المملكة الموحدة لكل إسرائيل
(١) صموئيل عرَّاب المملكة
كان صموئيل، الكاهن في مدينة شيلوه، آخر قضاة بني إسرائيل. وقد تولى القضاء في فترة عصيبة بلغ فيها اضطهاد الفلسطينيين للإسرائيليين ذروته. فصلَّى صموئيل للرب ليرفع غضبه عن شعبه، فاستجاب له الرب لأنه كان نبيًّا ومختارًا للرب منذ صغره، وأعان بني إسرائيل على خصومهم فاسترجعوا منهم كل الأراضي والقرى التي سلبوها. وكان لما شاخ صموئيل أنه جعل ابنَيه قضاة أيضًا يساعدانه، ولكنهما لم يسلكا في طريقه، بل مالا إلى المكسب وقَبِلا رشوة. فاجتمع كل شيوخ إسرائيل وجاءوا إلى صموئيل وقالوا له: «هو ذا أنت قد شخت وابناك لم يسيرا في طريقك. فالآن اجعل لنا مَلكًا يقضي لنا. وصلى صموئيل إلى الرب، فقال الرب لصموئيل: اسمع لصوت الشعب في كل ما يقولون لك … وملِّك عليهم ملكًا» (صموئيل الأول، ١–٨).
«وكان رجل من بنيامين اسمه قيس بن أبيئيل … وكان له ابن اسمه شاول، شاب وحسن، ولم يكن رجل في بني إسرائيل أحسن منه، من كتفه فما فوق كان أطول من كل الشعب. فضلَّت أُتُن قيس، أبي شاول، فقال قيس لشاول ابنه: خذ معك واحدًا من الغلمان وقم فتش على الأُتُن. فعبر في جبل أفرايم فلم يجدها … ولما دخلا أرض صوف قال شاول لغلامه: هو ذا رجل الله في هذه المدينة. لنذهب الآن إلى هناك لعله يخبرنا عن طريقنا التي نسلك … وفيما هما آتيان في وسط المدينة، إذا بصموئيل خارج للقائهما … والرب كشف أذن صموئيل قبل مجيء شاول بيوم قائلًا: غدًا في مثل الآن أرسل إليك رجلًا من أرض بنيامين، فامسحه رئيسًا لشعبي إسرائيل، فيخلِّص شعبي من يد الفلسطينيين. فلما رأى صموئيل شاول أجابه الرب: هو ذا الرجل الذي كلمتك عنه» (صموئيل الأول، ٩).
«وقال صموئيل للشعب: هلموا نذهب إلى الجلجال ونجدد هناك المملكة. فذهب كل الشعب إلى الجلجال، وملَّكوا هناك شاول أمام الرب في الجلجال، وذبحوا هناك ذبائح سلامة أمام الرب، وفرح هناك شاول وجميع رجال إسرائيل جدًّا. وقال صموئيل لكل إسرائيل: ها أنا ذا قد سمعت لصوتكم في كل ما قلتم لي وملَّكت عليكم مَلكًا. والآن هو ذا الملك يمشي أمامكم، وأما أنا فقد شخت وشبت، وهو ذا أبنائي معكم.» وبعد أن استلم شاول جميع صلاحياته الدنيوية من صموئيل بدأ حروبه التحريرية الكبرى؛ حارب شاول أولًا العمونيين وردَّهم عن مناطق بني إسرائيل، ثم التفت إلى الفلسطينيين. وكان جيشه يتألف من ثلاثة آلاف مقاتل في أحسن أحواله، ومن ستمائة مقاتل فقط في أسوأ الأحوال. وكانت الأدوات الحديدية — بما فيها الأسلحة — مفقودة لدى بني إسرائيل؛ لأن الفلسطينيين منعوهم من صناعة الحديد للإبقاء عليهم في حالة الضعف العسكري. وفي المعركة الأولى مع الفلسطينيين لم يكن رمحٌ ولا سيف بيد جماعة شاول، إلا معه فقط ومع ابنه يوناثان الذي كان يحارب إلى جانبه، ومع ذلك فقد ضرب شاول خصومه ضربة عنيفة، وطاردهم حتى مقراتهم الحصينة، ثم توجه إلى شرقي الأردن وحارب موآب وعمون وأدوم وملوك صوبة والآموريين. ثم عاد فشد على الفلسطينيين، وكانت بينه وبينهم حروب طيلة أيام حياته (صموئيل الأول، ١١–١٤).
ثم نقل صموئيل إلى شاول أمرًا من الرب بقتال العماليق: «وقال صموئيل لشاول: إياي أرسل الربُّ لمسحك ملكًا على شعبه إسرائيل، والآن فاسمع صوت كلام الرب. هكذا يقول رب الجنود: إني افتقدت ما عمل عماليق بإسرائيل حين وقف له في الطريق عند صعوده من مصر، فالآن اذهب واضرب عماليق وحرِّموا كل ما له، ولا تعفُ عنهم، بل اقتل رجلًا وامرأة، طفلًا ورضيعًا، بقرًا وغنمًا، جملًا وحمارًا.» فضرب شاول العماليق فيما بين جنوب البحر الميت وشمالي سيناء، وأفنى الجميعَ حسب ما أمر به الرب، لم يترك امرأة ولا طفلًا ولا رضيعًا إلا ذبحه. ولكنه عفا عن ملكهم المدعو أجاج بعد أن أمسك به، كما أنه أبقى على الصحيح والجيد من المواشي، ولم يحرِّمها للرب، بل ساقها أمامه وقفل راجعًا إلى مقره. «فكان كلام الرب إلى صموئيل قائلًا: ندمت على أني قد جعلت شاول ملكًا؛ لأنه رجع من ورائي ولم يُقم كلامي.» فحزن صموئيل على شاول لأنه كان يحبه، وناح عليه الليل كله. وفي الصباح خرج إلى شاول وعنَّفه على ما فعل، فقال شاول لصموئيل: «أخطأت لأني تعديت قول الرب وكلامك؛ لأني خفت من الشعب وسمعت لصوتهم. والآن اغفر خطيئتي وارجع معي فأسجد للرب. فقال صموئيل لشاول: لا أرجع معك لأنك رفضت كلام الرب فرفضك الرب من أن تكون ملكًا على إسرائيل» (صموئيل الأول، ١٥).
بعد ذلك أمر الرب صموئيل أن يذهب إلى بيت المدعو يسَّى في بلدة بيت لحم قرب أورشليم؛ لأنه وجد في أحد أولاده ملكًا على إسرائيل، فمضى صموئيل ودخل بيت يسَّى وذبح للرب ودعا يسَّى وأولاده إلى الذبيحة. فعبر يسَّى أولاده أمامه واحدًا واحدًا إلى أن عبر داود الولد الثامن الأصغر، وكان قد وصل لتوه من رعي الغنم. فقال الرب لصموئيل: قم فامسحه لأنه هذا هو. «وكان أشقر مع حلاوة العينين وحسن المنظر، فأخذ صموئيل قرن الدهن ومسحه في وسط إخوته. وحل روح الرب على داود من ذلك اليوم فصاعدًا. ثم قام صموئيل وذهب إلى الرامة. وذهب روح الرب من عند شاول.» وبزوال روح الرب عن شاول اسودَّ مزاجه، وصارت تنتابه نوبات اكتئاب، فنصحه بعض أتباعه أن يفتش عن رجل يحسن الضرب بالعود فيُسرِّي عن الملك ويبهج قلبه، فوافق، فدلوه على الفتى داود بن يسَّى، ووصفوه أمامه بأنه «يحسن الضرب، وهو جبار بأسٍ ورجل حرب وفصيح اللسان، ورجل جميل والرب معه.» فجاء داود وضرب بالعود فارتاحت نفس شاول. وأحب شاول داود وصار له حامل سلاح (صموئيل الأول، ١٦).
وحدث بعد ذلك أن الفلسطينيين اجتمعوا لقتال شاول وجاءوا إلى يهوذا، فاجتمع رجال شاول واصطفوا للقتال. وقبل بدء المعركة خرج فارس من جيش الفلسطينيين اسمه جُليات، طوله يزيد عن ستة أذرع، مدرَّع ومدجَّج بالسلاح، وطلب أن يخرج إليه من جيش شاول مبارزٌ لتَحسِم المبارَزةُ الفردية نتيجةَ المعركة. فخاف كل أشداء جيش شاول، وأحجموا عن تلبية النداء. وفي هذا الوقت وصل الفتى داود الذي أرسله أبوه ليتفقَّد إخوته الثلاثة الذين كانوا يحاربون في جيش شاول. فسأل عن جائزة من يقتل الفلسطيني، فقيل له: «إن الرجل الذي يقتله يغنيه الملك غنًى جزيلًا، ويعطيه ابنته، ويجعل بيت أبيه حرًّا في إسرائيل.» فتقدم داود إلى شاول معلنًا رغبته في التصدي لجُليات، فألبسه شاول خوذته ودرعه وقلَّده سيفه، فلما مشى لم يقدر على الحركة، فنزعها عنه وأخذ عصاه بيده، والتقط خمسة حجارة ملساء فجعلها في جرابه، وحمل مقلاعه وتقدم نحو الفلسطيني. ولما نظر جُليات إلى داود «استحقره لأنه كان غلامًا وأشقر جميل المنظر. فقال لداود: ألعلِّي أنا كلب حتى إنك تأتي إليَّ بعصًا. ولعن الفلسطيني داود بآلهته. وقال الفلسطيني لداود: تعالَ فأُعطي لحمك لطيور السماء ووحش البرية.» ولكن داود تقدم إلى الميدان وأخذ حجرًا من جرابه ورماه بالمقلاع، فأصاب جبهة جُليات وسقط على الأرض، فركض إليه داود ولم يكن معه سيف، فاستلَّ سيف الفلسطيني وقطع به رأسه. ولما رأى الفلسطينيون ما حل بجبارهم هربوا، فطاردهم جماعة شاول وأعملوا فيهم السيف، وأخذ داود رأس الفلسطيني وأتى به إلى أورشليم (صموئيل الأول، ١٧).
ارتفع شأن داود بعد قتله جُليات وصارت له سمعة حسنة، فكرهه شاول وخاف من تزايد محبة الناس له، وعندما كانت تأتيه نوبات الاكتئاب كان يسعى لقتله، ولكن ذلك لم يمنعه من البَر بوعده لقاتل جُليات، فزوَّجه ابنته ميرب، ثم زوَّجه ابنته الثانية ميكال، وعيَّنه قائدًا بين قواده، فكان يشن غزوات خاطفة على الفلسطينيين ويقتل منهم الكثيرين. ثم عاد شاول للتفكير بقتل داود، ودبَّر له المكائد والمصائد، ولكن يوناثان بن شاول، الذي أحب داود وصادقه، كان ينقذه في كل مرة ويقف إلى جانبه. وفي أثناء اختبائه وهربه من ملاحقة شاول تجمَّع حول داود جماعةٌ من الأفاقين والمغامرين ومن أعداء شاول، بلغ عددهم ستمائة مقاتل يرتحلون معه أينما ذهب. وعندما يئس من إيجاد ملاذ آمن له ولجماعته في المناطق التابعة لشاول، قرر اللجوء إلى أرض الفلسطينيين، فأتى إلى مدينة جت حيث استقبله ملكها أخيش استقبالًا حسنًا وآواه وأكرمه (صموئيل الأول، ١٨–٢٦).
أقام داود وجماعته في بلدة صقلع التابعة لملك جت، ومن هناك تابع شنَّ غزواته ولكن لصالح الفلسطينيين هذه المرة، وتحول إلى زعيم مرتزقة تعيث الفساد في أراضي خصوم ملك جت. وعندما جمع الفلسطينيون جيوشهم وتوجهوا إلى حرب جديدة مع شاول، صعد إليهم داود ورجاله وعرضوا السير معهم لقتال بني جلدتهم، فوافق أخيش ملك جت، أما بقية أقطاب الفلسطينيين السائرين معه فرفضوا خوفًا من انقلاب داود عليهم وعودته إلى صفوف شاول، فعاد داود ورجاله إلى معسكرهم. أما جيش الفلسطينيين فقد التقى بجيش شاول في جبل جلبوع، وأوقعوا بالإسرائيليين هزيمة مُنكَرة. وقد أصيب في المعركة شاول، فوقع وقال لحامل سلاحه أن يقتله قبل أن يقع في أيدي أعدائه، فأبى، فأخذ شاول السيف وسقط عليه فمات، وفعل حامل سلاحه مثلما فعل، كما سقط في المعركة أيضًا أولاد شاول الثلاثة ومعظم عساكره. وهنا يعطينا النص التوراتي وصفًا في غاية الحيوية لهذا المشهد: «واشتدت الحرب على شاول، فأصابه الرماة رجال القِسِي، فانجرح جدًّا. فقال شاول لحامل سلاحه: استلَّ سيفك واطعني به؛ لئلا يأتي هؤلاء الغلف ويطعنوني ويقبحوني. فلم يشأ حامل سلاحه لأنه خاف جدًّا، فأخذ شاول السيف وسقط عليه. ولما رأى حامل سلاحه أنه مات شاول سقط هو على سيفه ومات معه، فمات شاول وبنوه الثلاثة وحامل سلاحه وجميع رجاله في ذلك اليوم.» وفي اليوم التالي عندما جاء الفلسطينيون لتفقُّد القتلى وجدوا شاول وبنيه على الأرض، فقطعوا رأسه ونزعوا سلاحه وصلبوا جثته وجثث أولاده على سور مدينة بيت شان (صموئيل الأول، ٢٧–٣١).
النقد النصي لسفر صموئيل الأول
إذا كانت الأسفار الخمسة قد خُصصت لابتكار أصول بعيدة لإسرائيل التوراتية في أرض كنعان، وسفر يشوع والقضاة لابتكار الأصول القريبة، فإن سفر صموئيل الأول قد كُرِّس لابتكار أصول للملكية في إسرائيل، وللمملكة الموحدة لكل إسرائيل، التي من المفترض أنها قامت على معظم أراضي كنعان. وتلعب هنا شخصية صموئيل، الكاهن والنبي وآخر القضاة على بني إسرائيل، دور المِفْصل الذي يربط تقليد عصر القضاة بتقليد عصر المملكة. فآخر القضاة هنا هو الذي يمسح أول الملوك ويختاره لخلافته، فيُنهي بذلك عصرًا ويفتتح آخر.
جاء شاول، الملك الأول، من قبيلة بنيامين التي تنتمي أصلًا إلى القبائل الشمالية، وتسكن في أقصى جنوب مناطقها عند الرقعة الفاصلة بين الهضاب المركزية ومرتفعات يهوذا التي تليها. وبما أن المنظور الأيديولوجي لأسفار التوراة يعكس المواقف الفكرية لكهنة يهوذا المشرفين على عملية التحرير في الفترات المتأخرة، فقد كان لا بد من إظهار شاول في صورة الملك السيئ، وإظهار داود — الذي جاء من بيت لحم في منطقة يهوذا — بصورة الملك الجيد. وليس عُلو داود على شاول، وقيام الرب بانتزاع المملكة منه وإعطائها إلى داود؛ إلا تسويغًا أيديولوجيًّا لاستئثار يهوذا بالمُلك إبَّان فترة المملكة الموحدة، من دون قبائل إسرائيل العشر الشمالية. ولسوف نرى منذ الآن في الأسفار التوراتية ذلك التمييز، الذي صار واضحًا الآن بين إسرائيل ويهوذا.
رغم أن أسلوب المحررين هنا يشبه إلى حد بعيد أسلوب سفر القضاة، إلا أن سفر صموئيل يتميز بوحدة وتكامل الأحداث، وذلك بسبب تمركز أحداثه حول شخصيتين رئيسيتين، هما شاول وداود. فكل القصص الصغيرة المثيرة حول تتبع شاول لداود، وهرب الأخير في كل مرة، قد صيغت في قالب منسجم رغم انتمائها الواضح لأصول مختلفة. كما أن المحرر قد أفلح في رسم صورة قوية ومؤثرة لشخصية شاول تجعل القارئ في تعاطف كامل معها، رغم النوازع الأخرى للمحرر في إظهار الجوانب السلبية لها، والتي لم تكن مقنعة على الإطلاق. الأمر الذي يدل في اعتقادي على أن هذا المحرر قد استخدم قصة أصلية متكاملة عن قائد ظهر في منطقة الهضاب المركزية في زمن لا نعرفه، وقام بحماية جماعته من بغي وتعدي جماعة أخرى. ذلك أن أحداث سفر صموئيل الأول تُظهر في مستوياتها التحتية — التي تعود إلى أزمنة قديمة — ملامح ملحمة شعبية على غاية من الأصالة والنبل والجمال.
ويستمر في سفر صموئيل الأول أسلوب المحرر التوراتي الذي عهدناه في إيراد الروايات المتناقضة للحادثة الواحدة. فحادثة التحاق داود بأخيش ملك جت تأتي في روايتين، في الرواية الأولى يرفض ملك جت لجوء داود ويقصد به شرًّا: «وقام داود وهرب في ذلك اليوم من أمام شاول، وجاء إلى أخيش ملك جت. وقال عبيد أخيش له: أليس هذا داود ملك الأرض! أليس لهذا كنَّ يُغنِّين في الرقص قائلات: ضرب شاول ألوفه وضرب داود ربواته! فوضع داود في قلبه هذا الكلام وخاف جدًّا من أخيش، فغير عقله في أعينهم وتظاهر بالجنون بين أيديهم، وأخذ يخربش على مصاريع الباب. فقال أخيش لعبيده: هو ذا ترَوْن الرجل مجنونًا، فلماذا تأتون به إليَّ! … فذهب داود ونجا من هناك إلى مغارة عدلام» (صموئيل الأول، ٢١: ١٠–١٥). وفي الرواية الثانية يستقبل أخيش داود استقبالًا حسنًا، ويُقْطِعه بلدة صقلع: «وقال داود في قلبه: إني سأهلك يومًا بيد شاول، فلا شيء خير لي من أن أفلت إلى أرض الفلسطينيين. فقام داود وعبر هو والستمائة الرجل الذين معه إلى أخيش ملك جت، وأقام عنده في جت … فقال داود لأخيش: إن كنتُ قد وجدتُ نعمةً في عينيك فليعطوني مكانًا في إحدى قرى الحقل فأسكن هناك … إلخ» (صموئيل الأول، ٢٧: ١–٦).
ولدينا ثلاث روايات عن مسح شاول ملكًا، في الرواية الأولى يأتي شاول إلى بلد صموئيل باحثًا عن حمير أبيه الضالة، وهناك يراه صموئيل ويأتيه كلام الرب بأن هذا الفتى هو الذي يملك على الشعب، فيمسحه صموئيل ملكًا (صموئيل الأول، ٩). وفي الرواية الثانية يطلب الرب من صموئيل أن يدعو كل إسرائيل حسب أسباطهم فيستعرضهم أمامه فيختار منهم ملكًا، فتصعد الأسباط إلى صموئيل وتجتاز أمامه، فيختار منها الرب سبط بنيامين، ثم يستعرض سبط بنيامين عشائره فيختار الرب عشيرة مطري، ثم تستعرض عشيرة مطري أُسرها فيختار الرب أسرة قيس، ومن أسرة قيس يختار الرب شاول، فيمسحه صموئيل ملكًا (صموئيل الأول، ١٠). وفي الرواية الثالثة يصعد ناحاش العموني على جلعاد ويستعبد أهلها، فيرسل هؤلاء رسلًا يستنجدون بقبائل إسرائيل، ويأتي الرسل إلى جبعة حيث شاول. فخرج شاول وراء البقر من الحقل على بكاء الرسل واستنجادهم بقبائل إسرائيل، فحلَّ عليه روح الرب وغضب غضبًا شديدًا. أخذ بقرة وقطعها إلى اثنتي عشرة قطعة وأرسلها بيد الرسل إلى كل تخوم إسرائيل قائلًا: من لا يخرج وراء شاول ووراء صموئيل هكذا يُفعل ببقره. فخرج الشعب وراء شاول كرجل واحد وهزموا العمونيين، ثم عادوا وملَّكوا شاول عليهم (صموئيل الأول، ١١).
ولدينا روايتان عن لقاء شاول بداود، في الأولى ينصح أتباع شاول بإحضار داود ليعزف على العود فيُسري عن فؤاد شاول، فيأتي إليه ويحبه شاول ويجعله حامل سلاحه (صموئيل الأول، ١٦). وفي الإصحاح التالي مباشرةً نجد شاول لم يجتمع بعدُ بداود، فعندما ينبري داود للقاء الفلسطيني يسأل شاول عن الفتى وعن عائلته: «ولما رأى شاول داود خارجًا للقاء الفلسطيني قال لأبينير رئيس جيشه: ابن من هذا الغلام يا أبينير؟ فقال أبينير: وحياتك أيها الملك لست أعلم. فقال الملك: اسأل ابن من هذا الغلام. ولما رجع داود من قتل الفلسطيني أخذه أبينير وأحضره أمام شاول ورأس الفلسطيني في يده، فقال له شاول: ابن من أنت يا غلام؟ فقال داود: ابن عبدك يسَّى البيتلحمي» (صموئيل الأول، ١٧). وفي هذه الرواية لا يظهر تعلق شاول بداود منذ البداية كما رأينا في الرواية السابقة، بل إن ابنه يوناثان هو الذي يحب داود ويتعلق به، فيضمه شاول إلى جماعته ولا يتركه يرحل إلى بيت أبيه.
وهناك روايتان عن طريقة موت شاول. ففي الأولى رأيناه يطلب من حامل سلاحه أن يقتله فيرفض فيسقط شاول على سيفه ويموت (صموئيل الأول، ٣١: ٤–٥). أما في الرواية الثانية، فإن شابًّا عماليقيًّا يأتي إلى داود معفرًا بالتراب، ممزق الثياب، ويخبره بأن شاول وأولاده قد قضَوْا في معركة جلبوع، فيسأله كيف عرف بموت شاول فقال: «إني كنت في جبل جلبوع وإذا شاول يتوكأ على رمحه، وإذا بالمركبات والفرسان يشدون وراءه. فالتفت إلى ورائه فرآني ودعاني فقلت: ها أنا ذا، فقال لي: من أنت؟ فقلت: عماليقي أنا، فقال لي: قف عليَّ واقتلني لأنه قد اعتراني الدوار. فوقفت عليه وقتلته؛ لأني علمت أنه لا يعيش بعد سقوطه» (صموئيل الثاني، ١: ١–١٠).
وعن مدة حكم شاول نقرأ في الإصحاح ١٣: ١ أن شاول قد حكم مدة سنتين، وهذا لا يتناسب مع مجريات الأحداث اللاحقة. فشاول قد مُسح ملكًا وهو شاب يافع، ثم سقط في معركة جلبوع وهو كهل وله أولاد محاربون أشداء قُتلوا معه في المعركة. وبعد موت شاول تقوم القبائل الإسرائيلية في الشمال بتنصيب ابنه إيشبوشت ملكًا عليها وعمره أربعون سنة (صموئيل الثاني، ٢: ٨–٩). وهذا يدل على أن فترة حكم شاول قد تجاوزت الأربعين سنة.
وعندما يقطع داود رأس جُليات يقول النص: «وأخذ داود رأس الفلسطيني وأتى به إلى أورشليم ووضع أدواته في خيمته.» ونحن نعرف من آخر ذكر لأورشليم أنها ما زالت بيد اليبوسيين الكنعانيين، وذلك في الموضع الذي أشرنا إليه في حينه في سفر القضاة، والذي يصف أورشليم بأنها مدينة غريبة لا يوجد فيها أحد من بني إسرائيل (القضاة، ١٩: ١١–١٢) … ثم ماذا عن خيمة داود تلك التي يضع فيها أدواته، والتي يبدو من المقطع أعلاه أنها عند أورشليم؟ ومتى كان للفتى داود — الذي ما زال يرعى غنم أبيه أو يضرب العود ويحمل أسلحة شاول — خيمة في أورشليم؟ إن المقطع كله يبدو وكأنه منتزَع من سياق قصة أخرى ومُدمَج في هذه القصة، وربما كان ينتمي إلى قصص داود اللاحقة بعد أن صار ملكًا وجعل من أورشليم عاصمةً له.
نكتفي بهذا القدر اللازم من النقد النصي لسفر صموئيل الأول، دون الدخول في كثير من التفاصيل الصغيرة، التي يمكن لبحث آخر مكرَّس للنقد النصي أن يستعرضها، وننتقل إلى سفر صموئيل الثاني الذي يبسط أمامنا أخبار فترة العصر الذهبي لإسرائيل التوراتية. أما عن النقد التاريخي والأركيولوجي لسفر صموئيل الأول، فسوف يأتي ضمن النقد التاريخي والأركيولوجي لأخبار المملكة الموحدة، لأن أخبار شاول لم تكن سوى مدخل ومقدمة لأخبار داود وسليمان.
(٢) صموئيل الثاني ومملكة داود
بعد أن عرف داود بنبأ موت شاول وأولاده، رثاه ورثى ابنه يوناثان بمرثية طويلة يقول فيها: «الظبي يا إسرائيل مقتول على شوامخك. كيف سقط الجبابرة. لا تخبروا في جت، لا تبشروا في أسواق أشقلون؛ لئلا تفرح بنات الفلسطينيين، لئلا تشمت بنات الغلف. يا جبال جلبوع، لا يكن طلٌّ ولا مطرٌ عليكن ولا حقول تقدمات، لأنه هناك طُرح مِجَن الجبابرة مِجَن شاول بلا مسح بالدهن. من دم القتلى من شحم الجبابرة لم ترجع قوس يوناثان إلى الوراء، وسيف شاول لم يرجع خائبًا. شاول ويوناثان المحبوبان والحُلوان في حياتهما لم يفترقا في موتهما. أخفُّ من النسور وأشدُّ من الأسود. يا بنات إسرائيل ابكين شاول … إلخ» (صموئيل الثاني، ١).
ثم رحل داود إلى حبرون في الجنوب وأقام هناك. وفي حبرون جاء إليه رجال يهوذا ومسحوه ملكًا على بيت يهوذا. وأما القبائل الشمالية، التي تُدعى في النص بإسرائيل تمييزًا لها عن يهوذا، فقد مُلِّك عليها ابن شاول المدعو إشبوشت: «وأما أبينير بن نير، رئيس جيش شاول، فأخذ إشبوشت بن شاول وعَبَر به إلى محنايم وجعله ملكًا على كل إسرائيل، وكان إشبوشت بن شاول ابن أربعين سنة حين مَلَك على إسرائيل، ومَلَك سنتين.» وبعد ذلك اشتعلت الحرب بين إسرائيل ويهوذا، ولم تنتهِ إلا بموت إشبوشت ملك إسرائيل غِيلةً على يد اثنين من جماعته طمعًا في مكافأة من داود: «دخلا عند حر النهار إلى بيت إشبوشت وهو نائم نومة الظهيرة، فدخلا في وسط البيت ليأخذا حنطة، فعند دخولهما البيت كان هو مضطجعًا في سريره في مخدع نومه، فضرباه وقطعا رأسه، وأخذا رأسه وسارا الليل كله، وأتيا برأس إشبوشت إلى داود إلى حبرون، وقالا للملك: هو ذا رأس إشبوشت بن شاول عدوك الذي كان يطلب نفسك … فأمر داود الغلمان فقتلوهما، وقطعوا أيديهما وأرجلهما، وعلقوهما على البركة في حبرون. وأما رأس إشبوشت فأخذوه ودفنوه.» فأتى رجال إسرائيل إلى داود في حبرون وملَّكوه على إسرائيل أيضًا. وبذلك ينتقل المُلك إلى يهوذا (صموئيل الثاني، ١–٥).
وكان أول عمل لداود بعد أن صار رأسًا للمملكة الجديدة هو الاستيلاء على أورشليم، التي جعلها عاصمة له بعد أن أقام في حبرون حوالي سبع السنوات. وكانت أورشليم حتى ذلك الوقت مدينة كنعانية يسكنها اليبوسيون. وبعد استقراره في العاصمة الجديدة أرسل إليه حيرام الفينيقي ملك صور خشب أرز ونجارين وبنَّائين فبنَوْا لداود بيتًا، وبدأ داود يعيش عيشة الملوك المترفة، وتسرَّى بنساء من أورشليم وَلَدن له بنين وبنات. وكانت أول حرب يخوضها هي حرب دفاعية ضد الفلسطينيين الذين بادروا لقتاله بعد أن رأَوْا تزايد قوته، فضربهم وطاردهم إلى تخومهم. وبعد ذلك جاء داود بتابوت العهد وأدخله إلى أورشليم في موكب حافل وهو يرقص أمامه رقصًا طقوسيًّا حتى دخل المدينة، حيث وضع التابوت في خيمة. ولكن الرب لم يكن راضيًا عن مكان إقامته، فتكلم مع ناثان النبي قائلًا: «اذهب وقل لعبدي داود: هكذا قال الرب: أأنت تبني لي بيتًا لسكناي؟ لأني لم أسكن في بيت منذ يوم أصعدت بني إسرائيل من مصر إلى هذا اليوم، بل كنت أسير في خيمة وفي مسكن» (صموئيل الثاني، ٥–٧). غير أن بناء بيت للرب كان مشروعًا يفوق إمكانيات داود المتواضعة، وكان على الرب أن ينتظر مجيء سليمان لينجز هذه المَهمة.
بعد أن أَمِن داود جانب الفلسطينيين المهزومين، توجه إلى شرقي الأردن فضرب موآب وصار الموآبيون له عبيدًا. ثم توجه شمالًا نحو مملكة صوبة الآرامية التي تعاضدها دمشق: «ضرب داود هدد عزر بن رحوب ملك صوبة حين ذهب ليرد سلطته عند نهر الفرات. فأخذ داود منه ألفًا وسبعمائة فارس وعشرين ألف رجل. وعرقب داود جميع خيل المركبات وأبقى منها مائة مركبة. فجاء آرام دمشق لنجدة هدد عزر ملك صوبة، فضرب داود من آرام اثنين وعشرين ألف رجل. وجعل داود محافظين في آرام، وصار الآراميون لداود عبيدًا يقدمون الهدايا. وكان الرب يخلِّص داود حيثما توجه. وأخذ داود أتراس الذهب، التي كانت على عبيد هدد عزر وأتى بها إلى أورشليم، ومن باطح ومن بيروثاي مدينتَيْ هدد عزر أخذ الملك داود نحاسًا كثيرًا. وسمع توعي ملك حماة أن داود قد ضرب كل جيش هدد عزر، فأرسل توعي يورام ابنه إلى الملك ليسأل عن سلامته ويباركه، لأن هدد عزر كانت له حروب مع توعي. وكان بيده آنية من فضة، وآنية من ذهب، وآنية من نحاس. وهذه أيضًا قدَّسها للرب الملك داود، مع الفضة والذهب الذي قدَّسه من جميع الشعوب الذين أخضعهم؛ من آرام ومن موآب ومن بني عمون ومن الفلسطينيين ومن عماليق ومن غنيمة هدد عزر ملك صوبة …» (صموئيل الثاني، ٨).
ورغم أن مملكة عمون في شرقي الأردن تظهر في النص السابق بين الممالك التي تم إخضاعها، إلا أننا نجدها في الإصحاح الذي يلي مملكة مستقلة، وعلى علاقات ودية مع داود إلى أن مات ملكها المدعو ناحاش، ومَلَك ابنه حانون بدلًا عنه. فأرسل داود رسلًا من قِبله لتعزية حانون بوفاة أبيه، ولكن حانون شك في أمر الرسل وظنهم جواسيس لداود، فعاملهم معاملة سيئة، وقصَّ أنصاف لحاهم وثيابهم إلى وسطهم وأعادهم إلى داود. ثم تهيأ للحرب واستأجر مرتزقة لِعَونه من آرام صوبة وغيرها من الدويلات المجاورة: «ولما رأى بنو عمون أنهم قد أنتنوا عند داود، أرسل بنو عمون واستأجروا آرام بيت رحوب وآرام صوبة عشرين ألف رجل، ومن معكة ألف رجل، ورجال طوب اثني عشر ألف رجل. فلما سمع داود أرسل يوآب وكل جيش الجبابرة.» ويُحرز يوآب قائد جيش داود نصرًا على بني عمون وعلى الآراميين المستأجرين لهم. ثم لا يستثمر نصره بمتابعة العمونيين المتراجعين إلى مدينتهم، أو ملاحقة الآراميين الهاربين، بل يقفل عائدًا إلى أورشليم. ولكن هدد عزر يستجمع قواه مجددًا ويأتي بآراميين لمساعدته من وراء الفرات: «ولما رأى آرام أنهم انكسروا أمام إسرائيل اجتمعوا معًا. وأرسل هدد عزر فأبرز آرام الذي في عَبْر النهر، فأتَوْا إلى حيلام وأمامهم شوبك رئيس جيش هدد عزر. ولما أُخبر داود جمع كل إسرائيل وعَبَر الأردن وجاء إلى حيلام، فاصطف آرام للقاء داود وحاربوه. وهرب آرام أمام إسرائيل، وقتل داود من آرام سبعمائة مركبة وأربعين ألف فارس، وضرب شوبك رئيس جيشه فمات هناك» (صموئيل الثاني، ١٠).
عاد داود إلى أورشليم. وبعد سنة كاملة أرسل قائده يوآب وحاصر مدينة ربة عمون عاصمة العمونيين وأطال الحصار. أما داود فقد استسلم لحياة الرغد في أورشليم. وفي إحدى الأمسيات كان يتمشى على سطح بيته فرأى امرأة جميلة تستحم وراقت في عينيه، فسأل عنها فقيل: هي بتشبع امرأة أوريا الحثي، وكان جنديًّا يحارب في جيش يوآب. فأرسل داود رسلًا وأخذها فدخلت إليه واضطجع معها ثم رجعت إلى بيتها. وحبلت المرأة فأرسلت وأخبرت داود، فكتب داود رسالة إلى يوآب يقول فيها: «اجعلوا أوريا في وجه الحرب الشديدة وارجعوا من ورائه فيُضرب ويموت.» فمات أوريا، وأرسل داود إلى امرأة أوريا وضمها إلى بيته فصارت له امرأةً. أما يوآب فقد أحكم الحصار على مدينة ربة عمون وآلت إلى السقوط بيده، فأرسل إلى داود طالبًا منه الحضور ليأخذ المدينة بيده. فجمع داود كل الشعب وذهب إلى ربة عمون وأخذها وقتل جميع أهلها. ولكن الرب كره ما فعله داود بأخذه زوجة أوريا الحثي وقتْله الرجل بسببها، فأرسل النبي ناثان الذي قال لداود: «كان رجلان في مدينة واحدة. واحد منهما غني والآخر فقير. وكان للغني غنم وبقر كثيرة جدًّا، وأما الفقير فلم يكن له شيء إلا نعجة واحدة صغيرة قد اقتناها وربَّاها وكَبِرت معه ومع بنيه … فجاء ضيف إلى الرجل الغني فعفا أن يأخذ من غنمه ومن بقره ليهيئ للضيف الذي جاء إليه، فأخذ نعجة الرجل الفقير وهيأ للرجل الذي جاء إليه. فحمي غضب داود على الرجل جدًّا وقال لناثان: حيٌّ هو الرب، إنه يُقتل الرجل الفاعل ذلك، ويرد النعجة أربعة أضعاف … فقال ناثان لداود: أنت هو الرجل» (صموئيل الثاني، ١١ و١٢).
وحدث بعد ذلك أنه كان لابن داود المدعو أبشالوم أختٌ جميلة اسمها ثامار. فأحبها ابن داود الآخر المدعو أمنون، وكان أخًا غير شقيق لأبشالوم، وأسقم أمنون حب أخته ثامار حتى لزم بيته وفراشه. وأخيرًا فكر بحيلة يستدرج بها أخته إلى فراشه «فاضطجع أمنون وتمارض، فجاء الملك ليراه فقال أمنون: دع ثامار أختي فتأتي وتصنع أمامي كعكتين فآكل من يدها … فذهبت ثامار إلى بيت أمنون أخيها وهو مضطجع … وقدمت له ليأكل، فأمسكها وقال لها: تعالَيِ اضطجعي معي يا أختي. فقالت له: لا يا أخي، لا تذلني … فلم يشأ أن يسمع لصوتها، بل تمكن منها وقهرها واضطجع معها.» فجعلت ثامار رمادًا على رأسها ومزقت ثوبها وراحت تصرخ، فجاء إليها أخوها أبشالوم وأسكتها وقادها إلى بيته مُبيِّتًا خطة هادئة للانتقام من أمنون. بعد مدة دعا أبشالوم أمنون وبقية إخوته أولاد داود إلى وليمة، وأوصى غلمانه أن يضربوا أمنون بعد أن تلعب الخمرة برأسه. ففعل غلمان أبشالوم بأمنون كما أمرهم وقتلوه. فقام جميع بني الملك وركبوا كلُّ واحد على بغلة وهربوا. أما أبشالوم فقد توارى عن الأنظار ريثما يتعزى داود عن ابنه القتيل (صموئيل الثاني، ١٣).
وكان أبشالوم صاحب مطامح. فصار يستميل قلوب الناس ويجلس للقضاء بينهم قبل وصولهم إلى باب الملك، فأحبه الشعب ومال إليه. وعندما أحس أن الوقت قد حان للانقلاب على أبيه أقام في مدينة حبرون، وجمع حوله الأتباع والمؤيدين، وأرسل دعاته بشكل خاص إلى قبائل إسرائيل في الشمال التي بايعت داود مكرهةً بعد قتل أشبوشت، واتفق معهم على نزع طاعة داود لدى سماعهم أن الأبواق قد ضُربت في حبرون ونُودي في الأسواق: قد مَلَك أبشالوم. «فأتى مخبر إلى داود قائلًا: إن قلوب رجال إسرائيل صارت وراء أبشالوم. فقال داود لجميع عبيده الذين معه في أورشليم: قوموا بنا نهرب لأنه ليس لنا نجاة من وجه أبشالوم. أسرعوا للذهاب لئلا يبادر ويدركنا ويُنزِل بنا الشر، ويضرب المدينة بحد السيف. فخرج الملك وجميع بيته وراءه، وكل الشعب في إثره … وأما داود فصعد في مصعد جبل الزيتون. كان يصعد باكيًا ورأسه مغطًّى ويمشي حافيًا، وجميع الشعب الذين معه غطَّوْا كل واحد رأسه، وكانوا يصعدون وهم يبكون.» ثم عَبَر داود ومن معه نهر الأردن إلى الجهة الأخرى. أما أبشالوم فقد دخل أورشليم مدعومًا من قبائل إسرائيل. ولكن مُشيريه نصحوه باللحاق بداود والقضاء على قوته العسكرية في شرقي الأردن: «فعَبَر أبشالوم الأردن هو وجميع رجال إسرائيل معه … ونزل إسرائيل وأبشالوم في أرض جلعاد. وهنا وجد داود أن المواجهة بينه وبين ابنه صارت محتومة، فتجهز للحرب وقسَّم جيشه ثلاث فرق، عيَّن على كل فرقة قائدًا، وأوصاهم جميعًا ألا يمسوا ابنه أبشالوم بسوء. «وخرج الشعب إلى الحقل للقاء إسرائيل. وكان القتال في وعر أفرايم. فانكسر هناك شعب إسرائيل أمام عبيد داود، وكانت هناك مقتلة عظيمة.» ولم يحفظ القائد يوآب وصية داود فضرب أبشالوم بثلاثة سهام وهو عالق بأغصان شجرة بطم، فقتله. وبعد أن أقام داود مناحة على ابنه القتيل قفل عائدًا إلى أورشليم. أما قبائل إسرائيل فقد مشت بعد أبشالوم وراء قائد جديد: «فصعد كل رجال إسرائيل من وراء داود إلى وراء شبع بن بكري. وأما رجال يهوذا فلازموا مَلكهم من الأردن إلى أورشليم.» وقبل أن تستقر الأمور لشبع بن بكري أرسل داود وراءه قائده يوآب فتعقبه وحاصره في مدينة آبل بيت معكة. ولما اشتد الحصار على أهل المدينة اتفقوا مع يوآب على تسليمه رأس شبع بن بكري مقابل فك الحصار عن مدينتهم، فارتد يوآب برأس شبع وانتهت الفتنة» (صموئيل الثاني، ١٤–٢٠).
«وكان جوعٌ في أيام داود ثلاث سنين، سنةً بعد سنةٍ، فطلب داود وجه الرب.» فقال له الرب إنه غاضب على الأرض لأن الملك شاول كان قد ضرب أهل مدينة جبعون بعد العهد الذي كان يشوع قد قطعه معهم منذ القِدَم (وهذه الحادثة غير واردة في أخبار شاول). فجاء داود إلى الجبعونيين وسألهم كيف يستطيع التكفير عن خطيئة شاول. فطلب الجبعونيون أن يسلمهم داود سبعةً من بني شاول يقدمونهم قربانًا للرب. فأخذ داود ولدَيْ شاول من زوجته رصفة، وخمسة أولاد لميكال ابنة شاول وسلمهم إلى يد الجبعونيين «فصلبوهم على الجبل أمام الرب، فسقط السبعة معًا وقُتلوا في أيام الحصاد … وبعد ذلك استجاب الله من أجل الأرض» (صموئيل الثاني، ٢١).
وتُختتم حياة داود بكارثة تحل في إسرائيل. فقد غضب الرب على داود لأنه قام بإحصاء الشعب لمعرفة عدد سكان مملكته «فجعل الرب وباءً في إسرائيل من الصباح إلى الميعاد، فمات الشعب من دان إلى بئر السبع سبعون ألف رجل، وبسط الملاك يده على أورشليم ليهلكها، فندم الرب عن الشر وقال للملاك المهلك الشعب: كفى، الآن رويدك. وكان ملاك الرب عند بيدر أرونة اليبوسي. فكلم داود الرب عندما رأى الملاك الضارب الشعب وقال: ها أنا أخطأت وأنا أذنبت، وأما هؤلاء الخراف فماذا فعلوا؟» ثم اشترى داود الأرض التي وقف عندها الملاك من صاحبها أرنان اليبوسي وأقام عندها مذبحًا للرب (صموئيل الثاني، ٢٤). أما ما يلي هذه الحادثة من أخبار شيخوخة داود وتنازُع أولاده على العرش؛ فيرِد في سفر الملوك الأول، الذي يُفصِّل في سيرة الملك سليمان التي سوف ننتقل إليها بعد قليل.
النقد النصي لسفر صموئيل الثاني
لم يحقق المحرر التوراتي في سفر صموئيل الثاني أية نُقلة نوعية في أسلوبه، من شأنها الإيحاء بانتقاله من مرحلة التجميع التراثي غير المدقق إلى مرحلة التقصي التاريخي. فهذا السفر يمتح من الذخيرة القصصية الشعبية والبطولية نفسها التي متح منها سفر القضاة. ولكن بينما توزعت أحداث سفر القضاة بين شخصيات مختلفة ومتباعدة زمنيًّا، فإن أحداث صموئيل الثاني قد جعلت تدور حول شخصية الملك داود، في محاولة لرسم صورة لملك ملحمي أسَّس التقاليد الملكية في إسرائيل. من هنا، فقد يبدو سفر صموئيل لأول وهلة أكثر تسلسلًا وانسجامًا من سفر القضاة، وإيحاءً بما يشبه التاريخ. إلا أن القراءة المدققة ما تلبث أن تُظهر لنا مدى تفكك هذا السفر، واستقلالية قصصه عن بعضها، وتفرُّد كل منها بعقدة خاصة وسياق مغلق لا يؤدي إلى غيرها، وذلك رغم الترتيب الزمني الذي اصطنعه المحرر من أجل ربطها، وعقد الصلة فيما بينها. فحروب داود التي ذُكرت باقتضاب، ولم تأخذ حيزًا من السفر يعادل حيز قصة اغتصاب أمنون لأخته، يمكن أن تُنسب لأية شخصية في سفر القضاة، مثل جدعون (القضاة، ٧–٨) أو يفتاح الجلعاوي (القضاة، ١١) أو إلى يشوع، أو حتى إلى موسى الذي وصل في غزواته إلى حوران في سوريا الجنوبية. فإذا تجاوزنا حروب داود انفتح أمامنا عالم من قصص ألف ليلة وليلة؛ الملك يتمشى على السطح ويتلصص على امرأة عارية تستحم، فيقع في غرامها ويقتل زوجها الجندي ليحصل عليها. أمنون يأتي بأخته ثامار بحيلة إلى سريره ويغتصبها. أبشالوم يُولِم لإخوته ويقتل من بينهم أمنون. خروج الابن على أبيه من أجل الاستئثار بالعرش وما جرى بينهما من حروب. أهل مدينة آبل بيت معكة يقطعون رأس شبع بن بكري ويسلمونه للقائد يوآب. التضحية بأولاد شاول السبعة وصلبهم على الجبل قربانًا للرب … إلخ. كما أن باستطاعتنا نقل أية قصة من هذه القصص المؤلفة لسيرة داود إلى سفر القضاة أو إلى يشوع أو حتى إلى أحد الأسفار الخمسة، دون أن نشعر بغرابتها عن جوها الجديد، وهذا يدل على أننا ما زلنا في حيز الأدب، ولم ننتقل بعد مع النص التوراتي إلى حيز التاريخ.
وتعطينا بعض التفاصيل الصغيرة للقصص فكرة عن كيفية تصور محرر صموئيل الثاني لمملكة داود. فهذه المملكة لم تكن أكثر من مشيخة قبلية متواضعة، وملوكها ليسوا أكثر من أمراء محليين لم يأخذوا بعد بأسباب التمدن. فالقتلة يدخلون بيت ملك إسرائيل إشبوشت عند الظهيرة وباب الملك مفتوح على مصراعيه، ويأتون إلى صحن الدار متظاهرين بأنهم يأخذون قمحًا، ثم يدخلون مخدع الملك وهو نائم نومة الظهيرة فيقطعون رأسه ويسيرون به، دون أن يعترضهم حرس أو خدم أو حشم. وبيت داود لا يختلف كثيرًا عن بيت إشبوشت الذي يستطيع دخوله أي عابر سبيل، فرغم أن النص يقول بأن حيرام قد أرسل إلى داود خشب أرز ونجارين وبنائين ليصنعوا بيتًا لداود، إلا أننا نجد بعد ذلك أن هذا البيت قائم بين بيوت الجنود العامة. فعندما يصعد داود ليتمشى على السطح يرى امرأة تستحم في بيتها، وهذا يعني أنه لم يكن بين سطح داود وبيت المرأة، التي كانت زوجة أوريا الجندي، إلا بضعة أمتار سمحت للملك برؤية تفاصيل جمال المرأة المستحمة.
وفي سفر صموئيل الثاني يبدأ النص التوراتي بالتمييز بين إسرائيل ويهوذا، وهو التمييز الذي سوف يستمر ويتأكد عبر الأسفار اللاحقة. فبعد أن كان المحرر يستعمل تعبير «كل إسرائيل» أو «كل الشعب» للدلالة على القبائل الاثنتي عشرة بما فيها يهوذا، فإنه يأخذ عبر سفر صموئيل الثاني بالحديث عن إسرائيل وعن يهوذا، وتبدو يهوذا مستثناةً من مصطلح «كل إسرائيل» الذي يُستخدم في معظم المواضع للدلالة على القبائل الواقعة إلى الشمال من أورشليم ابتداءً من بنيامين. فبعد موت شاول الإسرائيلي «أتى رجال يهوذا ومسحوا داود ملكًا على بيت يهوذا … وأما أبينير رئيس جيش شاول فأخذ إشبوشت وعَبَر به إلى محنايم وجعله ملكًا على كل إسرائيل» (صموئيل الثاني، ٢). وعندما ينحاز أبينير رئيس جيش شاول بعد ذلك إلى جانب داود يأتي إلى داود ويقول: «أقوم أذهب وأجمع إلى سيدي الملك جميع إسرائيل فيقطعون معك عهدًا» (صموئيل، ٣: ٢١). ومن الواضح في هذا المقطع أن المقصود بجميع إسرائيل هو القبائل الشمالية، لأن يهوذا كانت قد بايعت داود منذ البداية. وبعد مقتل إشبوشت يأتي الإسرائيليون إلى داود فيبايعونه أيضًا، وهنا نقرأ: «وجاء جميع أسباط إسرائيل إلى داود في حبرون … وجاء جميع شيوخ إسرائيل إلى الملك إلى حبرون. فقطع الملك داود معهم عهدًا … ومسحوا داود ملكًا على إسرائيل. وكان داود ابن ثلاثين سنة حين مَلَك … في حبرون مَلَك على يهوذا سبع سنين وستة أشهر، وفي أورشليم مَلَك ثلاثًا وثلاثين سنة على جميع إسرائيل ويهوذا» (صموئيل الثاني، ٥: ٤–٥). وبعد موت أبشالوم «صعد كل رجال إسرائيل من وراء داود إلى وراء شبع بن بكري، أما رجال يهوذا فلازموا مَلكهم» (صموئيل الثاني، ٢٠: ٢). وفي غير أمثال هذه المواضع المُشار إليها أعلاه، فإن المحرر يعود إلى استخدام مصطلح «كل إسرائيل» في الإشارة إلى إسرائيل ويهوذا معًا، وخصوصًا في حديثه عن المعارك التي تخوضها هذه القبائل موحدةً ضد عدو خارجي. من ذلك مثلًا ما ورد في صموئيل الثاني (١٠: ١٠–١١)، و(١١: ١).
النقد التاريخي والأركيولوجي لصموئيل الثاني
يفترض المؤرخون أن شاول قد حكم بين ١٠٣٠ و١٠٠٩ق.م.، وداود بين ١٠٠٩ و٩٦٩ق.م.، وسليمان بين ٩٦٩ و٩٣١ق.م.، إلا أن البينة التاريخية والأركيولوجية لم تتوفر حتى الآن على وجود هؤلاء الملوك، ولا يوجد لدينا خارج النص التوراتي مصدر يتعرض لذكرهم بشكل مباشر، أو يقدم مادة يمكن مقاطعتها مع كل ما ذكره النص التوراتي بخصوصهم.
فيما يتعلق بأخبار الملك داود في سفر صموئيل الثاني لدينا بضعة أسطر خصصها المحرر للحديث عن حروب داود، وانتزع لها حيزًا ضيقًا بين خضم القصص التي تتحدث عن الصراع على السلطة وغراميات البلاط الملكي والدسائس السياسية. يحارب داود أولًا الفلسطينيين، ثم الموآبيين في شرقي الأردن. وأخبار مثل هذه الحروب تتخذ في النص التوراتي صيغة نمطية ومتكررة لا تسمح للباحث بتبيُّن العناصر التاريخية فيها، إنها أشبه بالعنصر التزيني الجاهز للاستخدام في رسم أية سيرة شخصية توراتية. ولعلنا قادرون على انتزاع أي خبر من أخبار هذه الحروب من مكانه وزرعه في أي مكان آخر دون أن نُحدِث في الرواية خللًا يُذكر. بعد ذلك يتجه داود لقتال المدعو هدد عزر ملك صوبة، دون أن يعطينا النص أي مُسوِّغ أو سبب مباشر أو غير مباشر لهذه الحرب. ويأتي الخبر هنا في صيغة غامضة ومختصرة حيث يقول: «وضرب داود هدد بن عزر بن رحوب ملك صوبة حين ذهب ليرد سلطته عند نهر الفرات. فأخذ منه داود … إلخ. فجاء آرام دمشق لنجدة هدد عزر ملك صوبة، فضرب داود من آرام اثنين وعشرين ألف رجل. وجعل داود محافظين في آرام دمشق وصار الآراميون لداود عبيدًا.» ولكن هذه المعركة لم تكن فاصلة بين الطرفين، فبعد أن طرد ملك عمون رسل داود وتهيأ لقتاله «أرسل بنو عمون واستأجروا آرام بيت رحوب وآرام صوبة عشرين ألف رجل، ومن معكة ألف رجل، ورجال طوب اثني عشر ألف رجل … فتقدم يوآب والشعب الذين معه لمحاربة آرام فهربوا من أمامه. ولما رأى بنو عمون أنه قد هرب آرام هربوا ودخلوا المدينة. فرجع يوآب عن بني عمون وأتى إلى أورشليم.» بعد ذلك مباشرة تبدأ المعركة الثانية بين داود وهدد عزر: «ولما رأى آرام أنهم انكسروا أمام إسرائيل اجتمعوا معًا. وأرسل هدد عزر فأبرز آرام الذي في عَبْر النهر فأتَوْا إلى حيلام وأمامهم شوبك رئيس جيش هدد عزر … فاصطف آرام للقاء داود وحاربوه وهرب آرام من أمام إسرائيل.»
لقد ورد الاسم صوبة لأول مرة في سفر صموئيل الأول، الذي يذكر أن الملك شاول قد ضرب ملوك صوبة: «وحارب جميع أعدائه من حواليه؛ موآب وعمون وآدوم وملوك صوبة والفلسطينيين» (صموئيل الأول، ١٤: ٤٧). وهذا يعني أن صوبة هي منطقةٌ جغرافية وليست مملكة، وأن الملوك المذكورين هنا ليسوا سوى مشايخ قبائل نظرًا للإشارة إليهم بصيغة الجمع. ولكننا في عصر داود نجدها فجأة، وبعد عدة سنوات، عبارةً عن مملكة يحكمها ملك واحد اسمه هدد عزر. أما المصادر الخارجية فصامتة تمامًا عن ذكر هذه المملكة وعن ذكر ملكها هدد عزر، الذي لم يرد له ذكر خارج النص التوراتي. ونحن نعجب كيف تكون مملكة صوبة في القرن العاشر قبل الميلاد «أقوى وأهم دولة في وسط وجنوب سوريا» (على حد تعبير المؤرخ بيتارد، الذي اقتبسنا منه أعلاه) ثم لا تحفل النصوص الآشورية والنصوص الآرامية بذكرها. ومن جهة أخرى، فإنه لم يتوفر لدينا من منطقة البقاع الشمالي حتى الآن أية لُقًى أثرية يمكن أن تشير إلى وجود هذه المملكة، أو عاصمتها، التي لم يذكرها النص التوراتي، أو أي مدينةٍ من المدن التابعة لها. وكل هذا يشير بكل وضوح إلى أن مملكة صوبة التوراتية لم تكن إلا إمارة أو مشيخة قبلية قريبة زمنيًّا من عصر تحرير التوراة، وأن المحرر التوراتي قد استعان بأخبار غامضة عن حروب أحد ملوك السامرة أو أورشليم المتأخرين مع هذه الإمارة الصغيرة، وأدمجها في أخبار حروب داود.
في المعركة الثانية مع آرام صوبة يقول النص إن هدد عزر قد «أبرز آرام الذي في عَبْر النهر، فأتَوْا إلى حيلام وأمامهم شوبك رئيس جيش هدد عزر.» ويبني المؤرخون على هذا الخبر أن ملك صوبة كانت له سلطة غير مباشرة على الدويلات الآرامية القائمة عند نهر الفرات، وأن هذه الدويلات قد اجتمعت معًا تحت لواء هدد عزر وأتت إلى حيلام لقتال داود. ثم يسيرون أبعد من ذلك في استنتاجاتهم ويتوصلون إلى أن انتصار داود على هدد عزر وحلفائه، الذين جاءوا من عَبْر النهر، قد أوصل قوات داود إلى نهر الفرات، وأنه قد أخضع كل المناطق الواقعة بين الفرات ودمشق. فإلى أي حد تتطابق هذه الاستنتاجات مع الوقائع التاريخية؟
هذه هي أهم الممالك الآرامية التي قامت في «عَبْر النهر» أيام الفترة المفترضة لحكم الملك داود، فأي من هذه الممالك قد أنجد هدد عزر ملك صوبة وحارب إلى جانبه في ذلك الموقع المجهول المدعو حيلام؟ وأي من هذه الممالك القوية، التي كانت تقارع آشور، كان خاضعًا لهدد عزر المجهول الهوية تاريخيًّا، ولمملكة صوبة التي لا نعرف عنها شيئًا خارج النص التوراتي؟ لماذا لم يذكر محرر سفر صموئيل الثاني اسم أي من الممالك الآرامية التي انهزمت أمام جيش داود في موقعة حيلام؟ والأهم من ذلك كله؛ إذا كانت سلطة داود قد وصلت إلى الفرات، فلماذا لم يصطدم بالآشوريين؟ ولماذا خلا الخبر التوراتي من أي ذكر لهم ولتواجدهم في عَبْر النهر؟ ولماذا لم يرد ذكر لداود في الوثائق الآرامية التي اكتُشفت في عواصم ومدن ممالك آرام في عَبْر النهر؟ إن الجواب على هذه التساؤلات بسيط جدًّا، فمحرر سفر صموئيل الثاني، من ناحية أولى، لم يكن بين يديه أية معلومات موثَّقة عن فترة القرن العاشر قبل الميلاد، ومن ناحية ثانية، فإن هذا المحرر لم يكن يقصد إلى تقديم نص تاريخي موثَّق عن حروب داود، بل إلى تزيين سيرة هذا الملك الملحمي بأخبار حروب جمعها من الذاكرة القبلية للمنطقة، وصاغها بتعابير عامة لا تؤدي معلومة تاريخية محددة.
ولكي أوضح للقارئ مدى ابتعاد أخبار حروب داود عن معايير النص التاريخي، وانتمائها إلى جنس الفولكلور الشعبي أكثر من انتمائها إلى جنس الكتابة التاريخية؛ يكفي أن أضع أمامه أي نص من النصوص التاريخية لثقافات الشرق القديم لغرض المقارنة. لننظر على سبيل المثال النص الآتي من حوليات الملك آشور ناصر بال الثاني (٨٨٣–٨٥٩ق.م.) الذي يصف بدقة مسار حملته على بلاد الشام:
إن أي مقارنة بين هذا النص الآشوري ونص صموئيل الثاني الذي يستعمل تعابير مثل: «وضرب داود هدد عزر بن رحوب حين ذهب ليرد سلطته عند نهر الفرات»، أو «فلما رأى آرام أنهم انكسروا أمام إسرائيل اجتمعوا معًا. وأرسل هدد عزر فأبرز آرام، الذي في عَبْر النهر» تُظهِر لنا الفرق الواضح بين النص الموثَّق والنص الأُخيولي الذي يفتقر إلى أدنى مقومات الكتابة التاريخية.
(٣) سفر الملوك الأول والعصر الذهبي لمملكة سليمان
«وشاخ الملك داود، تقدَّم في الأيام. وكانوا يدثرونه بالثياب فلم يدفأ. فقال له عبيده: ليفتشوا لسيدنا الملك على فتاة عذراء، فلتقف أمام الملك ولتكن له حاضنةً، ولتضطجع في حضنك فيدفأ سيدنا الملك. ففتشوا على فتاة جميلة في جميع تخوم إسرائيل، فوجدوا أبيشج الشمونية فجاءوا بها إلى الملك. وكانت الفتاة جميلة جدًّا، فكانت حاضنةً للملك» (الملوك الأول، ١: ١–٤). وبينما كان داود يدفأ في أحضان الفتاة الصغيرة من البرداء، انفجر الصراع على العرش بين أبنائه. فقد ابتدأ أدونيا — وهو الأخ الأصغر لأبشالوم صاحب الانقلاب الأول، واسم أمه حجيث — بالدعوة لنفسه كولي للعهد مستغلًّا حالة التسيب في الحكم، وأعدَّ مركبات وفرسانًا، وكان خمسون رجلًا يَجْرون أمامه كلما خرج. وقد وقف إلى جانبه أبيثار الكاهن ويوآب القائد ورهطٌ قوي من رجال داود، بينما عارضه ناثان النبي ورهطٌ آخر من رجال داود. وعندما استفحل أمر أدونيا، وداود يغض الطَّرْف عن نشاطاته، جاء ناثان النبي إلى بتشبع أم سليمان قائلًا: «أما سمعت أن أدونيا ابن حجيث قد مَلَك وسيدنا داود لا يعرف؟ اذهبي وادخلي إلى الملك داود وقولي له: أما حلفت أنت يا سيدي الملك لأمتك قائلًا: إن سليمان ابنك يملك بعدي وهو يجلس على كرسيي، فلماذا مَلَك أدونيا؟ وفيما أنت متكلمةٌ هناك معه أدخل أنا وراءك وأُكمل كلامك.» فعملت بتشبع بنصيحة ناثان واستطاع الاثنان إقناع داود، الذي أعطى أوامره بأن يُمسح سليمان ملكًا: «خذوا معكم عبيد سيدكم وأركِبوا سليمان ابني على البغلة التي لي وانزلوا به إلى جيحون، وليمسحه هناك صادوق الكاهن وناثان النبي ملكًا على إسرائيل. واضربوا بالبوق وقولوا: ليحي الملك سليمان.» وفي ذلك الوقت كان أدونيا يقيم وليمة لأنصاره، فسمعوا صوت ضجيج وهتاف، وجاء من أخبرهم بأن سليمان قد مَلَك، فخاف أدونيا من بطش سليمان فقام وانطلق وتمسك بقرون المذبح، وأرسل إلى سليمان أن يحلف له بألا يمسه بسوء «فأرسل الملك سليمان فأنزلوه عن المذبح فأتى وسجد للملك سليمان. فقال له سليمان: اذهب إلى بيتك» (الملوك الأول، ١: ١–٥٣).
ولم يطل الوقت بداود حتى مات، بعد أن مَلَك أربعين سنة. وكان أول عمل يفتتح به سليمان عهده الملكي هو قتل أخيه أدونيا، وساعده الأيمن يوآب قائد جيش داود. فأرسل سليمان المدعو بنياهو بن يهوداع ساعده الأيمن وصديقه، فضرب أدونيا بالسيف. ولما سمع يوآب بالخبر التجأ إلى خيمة الرب وتمسك بقرون المذبح: «فأرسل سليمان بنياهو قائلًا: اذهب ابطش به. فدخل بنياهو إلى خيمة الرب وقال له: هكذا يقول الملك، اخرج. فقال: كلا ولكنني هنا أموت. فرد بنياهو الجواب على الملك قائلًا: هكذا تكلم يوآب وهكذا جاوبني. فقال له الملك: افعل كما تكلم وابطش به وادفنه وأزل عني الدم الزكي الذي سفكه يوآب.» فصعد بنياهو وضرب يوآب بالسيف وهو في خيمة الرب متمسكًا بقرون المذبح، وعيَّن سليمان بنياهو قائدًا على الجيش بدلًا من يوآب (الملوك الأول، ٢).
وبعد ذلك، ودون مقدمات، يخبرنا الإصحاح الثالث في مطلعه بأن سليمان قد صاهر فرعون ملك مصر: «وصاهر سليمان فرعون ملك مصر، وأخذ بنت فرعون وأتى بها إلى مدينة داود إلى أن أكمل بناء بيته وبيت الرب، وسوَّر أورشليم حواليها.» ثم تراءى الرب لسليمان في حلم ليلًا «وقال الله: اسأل ماذا أعطيك؟ فقال سليمان: … أيها الرب إلهي، أنت ملَّكت عبدك مكان داود أبي وأنا فتًى صغير لا أعرف الخروج والدخول. وعبدك في وسط شعبك الذي اخترته، شعبٌ كثير لا يُحصى ولا يُعد من الكثرة. فأعطِ عبدك قلبًا فهيمًا لأحكم على شعبك، وأميِّز بين الخير والشر، لأنه من يقدر أن يحكم على شعبك العظيم هذا؟ … فقال الرب: هو ذا قد فعلتُ حسب كلامك. هو ذا أعطيتك قلبًا حكيمًا ومميِّزًا، حتى إنه لم يكن مثلك قبلك ولا يقوم بعدك نظيرك. وقد أعطيتك أيضًا ما لم تسأله غنًى وكرامة، حتى إنه لا يكون رجلٌ مثلك في الملوك كل أيامك.» ثم ينتقل النص إلى إعطائنا مثالًا حيًّا عن حكمة سليمان. فهناك امرأتان زانيتان تسكنان معًا، ولكل منهما ابن رضيع في سن واحدة، فمات ابن الأولى في الليل، فاستبدلت الابن الحي للثانية به وأرقدته إلى جوارها وادعت أنه ابنها وأن الميت ابن زميلتها. فجاءتا إلى سليمان ليحكم بينهما، وكل واحدة تدعي أن الولد الحي هو ابنها. فقال سليمان: ائتوني بسيف. فأتَوْا بسيف بين يدي الملك. فقال الملك: اشطروا الولد الحي شطرين وأعطوا نصفًا للواحدة ونصفًا للأخرى. فاضطرم قلب الأم على ابنها وقالت لهم أن يعطوه للأخرى ولا يميتوه. عند ذلك عرف سليمان أنها أم الولد الحي وأعطاه لها. «ولما سمع جميع إسرائيل بالحكم الذي حكم به الملك خافوا الملك؛ لأنهم رأَوْا حكمة الله فيه لإجراء الحكم» (الملوك الأول، ٣).
وفيما عدا هذه القصة فإن المحرر لا يسوق لنا أمثلة أخرى عن حكمة سليمان، رغم أنه يعود إلى القول في الإصحاح التالي: «وفاقت حكمة سليمان حكمة جميع بني المشرق وكل حكمة مصر. وكان أحكم من جميع الناس … وكان صيته في جميع الأمم حواليه. وتكلم بثلاثة آلاف مَثَل، وكانت نشائده ألفًا وخمسًا. وتكلم عن الأشجار من الأرز الذي في لبنان إلى الزوفا النابت في الحائط. وتكلم عن البهائم وعن الطير وعن الدبيب وعن السمك. وكانوا يأتون من جميع الشعوب ليسمعوا حكمة سليمان.» وقد عَمَد سليمان إلى تقسيم مملكته في الداخل إلى اثنتي عشرة مقاطعة إدارية عليها وكلاء مُعيَّنون من قِبله يديرون شئونها. وقد زوَّج بعضًا من بناته إلى المقربين إليه من هؤلاء الوكلاء والحكام لضمان ولائهم. أما عن أحوال إمبراطورية سليمان المترامية الأطراف، فإن النص يصفها بالكلمات التالية: «وكان يهوذا وإسرائيل كثيرين كالرمل الذي على البحر في الكثرة. وكان سليمان متسلطًا على جميع الممالك من النهر إلى أرض فلسطين وإلى تخوم مصر. كانوا يقدمون الهدايا ويخدمون سليمان كل أيام حياته. وكان طعام سليمان لليوم الواحد ثلاثين كُرَّ سميذ وستين كُرَّ دقيق، وعشرة ثيران مسمَّنة، وعشرين ثورًا من المراعي، ومائة خروف، ما عدا الأيائل والظباء واليحامير والإوز المسمَّن؛ لأنه كان متسلطًا على كل ما عَبْر النهر من تفسح إلى غزة، على كل ملوك عَبْر النهر. وكان له صلحٌ من جميع جوانبه حواليه. وسكن يهوذا وإسرائيل آمنين كل واحد تحت كَرْمته، وكل واحد تحت تينته من دان إلى بئر السبع كل أيام سليمان. وكان لسليمان أربعون ألف مِذْود لخيل مركباته، واثنا عشر ألف فارس» (الملوك الأول، ٤).
وأرسل حيرام ملك صور الفينيقية رسلًا إلى سليمان يهنئه بعد أن سمع أنهم مسحوه ملكًا. فأرسل سليمان إلى حيرام طالبًا منه تزويده بخشب أرز من لبنان، وبنجارين وبنائين؛ لأنه ليس مثل الصيدونيين من يعرف قطع الخشب. ووعده أن يرسل له مقابل ذلك حنطةً وزيتًا. فوافق حيرام، وعقد الاثنان بينهما عهدًا وصنعوا صلحًا. ولما ابتدأ سليمان باستلام شحنات الخشب شرع ببناء هيكل الرب، وبناء قصور له ولزوجاته. وقد سخَّر سليمان في أعمال البناء آلافًا مؤلفة من الشعب. فثلاثون ألفًا يروحون ويجيئون إلى لبنان بالتناوب، وسبعون ألفًا يحملون أحمالًا، وثمانون ألفًا يقطعون في الجبل، ما عدا المشرفين الذين بلغ عددهم ثلاثة آلاف. فاكتمل بناء البيت في السنة الأربعمائة والثمانين لخروج بني إسرائيل من أرض مصر، والتي وافقت السنة الرابعة لحكم سليمان. فجمع سليمان شيوخ إسرائيل وكل رءوس الأسباط لإصعاد تابوت عهد الرب وخيمة الاجتماع، وتم إدخال التابوت ووضعه في مكانه في محراب البيت في قدس الأقداس. «وكان لما خرج الكهنة من القدس أن السحاب ملأ البيت، ولم يستطع الكهنة أن يقفوا للخدمة بسبب السحاب؛ لأن مجد الرب ملأ بيت الرب.» ووقف سليمان أمام المذبح وكل جماعة إسرائيل تنظر إليه، وبسط يديه إلى السماء وقال: «أيها الرب إله إسرائيل. ليس مثلك إلهٌ في السماء من فوق ولا على الأرض من أسفل. حافظ العهد والرحمة لعبيدك السائرين أمامك بكل قلوبهم … إلخ» (الملوك الأول، ٥–٨).
وبعد مدة، صعد فرعون ملك مصر وأخذ مدينة جازر، التي كانت حتى ذلك الوقت مدينة كنعانية مستقلة عن سليمان «فأحرقها بالنار وقتل الكنعانيين الساكنين في المدينة، وأعطاها مهرًا لابنته امرأة سليمان.» فأخذها سليمان وأعاد بناءها، كما أعاد بناء مدن حاصور ومجدو وجازر. كما بنى بعلة وتدمر في البرية. وبنى سليمان سفنًا على شاطئ بحر سوف (الأحمر)، واستخدم لتسييرها في البحر عمالًا فينيقيين من صور أرسلهم له حيرام. فأتَوْا إلى بلاد يدعوها النص أوفير، وأخذوا من هناك أربعمائة وعشرين وزنة ذهب أتَوْا بها إلى الملك سليمان (الملوك الثاني، ٩).
وسمعت ملكة سبأ بخبر سليمان، فأتت إلى أورشليم بموكب عظيم جدًّا، وجمال حاملةً أطيابًا وذهبًا كثيرًا وحجارة كريمة. «فلما رأت ملكة سبأ كل حكمة سليمان، والبيت الذي بناه، وطعام مائدته، ومجلس عبيده وموقف خدامه وملابسهم، وسقاته ومحرقاته التي كان يصعدها في بيت الرب، لم يبقَ فيها روحٌ بعد. فقالت للملك: صحيحًا كان الخبر الذي سمعته في أرضي عن أمورك وعن حكمتك، ولم أصدق الأخبار حتى جئت وأبصرت عيناي … وأعطت الملك مائة وعشرين وزنة ذهب وأطيابًا كثيرة جدًّا وأحجارًا كريمة … وأعطى الملك سليمان لملكة سبأ كل مشتهاها الذي طلبت، عدا ما أعطاها إياه حسب كرم الملك سليمان، فانصرفت وذهبت إلى أرضها هي وعبيدها» (الملوك الأول، ١٠: ١–١٣).
وكان وزن الذهب الذي أتى لسليمان في سنة واحدة ستمائة وستًّا وستين وزنة ذهب، وذلك عدا الذي أتاه من ضرائب التجار وتجارتهم، ومن الولاة الذي عيَّنهم في المقاطعات. وعمل مائتي ترس من ذهب مطرَّق، في كل واحد منها ستمائة شاقل من الذهب، وثلاثمائة مِجَن من ذهب مطرَّق، في كل واحد منها ثلاثة أَمْناء من الذهب. وهذه جعلها سليمان في أحد بيوته المعروف ببيت وعر لبنان. وفي ذلك البيت كانت جميع آنية شرب الملك سليمان وطعامه من الذهب؛ لأن الفضة لم تُحسب شيئًا في أيامه. وقد جعل في بحر فينيقيا أيضًا سفنًا تُبحر مع سفن حيرام إلى ترشيش (إسبانيا)، وتأتي من هناك بالذهب والفضة والعاج، فتعاظم الملك سليمان على كل ملوك الأرض في الغنى والحكمة، وكانت كل الأرض ملتمسة وجه سليمان. وكانوا يأتون إليه كل واحد بهديته، بآنية فضة وآنية ذهب وحُلل وسلاح وأطياب وخيل وبغال، سنةً سنةً. وقد بلغ من ثراء المملكة في عهده أن الفضة في أورشليم كانت مثل الحجارة، وخشب الأرز مثل خشب الجميز الذي في السهل لكثرته (الملوك الثاني، ١٠: ١٤–٢٩).
وأحب الملك سليمان نساء غريبات كثيرات، من موآبيات وعمونيات وآدوميات وصيدونيات وحثِّيات، من الأمم التي نهى الرب بني إسرائيل عن الدخول إليهن حتى لا يُمِلن قلوبهم وراء آلهتهن، فكانت له سبعمائة من النساء السيدات، وثلاثمائة من السراري. وكان في زمان شيخوخته أن نساءه أَمَلْن قلبه وراء آلهة أخرى، فذهب سليمان وراء عشتروت إلهة الصيدونيين، وملكوم إله العمونيين. «فغضب الرب على سليمان لأن قلبه مال عن الرب إله إسرائيل، الذي تراءى له مرتين، وأوصاه في هذا الأمر ألا يتَّبع آلهةً أخرى، فلم يحفظ ما أوصى به الرب. فقال الرب لسليمان: من أجل أن ذلك عندك، ولم تحفظ عهدي وفرائضي التي أوصيتك بها، فإني أمزق المملكة عنك تمزيقًا وأعطيها لعبدك» (الملوك الأول، ١١: ١–١٣).
وأقام الرب في وجه سليمان ثلاثة أعداء؛ أولهم هدد الآدومي، الذي كان من نسل الملك في آدوم، وهرب إلى مصر عقب حملة يوآب قائد داود على آدوم، ثم عاد من هناك بعد أن سمع بموت داود ومقتل يوآب، فمَلَك في آدوم وقاوم سليمان. والخصم الثاني هو رزون بن أليداع، وكان قائدًا في جيش هدد عزر ملك صوبة، ثم استقل بنفسه وجمع حوله الأتباع والجنود بعد حملة داود على هدد عزر، ثم دخل دمشق فمَلَك فيها، وكان خصمًا لإسرائيل طيلة أيام سليمان. أما الخصم الثالث فكان من بطانة سليمان، واسمه يربعام بن نباط، من سبط أفرايم الإسرائيلي، وكان عاملًا لسليمان في منطقة إسرائيل. وقد خرج يربعام عن طاعة سليمان بعد تلقيه بشارة من النبي أخيا الشيلوني بأن الرب يُملِّكه على إسرائيل: «لما خرج يربعام من أورشليم لاقاه أخيا الشيلوني النبي في الطريق وهو لابسٌ رداءً جديدًا. فقبض أخيا على الرداء الجديد الذي عليه ومزقه اثنتي عشرة قطعة، وقال ليربعام: خذ لنفسك عشر قطع؛ لأنه هكذا قال الرب إله إسرائيل: ها أنا ذا أمزق المملكة من يد سليمان وأعطيك عشرة أسباط، ويكون له سبط واحد من أجل عبدي داود ومن أجل أورشليم المدينة التي اخترتها من كل أسباط إسرائيل؛ لأنهم تركوني وسجدوا لعشتاروت إلهة الصيدونيين … وآخذك فتملك حسب كل ما تشتهي نفسك وتكون ملكًا على إسرائيل.» ولما بدأ يربعام نشاطاته السرية للاستقلال عن أورشليم طلب سليمان قتله «فقام يربعام وهرب إلى مصر، إلى شيشق ملك مصر، وكان في مصر إلى وفاة سليمان … وكانت الأيام التي مَلَك فيها سليمان في أورشليم على كل إسرائيل أربعين سنة، ثم اضطجع سليمان مع آبائه ودُفن في مدينة داود أبيه، ومَلَك رحبعام ابنه عوضًا عنه» (الملوك الأول، ١١: ١٤–٤٣).
رجع يربعام بن نباط من مصر بعد أن سمع بوفاة سليمان. أما رحبعام بن سليمان فقد صعد إلى مدينة شكيم في الشمال، حيث اجتمع هناك جميع إسرائيل ليُملِّكوه عليهم. فكلموه قائلين: «إن أباك قسَّى نِيرنا، وأما أنت فخفف الآن من عبودية أبيك القاسية، ومن نِيره الثقيل الذي جعله علينا فنخدمك … فأجاب الملك بقساوة، وترك مشورة الشيوخ التي أشاروا بها عليه، وكلمهم حسب مشورة الأحداث قائلًا: إن أبي ثقَّل نِيركم، وأنا أزيد على نِيركم، أبي أدَّبكم بالسياط وأنا أؤدبكم بالعقارب … فعصى إسرائيل على بيت داود إلى هذا اليوم. ولما سمع جميع إسرائيل بأن يربعام قد رجع أرسلوا فدعَوْه إلى الجماعة وملَّكوه عليهم.» وأما رحبعام فقد تبعه سبط واحد، هو سبط بنيامين، إضافة إلى سبط يهوذا، الذي كان قد ملَّكه بعد وفاة أبيه (الملوك الأول، ١٢: ١–٣٠).
ولكي يكرِّس يربعام الاستقلال عن أورشليم كان لا بد له من الاستقلال الديني، وصرف نظر مواطنيه عن هيكل الرب فيها؛ لذلك فقد عَمَد إلى بناء معبدين في إسرائيل، واحد في بيت إيل والآخر في دان، ووضع في كل منهما عجلًا ذهبيًّا، وقال للإسرائيليين: «كثير عليكم أن تصعدوا إلى أورشليم. هو ذا آلهتك يا إسرائيل، الذين أصعدوك من مصر … وبنى بيت المرتفعات، وصيَّر كهنة من أطراف الشعب لم يكونوا من بيت لاوي. وعمل يربعام عيدًا في الشهر الثامن في اليوم الخامس عشر من الشهر كالعيد الذي في يهوذا» (الملوك الأول، ١٢: ٢٥–٣٣).
«في السنة الثامنة عشرة للملك يربعام بن نباط، مَلَك أبيام على يهوذا، مَلَك ثلاث سنين في أورشليم … وسار في جميع خطايا أبيه التي عملها، ولم يكن قلبه كاملًا مع الرب إلهه كقلب داود … وكانت حربٌ بين أبيام ويربعام، ثم اضطجع أبيام مع آبائه فدفنوه في مدينة داود، وملك آسا ابنه عوضًا عنه. في السنة العشرين ليربعام ملك إسرائيل، ملك آسا على يهوذا، ملك إحدى وأربعين سنة في أورشليم … وعمل آسا ما هو مستقيم في عينَي الرب كداود أبيه. وأزال المأبونين من الأرض، ونزع جميع الأصنام التي عملها آباؤه» (الملوك الأول، ١٥: ١–١٢).
أما في إسرائيل، فبعد فترة حكم دامت حوالي عشرين سنة، تُوفي يربعام أول ملوك إسرائيل، وكانت وفاته في السنة الثانية لحكم آسا في يهوذا. فملك ابنه ناداب عوضًا عنه، وحكم سنتين فقط، وعمل الشر في عينَي الرب وسار في طريق أبيه. فخرج عليه المدعو بعشا من سبط يساكر وقتله وأباد كل بيت يربعام. ثم قامت حربٌ ضَروس بين إسرائيل ويهوذا، استعان فيها آسا ملك يهوذا بملك دمشق المدعو بنهدد بن طبريمون بن حزيون، وأرسل له هدية من جميع آنية الذهب والفضة الباقية في خزائن بيت الرب وخزائن بيت الملك. فصعد ملك دمشق وضرب كل المدن الشمالية من إسرائيل وأخذها، فكفَّ بعشا يده عن يهوذا، وعاد بنهدد إلى دمشق.
ثم توفي بعشا ملك إسرائيل بعد حكم دام أربعًا وعشرين سنة، وملك ابنه إيله عوضًا عنه، وبعد سنتين خرج عليه القائد العسكري المدعو زمري، ودخل عليه في بيته وهو يشرب ويسكر فقتله، وضرب كل بيت بعشا بحد السيف. ولكن القطعات العسكرية، التي كانت في ذلك الوقت تقاتل الفلسطينيين، لم تقف إلى جانب زمري، بل تحولت إلى رئيس الجيش المدعو عُمري، فجاء عُمري وحاصر زمري في العاصمة ترصة وأخذها، وأما زمري فقد أحرق على نفسه البيت ومات بعد أن حكم سبعة أيام فقط. وحكم عُمري اثنتي عشرة سنة؛ ست منها في مدينة ترصة، وست في السامرة، وهي العاصمة الجديدة التي بناها لنفسه.
وعُمري هذا هو أول ملك إسرائيلي موثَّق تاريخيًّا، ومعه تدخل الرواية التوراتية لأول مرة مسرح التاريخ، بعد حوالي ألف سنة من عمر إسرائيل التوراتية. ولسوف أتوقف في قراءتي لسفر الملوك الأول عند هذه النقطة؛ لأن ما يأتي من أخبار مملكتَي إسرائيل ويهوذا سوف يُعالَج لاحقًا من خلال أخبار مملكة آرام دمشق، وعلاقاتها الدولية مع آشور وبقية دول المنطقة.
النقد النصي لسفر الملوك الأول
في سفر الملوك الأول لدينا قسمان متمايزان في المضمون وفي الأسلوب، يشمل القسم الأول الإصحاحات من ١ إلى ١١، ويتضمن أخبار الملك سليمان، أما القسم الثاني فيمتد حتى نهاية السفر، ويتضمن أخبار ملوك إسرائيل ويهوذا بعد انقسام المملكة الموحدة. يسود في القسم الأول أسلوب الجمع التراثي، الذي يستمد مادته من ذاكرة شعبية مشوشة تمتح من مصادر متنوعة، وفترات تاريخية متباعدة. أما القسم الثاني فقد تمت معالجته وصياغته بأسلوب جديد سوف يستمر إلى سفر الملوك الثاني، الذي يغطي بقية أخبار المملكتين وصولًا إلى السبي البابلي. ورغم أن هذا الأسلوب الجديد لم يتخلَّ تمامًا عن أسلوب الجمع التراثي، إلا أنه أضاف إليه طريقة في السرد الإخباري تقترب من الكتابة التاريخية، وإن لم ترقَ إليها تمامًا. ويبدو أن المحررين هنا قد أخذوا بالاعتماد على بعض المصادر الكتابية القريبة إلى عصر تدوين الأسفار التوراتية، بينها ثَبَتُ ملوك يهوذا، وثَبَتُ ملوك إسرائيل، التي يُشار إليها في النص بأخبار الأيام لملوك يهوذا، وأخبار الأيام لملوك إسرائيل. ولسوف نرى عبر فصول القسم الثاني من دراستنا أن هذه المصادر، في حال وجودها، لا تتمتع بقدر كافٍ من المصداقية التاريخية. فإذا أضفنا إلى نقص المصداقية التاريخية في مصادر المحرر استمراره في رؤية الأحداث وترتيبها من خلال المنظور الأيديولوجي لعملية التحرير برمتها، وما ينجم عن ذلك من انتقائية وهوًى في اختيار الأحداث؛ لرأينا أن الاختلاف في الأسلوب لم يحمل اختلافًا في الرسالة والمضمون، ذلك أن المحرر التوراتي قد بقي أمينًا للهدف الرئيسي من تدوين الأسفار التوراتية وهو: تجذير الأصول. فابتداءً من منتصف سفر الملوك الأول تنتهي المرحلة الأولى من عملية تجذير الأصول، والتي أسست من خلالها لمفهوم «كل إسرائيل»، وتبدأ المرحلة الثانية، وهي التأسيس لأصول مملكتَي إسرائيل ويهوذا، وأصول دمار هاتين المملكتين. إن همَّ المحرر التوراتي في فترة التدوين كان التأمل في مسألة خراب المملكة، وفي أسبابه، وفي الأحداث التي قادت إلى ذلك الخراب. إلا أنه قد بقي أمينًا أيضًا لرؤيته الأيديولوجية، ينأى بنفسه عن تلمُّس الأسباب التاريخية الحقيقية الفاعلة في عملية التدهور والدمار، مُركزًا على المسألة اللاهوتية وعلى علاقة الرب بشعبه كمحرك رئيسي في صيرورة التاريخ. وسيكون علينا أن ننتظر إلى القرن الثاني قبل الميلاد، وهي فترة تدوين أسفار المكابيين، لكي نتلمَّس تغييرًا جذريًّا في أسلوب النص التوراتي، واكتسابه لأول مرة شكل الكتابة التاريخية ومضمونها. ذلك أن أسفار المكابيين قد دُونت باللغة اليونانية، ومحرروها متأثرون بالثقافة اليونانية، التي عرفت جنس الكتابة التاريخية وبرعت فيه.
ورغم أن مملكة سليمان لم يكن لها مرفأ بحري على شاطئ المتوسط، الذي تقاسمه الفينيقيون والفلسطينيون، فقد جعل محرر السفر لسليمان سفنًا تمخر عباب البحر إلى جانب سفن حيرام ملك صور، وتأتي إليه بأكداس الذهب من المدن البعيدة، حتى صارت الفضة بلا قيمة وتكدست في شوارع أورشليم مثل الحجارة. وكان وزن الذهب الذي أتى لسليمان في سنة واحدة ستمائة وستًّا وستين وزنة. ومثل هذا الذهب لم يتوفر في سنة واحدة لنينوى عاصمة آشور في قمة عصرها الإمبراطوري، ولا لطيبة تحوتمس الثالث، ولا لروما يوليوس قيصر. ونحن هنا لم نأخذ بالحسبان أكداس الذهب التي استخدمت لطلي جدران الهيكل من الداخل، ولصنع المذبح والآنية الطقسية وغيرها: «وعمل سليمان جميع آنية بيت الرب؛ المذبح من ذهب، والمائدة التي عليها خبز الوجوه من ذهب، والطسوس والمقاصُّ والمناضح والصحون والمجامر من ذهب خالص، والوصل لمصاريع البيت الداخلي، أي: لقدس الأقداس، ولأبواب البيت، أي: الهيكل، من ذهب …» (٧: ٤٨–٥٠). ولكن هذه الأكداس المكدسة من الذهب تُستخدم لصناعة كل شيء تقريبًا؛ تبدو صورةً متواضعة إذا عرفنا أن الحجارة الكريمة كانت تُستخدم منشورة فتصنع منها حجارة للأساسات وللجدران: «وأمر الملك أن يقلعوا حجارةً كبيرة، حجارةً كريمة لتأسيس البيت، حجارة مربعة» (٥: ١٧). وأيضًا: «وعمل بيتًا لابنة فرعون التي أخذها سليمان، كهذا الرواق. كل هذه من حجارة كريمة كقياس الحجارة المنحوتة، منشورة بمنشار من داخل ومن خارج، من الأساس إلى الإفريز، وكان مؤسسًا على حجارة كريمة، حجارة عظيمة، حجارة عشر أذرع، وحجارة ثماني أذرع» (٧: ١٠–١١).
إن المحرر التوراتي، الذي يقدم لنا هذه الصور التي لم تحلم بمثلها ألف ليلة وليلة، هو الذي يقول لنا بعد ذلك إن الملك سليمان هو الذي بنى تدمر في البرية! والمؤرخون التوراتيون يطلبون منا أن نصدق ذلك.
وفي قصة زواج الملك سليمان من ابنة الفرعون يقع المحرر في تناقض يُظهر الطابع الخيالي لنفوذ سليمان الداخلي والخارجي. فقد صعد فرعون مصر المجهول الاسم على فلسطين، وأخذ مدينة جازر الكنعانية وأعطاها مهرًا لابنته التي زوَّجها من سليمان. فإذا علمنا أن مدينة جازر هذه لا تبعد عن أورشليم أكثر من بضع عشرات من الكيلومترات، لعرفنا مدى النفوذ الفعلي للملك سليمان، الذي وصلت سلطته إلى الفرات وكان عاجزًا عن ضم مدينة كنعانية قوية لا تبعد إلا رمية حجر عن عاصمته.
النقد التاريخي والأركيولوجي لأخبار المملكة الموحدة
فإذا أضفنا إلى ذلك أن النصوص الآشورية — التي أعطتنا معلومات تفصيلية عن الدول المهمة التي قامت في بلاد الشام خلال القرن العاشر — قد تجاهلت أيضًا قيام مملكة قوية في فلسطين وصلت مناطق نفوذها إلى الفرات، وتجاهلت وجود ملك عليها طبقت شهرته الآفاق اسمه سليمان، يأتي إليه ملوك الأرض لتقديم الطاعة والولاء والاستماع إلى حكمته؛ لتوصلنا إلى نتيجة واحدة، فإما أن التاريخ قد أحبك مؤامرة صمت مقصودة، وإما أن هذه المملكة الموحدة لم تقم لها قائمة إلا في خيال المحرر التوراتي. والكلمة الفصل في ذلك ستكون لعلم الآثار. فماذا يقول علم الآثار في مسألة المملكة الموحدة لكل إسرائيل، من بعد قرن كامل على بداية عملية التنقيب في فلسطين، وخصوصًا في موقع أورشليم، مفتاحنا إلى اللغز؟
عندما بدأت التنقيبات الأثرية في أورشليم توجه المنقبون إلى مدينة القدس بموقعها الحالي يبحثون عن حدود أورشليم القديمة. ثم تبين بعد ذلك أن المدينة اليبوسية تقع بكاملها إلى الجنوب من المدينة الحالية على الجزء الجنوبي من سلسلة تلال القدس الشرقية، التي يشغل جزؤها الأوسط الحرم الشريف، ويدخل جزؤها الشمالي ضمن الحدود التقليدية لمدينة القدس. وقد راوحت عمليات التنقيب في مكانها زمنًا طويلًا، إلى أن باشرت حملة المنقبة البريطانية السيدة كاثلين كينيون أعمالها في مطلع ستينيات القرن العشرين، وكشفت عن كل ما يمكن الكشف عنه في موقع أورشليم العصور القديمة وموقع الهيكل.
أما فيما يتعلق بموقع هيكل سليمان، فقبل الدخول في التفاصيل الأركيولوجية، يستحسن إعطاء القارئ لمحة عن تاريخ هذا الهيكل. فمن المفترض أن الملك سليمان قد بنى الهيكل حوالي منتصف القرن العاشر قبل الميلاد، خارج أسوار أورشليم في حقل أرنان اليبوسي الذي أقام فيه داود مذبحًا للرب (راجع آخر قصة من قصص داود في عرضنا السابق). ومن المفترض أن هذا الهيكل قد استمر قائمًا إلى أن تم تدميره مع بقية المدينة على يد البابليين عام ٥٨٧ق.م. بعد استيلاء قورش الفارسي على بابل وممتلكاتها جميعها، سمح هذا الملك بعودة الجماعات التي تم سبيها خلال العصر الآشوري والبابلي الجديد إلى مواطنها، وبينهم أولئك المسبيون من أورشليم عقب حملة نبوخذ نصَّر عليها، فعاد مسبيُّو أورشليم على عدة دفعات. وقد قاد الدفعة الثانية من العائدين المدعو زَرُبابل الذي عيَّنه الفرس واليًا على المدينة. وتقول الرواية التوراتية في سفر عزرا بأن زَرُبابل هذا هو الذي أعاد بناء هيكل سليمان المُهدَّم في أورشليم (حوالي عام ٥٢٠ق.م.) وقد دُعي هذا الهيكل الجديد بهيكل زَرُبابل أو بالهيكل الثاني، وبقي قائمًا إلى العصر الروماني. وعندما عيَّن الرومان المدعو هيرود ملكًا على أورشليم ومنطقة اليهودية في عام ٣٧ق.م. قام بتوسيع هيكل زَرُبابل والإضافة إليه حتى بلغت مساحته ضعف المساحة الأصلية. بقي هيكل هيرود قائمًا قرابة قرن من الزمان، ثم تم تدميره على يد الرومان مع بقية المدينة عام ٧٠ ميلادية، وبقي موقعه خرابًا إلى أن تم بناء المسجد الأقصى في مكانه في القرن السابع الميلادي. وقد استخدم المعماري الأموي أساسات سور هيرود نفسها لرفع سور المسجد الأقصى، كما استخدم الأرضيات القديمة فأقام عليها منشآت المسجد.


-
(١)
لقد سبقت عملية استيطان الهضاب المركزية عميلة استيطان مرتفعات يهوذا بنحو قرنين من الزمان. كما سبق قيام الدولة في الشمال قيامها في الجنوب بالمدة نفسها تقريبًا.
-
(٢)
إن القاعدة السكانية والاقتصادية لقيام مملكة في الهضاب المركزية لم تتوفر قبل استهلال القرن التاسع وبناء مدينة السامرة.
-
(٣)
إن القاعدة السكانية والاقتصادية لقيام مملكةٍ في مرتفعات يهوذا بقيادة أورشليم لم تتوفر قبل أواخر القرن الثامن قبل الميلاد.
-
(٤)
وهذا يعني أن منطقة إسرائيل قد تحولت إلى دولةٍ إقليمية قوية قبل قرنين تقريبًا من توفر الشروط الملائمة لقيام مملكةٍ إقليمية قوية في منطقة يهوذا، ولا يوجد قاعدة مشتركة جمعت بين المنطقتين فيما يدعى المملكة الموحدة لكل إسرائيل خلال القرن العاشر قبل الميلاد.٢٠

(٤) نتيجة ومنعطف جديد
لقد تتبعنا في القسم الأول من دراستنا هذه الرواية التوراتية حول أصول إسرائيل، وقمنا بإجراء المقارنة بين الخبر التوراتي والمعلومات التاريخية والأركيولوجية المؤكدة، وذلك عند كل مرحلةٍ من مراحل القصة التوراتية وصولًا إلى موت الملك سليمان وانقسام المملكة الموحدة. ولكننا لم نعثر على أثرٍ لإسرائيل التوراتية، ولم يتقاطع الخبر التوراتي خلال ألف عام، وفي أية نقطةٍ من مسار القصة مع تاريخ وأركيولوجيا فلسطين والشرق الأدنى القديم. والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: هل هناك إسرائيل تاريخية يمكن إحلالها محل إسرائيل التوراتية؟ وما هي الصورة التاريخية لإسرائيل وللمسرح الفلسطيني خلال عصر الحديد، الذي شهد مولد دولتَي إسرائيل ويهوذا.
Paolo Matthiae, Ebla, Hodder and Stoughton, London, 1980, pp. 15–21.
James Pritchard, Ancient Near Eastern Texts, pp. 263-264.
Th. L. Thompson, Early History of the Israelite People, pp. 282–289.