحرارة والجفاف. وقد وصل هذا الجفاف ذروته حوالي عام ١٢٠٠ق.م. في اليونان وجزر المتوسط والأناضول وسوريا، وقامت العوامل الطبيعية بالإجهاز على ثقافة عصر البرونز الأخير. مع تزايد تأثير الجفاف أخذت المناطق الهامشية الحساسة للجفاف — في سوريا وفلسطين بشكل خاص — بخسارة سكانها الذين أخذوا بالجلاء عنها تدريجيًّا نحو المناطق الأبطأ تأثرًا بالجفاف، أو نحو البراري متحولين إلى رعاة متنقلين، حتى إن مناطق بكاملها قد أُخليت تمامًا من سكانها قبل نهاية البرونز الأخير، مثل منطقة الهضاب المركزية في فلسطين. وقد شهدت منطقة الهضاب المركزية هذه مع بداية عصر الحديد الأول (١٢٠٠ق. م.) إعادة استيطان على نطاق واسع من قِبل الجماعات التي اعتقد المؤرخون لفترة طويلة أنها الجماعات الإسرائيلية. أما في هضاب يهوذا، التي غزاها التصحُّر وحوَّلها إلى بوادٍ قاحلة، فقد هجرها السكان الزراعيون جميعهم تقريبًا، ولكن عملية إعادة الاستيطان فيها قد تأخرت قرنين تقريبًا عن منطقة الهضاب المركزية، أي حتى القرن العاشر قبل الميلاد.١ وهذه المعلومات الجديدة سيكون لها دور كبير في كيفية فهمنا وتقييمنا للرواية التوراتية عن دخول الإسرائيليين وعن استقرارهم في كنعان؛ لأن منطقة الهضاب المركزية هي التي استوطن فيها، وَفق الرواية التوراتية، الأسباط العشرة الموصوفة بإسرائيل، بينما استوطن في شمال يهوذا سبط بنيامين، تلاه سبط يهوذا، الذي شغل المناطق الهضبية ليهوذا حتى البوادي الجنوبية.
ولقد ساعد إقفار المنطقة الفلسطينية على وقوعها فريسةً سهلة لفراعنة الأسرة الثامنة عشرة، الذين حولوا فلسطين إلى ممر تجاري لهم يصلهم بالعالم السوري والرافدي. ونستدل من رسائل تل العمارنة على أن الفراعنة لم يحكموا المدن الاستراتيجية الواقعة تحت نفوذهم حكمًا مباشرًا، بل عن طريق الملوك المحليين الذين كانوا يَتْبعون مباشرةً للبلاط المصري. وقد أدى التواجد المصري هنا إلى آثار إيجابية على اقتصاديات المدن الكبرى، وإلى استقرار النظم السياسية فيها. كما ساعد على تأجيل الكارثة الشاملة، التي حلَّت بمدن بلاد الشام الأخرى خلال هذه الفترة الانتقالية من عصر البرونز الأخير إلى عصر الحديد. إلا أن الانهيار الاقتصادي الشامل، الذي وقع مع نهاية البرونز الأخير، قد صرف نظر مصر مؤقتًا عن فلسطين، وتُركت المدن الفلسطينية لمصيرها المفجع، حيث نرى آثار الدمار الكامل للعديد من هذه المدن خلال أواخر القرن الثالث عشر وأوائل القرن الثاني عشر.٢

تُعتبر فترة تل العمارنة أكثر فترات عصر البرونز الأخير توثيقًا، وتمتد من أواسط القرن الخامس عشر إلى أواسط القرن الرابع عشر قبل الميلاد. وقد سُميت هذه الفترة بعصر العمارنة نسبةً إلى موقع تل العمارنة في مصر العليا، حيث ابتنى الفرعون أمنحوتب الثالث عاصمة جديدة له هنا، عُثر بين أنقاضها على أرشيف ملكي غني يضم عددًا كبيرًا من الرسائل المتبادلة بين أمنحوتب الثالث وابنه أمنحوتب الرابع (إخناتون) وبين ملوك سوريا وفلسطين والأناضول وبابل. وتعطينا هذه الرسائل صورة واضحة عن الأوضاع السياسية في منطقة الشرق القديم، وعن العلاقات بين القوى العظمى في ذلك الوقت. فخلال عصر البرونز الأخير تقاسمت ثلاثُ قوًى كبرى مناطقَ النفوذ على المسرح الدولي، وهي ميتاني في الجزيرة والشمال السوري، وحاتي في الأناضول ومصر إلى الجنوب. وإلى جانب هذه القوى الكبرى الثلاث، فقد كان لسلالة الملوك الكاشيين الذين ورثوا مملكة حمورابي سلطة كاملة على مناطق سومر وأكاد لم ينازعهم فيها أحد، وقد مالوا إلى تعزيز صلاتهم الدبلوماسية مع القوى الكبرى، وخصوصًا مصر، تفاديًا لصدامات غير متكافئة مع أيٍّ منها. ونعرف من الوثائق المصرية أن أحد ملوك بابل الكاشيين قد أرسل أميرات من عائلته الملكية ليكنَّ زوجات لأمراء مصريين، وطالب عبثًا بأن يتزوج من أميرة مصرية. كما عملت ميتاني من جهتها على خَطْب ود ملوك الأسرة الثامنة عشرة الأقوياء، وزوَّجت اثنتين من أميراتها على التوالي إلى كل من الفرعون أمنحوتب الثالث وأمنحوتب الرابع. أما حاتي فقد مارست الضغط المتواصل على مناطق التواجد المصري في سوريا، واستفادت من فترة الضعف المصري خلال حكم إخناتون لتدفع مناطق نفوذها نحو أواسط سوريا، بعد أن كان تحوتمس الثالث قد عسكر عند مناطق الفرات الأوسط، وفرض نفوذه على معظم مناطق وسط وجنوب بلاد الشام. وفيما يتعلق بآشور فلم تكن قد دخلت مسرح الحياة الدولية لعصر البرونز الأخير، إلا أنها كانت تمارس ضغطًا بطيئًا ومتصلًا على كل من ميتاني وبابل. ورغم أن الممالك السورية كانت واقعة تحت نفوذ هذه القوة الكبرى أو تلك، إلا أنها مارست تأثيرًا ثقافيًّا واسع النطاق. ولا أدَل على ازدهار الحياة الثقافية في هذه الممالك من أرشيف مدينة أوغاريت، والذي يُعتبر أهم تركة ثقافية لعصر البرونز الأخير بكامله.

وتقدم رسائل تل العمارنة المتبادلة بين الملوك السوريين والفلسطينيين، والبلاط المصري، خلال حكم الفرعون إخناتون؛ معلوماتٍ قيمةً عن الأوضاع السياسية لمنطقة فلسطين والساحل الكنعاني. فقد كانت هذه المنطقة تموج بالاضطرابات والنزاعات الداخلية الناجمة عن الغياب المفاجئ للقوة المصرية هنا، بسبب المشكلات الداخلية التي كان يواجهها إخناتون، وطموحات الحثيين لملء الفراغ المصري. وقد استغل الفرصة بشكل رئيسي الملك عازيرو، ملك مقاطعة آمورو (التي كانت تشغل منطقة طرطوس الحالية على الساحل، وامتدادات واسعة نحو الداخل)، فقام — بدعم وتحريض من مملكة حاتي — بمحاولة تقويض ما تبقى من النفوذ المصري في سوريا الجنوبية وفلسطين عن طريق مهاجمة الدويلات الموالية لمصر، بالتعاون مع جماعات العابيرو التي كانت تَعيث فسادًا في المنطقة. ولدينا عدد من الرسائل التي تشكو إلى الفرعون تعديات عازيرو وجماعات العابيرو المسلحة، ومنها هذه الرسالة التي بعث بها أمير أورشليم المدعو عبدي هيبة:

«إلى الملك مولاي. هكذا يقول خادمك عبدي هيبة. انظر إلى ما فعله ملكيلو، وشوارداتا (من قادة العابيرو) بأراضي الملك. لقد دفعوا بقوات من جازر ومن جت ومن كيلة. أخذوا أراضي روبوتو، وأرض الملك صارت بيد العابيرو. فليُصغِ مليكي إلى خادمه عبدي هيبة ويرسل قوات تعيد الأراضي إلى الملك. وإذا لم تصل القوات فإن أراضي الملك ستغدو جميعًا للعابيرو …»٣

ولدينا رسائل مشابهة من ملوك جبيل ومجدو وشكيم وجازر وصور. تقول رسالة ملك صور:

«إنني أحمي صور المدينة العظيمة من أجل مولاي الملك، إلى أن تصلني قواته فتهبني ماء لأشرب، وحطبًا لأدفأ. وإني أحيطكم علمًا بأن زيميريدا ملك صيدون قد كتب مرارًا إلى المجرم عازيرو بن عبدي عشيرته بخصوص كل ما سمعه من مصر. وها أنا قد كتبت إليك بكل ما يتوجب عليك معرفته.»٤

وتتقاطع النصوص الحثية مع النصوص المصرية بخصوص بعض أحداث المنطقة خلال هذه الفترة. فلدينا نص معاهدة حثية مع عازيراس (عازيرو) ملك آمورو، تؤكد لنا خضوعه لحاثي، وقيامه بخلق الاضطرابات في المنطقة لصالحها. نقرأ في المعاهدة:

«أنا الملك الشمس قد جعلتك يا عازيراس تابعي، فإن صنت أرض ملك حاتي، سيدك، فإن سيدك سيقدم لك الحماية. عليك أن تحمي روح مليكك وشخصه وجسمه وأرضه، وملك حاتي سيقدم لك بالمقابل الحماية نفسها. ويتوجب عليك أن تدفع ٣٠٠ شيكل من الذهب الخالص جزيةً سنوية … (تَعداد لبقية بنود المعاهدة). لقد ترك عازيراس ملك آمورو بوابة مصر، وصار مواليًا للملك الشمس.»٥

نلاحظ من أسماء زعماء العابيرو في رسائل تل العمارنة أن بعضهم من أصل سامي، مثل ملكيلو (ملك-إيلو)، وبعضهم الآخر من أصل هندو-أوروبي، مثل شوارداتا ولابايو. وهذا يدل على الأصول المختلفة لجماعات العابيرو وعدم انتمائها إلى منشأ إثني عرقي واحد. إن الدراسة المتأنية لرسائل تل العمارنة تدل على أن العابيرو كانوا أشتاتًا من الشرائح التي تعيش على هامش المجتمع، ولا تمارس دورًا محددًا في النشاط الاقتصادي لدويلات المدن المحلية. فقد تُقدِّم خدمات عَرَضية لأهل المدن أو لأهل المناطق الزراعية، وقد تتحد في عصابات تمارس النهب والسرقة، أو تعمل جنودًا مرتزقة في خدمة الملوك، شأنها في ذلك كله شأن الخابيرو، الذين تعرفنا عليهم من خلال سجلات ثقافة البرونز الوسيط في مملكة ماري وغيرها. وفي الحقيقة، فإن كلمة عابيرو هي المعادل في اللغة السامية الغربية لكلمة خابيرو في السامية الشرقية (الأكادية)؛ ذلك أن حرف العين في الكتابة الأكادية قد سقط من الاستعمال منذ زمن بعيد وحل محله حرف الخاء.

لقد حاول بعض الباحثين إيجاد صلة بين كلمة عابيرو وكلمة عبريم التوراتية التي تعني: عبراني، فاشتقوا الكلمتين من الجذر «ع ب ر» في اللغة السامية الغربية، والذي يعني: مرَّ أو عَبَر، وذلك في محاولة لاختراع أصل في فلسطين لجماعات العبرانيين الذين استولَوْا على أرض كنعان حسب رواية سفر يشوع. ويعتقد أولبرايت، الذي يؤيد هذا الرأي، أن جماعة سفر الخروج من العبرانيين قد التقت في منطقة فلسطين الشرقية بالعابيرو القدماء، الذين بقوا في هذه المنطقة منذ فترة تل العمارنة، وتمازجت معهم عبر فترة من الزمن قبل أن يبدأ الهجوم العبراني الكاسح على دويلات المدن الفلسطينية.٦ أما الباحث لامكه Lemche، الذي يضع كامل أحداث الخروج خارج الإطار التاريخي، ويعتقد بالأصل المحلي للإسرائيليين، فيجد بأن عابيرو رسائل تل العمارنة قد لجئوا إلى المناطق الهضبية من فلسطين بعد إخفاق عملياتهم العسكرية، وتمازجوا تدريجيًّا مُشكِّلين شعب إسرائيل.٧
ولكن الاتجاهات الجديدة في البحث تميل إلى نفي وجود صلة بين عابيرو القرن الرابع عشر في فلسطين، وعبريم التوراة. فالباحث لوريتس Lorets على سبيل المثال، وهو من أهم نقاد هذه الفرضية، يرى أنه بصرف النظر عن وجود صلة بين كلمتي عابيرو وعبريم المختلفتين تمامًا، فإنه لا يوجد لدينا أي دليل تاريخي يدعو إلى الربط بين هذا النوع من المقارنات اللغوية وبين مسألة أصول إسرائيل. والمسألة هنا لا تتعلق فقط بالفجوة الزمنية بين عصر العابيرو والفترة المفترضة لدخول الإسرائيليين، بل بمدى التحولات الاجتماعية المُتضمَّنة في الفترة الفاصلة بين عصر العابيرو وعصر تدوين التوراة. وعلى فرض وجود صلة لغوية بين عابيرو وعبريم، وهي صلة غير مؤكدة على الإطلاق، فإن ذلك لا يعدو أن يكون نوعًا من التشابه الذي لا يتضمن أية وقائع تاريخية. وذلك إضافةً إلى معلوماتنا الجديدة عن المناطق الهضبية في فلسطين، والتي كانت خالية من السكان خلال العصر الانتقالي من البرونز الأخير إلى عصر الحديد، ولم يكن فيها لا عابيرو ولا عبرانيون.٨

انتهى عصر البرونز الأخير بكارثة مناخية واقتصادية شاملة، كما أشرنا منذ قليل، وانهارت ممالك ذلك العصر من بحر إيجة إلى الأناضول هبوطًا نحو الساحل السوري وفلسطين. فقد ضربت المجاعة أنحاء المملكة الحثية جميعها في أواخر القرن الثالث عشر، وأرسل الملك الحثي يطلب شحنة قمح من أوغاريت. ولم تلبث المملكة طويلًا حتى تفككت، وراح سكانها يبحثون عن مناطق جديدة تُعيلهم في كل حدب وصوب، ثم تبعتها أوغاريت التي لم تصمد طويلًا حتى انهارت تمامًا حوالي عام ١١٨٢ق.م. ويبدو أن شعوب البحر الذين أخلَوْا مناطقهم في اليونان وجزر بحر إيجة، وحطَّ فريق منهم على الشواطئ الحثية؛ كانوا يسيرون في أرض محروقة خلت من السكان والزرع والضَّرْع. ولعل الشيء نفسه ينطبق على أوغاريت التي يرجِّح بعض الباحثين اليوم أنها لم تسقط بيد شعوب البحر، وإنما هجرها سكانها بعد أن ضربتها الزلازل، ولم تكن البنية الاقتصادية للمدينة تسمح بإعادة بنائها. وتسير هذه الفرضية إلى القول بأن معظم المدن التي دُمرت خلال هذه الفترة كانت في حالة انهيار اقتصادي كامل أدى إلى إطلاق رصاصة الرحمة عليها بوسائل شتى. من هنا، فإن النظرية القديمة، التي تعزو دمار ثقافة عصر البرونز الأخير إلى الجماعات المدعوة بشعوب البحر، لم تَعُد بالنظرية المفضلة الآن. ولكن من هم بالضبط شعوب البحر الذين كتبوا الفصل الأخير في مسلسل انهيارات ثقافة البرونز الوسيط؟

بعد انهيار الحضارة المسينية في كريت وجزر بحر إيجة بتأثير الكارثة المناخية، والغزوات العسكرية التي أجهزت عليها؛ تم اقتلاع جزء كبير من سكان هذه المناطق وتشتيتهم في الأصقاع المجاورة. ويبدو أن ضغط البرابرة على اليونان وجزر بحر إيجة، قد أدى إلى سلسلة من تحركات الشعوب بحثًا عن مناطق جديدة للاستقرار، بعيدًا عن عالم تم تهديمه تمامًا. وقد وصلت طلائع هذه الفئات الهائمة — التي ترتحل مع خيامها وأُسرها ومتاعها المنزلي — إلى شمال أفريقيا، وتعاونت مع الليبيين الذين كانوا يتربصون منذ زمن طويل للانقضاض على مصر، فتقدم هذا التحالف المؤقت نحو الدلتا في محاولة للاستقرار فيها. ولكن الفرعون مرنفتاح تصدى لهم بقوة، وردَّهم عن حدود مصر البرية والبحرية في معركة فاصلة جرت حوالي عام ١٢٢٠ق.م. وفي الوقت نفسه تقدمت جماعات متحدة أخرى من شعوب البحر هؤلاء، منطلقةً من نقطة ما من الأرخبيل الإيجي، وحطَّت على شواطئ آسيا الصغرى مخترقةً أراضي المملكة الحثية المخرَّبة وشبه المهجورة، مستوليةً على ما يمكن الاستيلاء عليه مما أبقت عليه المجاعة التي توطنت في تلك المناطق. ثم تابعت طريقها هبوطًا نحو بلاد الشام مهدِّمةً أو مستوليةً على المدن التي صمدت أمام الكارثة المناخية، وأخذت الطريق الساحلي نحو فلسطين حيث أشاعت الفوضى والدمار في ممالك المدن الكنعانية، وهدفها الأخير مصر، أسمن الطرائد في ذلك العصر. ولكن خليفة مرنفتاح الفرعون رمسيس الثالث تصدى لهم في جنوب فلسطين، وقضى عليهم نهائيًّا كجماعة عسكرية موحدة، فتفرقوا في المنطقة وذابوا تدريجيًّا في تركيبها السكاني. ويبدو من الوثائق المصرية أن فريقًا منهم، وهو الذي يُدعى البيليست، قد توطَّن في ساحل فلسطين الجنوبي، وهي المنطقة التي تدعوها الأسفار التوراتية بأرض الفلسطينيين، وتدعوها الوثائق الآشورية بفلستيا.

غير أن هؤلاء المستوطنين على الساحل الفلسطيني لم يحافظوا على تكوين عرقي وثقافي مدةً طويلة. ذلك أن دراسة المخلفات المادية لثقافة هذه المنطقة منذ مطلع عصر الحديد٩ تُظهِر أن الخزفيات القريبة من نمط بحر إيجة تنتشر لفترة قصيرة مع مطلع القرن الثاني عشر قبل الميلاد، ثم تختفي تدريجيًّا لتحل محلها خزفياتٌ تنتمي إلى أنماط محلية واضحة. كما تَظهَر نقوش كتابية مينوية (كريتية) متفرقة على الأختام، ثم تختفي لتحل محلها النقوش الكنعانية. وفيما عدا ذلك، فإن جميع الآثار المادية للمنطقة المدعوة بفلستيا تعكس طابعًا محليًّا واضحًا في كل مجال من مجالات الحياة، من الأنماط المعمارية إلى المعتقدات والممارسات الدينية التي تركزت حول آلهة كنعانية قديمة، مثل داجون وعشتاروت. وهذا يعني أن المدن الفلسطينية الخمسة الموصوفة في النصوص الآشورية خلال النصف الأول من الألف الأول قبل الميلاد، وفي النصوص التوراتية من أواسط الألف الأول قبل الميلاد؛ لم تكن إلا مدنًا كنعانية قلبًا وقالبًا. وإن عقد الصلة بين بيليست شعوب البحر ممن تسرب بعضهم إلى المنطقة مع مطلع القرن الثاني عشر، وفلسطينيِّي النصوص الآشورية والتوراتية، باعتبار هؤلاء استمرارًا إثنيًّا وثقافيًّا لأولئك؛ لا يقوم على أساس تاريخي صُلب.

هذه هي الصورة العامة للمسرح الذي اقتحم عليه يشوع بن نون بقبائله العبرانية، ووزع أرض كنعان على تلك القبائل وَفق الرواية التوراتية. فإلى أي حد تنطبق أحداث سفر يشوع وسفر القضاة من بعده على هذه الصورة؟

(٢) النظرية التوراتية الأولى
يشوع والاقتحام العسكري لكنعان

يقدم لنا محررو التوراة نظريتين متناقضتين لتفسير أصول القبائل الإسرائيلية في كنعان؛ نظرية الاقتحام العسكري الصاعق عبر نهر الأردن، والتي تقوم على أساس أحداث سفر يشوع، ونظرية التسلل السلمي التدريجي، التي تقوم على أساس أحداث سفر القضاة. وهذان السفران متناقضان في تفاصيلهما جميعها إلى درجة تدفع إلى القول بأن محرر سفر القضاة لم يقرأ أو يطَّلع على سفر يشوع، وأن القائمين على عملية الصياغة الأخيرة للنص التوراتي لم يكونوا في موقف يساعدهم على تفضيل إحدى النظريتين على الأخرى، فوضعوهما جنبًا إلى جنب، ربما في انتظار صياغة نهائية للنص لم ترَ النور حتى الآن. وسنتفرغ فيما يلي لسفر يشوع.

بعد موت موسى أمر الرب يشوع بن نون — وكان الذراعَ العسكري الأيمن لموسى — أن يستلم زمام القيادة قائلًا: «موسى عبدي قد مات. فالآن قم اعبر هذا الأردن أنت وكل الشعب إلى الأرض التي أنا معطيها لبني إسرائيل. كل موضع تدوسه بطون أقدامكم لكم أعطيته كما كلمت موسى … فأمر يشوع عُرَفاء الشعب قائلًا: جوزوا في وسط المحلة ومُرُوا الشعب قائلين: هيئوا لأنفسكم زادًا؛ لأنكم بعد ثلاثة أيام تعبرون الأردن هذا، لكي تدخلوا فتمتلكوا الأرض التي يعطيكم الرب» (يشوع، ١: ١–١١). وعندما حل الموعد المضروب، وتقدم يشوع بقواته لعبور الأردن، وأمامهم تابوت العهد، انفلقت مياه النهر أمامهم في معجزة إلهية ثانية كمعجزة بحر سوف، وعبروا على اليابسة، ثم عاد الماء سيرتَه الأولى.

figure
فلسطين في عصر الحديد.

خيَّم يشوع في موقع الجلجال في تَخْم مدينة أريحا الشرقي، وخاطب الشعب قائلًا: «غدًا تُعلِّمون بَنِيكم قائلين: على اليابسة عبر إسرائيل هذا الأردن، لأن الرب إلهكم قد يبَّس مياه الأردن أمامكم حتى عبرتم، كما فعل الرب إلهكم ببحر سوف الذي يبَّسه من أمامنا حتى عبرنا. لكي تعلم جميع شعوب الأرض يد الرب أنها قوية» … «فحلَّ بنو إسرائيل في الجلجال، وعملوا الفصح في اليوم الرابع عشر من الشهر مساءً في عربات أريحا، وأكلوا من غلة الأرض في الغد بعد الفصح فطيرًا وفريكًا. وانقطع المنُّ في الغد عند أكلهم من غلة الأرض، ولم يكن بعدُ لبني إسرائيل منٌّ» (يشوع، ٣–٥).

لم يدم حصار مدينة أريحا المنيعة أكثر من سبعة أيام؛ لأن الرب أظهر في أريحا معجزةً أخرى. لقد أمر الرب يشوع أن يدور بجنوده حول أسوار المدينة في كل يوم مرة، وفي اليوم السابع لدى إتمامهم سبع دَوْرات، يقوم حَمَلة الأبواق بالنفخ فيها بصوت عظيم، يتبعهم الشعب جميعه بهتافات مدوية، فيسقط سور المدينة من تلقاء ذاته، وتكون المدينة وكل ما فيها محرمًا للرب. والتحريم بالمصطلح التوراتي هو تقديم سكان المدينة المغلوبة قربانًا للرب مع مواشيهم وكل نفس حية من ممتلكاتهم. أما الممتلكات المادية الثمينة، كأواني الفضة والنحاس والذهب، فتكون قدسًا للرب، وتدخل في خزانة الرب. فعل يشوع ما أمره الرب، وسقطت أسوار أريحا من تلقاء ذاتها، فدخل يشوع وجنوده وأبادوا أهل المدينة عن بَكرة أبيهم مع حيواناتهم ومواشيهم، ثم نُهبت المدينة وأُحرقت بالنار (يشوع، ٦). ومن أريحا يتجه يشوع نحو مدينة عاي القريبة منها، ولكنه يُهزم هزيمة منكرة: «فضرب منهم أهل عاي نحو ستة وثلاثين رجلًا، ولحقوا بهم وضربوهم في المنحدر. فذاب قلب الشعب وصار مثل الماء. فمزق يشوع ثيابه وسقط على وجهه إلى الأرض أمام تابوت الرب إلى المساء، هو وشيوخ إسرائيل، ووضعوا ترابًا على رءوسهم.» عند ذلك يخبر الرب يشوع عن سبب هزيمتهم، ونعرف أن واحدًا من رجال إسرائيل قد احتفظ لنفسه بثوب وبعض الأمتعة النفيسة في أريحا، مخالفًا بذلك أمر التحريم. فيؤخذ المذنب مع بنيه وبناته وبقره وحميره وغنمه وخيمته فيُرجمون جميعًا ثم يُحرقون بالنار، حتى يرجع غضب الرب عن إسرائيل. وعندما شنَّ يشوع حملته الثانية على مدينة عاي أخذها وقتل سكانها جميعًا، وجعلها «تلًّا خرابًا أبديًّا إلى هذا اليوم.» ولكن البهائم نهبها إسرائيل لأنفسهم حسب قول الرب الذي أمر به يشوع (يشوع، ٧–٨).

ولما سمع سكان جبعون القريبة من أريحا نحو الشرق، خافوا من مواجهة إسرائيل، وصعد وفد منهم بخدعة إلى يشوع وقد ارتدَوْا أسمالًا بالية ونعالًا ممزقة، وفي أكياس زادِهم خبزٌ يابس قد صار فتاتًا، وطلبوا الأمان لمدينتهم منه قائلين إن مدينتهم بعيدة جدًّا وفقيرة، وها هي ثيابهم قد بليت، ونعالهم قد تشققت من طول المسافة، وزادُهم من الخبز قد تفتت ويبس في الطريق. فقطع لهم يشوع ورؤساء جماعته عهدًا بعدم الاعتداء عليهم. وبعد سفرهم عرف يشوع أن المدينة قريبة وميسورة الحال، ولكنه بقي على العهد الذي قطعه لهم، وأمر بتسخيرهم لخدمة إسرائيل، وجعل منهم مُحتطبي حطبٍ ومستقي ماءٍ للجماعة ولمذبح الرب (يشوع، ٩).

«فاجتمع ملوك الآموريين الخمسة؛ ملك أورشليم، وملك حبرون، وملك يرموت، وملك لخيش، وملك عجلون، وصعدوا هم وكل جيوشهم، ونزلوا على جبعون وحاربوها. فأرسل أهل جبعون إلى يشوع إلى المحلة في الجلجال يقولون: لا تُرخِ يديك عن عبيدك. اصعد إلينا عاجلًا وخلصنا … فصعد يشوع من الجلجال ورجال الحرب جميعهم معه وكل جبابرة البأس. فقال الرب ليشوع: لا تَخَفهم، لأني بيدك قد أسلمتهم، لا يقف رجل واحد منهم بوجهك. فأتى إليهم يشوع بغتةً، صعد الليل كله من الجلجال، فأزعجهم الرب أمام إسرائيل، وضربهم ضربة عظيمة في جبعون. وبينما هم هاربون من أمام إسرائيل وهم في منحدر بيت حورون رماهم الرب بحجارة عظيمة من السماء … حينئذٍ كلم يشوع الرب وقال أمام عيون إسرائيل: يا شمس دومي على جبعون، ويا قمر على وادي أيلون، فدامت الشمس ووقف القمر حتى انتقم الشعب من أعدائه» … أما الملوك الخمسة، فقد قبض عليهم يشوع وقتلهم وعلقهم على أعمدة من خشب. بعد ذلك يتابع يشوع مسيرته جنوبًا ويستولي على المدن التالية: مقيدة، لبنة، لخيش، جازر، عجلون، حبرون، دبير، وصولًا إلى غزة على الساحل، ثم ينعطف نحو الصحراء ليصل إلى قادش برنيع، دون أي ذكر لمدينة أورشليم، التي كانت رأس تحالف الملوك الخمسة. بعد ذلك يقفل عائدًا إلى مخيمه في الجلجال قرب أريحا (يشوع، ١٠).

وكانت حاصور درة مدن الشمال وأقواها. فجمع ملكها المدعو يابين إليه ملوك الشمال «فخرجوا هم وكل جيوشهم معهم، شعبًا غفيرًا كالرمل الذي على شاطئ البحر في الكثرة، بخَيل ومركبات كثيرة جدًّا. فاجتمع هؤلاء الملوك بميعاد، وجاءوا ونزلوا معًا على مياه ميروم لكي يحاربوا إسرائيل … فدفعهم الرب بيد إسرائيل فضربوهم وطاردوهم … ثم رجع يشوع في ذلك الوقت وأخذ حاصور وضرب ملكها بالسيف، وضربوا كل نفس بها بحد السيف، حرموهم، لم تبقَ نسمة، وأُحرق حاصور بالنار. فأخذ يشوع كل مدن أولئك الملوك وجميع ملوكها وضربهم بحد السيف، حرَّمهم كما أمر موسى عبد الرب. وكل غنيمة تلك المدن والبهائم نهبها بنو إسرائيل لأنفسهم … فأخذ يشوع كل الأرض حسب ما كلم به الرب موسى، وأعطاها يشوع ملكًا لإسرائيل حسب فرقهم وأسباطهم، واستراحت الأرض من الحرب» (يشوع، ١١).

بعد ذلك لا يبقى أمام يشوع سوى الانشغال بكيفية توزيع أرض كنعان على الأسباط، ورسم الحدود الدقيقة لأراضي كل سبط. وهذا ما تُفصِّله بقية إصحاحات سفر يشوع من ١٢ إلى ٢٤، ثم يموت يشوع وعمره مائة وعشر سنين.

النقد النصي لسفر يشوع

يستمر في سفر يشوع أسلوب السرد الملحمي الممزوج بعناصر قصصية خرافية. فعبور نهر الأردن يتم بعد انفلاق الماء أمام الإسرائيليين، وسور أريحا يسقط من تلقاء ذاته على صوت الأبواق والهتافات العالية، والسماء تمطر حجارة ثقيلة على الجيوش الخمسة وتقتل منهم أكثر مما قتله الجنود، والشمس تقف في كبد السماء ولا تَعجَل للغروب حتى يطول النهار ويُسمح بانتصار الإسرائيليين. ثم يَعمِد المحرر فوق ذلك إلى تلوين روايته بعناصر من القصص الشعبي. فقبل الهجوم على أريحا يبعث يشوع برجلين من عنده للتجسس على المدينة، فذهبا ودخلا بيت امرأة زانية اسمها راحاب، واضطجعا هناك، فعرف ملك أريحا بأمر الجاسوسين وبمكان إقامتهما، فأرسل إلى راحاب يُعْلمها بأن الرجلين من الجواسيس ويطالبها بتسليمهما، ولكن المرأة خبأتهما على سطح بيتها بين عيدان الكتان، وقالت لرسل الملك بأنهما غادرا قبل إغلاق بوابات المدينة مساءً، فلحقوا بهما في طريق الأردن إلى المخاوض. ثم أنزلت الرجلين وقالت لهما: «علمت أن الرب قد أعطاكم الأرض، وأن رعبكم قد وقع علينا، وأن جميع سكان الأرض قد ذابوا من أجلكم … فالآن احلفا لي بالرب وأعطياني علامة أمانة — لأني عملت معكما معروفًا — بأن تعملا أنتما أيضًا مع بيت أبي معروفًا وتخلصا أنفسنا من الموت.» فوعدها الرجلان خيرًا وانطلقا إلى المعسكر. وحين استباح يشوع المدينة لم يُبقِ فيها إلا على راحاب وعائلتها بسبب المعروف الذي صنعته لهم. وتعتمد قصة الصلح مع مدينة جبعون على عناصر التشويق والفكاهة الضمنية المعروفة في حكايا الشطار والعيارين. فالقائد العسكري المهيب ينخدع بحيلة رسل أهل جبعون، ويصدق قصتهم عن مدينتهم البعيدة والفقيرة جدًّا، ويعطيهم الأمان، ليعرف بعد قليل أن جبعون لا تبعد أكثر من بضعة أميال عن أريحا. وبالطبع فإن مثل هذه الحيلة لا يمكن أن تنطلي على قائد مُحنَّك عمل مسبقًا على دراسة مسرح عملياته القتالية، وجمع المعلومات الكافية عن مدن العدو وقلاعه وحصونه وطبيعة أرضه. هذا إذا أخذنا بعين الاعتبار أن مصادر معلومات يشوع لم تكن وقفًا على الزانيات الخائنات.

قد تبدو الاستراتيجية العسكرية التي اتبعها يشوع مقنعة أحيانًا، ويقترب النص التوراتي في سردها مما يشبه التاريخ، غير أن تدخل العناصر اللاهوتية والملحمية ما يلبث أن يعيد عملية السرد إلى نهجها الخيالي الذي التزمته، رغم اجتماع عناصر الحادثة التاريخية أمام المحرر. فالهجوم الأول على مدينة عاي يفشل لأن جنديًّا سرق بعض المتاع من أريحا، التي أمر الرب أن يكون كل ما فيها له. ولا يفلح الإسرائيليون في هجومهم الثاني إلا بعد تقديم المذنب أمام الرب ورجمه حتى الموت مع أفراد عائلته جميعهم. وفي قصة لقاء يشوع مع ملك حاصور يبدأ المحرر في تجميع العناصر المنطقية لقصته، حين يأخذ يابين ملك حاصور بجمع ملوك الشمال الخمسة من أجل الوقوف في وجه يشوع العائد منتصرًا من الجنوب، إلا أن القصة ما تلبث حتى تتخذ المسار الملحمي المعهود، فنجد أن المجتمعين عند مياه ميروم للقاء يشوع ليسوا ملوك التجمع الشمالي فقط، بل ملوك من شتى أنحاء فلسطين؛ من اليبوسيين في الجنوب إلى الحويين عند سفوح جبل الحرمون، فصار أعداء إسرائيل مثل الرمل الذي على شاطئ البحر، على حد قول النص. وبذلك غلبت الحبكة الملحمية على الحبكة التاريخية بشكل مقصود ومتعمد. وفيما يتعلق بمدينة أورشليم، فإن وضعها قد بقي غامضًا في استراتيجية يشوع، فقد قتل يشوع ملكها الذي كان رأس تحالف ملوك الجنوب الخمسة، ولكنه لم يُعرِّج على المدينة في طريقه نحو الجنوب، بل تابع حملته جنوبًا وصولًا إلى غزة، ثم عاد إلى مقره في الشمال دون أي ذكر لأورشليم. وعندما يأتي النص على ذكر توزيع الأراضي المكتسبة على الأسباط يقول بشأن أورشليم: «وأما اليبوسيون الساكنون في أورشليم فلم يقدر بنو يهوذا على طردهم، فسكن اليبوسيون مع بني يهوذا في أورشليم إلى هذا اليوم» (يشوع، ١٥: ٦٣).

وفي الحقيقة، فإن عملية توزيع الأراضي المكتسبة في كنعان على القبائل الإسرائيلية تُظهر بوضوح أن حملات يشوع العسكرية لم تكن حاسمة، وأن العديد من المدن التي ذكر النص سابقًا عن تدميرها وإبادة سكانها ما تزال قائمة وسكانها أقوياء، وأن الإسرائيليين عاجزون عن طردهم والحلول محلهم. فعن مدينة جازر مثلًا نقرأ في حكاية الحملة العسكرية الجنوبية ليشوع: «حينئذٍ صعد هورام ملك جازر لإعانة الجيش، فضربه يشوع مع شعبه ولم يُبقِ له شاردًا» (يشوع، ١٠: ٣٣). ثم نقرأ عن جازر بعد ذلك أن سبط أفرايم «لم يطردوا الكنعانيين الساكنين في جازر، فسكن الكنعانيون في وسط أفرايم إلى هذا اليوم» (يشوع، ١٦: ١٠). وبخصوص مدن وادي يزرعيل (مرج ابن عامر)، التي تُعد من أقوى المدن الفلسطينية وأغناها، نعرف أن سبط منسي، الذي أُعطي هذه المناطق، لم يقدر على امتلاكها، بينها بيت شان وتعنك ومجدو: «ولم يقدر بنو منسي أن يملكوا هذه المدن، فعزم الكنعانيون على السكن في تلك الأرض» (يشوع، ١٧: ١٢). وهم يشتكون إلى يشوع خوفهم من سكان هذه المناطق لأنهم أقوياء ولديهم مركبات من حديد: «فقال بنو يوسف (أفرايم ومنسي): لا يكفينا الجبل، ولجميع الكنعانيين الساكنين في أرض الوادي مركبات من حديد؛ للذين في بيت شان وقراها وللذين في وادي يزرعيل» (يشوع، ١٧: ١٦). ولسوف نرى بعد قليل في سفر القضاة أن يشوع لم يكتسب من الأرض شيئًا في كنعان، بل قام بتوزيعها نظريًّا على الأسباط، تاركًا كل سبط يعمل على اكتساب نصيبه بنفسه وعلى طريقته الخاصة.

وتنم بعض تفاصيل سفر يشوع عن وجود شكل أقدم لقصة الخروج، يجعل جماعة موسى تنطلق من قادش برنيع أو من مكان ما آخر في سيناء، مباشرةً نحو كنعان دون وقفة مطولة في شرقي الأردن، وأن هذا الشكل الأقدم هو الذي استند إليه محرر سفر يشوع. فبعد عبور يشوع للأردن وحلوله في الجلجال يحتفل بنو إسرائيل بالفصح، ويأكلون من غلة الأرض لأول مرة بعد خروجهم من مصر، وينقطع عنهم المن الذي كان غذاء لهم طيلة فترة الخروج: «وانقطع عنهم المن عند أكلهم من غلة الأرض، ولم يكن بعدُ لبني إسرائيل منٌّ» (يشوع، ٥–١٢). ولما كنا نعرف من سفر العدد والتثنية أن جماعة موسى قد استولَوْا على مناطق واسعة بمدنها وقراها في شرقي الأردن، وأقاموا فيها فترة لا بأس بها، وصارت لهم مواشٍ كثيرة (التثنية، ١٣)، فإننا نعجب كيف استمر طعامهم مقتصرًا على المن الذي تجود به السماء كل تلك السنين التي قضَوْها في قادش برنيع وفي شرقي الأردن، من دون اللحم وغلة الأرض. ولا ندري ماذا فعل هؤلاء مثلًا بالألوف المؤلفة التي غنموها من أعدائهم من رءوس الغنم والبقر، مما نقرأ عنه في سفر العدد (٣١: ٣١–٣٤): «وكان النهبُ — فَضْلةُ الغنيمة التي اغتنمها رجال الجند: من الغنم ستَّمائة وخمسة وسبعين ألفًا، ومن البقر اثنين وسبعين ألفًا، ومن الحمير واحدًا وستين الفًا.» على أن النص يخبرنا في أكثر من موضع أنهم كانوا يأكلون اللحم من دون منِّ السماء. ففي العدد (٢٥: ١–٢) نقرأ: «وأقام إسرائيل في شطيم، وابتدءوا يزنون مع بنات موآب. فدعَوْنَ الشعب إلى ذبائح آلهتهن، فأكل الشعب وسجدوا لآلهتهن.»

وباختصار، فإن النقد النصي لسفر يشوع يُظهر أمام أعيننا أن هذا السفر في شكله وفي مضمونه ليس نصًّا تاريخيًّا بأي معيار، ولم يكن يطمح لأن يكون كذلك. وليس الإقناع الذي يمارسه السفر على قارئه لأول وهلة إلا نتاجًا لحيوية الأسلوب، وتتابع الأحداث دون فواصل أو انقطاعات وفجوات، وفوق ذلك كله اعتماد المحرر على جغرافية واقعية للحدث.

النقد التاريخي والأركيولوجي لسفر يشوع

يتفق معظم المؤرخين على وضع تاريخ لأحداث سفر يشوع لا يتجاوز عام ١٢٠٠ق.م. إلا أن مقارنة أحداث سفر يشوع مع أحداث هذه الفترة الانتقالية من عصر البرونز الأخير إلى عصر الحديد، والأوضاع العامة السائدة في الشرق الأدنى القديم؛ لا تقدم لنا نقطة ارتكاز واحدة يمكن عندها تثبيت الإطار التاريخي ليشوع على الخلفية العامة لهذه الفترة، التي كانت تموج بالأحداث الجسيمة التي قادت إلى نهاية ثقافة بكاملها وابتداء ثقافة جديدة. فالفلستيون غير مذكورين بتاتًا، ناهيك عن بقية شعوب البحر الذين يُفترض تواجدهم بكثرة في فلسطين استعدادًا لغزو مصر. ولا يوجد ذكر للفرعون مرنفتاح (١٢١٢–١٢٠٠ق.م.) الذي هزم تحالف الليبيين مع شعوب البحر، وردهم عن حدود مصر الغربية، ثم شن بعد ذلك حملة على فلسطين حوالي عام ١٢٠٧ أو ١٢٠٨ق.م. كما لا يوجد ذكر للفرعون رمسيس الثالث، الذي قضى في عام ١١٩١ق.م. على هجوم شعوب البحر الذين انطلقوا من فلسطين، ثم تعقبهم حتى بيت شان في الشمال حيث نصب لنفسه تمثالًا عُثر عليه في أنقاض المدينة إلى جانب نص مصري يصف الحملة. وفيما عدا تلك الممالك الصغيرة في شرقي الأردن، والتي أثبتنا في نقدنا لرواية الخروج أنها لم تكن موجودة، فإن النص لا يحفل بذكر أي مدينة أو مملكة معروفة لدينا من تلك المدن الكبيرة والممالك المجاورة لفلسطين. كل هذا يؤكد أن محرري سفر يشوع كانوا يصوغون قصة بدون إطار تاريخي، ولم يكن بين أيديهم معلومات واضحة عن تلك الفترة التي اختاروها لأحداثهم، أو التي اختارها لهم المؤرخون المحدثون.

وتبدو الشواهد الآثارية أكثر تخييبًا للآمال، فعلم الآثار لم يستطع تقديم بينة واحدة من الفترة الانتقالية بين البرونز الأخير وعصر الحديد، تدل على حلول أقوام جديدة في فلسطين، حملت معها ثقافة مغايرة للثقافة الكنعانية السائدة. والمواقع التي أُعيد بناؤها بعد تهديمها، سواء بالغزو أم بوسائط أخرى، قد بُنيت بيد السكان المحليين، ودون أن تظهر في مواقعها آثار انقطاع حضاري أو تأثيرات خارجية.١٠ أما عن المدن التي ادعى سفر يشوع تخريبها وإحراقها بالنار، وخصوصًا أريحا وعاي وحاصور، فإن التنقيب الأثري قد أخفق حتى الآن في تقديم الدلائل على تاريخية الرواية التوراتية.
فيما يتعلق بأريحا، أثبتت نتائج التنقيب الأثري (الذي ابتدأ في الموقع منذ عام ١٨٧٦، واستمر بشكل متقطع حتى ستينيات القرن العشرين) أن المدينة قد دُمرت في عصر البرونز الوسيط حوالي عام ١٥٦٠ق.م. ولم يُعَد بناؤها كمدينة مُسوَّرة خلال عصر البرونز الأخير، رغم العثور على كسرات فخارية بين جملة دلائل أخرى تشير إلى قيام سكن عَرَضي فوق التل خلال البرونز الأخير. وهذه الدلائل تتوقف مع نهاية القرن الرابع عشر، ويخلو الموقع تمامًا من دلائل الحياة. وهذا يعني أن آثار السكن قد توقفت تمامًا قبل قرن كامل من التاريخ المفترض لهجوم يشوع على أريحا، وأن الأسوار التي سقطت من تلقاء نفسها بمعجزة من الرب كانت قد تهدمت قبل ذلك بأكثر من ثلاثة قرون. وفيما يتعلق بمدينة عاي، التي تم التعرف عليها في الموقع المعروف اليوم باسم «التل» بعد خمسة عشر كيلو مترًا من القدس، فقد أثبتت نتائج التنقيب الأثري في الموقع على أن هذه المدينة كانت مزدهرة خلال عصر البرونز المبكر، ثم هُجرت تمامًا خلال عصر البرونز الوسيط وعصر البرونز الأخير، أي قبل الوصول المفترض للإسرائيليين بحوالي ألف سنة. أما فيما يتعلق بمدينة حاصور، التي تم التعرف عليها إلى الجنوب من بحيرة الحولة، فقد كشف المنقبون عن آثار دمار كامل للمدينة يعود إلى أواخر البرونز الأخير. ولكن بينما يُرجِع عالم الآثار الإسرائيلي إيجال يادين هذا الدمار إلى حوالي عام ١٢٣٠ق.م. فإن المنقب الإسرائيلي الآخر موشي كوشافي يرى أن آثار هذا الدمار لا يمكن أن تعود إلى ما بعد ١٢٧٥ق.م.، وهو الرأي الذي تدعمه المنقبة كاثلين كينيون ومعظم علماء الآثار في فلسطين. وهذا يعني أننا ما زلنا خارج الفترة المفترضة لدخول الإسرائيليين.١١
وتدل التنقيبات في موقع مدينة جبعون — التي صالحت يشوع وجرت عندها المعركة الكبرى بين يشوع والتحالف الجنوبي بقيادة أدوني صادق ملك أورشليم — على أن المدينة لم تكن قائمة خلال القرن الثالث عشر بكامله. وكذلك الأمر في مواقع المدن التابعة لها والمذكورة في يشوع (٩: ١٧)، مثل الكفيرة، التي يغلب أن تكون في موقع خربة كفر، حيث لم يعثر المنقبون على آثار سكنية تعود إلى ما قبل القرن الثاني عشر. فإذا تتبعنا مسار حملة يشوع نحو الجنوب عبر مدن مقيدة ولبنة ولخيش وعجلون وحبرون ودبير وجازر؛ لعثرنا على آثار دمار في بعض هذه المواقع، مثل لخيش (تل الدوير)، ودبير (تل بيت مرسمي)، تعود إلى حوالي عام ١٢٣٠ق.م.، أي إلى تاريخ قريب من التاريخ المفترض لوصول الإسرائيليين. ورغم أن المؤيدين لنظرية الاقتحام العسكري لأرض كنعان يَعْزون هذا الدمار إلى حملة يشوع، إلا أن المرجَّح والمتفِق مع معلوماتنا التاريخية هو أن دمار هذه المدن الجنوبية في فلسطين خلال أواخر القرن الثالث عشر متعدد الأسباب، ولا نستطيع في الوضع الحالي لمعلوماتنا ترجيح واحد من هذه الأسباب على الآخر، لأن الغزاة عادةً لا يتركون وراءهم بطاقة زيارة تفصح عن هويتهم. فقد يكون المسئول عن ذلك الفرعون رمسيس الثاني في آخر حملة له على فلسطين، أو أن يكون المسئول عن ذلك خليفته مرنفتاح، أو شعوب البحر ممن كانت تعجُّ بهم المنطقة في ذلك الوقت.١٢
وكخلاصة في مسألة تاريخية سفر يشوع أسوق إلى القارئ هذا التقييم الأخير للوقائع المتعلقة بالموضوع، الذي أورده في دراسة جديدة له المنقب جوزيف كالووي J. Callaway صاحب الباع الطويل في عمليات عديدة في فلسطين خلال ربع القرن الماضي. يقول كالووي:
«بعد استعراض الوثائق الأركيولوجية جميعها من المواقع الفلسطينية المذكورة في سفر يشوع، هل يمكن القول بأن الغزاة الإسرائيليين قد استولَوْا على المناطق الهضبية والجليل عبر معارك عسكرية خاطفة، مما يرويه سفر يشوع من الإصحاح الأول إلى الإصحاح الثاني عشر؟ إن البينات الأركيولوجية غير مقنعة، وتتعارض في معظمها مع الرواية التوراتية، وإلى درجة لا يستطيع معها أنصار نظرية الفتح العسكري، من أمثال إيجال يادين، إقناعنا بها إلا بواسطة الإيمان الأعمى … إن النص التوراتي عن الفتح العسكري قد أخذ شكله الذي وصل إلينا بعد فترة طويلة من استقرار الإسرائيليين في الأرض. وهذا الشكل يمكن وصفه بالتاريخ الوعظي أو التبشيري، مما يلائم القائمين على الصياغة خلال عصر المملكة. ولتحقيق هذه الغاية، فإن المحررين قد اختاروا مقتطفات متفرقة من مصادر وصلت إليهم، وصاغوا منها قصة عن بدايات إسرائيل، وذلك من وجهة نظر لاهوتية.»١٣

وبذلك تكون دراستنا للأسفار الخمسة ولسفر يشوع قد أوصلتنا إلى نتيجة واحدة أساسية، وهي أن نهاية عصر البرونز، وبشكل خاص العقود الأخيرة من القرن الثالث عشر، لم تشهد وصول جماعة موحدة اسمها إسرائيل إلى أرض كنعان، ولا إلى أرض شرقي الأردن. ولسوف نرى فيما بعد أن الاسم «إسرائيل»، كدلالة على جماعة مميزة ذات كيان، لم يظهر في التاريخ إلا بعد ذلك بعدة قرون من الزمان، وذلك عقب بناء مدينة السامرة، وتشكيل دولة إسرائيل المعروفة تاريخيًّا في منطقة الهضاب المركزية لفلسطين، مع بدايات القرن التاسع قبل الميلاد. ولكن ماذا عن نُصُب الفرعون مرنفتاح الذي يتحدث عن حملته على جنوب سوريا، ويذكر الاسم «إسرائيل» في عداد من قهرهم الفرعون! علمًا بأن هذه هي الإشارة الأولى والأخيرة التي تتضمن الاسم «إسرائيل» في أي نص مصري. يقول نُصُب مرنفتاح في الموضع الذي يذكر فيه إسرائيل ما ترجمته:

انطرح الأمراء على الأرض صارخين: السلام
لا ترى رأسًا بين الساجدين التسعة
حيث ليبيا صارت خرابًا، وحاتي هدأت خلف حدودها.
أما كنعان فقد آلت إلى كل محنة وبَلِية؛
فأشقلون قد انهارت
وغزة قد مُحيت من الوجود.
إسرائيل صار خرابًا وقُطع دابره.
حورو صارت أرملة أمام هجوم مصر.١٤

لقد ناقش الباحثون المحافظون في أن الاسم «إسرائيل»، المذكور في نُصُب مرنفتاح، يشير إلى جماعة سفر الخروج الذين حملهم يشوع إلى فلسطين. ولكن أكثر الباحثين اليوم لا يوافق على هذا الرأي؛ لأنه يحتوي ضمنًا أن تكون جماعة إسرائيل الخروج في أواخر القرن الثالث عشر قد توطدت في الأرض، وصار لها كيان سياسي من القوة والحضور في المنطقة بحيث يذكره هذا الفرعون القوي في سجل انتصاراته في بلاد كنعان، وهذا أمر لا يتفق ومعظمَ ما بناه البحث التاريخي حتى الآن. من هنا، فقد صرف البحث الحديث النظر تمامًا عن المطابقة بين إسرائيل نُصُب مرنفتاح وإسرائيل جماعة الخروج، وطرحت في تفسير النُّصُب عدة فرضيات، سأعرض باختصار إلى أهمها.

يركز الباحث لورانس ستاجر Lawrence Stager (١٩٨٥) في دراسته لنُصُب مرنفتاح على السطرين الأخيرين منه، ويُفهم من إيراد الاسم «إسرائيل» في السطر الأول منهما، والاسم «حورو» في السطر الثاني أن الكلمتين قد استُعملتا تبادليًّا. فكلمة حورو، كما هو معروف من النصوص المصرية العائدة لتلك الفترة، تُستعمل للدلالة على منطقة سوريا وفلسطين، أو على جزء منها، وقد كُتبت في النص هنا وفوقها إشارة تعريف تدل على أنها أرض، أما الاسم إسرائيل فقد كُتب وفوقه إشارة تعريف تدل على أنه شعب. ويرى ستاجر أن النص قد أراد الإشارة بكلمة حورو إلى ذلك الجزء من فلسطين الذي شمله غزو مرنفتاح، وهو مناطق أشقلون وجازر ويانوم وغيرها، وأنه أراد الإشارة بكلمة إسرائيل إلى الشعب الساكن في هذه المناطق قبل قدوم جماعة الخروج. ويستعين هذا الباحث بتحليل حديث لمشهد مصوَّر على جدار في معبد الكرنك يمثل إحدى معارك مرنفتاح الآسيوية، ويبرهن صاحب هذا التحليل على أن المشهد يصور معركة مرنفتاح في فلسطين ضد المدعوين في النص بإسرائيل، ويرى بأنهم كنعانيون في زيهم وأسلحتهم.١٥
وهناك وجهة نظر جديدة تَلقى الآن مزيدًا من الدعم، تَقدَّم بها الباحث ماكسويل ميللر M. Miller (١٩٨٦)، مفادها أن الاسم «إسرائيل» في نُصُب مرنفتاح، يشير إلى اتحاد لعدة قبائل كنعانية في الهضاب المركزية، وهي قبائل أفرايم ومنسي وجلعاد وبنيامين. وقد تجمعت هذه القبائل تحت قيادة غير مباشرة لأكبرها المدعوة أفرايم، مُشكِّلةً نواة إسرائيل اللاحقة، والتي اتخذت شكلها الإثني والسياسي إبان عصر المملكة الموحدة. ويلاحظ ميللر أن سفر القضاة اللاحق — الذي يقدم لنا تفصيلات أوسع حول مسألة أصول إسرائيل في كنعان — يركز على قبيلة أفرايم والقبائل الثلاثة التي تدور في فلكها. وبما أن نُصُب مرنفتاح يسبق زمنيًّا عصر القاضية دبورة، التي استطاعت توسيع الاتحاد القبلي ليشمل عشر قبائل بدل الأربع، وهي القبائل العشر التي بدأ النص التوراتي يطلق عليها اسم إسرائيل، فإن الإشارة في نُصُب مرنفتاح إلى إسرائيل هي إشارة إلى اتحاد القبائل الأربع المذكورة فقط. وفيما بعد، وعند قيام المملكة الموحدة في المناطق الهضبية من فلسطين بقيادة شاول، ثم داود، فإن الاتحاد القبلي قد توسع ليشمل اثنتي عشرة قبيلة، بما فيها قبيلة يهوذا الجنوبية التي كانت حتى ذلك الوقت خارج الاتحاد الشمالي. هذه القبائل جميعًا كانت من أصول ومشارب شتى، وتحمل معتقدات دينية غير متجانسة، وبينها جماعة من الهاربين من أعمال السُّخرة في مصر، وقد تقاربت مع بعضها تدريجيًّا، وذابت في بوتقة واحدة ومعتقد ديني واحد. وباختصار، فإن الباحث يرى أن إسرائيل قد نشأت في كنعان، ولم تأتِ إليها موحَّدةً من الخارج، وقد استغرقت عملية توحيدها كامل عصر القضاة، الذي يُقدَّر بقرنين من الزمان.١٦
ويسير الباحثان G. Ahlstrom وD. Edelman في دراسة لهما عن النُّصُب (١٩٨٥) في الاتجاه نفسه، ويريان أن كلمة إسرائيل في نُصُب مرنفتاح قد استُخدمت تبادليًّا مع كلمة كنعان للدلالة على قسم من أرض فلسطين، أو قسم من سكانها، ويتفقان مع ميللر في أن التكوين الإثني الذي دُعي فيما بعد إسرائيل هو من أصول محلية كنعانية. أما الباحث توماس ل. تومبسون فيرى أن الجماعة المذكورة باسم إسرائيل في نُصُب مرنفتاح كانت بالفعل جماعة تحمل الاسم إسرائيل، الذي يرد هنا لأول مرة في التاريخ. ولكن هذه الجماعة لا علاقة لها من قريب أو بعيد بجماعة الخروج، ولا بإسرائيل السامرة التي نعرفها من العصر الآشوري اللاحق في المنطقة، والتي ظهرت إلى الوجود بعد نقش مرنفتاح بأكثر من ثلاثمائة سنة، وإن تشابُه الاسم لا يؤكد وجود مثل هذه العلاقة التي ينفيها التاريخ نفيًا قاطعًا.١٧

ونحن إذ نورد هذه الفرضيات المختلفة في تفسير نُصُب مرنفتاح لا نقصد إلى الوقوف إلى جانب واحدة منها دون الأخرى، ولا إلى تقديم فرضية جديدة لن تنفع إلا في زيادة جدل لا طائل من ورائه، بل إلى توكيد أمر واحد، وهو أن الاسم إسرائيل في هذا النص المصري ليس له أية قيمة تاريخية علمية في تحديد زمن نشوء إسرائيل، ولا يلقي ضوءًا على مسألة أصولها في المنطقة.

(٣) النظرية التوراتية الثانية
سفر القضاة والتسرب التدريجي

في سفر يشوع يُنهي المحرر قصة الحرب الصاعقة على كنعان بالمقطع التالي: «فأخذ يشوع كل الأرض حسب كل ما كلم به الرب موسى. وأعطاها يشوع مُلكًا لإسرائيل حسب فرقهم وأسباطهم. واستراحت الأرض من الحرب» (يشوع، ١١: ٢٣). ولكن سفر القضاة يعكس الآية، فتوزيع الأراضي على إسرائيل حسب فرقهم وأسباطهم يتم نظريًّا على الورق، ثم تُترك الفرق والأسباط لكي تكتسب نصيبها المقسوم على طريقتها الخاصة، وبشكل مستقل. فهنا لا وجود لحروب مُظفَّرة تشنها إسرائيل الموحدة تحت لواء واحد، أو بالتعبير التوراتي «كل إسرائيل»، بل تواجهنا عبر السفر كله معارك متفرقة دفاعية أو هجومية، تحاول من خلالها كل قبيلة أن تجد لنفسها موطئ قدم في كنعان، كما تواجهنا بكل وضوح تحركات سلمية للاستقرار بين السكان الأصليين دون حرب. أما يشوع، فعندما عبر الأردن بجماعة وحلَّ في موقع الجلجال، وَفق سفر القضاة، فإنه لم يتهيأ للانقضاض على أريحا وبقية مدن كنعان، بل توقف هناك وصرف القبائل الإسرائيلية من الجلجال لكي تتدبر كل قبيلة أمرها، وذلك تحت ذريعة أن الرب قد عَدَل عن طرد أهل كنعان من أمام إسرائيل لأنهم لم يستمعوا لصوته. نقرأ في القضاة (٢: ١–٢٣) ما يلي:

«وصعد ملاك الرب من الجلجال إلى بوكيم وقال: قد أصعدتُكم من مصر وأتيت بكم إلى الأرض التي أقسمت لآبائكم وقلت: … لا تقطعوا عهدًا مع سكان هذه الأرض، اهدموا مذابحهم. ولم تسمعوا لصوتي، فماذا عملتم؟ فقلت: لا أطردهم من أمامكم، بل يكونون لكم مضايقين، وتكون آلهتهم لكم شَرَكًا. وكان لما تكلم ملاك الرب بهذا الكلام إلى جميع بني إسرائيل أن الشعب رفعوا أصواتهم وبكَوْا … فدعَوُا اسم ذلك المكان بوكيم، وذبحوا هناك للرب. وصرف يشوع الشعب، فذهب كل واحد إلى مُلكه لأجل امتلاك الأرض … ومات يشوع بن نون عبد الرب ابنَ مائة وعشر سنين … وكل ذلك الجيل أيضًا. وقام بعدهم جيل آخر لم يعرف الرب ولا العمل الذي عُمل لإسرائيل. وفعل بنو إسرائيل الشر في عينَيِ الرب وعبدوا البعليم … فحَمِي غضب الرب على إسرائيل، فدفعهم بأيدي ناهبين نهبوهم، وباعهم بيد أعدائهم … فضاق بهم الأمر جدًّا. وأقام الرب قضاة فخلصوهم من يد ناهبيهم. ولقضاتهم أيضًا لم يسمعوا، بل زنَوْا وراء آلهة أخرى وسجدوا لها. وحينما أقام الرب لهم قضاة كان الرب مع القاضي … وعند موت القاضي كانوا يرجعون ويفسدون أكثر من آبائهم.» ثم ينتهي هذا النص المهم جدًّا لفهم عصر القضاة، كما رآه المحرر التوراتي، بالمقطع التالي الذي يُشكِّل بؤرة الطرح النقيض لطرح سفر يشوع: «فحَمِي غضب الرب على إسرائيل وقال: من أجل أن هذا الشعب قد تعدَّوْا عهدي الذي أوصيت به آباءهم ولم يسمعوا لصوتي، فأنا أيضًا لا أعود أطرد إنسانًا من أمامهم من الأمم الذين تركهم يشوع عند موته؛ لكي أمتحن بهم إسرائيل. فترك الرب أولئك الأمم ولم يطردهم سريعًا، ولم يدفعهم بيد يشوع» (القضاة، ٢: ١–٢٣). وبذلك يُنهي محرر سفر القضاة، بجرة قلم، سفر يشوع بكامله، وتتهاوى قصة الفتح العسكري لأرض كنعان كبيت من ورق.

وكان أول من تقدم من الأسباط لامتلاك حصته سبطا يهوذا وشمعون: «وكان بعد موت يشوع أن بني إسرائيل سألوا الرب قائلين: مَن منَّا يصعد إلى الكنعانيين أولًا لمحاربتهم؟ فقال الرب: يهوذا يصعد. هو ذا قد دفعت الأرض ليده. فقال يهوذا لشمعون أخيه: اصعد معي في قرعتي لكي نحارب الكنعانيين، فأصعد أنا معك في قرعتك. فذهب شمعون معه. فصعد يهوذا، ودفع الرب الكنعانيين والفرزيين بيدهم فضربوا منهم في بازق عشرة آلاف رجل. فهرب أدوني بازق، فتتبعوه وأمسكوه، وقطعوا أباهِمَ يديه ورجليه، وأتَوْا به إلى أورشليم فمات هناك. وحارب بنو يهوذا أورشليم وأخذوها وضربوها بحد السيف، وأشعلوا المدينة بالنار. وبعد ذلك نزل بنو يهوذا لمحاربة الكنعانيين سكان الجبل والجنوب والسهل» (القضاة، ١: ١–٨). ونلاحظ في هذا المقطع تنويعًا على معلومات سفر يشوع بخصوص أورشليم ومَلِكها. فمن الواضح أن المدعو هنا أدوني بازق هو ملك أورشليم المدعو في يشوع أدوني صادق، لأن المنتصرين بعد المعركة قد أتَوْا به إلى أورشليم فمات هناك. أما عن حرب بني يهوذا لأورشليم والاستيلاء عليها، فإن الأحداث التالية في سفر القضاة تبين لنا أن المدينة ما زالت بيد أهلها، ولا يوجد فيها أحد من بني إسرائيل. من ذلك ما نقرؤه في الإصحاح ١٩: ١١–١٢: «وفيما هم عند يبوس (= أورشليم)، والنهار قد انحدر جدًّا، قال الغلام لسيده: تعالَ نميل إلى مدينة اليبوسيين هذه ونبيت فيها. فقال له سيده: لا نميل إلى مدينة غريبة حيث ليس أحد من بني إسرائيل هنا. بل نعبر إلى جبعة.»

بعد ذلك يتابع سفر القضاة شرح كيفية إقامة بني إسرائيل بين السكان الأصليين دون حرب: «ولم يطرد منسي أهل بيت شان وقراها، ولا أهل تعنك وقراها، ولا سكان دور وقراها، ولا سكان يبلعام وقراها، ولا سكان مجدو وقراها. فعزم الكنعانيون على السكن في تلك الأرض. وأفرايم لم يطرد الكنعانيين الساكنين في جازر، فسكن الكنعانيون في وسطه في جازر» (١: ٢٧–٢٩). «زبولون لم يطرد سكان قطرون، ولا سكان نهلال، فسكن الكنعانيون في وسطه … ولم يطرد أشير سكان عكو، ولا سكان صيدون وأحلب وأكزيب وحلبة وأفيق ورحوب. فسكن الأشيريون في وسط الكنعانيين سكان الأرض … ونفتالي لم يطرد سكان بيت شمس، ولا سكان بيت عناة، بل سكن في وسط الكنعانيين سكان الأرض … وحصر الآموريون بني دان في الجبل لأنهم لم يدعوهم ينزلون إلى الوادي …» (١: ٣٠–٣٦).

إلى جانب الحروب المحلية التي كانت تقوم بها بعض القبائل، والجنوح إلى السلم والتعايش مع الكنعانيين، مما كانت تفضِّله قبائل أخرى، فقد كان للقبائل معركة كبيرة شارك فيها ستٌّ من القبائل الشمالية العشر، التي يرى دارسو سفر القضاة أن مناطق تواجدها لم تتجاوز الهضاب المركزية حتى تشكيل المملكة الموحدة. فقد كان لما عاد بنو إسرائيل يعملون الشر في عينَيِ الرب أنه دفعهم ليد يابين ملك حاصور. وكانت دبورة قاضية في إسرائيل في ذلك الوقت، فدعت القبائل العشر إلى قتال يابين، فاستجاب لدعوتها ست قبائل، فأرسلت دبورة إلى المدعو باراق من سبط نفتالي ودعته لقيادة التحالف، وسارت إلى جانبه في جيش تعداده عشرة آلاف مقاتل من المشاة. أما يابين ملك حاصور فقد دفع إلى المعركة بتسعمائة مركبة من حديد، على رأسها قائد جيشه المدعو سيسرا، وعندما التقى الجمعان «أزعج الرب سيسرا وكل المركبات وكل الجيش بحد السيف أمام باراق. فنزل سيسرا عن المركبة وهرب على رجليه … وسقط كل جيش سيسرا بحد السيف ولم يبقَ واحد» (القضاة، ٤). وبذلك يُقدِّم لنا محرر سفر القضاة وجهة نظره الخاصة في قتال إسرائيل لحاصور، بعد أن أخبرنا سفر يشوع أن الإسرائيليين قد أخذوا حاصور وأحرقوها بالنار، وأن يشوع قد ضرب رأس ملكها يابين بالسيف (يشوع، ١١: ١–١٠).

النقد النصي لسفر القضاة

يبدو سفر القضاة لقارئه أكثر الأسفار التوراتية تفككًا، وافتقادًا للحبكة الأدبية التي تجمع أجزاءه وأقاصيصه المتنوعة. ولعل السبب في ذلك راجع إلى غياب الشخصية المركزية التي تشكل بؤرة الحدث، وتجمع الحكايا إلى سياق واحد مشترك. فهنا، لا وجود لزعيم بارز كموسى أو يشوع، ولا لشخصية درامية متكاملة كيوسف، ولا لحدث مُطَّرد يتنامى ويتطور مما رأينا في سفر الخروج. كل ما لدينا عبارة عن مجموعة أقاصيص غير مترابطة، ولا تؤدي واحدتها إلى الأخرى مثلما تتماسك قصص الآباء. إن كل ما يُسوِّغ جمع هذا الحشد من الحكايا والأخبار مع بعضها في سفر واحد هو انتظامها في إطار أيديولوجي مفروض عليها من الخارج بشكل قسري؛ فبنو إسرائيل يُذلون ويُهانون كلما تركوا عبادة الرب، والتفتوا إلى عبادة الآلهة الكنعانية، ثم يستريحون من قاهريهم كلما ذكروا ربهم وآبوا إليه. وبذلك تُستبدل العقدة الأدبية بعقدة أيديولوجية لاهوتية لم تفلح في لملمة أجزاء السفر.

معظم هذه الأقاصيص كانت على ما يبدو حكايا شعبية فلسطينية متداولة خلال العصر الفارسي، انتقاها ورتبها المحررون في تسلسل زمني غير مُطَّرد بالمفهوم التاريخي لتسلسل الأحداث، وذلك من أجل ملء الفترة الزمنية القائمة بين دخول الإسرائيليين أرض كنعان وقيام المملكة الموحدة بعد ذلك بقرنين من الزمان. وبما أنه من الصعب إعطاء لمحة عامة عن قصص وأخبار عصر القضاة جميعها، فإنني سأكتفي بتلخيص قصتين تعطيان فكرة واضحة عن ذلك النوع من قصص القضاة، وعن المنظور الأيديولوجي الذي تتحرك فيه أحداثها. الأولى قصة بنت يفتاح الجلعادي، والثانية قصة شمشون.

لقد «عاد بنو إسرائيل يعملون الشر في عينَيِ الرب، وعبدوا البعليم والعشتاروت وتركوا الرب ولم يعبدوه، فحَمِي غضب الرب على إسرائيل وباعهم بيد الفلسطينيين وبيد بني عمون ثماني عشرة سنة، جميع بني إسرائيل الذين في عَبْر الأردن في أرض الآموريين الذين في جلعاد.» فأعلن بنو إسرائيل توبتهم وأزالوا الآلهة الغريبة من وسطهم، وعبدوا الرب ودعَوْه أن يبعث فيهم مخلِّصًا يريحهم من بني عمون. وكان يفتاح الجلعادي ابن امرأة زانية، طرده قومه من وسطهم، فخرج إلى الفلاة وصار رئيس عصابة من الأفاقين، واشتَهَر ببأسه وجبروته. ولما لم يجد الجلعاديون رجلًا مقدامًا يترأس عليهم لمحاربة العمونيين؛ جاءوا إلى يفتاح طالبين منه العودة إليهم، وعونهم على عمون. فاستجاب يفتاح مشترطًا أن يُرئِّسوه عليهم إذا نصرهم على خصومهم، فأجابوه إلى ذلك. فكان روحُ الرب على يفتاح ومشى إلى عمون بقواته. وقبل المعركة الفاصلة نذر يفتاح للرب أضحية بشرية يذبحها ويُصعِدها محرقة، واختار أن تكون هذه الأضحية هي أول شخص يخرج لاستقباله ولقائه عند باب بيته بعد عودته منتصرًا. فدفع الرب بني عمون ليد يفتاح، فشتَّت جيشهم ومَلَك أرضهم. ولدى عودته إلى بيته كان أول خارج للقائه ابنته الوحيدة، التي قابلته بالرقص والغناء والدفوف. فصرخ يفتاح لرؤيتها وبكى وأخبرها بنذره، فقبلت الابنة نذر أبيها لأن الرب أعانه على أعدائه، ولكنها طلبت مهلةً شهرين لتذهب إلى الجبال مع صُوَيحباتها وتبكي عذريتها. وكان عند نهاية المدة أنها عادت إلى أبيها، الذي وفى بنذره الذي يتضمن الذبح والحرق (القضاة، ١١).

وتبتدئ قصة شمشون باللازمة المعادة والمكررة: «ثم عاد إسرائيل يعملون الشر في عينَيِ الرب … إلخ.» يلي ذلك مقدمةٌ تستخدم عناصر صارت معروفة لنا في القصص التوراتي. فهناك رجل من عشيرة دان اسمه منوح وزوجته عاقر، فتراءى ملاك (= شبح) الرب للزوجين وهما في الحقل، ولم يعرفاه، فبشَّرهما بغلام يكون نذيرًا للرب، ويخلِّص شعب إسرائيل الذي يضطهده الفلسطينيون. فدعاه منوح إلى الغداء ظنًّا منه أنه من رجال الله الصالحين، وقام ليذبح جديًا، ولكن الضيف قال له أن يُصعِد الجدي محرقة، وعندما صنع منوح المحرقة وصعد لهيبها عن المذبح؛ صعد الضيف في اللهيب نحو الأعالي. فسقط الزوجان على وجههما، وقال منوح: «موتًا نموت لأننا قد رأينا الله …» ثم ولدت المرأة ابنًا ودعت اسمه شمشون. فكَبِر الصبي وباركه الرب، وابتدأ روح الرب يحركه، فاشتَهَر بقوته البدنية الخارقة، التي كانت تعينه أحيانًا على قتل الأسود بيديه العاريتين، وشقِّ الواحد منها نصفين.

رأى شمشون امرأة فلسطينية من أعداء قومه فأحبها، وطلب من أبويه أن يطلباها من أهلها، فوافقا بعد معارضة وممانعة، ووافق أهل الفتاة من طرفهم على الزواج. وكان على شمشون أن يحضر بعد أيام إلى منزل عروسه ليصطحبها إلى بيته، ولكن سوء تفاهم بين الطرفين منع الأب من إعطائه الفتاة، وزوَّجها بعد بضعة أيام من غيره. وهنا يثور غضب شمشون، ويبدأ حربه الطويلة ضد الفلسطينيين، ولكنها حرب بلا جنود ولا معدات، قِوامها شمشون الذي يقاتل وحيدًا على طريقة العصابات مستخدمًا قوته وحيلته، وجماعات الفلسطينيين، التي كان البطل يفاجئها في الأمكنة والأوقات غير المتوقعة، فيقتل منهم الآلاف بغير سلاح، أو باستخدام أدواتٍ بسيطة كما فعل في إحدى المرات، عندما ضرب ألف رجل بفَكِّ حمار ميت. وفي إحدى المرات أمسك شمشون بثلاثمائة ابن آوى، وربط في أذنابها المشاعل ثم أطلقها في حقول الفلسطينيين فأحرقت محاصيلهم. ومال مرة في مدينة غزة إلى بيت امرأة زانية واضطجع معها إلى منتصف الليل، فعرف الفلسطينيون بمكانه، فكَمَنوا له عند بوابة المدينة بانتظار خروجه عند الصباح، ولكن شمشون لدى وصوله البوابة أمسك مصراعَيْها الهائلين واقتلعهما، ووضعهما على كتفيه وصعد بهما إلى رأس الجبل. وأخيرًا أحب شمشون امرأة ساقطة أخرى اسمها دليلة، وأخذ يتردد عليها. فجاء أقطاب الفلسطينيين وأغرَوْها بالمال لتخون صاحبها، وتعرف منه سر قوته. فصارت دليلة تسأل شمشون عن سر قوته وهو يضللها مازحًا، إلى أن أفضى إليها بسره، وعرفت أن قوته في جدائل شعره الغزير، فقصتها له وهو نائم، ودعت الفلسطينيين فأمسكوه وقلعوا عينيه وسجنوه. وكان بعد فترة أنهم اجتمعوا في المعبد ليذبحوا ذبيحة لإلههم داجون، وجاءوا بشمشون ليتسلَّوْا بإذلاله، وكان شعره قد عاد إلى النمو، فأسند شمشون ذراعيه إلى العمودين الرئيسين في وسط المعبد ودفعهما كلًّا في اتجاه، فسقط المعبد على رءوس الفلسطينيين وقتلهم، ومات شمشون معهم (القضاة، ١٦).

تعطينا قصة شمشون مثالًا حيًّا على كيفية استعانة المحرر التوراتي بالقصص التقليدي، وطريقته الساذجة في الإفادة منها. فلقد جاء المحرر هنا بقصة بطولية متداولة وأدمجها في سياق أحداث سفر القضاة، بعد أن زودها بمقدمة قصيرة تربطها بالجو العام للسفر ربطًا مصطنعًا وواهيًا إلى أبعد الحدود. فهذا البطل — الذي تقول المقدمة اللاهوتية للقصة إن الرب قد أرسله ليكون نذيرًا لله، ويخلِّص إسرائيل من يد الفلسطينيين — يبدأ حياته الكفاحية بمصاهرة عائلة فلسطينية من أعداء قومه، وهو لا ينقلب على هؤلاء ويبدأ حربه معهم إلا لثأر شخصي. وعندما أزعجت أعمال شمشون الفلسطينيين استعانوا عليه بقومه أنفسهم؛ لأن هؤلاء على ما يبدو لم يرَوْا في شمشون ذلك المخلِّص المنتظر، ففاجئوه في شق الجبل الذي يأوي إليه، وأوثقوه وسلموه ليد أعدائه. وهنا نقرأ في الإصحاح ١٥ ما يلي: «فنزل ثلاثة آلاف رجل من يهوذا إلى شق صخرة عيطم وقالوا لشمشون: أما علمت أن الفلسطينيين متسلطون علينا، فماذا فعلت بنا؟ فقال لهم: كما فعلوا بي هكذا فعلت بهم … فأوثقوه بحبلين جديدين وأصعدوه من الصخرة، ولما جاء إلى لَحْي صاح الفلسطينيون للقائه، فحل عليه روح الرب فكان الحبلان اللذان على ذراعيه ككَتَّان أُحرق بالنار فانحل الوثاق عن يديه.» ونفهم من الحوار الذي دار في هذا المشهد بين شمشون وقومه أن شمشون لا يحارب الفلسطينيين نيابةً عن قومه، بل لما فعلوه به، وأن قومه لم يرَوْا فيه إلا رجل عصابات متمردًا، يجب وضع حد لأعماله التي لا تجدي نفعًا، وتجلب المزيد من المضايقة لهم من قِبل الفلسطينيين. ثم نجد رجل الله هذا، المنذور لتخليص إسرائيل، يقضي لياليه في بيوت المومسات، إلى أن توصله إلى حتفه واحدةٌ منهن وقع في حبها وصار يتردد عليها حتى دفعته ليد أعدائه لقاءَ حَفنةٍ من الشيكلات. فأية سيرة حياة هذه يرسمها محرر سفر القضاة لمخلِّص إسرائيل!

النقد التاريخي والأركيولوجي لسفر القضاة

بينما يعمل محرر سفر القضاة على تسلية قارئه، وإعطائه الموعظة الدينية في الوقت ذاته عن كيفية تدخل الرب في الحدث الدنيوي، ينسى القارئ كل مسألة تاريخية متعلقة بذلك العصر، حتى ليظن بأن العالم من حول أولئك القضاة وأعدائهم القريبين قد خلا من كل حدث آخر. ولكن الأمر كما قدمنا منذ قليل غير ذلك تمامًا. ففيما بين أواخر القرن الثالث عشر وأواخر القرن الحادي عشر، وهي الفترة المفترضة لعصر القضاة، غابت في الشرق الأدنى القديم حضارة، وقامت حضارة جديدة على أنقاضها، انتهى عصر البرونز الأخير ودالت دُوَله، وقام عصر الحديد الأول بدول وممالك جديدة، وخارطة جديدة للقوى العالمية. لقد انتهت مملكة الحثيين في الأناضول ولم تقم لها قائمة بعد ذلك، وانتهت مملكة ميتاني، وزالت مدينة أوغاريت من الوجود تمامًا، ثم تبعتها الممالك السورية الشمالية، التي قامت على أنقاضها ثقافة جديدة آرامية حثية، دُعيت دولها بالممالك الحثية الجديدة. أما آشور فقد دخلت لأول مرة مسرح الحياة الدولية من بابه الواسع، وأخذت تملأ الفراغ الذي خلفه غياب القوى العظمى التقليدية، فطُرد الكاشيون من بابل، وخضع وادي الرافدين بأكمله تدريجيًّا إلى المملكة الشمالية الفتية. وها هو ملك آشور تغلات فلاصَّر الأول يقود حملة على بلاد الشام والساحل اللبناني حوالي عام ١١٠٠ق.م. تلامس حدود المناطق التي يتسلى سفر القضاة فيها بقصص شمشون. يقول نص حملة تغلات فلاصَّر:

«تنفيذًا لأوامر إلهي آشور، فقد قهرت البلدان الواقعة بين البحر الأدنى والبحر الأعلى الذي في الغرب. مضيت إلى لبنان حيث قطعت أخشاب الأرز لبناء معبد آنو وحدد. ثم تابعت التحرك نحو آمورو إلى مدينة سيميرا على مسافة ثلاثة أميال مضاعفة داخل البر.»١٨
أما مصر فرغم أنها قد خففت تدريجيًّا من تواجدها في فلسطين، إلا أنها بقيت محتفظة بنفوذها على بعض المواقع الاستراتيجية، وخصوصًا وادي يزرعيل (مرج ابن عامر)، وهو المعبر الرئيسي بين الساحل والمناطق الداخلية. ولدينا من الدلائل الأثرية ما يشير إلى استمرار النفوذ المصري في وادي يزرعيل حتى الهزيع الأخير من القرن الثاني عشر، أي خلال فترة حكم الفرعون رمسيس السادس، الذي عُثر على قاعدة تمثال له في موقع مدينة مجدو.١٩ فأين أخبار مصر والمصريين في سفر القضاة؟ إن غياب أخبار مصر بشكل خاص وأخبار آشور — التي وصلت قواتها إلى مسافة بضع عشرات من الأميال — عن مسرح قصص القضاة، وعدم تعرض النص التوراتي إلى ذكر أية حادثة أو شخصية تتصل بأحداث تلك الفترة؛ يدل على أن محرري التوراة الذين كانوا خلال العصر الفارسي يؤسسون لأصول إسرائيل في عصر منقطع عنهم تمامًا، لم يكونوا يعرفون شيئًا عن ذلك العصر، ولم يكن في حوزتهم أية معلومات تاريخية مباشرة أو غير مباشرة عنه ولا عن أهله وثقافاته ودُوله. إن عصر القضاة ليس له وجود خارج مجال القصة والجنس الأدبي التوراتي المؤيَّد بالأيديولوجيا.
لقد سقط عصر القضاة تاريخيًّا كما سقطت قصة الفتح العسكري لأرض كنعان، ولم يبقَ من الباحثين من يدافع عن تاريخيته إلا القليل. فالباحث ر. ديفو (١٩٧٨)، في كتابه الموسوعي المعروف عن تاريخ إسرائيل، يعترف بالمشكلات التي تعترض قبولنا بتاريخية عصر القضاة، ويحرف مسار البحث التاريخي عن أصول إسرائيل ليبتدئ من عصر المملكة الموحدة فقط، أما ما قبل ذلك فهو مجرد «ما قبل التاريخ» بالنسبة إلى إسرائيل. وهو لا يعتقد أن بإمكاننا التحدث عما يمكن تسميته «بكل إسرائيل» إلا ابتداءً من عصر شاول، وهو الملك الأول للقبائل التي شكلت إسرائيل. وانطلاقًا من ذلك، فإنه يعطي لنفسه الحرية في البحث عن بدايات وأصول مختلفة لهذه القبائل، ويطيل أمد فترة الفتح والاستقرار لتشمل كامل الألف الثاني قبل الميلاد.٢٠ ويسير الباحث مايز A. Mayes في اتجاه مشابه، مقدِّمًا عددًا من المحاكمات المنطقية التي من شأنها تقويض أية قناعة بالأساس التاريخي لعصر القضاة. وهو يرى أن فكرة «كل إسرائيل» الضرورية جدًّا للقبول بعصر القضاة، هي فكرة لاحقة ابتكرتها عملية التحرير المتأخرة، ذلك أن الدراسة المدققة للنص التوراتي تثبت أنه لم تقم سلطة مركزية من أي نوع في إسرائيل قبل مملكة شاول، والقبائل الإسرائيلية لم تقم بأي نشاط مشترك يتضمن «كل إسرائيل» قبل قيام المملكة الموحدة. وحتى ذلك الحلف، الذي التأمَ حول القاضية دبورة، لم يكن سوى حادثة لاحقة اقتُلعت من سياقها وأُدمجت في فترة عصر القضاة.٢١
أما الباحث ميللر J. M. Miller (١٩٧٧) فيرى أن الاعتماد على المعلومات التاريخية والأركيولوجية من أجل إثبات أو نفي الرواية التوراتية لسفر القضاة هو مجهود لا طائل من ورائه؛ لأننا لا نتعامل مع نص تاريخي تم تدوينه إبان الحدث أو بعده بقليل، بل مع نص مكتوب بأسلوب التحرير الحر وفي وقت متأخر جدًّا عن الحدث. ويلخص ميللر دراسته عن سفر القضاة بالنتائج المبدئية التالية:
  • (١)

    إن الدراسة النقدية المعمَّقة للنص التوراتي المتعلق بتقليد الفتح العسكري وتقليد الاستقرار في الأرض، تكشف لنا عن عدة مستويات زمنية جمع النص بينها. وإن أقدم هذه المستويات يربط قبائل إسرائيل جغرافيًّا بالمناطق الهضبية التي كانت موطنهم الرئيسي في فلسطين. وهذه القبائل لم تأخذ بالامتداد نحو المناطق السهلية والوديان الخصيبة ومناطق شرقي الأردن إلا عقب تشكيل المملكة الموحدة. ولقد ترسخت ملاحظة ميللر هذه لدى بقية الباحثين الذين أخذوا يدرسون مسألة أصول إسرائيل انطلاقًا من دراسة مسألة الاستيطان في مناطق الهضاب المركزية خلال عصر الحديد الأول، أي من ١٢٠٠ إلى ١٠٠٠ق.م.

  • (٢)

    إن القبائل التي شكَّلت إسرائيل هي من أصول مستقلة، وقد دخلت إلى فلسطين في أزمنة مختلفة ومتباعدة على ما يبدو. من هنا، فإنه من غير الممكن وضع تاريخ محدد لعملية التسرب إلى كنعان والاستقرار فيها، وإن كل ما سبق تشكيل المملكة الموحدة يقع خارج مجال تاريخ إسرائيل.

  • (٣)
    لا نستطيع تتبع أصول وتاريخ كل قبيلة من هذه القبائل على حدة، والنص التوراتي لا يقدم لنا مساعدة تُذكر في هذا المجال. من هنا، فإن البحث عن أصول إسرائيل يجب أن يبتعد عن مفهوم «كل إسرائيل»، ويركز على الدراسة الإقليمية؛ ذلك أن مفهوم «كل إسرائيل» الذي يتضمن القبائل الاثنتي عشرة على كامل مساحة فلسطين أو معظمها هو مفهوم لاحق.٢٢
ويلخص الآثاري فرانكن H. J. Franken — في مساهمة له ضمن موسوعة كامبريدج للتاريخ القديم — الموقف الحالي للمعلومات الأركيولوجية بخصوص فترة الفتح الإسرائيلي والاستقرار في كنعان على الوجه التالي:
figure
فلسطين الطبيعية، وتبدو عليها الهضاب المركزية ومرتفعات يهوذا مظللة بالخط المتصل.
«إذا وضعنا النص التوراتي جانبًا، فإن علم الآثار لم يتوفر لديه سبب واحد يدفعه على القول بأن القرن الثالث عشر في فلسطين قد شهد تشكُّل شعب جديد في فلسطين اتخذ وضعه كأمة مكتملة مع نهاية القرن الحادي عشر. إن البينة الأركيولوجية على حلول جماعة إثنية جديدة في فلسطين مفقودة بالمعنى العلمي الدقيق لهذه الكلمة. إنه لمن المتعذِّر على تقنيات الأركيولوجية الحالية تلمُّس الآثار على وصول عناصر إثنية جديدة إلى موقع ما؛ إذ لم تترك لنا هذه العناصر مخلفات مادية عند وصولها، ذات طابع ثقافي متميز بشكل واضح عن طابع الجماعة السابقة التي حلت بين ظهرانَيْها أو حلت محلها. وهذا ما لم نستطع التوصل إليه فيما يتعلق بالجماعات العبرية. وأما القول بأن الجماعات العبرية التي دخلت واستقرت في كنعان هي من أصل بدوي أو رعوي، وأن الجماعات البدوية لا تترك وراءها الكثير من المخلفات ذات الطابع الثقافي المتميز، فهو قول مردود؛ لأن تقنيات التنقيب الجديد صارت قادرة على تتبع تحرك الجماعات البدوية القديمة، ورصد علاقاتها وتفاعلاتها مع محيطها. ولا أدَل على ذلك من النتائج القيمة التي توصلت إليها السيدة كاثلين كينيون عن جماعات الآموريين البُداة في فلسطين خلال الفترة الانتقالية من عصر البرونز المبكر إلى عصر البرونز الوسيط. إن العنصر الثقافي الوحيد الذي يمكن أن نعزوه للقبائل العبرية بأي درجة من الثقة هو ديانتها المتميزة. ولكن هذا العنصر قد بقي حتى الآن غير واضح من الناحية الأركيولوجية، ولا يوجد لدينا ما يدل عليه.»٢٣

هذه الأفكار، التي سُقتها أعلاه لبعض الباحثين، هي نموذج عن التوجهات الجديدة في البحث التاريخي الأركيولوجي، ولسوف أستعرض المزيد منها في مناقشتي الأخيرة لمسألة أصول إسرائيل. أما الآن، فإن السؤال الحيوي الذي يطرح نفسه عند هذه المرحلة من دراستنا هذه هو التالي: إذا كان بعض الباحثين يركز على المملكة الموحدة باعتبارها المنطلق التاريخي لتشكيل «كل إسرائيل»، مع نفي صفة التاريخية عن كل ما سبقها، فما هو الأساس التاريخي لهذه المملكة الموحدة؟ وكيف ينشأ حدث تاريخي عن فضاء غير تاريخي، وبصورة مفاجئة؟ هذا ما سنتفرغ لبحثه في الفصل القادم.

١  Th. L. Thompson, Early History of the Israelite People, pp. 205–208.
٢  Ibid., pp. 205–209.
٣  James Pritchard, Ancient Near Eastern Texts, Princeton, 1969, p. 489.
٤  Ibid., p. 484.
٥  Ibid., p. 529.
٦  W. F. Albright, Yahweh and the Gods of Canaan, pp. 87-88.
٧  Th. L. Thompson, op. cit., p. 134.
٨  Ibid., pp. 134–137.
٩  Kathleen Kenyon, Archaeology in the Holy Land, pp. 212–219.
١٠  Kathleen Kenyon, op. cit., p. 206.
١١  Kathleen Kenyon, op. cit., pp. 200–209.
• Kathleen Kenyon, The Bible and Recent Archaeology, pp. 33–41.
• Joseph Callaway, The Settlement in Canaan (in: Hershel Shanks, edt. Ancient Israel, pp. 62-63. 67).
١٢  Joseph Callaway, op. cit., pp. 64-65.
١٣  Ibid., pp. 68-69.
١٤  Ibid., p. 75.
١٥  Ibid., p. 75.
١٦  Ibid., pp. 77-78.
١٧  Th. L. Thompson, op. cit., pp. 375-376.
١٨  Leo Oppenheim, Assyrian and Babylonian Historical Texts (in: James Pritchard, Ancient Near Eastern Texts, p. 275).
١٩  Th. L. Thompson, op. cit., p. 253.
٢٠  R. de Vaux, A History of Israel, Philadelphia, 1978, pp. 695–716.
٢١  Th. L. Thompson, op. cit., pp. 96-97.
٢٢  انظر مقالة ميللر عن عصر القضاة في كتاب:
Hayes and Miller (edt.), Israelite and Judean History, Philadelphia, 1977, pp. 286–331.
٢٣  J. Franken, Archaeological Evidence, in: The Cambridge Ancient History, University Press, pp. 331–337.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤