إمبراطورية دمشق والعلاقات الآرامية الفلسطينية
(١) دمشق وإسرائيل: حروب وتحالفات
بعد الخبر التوراتي عن وفاة الملك سليمان، تنتهي الفترة ما قبل التاريخية في الرواية التوراتية، ويدخل الحدث التوراتي فيما يشبه التاريخ. ولكي يلتقط القارئ خيط الأحداث الذي تركناه في القسم الأول من هذا الكتاب، نعود للتذكير بسرعة بالأخبار التي أوردها النص التوراتي في القسم الثاني من سفر الملوك الأول، وذلك بين وفاة الملك سليمان وأول شخصية إسرائيلية موثقة تاريخيًّا، وهي شخصية الملك عُمري مؤسس مملكة إسرائيل، وباني مدينة السامرة، وابنه آخاب من بعده. فلقد مَلَك يربعام على إسرائيل وتبعته القبائل الإسرائيلية جميعها، أما رحبعام ابن الملك سليمان فقد مَلَك على يهوذا ولم يتبعه سوى سبط بنيامين، إضافةً إلى يهوذا نفسها، ثم دخلت المملكتان في صراعٍ دائم. ولكي يكرِّس ملك إسرائيل استقلاله التام عن أورشليم كان لا بد من تكريس الاستقلال الديني، فبنى للإسرائيليين معبدين؛ واحدًا في دان، والآخر في بيت إيل، أي في شمال منطقة إسرائيل وجنوبها، ووضع في كل منهما صورةً للعجل الذهبي رمز آلهة كنعان. وهذه أسماء ملوك إسرائيل ويهوذا وسنوات حكمهم، وذلك بين وفاة سليمان وقيام أسرة عُمري التاريخية، إذا أخذنا العام ٩٣١ق.م. تاريخًا لوفاة سليمان، وأخذنا بعين الاعتبار فترات التداخل بين حكم الأب وابنه، حيث جرت العادة في الرواية التوراتية أن يتنازل الملك الأب عن قسمٍ كبير لخليفته على العرش في زمن شيخوخته.
ملوك إسرائيل-السامرة | ملوك يهوذا | ||
---|---|---|---|
يربعام | ٩٣١–٩١٠ق.م. | رحبعام | ٩٣١–٩١٣ق.م. |
— | أبيام | ٩١٣–٩١١ | |
— | آسا | ٩١١–٨٦٩ | |
ناداب | ٩١٠–٩٠٩ | — | |
بُعشا | ٩٠٩–٨٨٦ | — | |
إيله | ٨٨٦–٨٨٥ | — | |
زمري | ٨٨٥ | ||
عُمري | ٨٨٥–٨٧٤ | يهوشافاط | ٨٧٢–٨٤٨ |
آخاب | ٨٧٤–٨٥٣ | — |
في عهد آسا حفيد رحبعام، الذي مَلَك على يهوذا بعد أبيه أبيا (أبيام) بن رحبعام، توفي يربعام الملك الأول لإسرائيل في الرواية التوراتية، ومَلَك محله ابنه ناداب الذي قُتل بعد سنتين فقط من حكمه، إثر انقلابٍ داخلي قاده بُعشا، الذي أنهى أسرة يربعام ونصب نفسه ملكًا. ودخل بُعشا ملك إسرائيل مع آسا ملك يهوذا في حربٍ طويلة أنهكت الطرفين. وعندما شعر آسا بالضعف أمام إسرائيل استنجد بملك دمشق، الذي يدعوه النص التوراتي هنا «بنهدد بن طبريمون بن حزيون». وهذا هو ثاني ملكٍ على دمشق يرد ذكره في التوراة بعد رزون بن ألِيداع من عهد سليمان، الذي استقل عن سيده هدد عزر ملك صوبة، وجاء دمشق فمَلَك فيها. ويبدو من نص رسالة آسا ملك يهوذا إلى بنهدد بن طبريمون ملك دمشق أن دمشق كانت قد أعطت الأمان لكلا الدولتين بعدم الاعتداء عليهما. نقرأ في سفر الملوك الأول (١٥: ١٨–١٩): «وأخذ آسا الفضة والذهب الباقية في خزائن بيت الرب وخزائن بيت الملك جميعها، ودفعها ليد عبيده وأرسلهم إلى بنهدد بن طبريمون بن حزيون، ملك آرام الساكن في دمشق قائلًا: إن بيني وبينك، وبين أبي وأبيك عهدًا. هو ذا قد أرسلت لك هديةً من فضةٍ وذهب، فتعالَ انقض عهدك مع بُعشا، فيصعد عني …» وقد نقض ملك دمشق عهده مع إسرائيل على ما يرويه سفر الملوك الأول، وهاجم أراضي الملك بُعشا، وضرب المدن والقرى الواقعة في المناطق الشمالية من إسرائيل جميعها، ثم قفل راجعًا إلى بلاده.
لقد أوضحنا في الفصول السابقة أن مملكة إسرائيل (السامرة) لم تظهر إلى الوجود إلا في سياق النصف الأول من القرن التاسع قبل الميلاد، بينما لم تتشكل مملكة يهوذا تحت قيادة أورشليم إلا في سياق النصف الثاني من القرن الثامن قبل الميلاد. من هنا، فإن الأحداث التي يرويها النصان نفسهما من سفر الملوك ١١ و١٥ لا تعدو أن تكون أخبارًا غامضة متواترة عن حملاتٍ تأديبية كان يقوم من خلالها ملوك دمشق بتأديب بعض الجماعات الرعوية أو المستقرة، أو بعض أمراء أورشليم الصغار ممن كانوا يهددون أمن القوافل التجارية. أما عن أسماء ملوك دمشق الواردة في النصين المذكورين فلا يمكن الجزم بشأنها، رغم بقاء الاحتمالات مفتوحة على صحة الأخبار المتواترة بشأنها. فمما لا شك فيه أن الآراميين قد وطَّدوا سلطانهم في دمشق في سياق القرن العاشر قبل الميلاد، وأنهم قد أسسوا سلالتهم الملكية الأولى فيها في وقتٍ ما من النصف الثاني للقرن العاشر قبل الميلاد. ولكن المعلومات الموثقة تنقصنا من أجل توكيد أو نفي الرواية التوراتية المتعلقة بأسماء هؤلاء الملوك.
لقد توافق صعود مملكة دمشق في القرن العاشر مع الأوضاع الاقتصادية المؤاتية التي سادت المنطقة بعد انحسار موجة الجفاف في مناطق شرقي المتوسط، فقد انتعشت الزراعة، وتوسعت من جديد الزراعات المتوسطية التقليدية، وزاد إنتاج سلع التبادل النقدي على حساب زراعة الكفاف والاكتفاء الذاتي، فنشطت التجارة، وعادت الحياة إلى الطرق التجارية المحلية والدولية، وازدهرت المحطات التجارية التي كانت مهجورةً لأكثر من ثلاثة قرون على طول هذه الطرق. وقد ترافق هذا الانتعاش الشامل في بلاد الشام مع ضعف مصر السياسي وانكفائها داخل حدودها التقليدية، الأمر الذي سمح للدويلات السورية بحُرية الحركة، وقامت الممالك الآرامية في كل مكانٍ تقريبًا كمعادلٍ وندٍّ للقوة الآشورية المتعاظمة. ورغم أن آشور كانت تضغط باستمرار على الممالك الآرامية في حوض الخابور والفرات، إلا أن حملاتها العسكرية خلال القرن العاشر ومطلع القرن التاسع قبل الميلاد كانت ذات طابعٍ استعراضي، وتهدف إلى المكاسب الآنيَّة وتحصيل الأتاوَى، من دون اللجوء إلى ضم الأراضي والحكم المباشر، وهذا ما أعطى الممالك الآرامية مزيدًا من الوقت لمتابعة بناء نفسها. أما في وسط وجنوب سوريا فقد تأخر الضغط الآشوري على هذه المناطق مدة قرنٍ ونصف عنه في المناطق الشرقية والشمالية، وهذا ما ساعد، بشكلٍ خاص، مملكة دمشق على بناء قوةٍ عسكرية واقتصادية كبيرة.
لقد تحكَّمت دمشق بطريقين تجاريين دوليين على جانبٍ كبير من الأهمية الحيوية؛ الطريق الأول هو الطريق الساحلي المعروف تاريخيًّا بطريق البحر، ويصعد من مصر فغزة على طول الساحل الفلسطيني، ثم ينعطف نحو الداخل عبر وادي يزرعيل. والثاني هو الطريق الصحراوي الصاعد من جزيرة العرب التي كانت تتاجر مع أفريقيا والهند، إلى شرقي الأردن فدمشق، والمعروف تاريخيًّا بطريق الملوك. وهناك طريقٌ ثالث أقل أهمية يصعد من النقب إلى حبرون فأورشليم، ثم يقطع إسرائيل وصولًا إلى دمشق. ومن دمشق، التي كانت تلتقي عندها القوافل المتعددة المصدر، كان يصعد طريقان دوليان للتجارة؛ واحدةٌ باتجاه وادي الرافدين عبر تدمر والبادية السورية، والثاني باتجاه الأناضول عبر حماة فحلب. من هنا، فقد عملت دمشق بدأب على بسط نفوذها على الدويلات والإمارات الصغيرة التي تمر بها خطوط التجارة هذه. ولكنها لم تمارس على ما يبدو سياسة الحكم المباشر للأراضي الواقعة خارج منطقتها التقليدية التي لم تكن واسعة جدًّا، بل اكتفت بعلاقات تعاونٍ وحسن جوار وأحلافٍ عسكرية كانت تلتئم حول دمشق كلما دعت الحاجة، وتنحلُّ فور انتهاء حاجة إليها، وذلك من خلال نظامٍ إقليمي فرضته على ممالك غربي الفرات جميعها. ولم تكن تتردد في تأديب أية مملكةٍ تخرج على القرار السياسي الدمشقي، كما سنوضح ذلك بالتفصيل بعد قليل.
أما عن الحدود التقليدية لمملكة دمشق، فيبدو أنها كانت متطابقة مع حدود إقليم أوبي في عصر البرونز الأخير؛ فإلى الشمال جاورتها مملكة حماة التي ارتبطت معها بعلاقاتٍ متينة، وإلى الجنوب توقف تخمها عند الحدود السفلى للجولان، وإلى الغرب يُرجَّح أنها قد حكمت البقاع بشكلٍ مباشر. وفيما عدا ذلك، كانت تبسط سيطرةً غير مباشرة على الممالك الصغيرة الناشئة حديثًا في شرقي الأردن، مثل عمون وموآب وآدوم، وفي فلسطين كانت تبسط سيطرةً غير مباشرة أيضًا على إسرائيل التي كانت في طور التشكُّل وعلى إمارة أورشليم. وإضافةً إلى ذلك، فإن دمشق كانت تكسب أيضًا ولاء القبائل العربية المتجولة في شمال الجزيرة العربية والبادية السورية، وكانت هذه القبائل تقدم العون الحربي لأحلاف دمشق العسكرية الموجهة ضد آشور.
وفيما يتعلق بإسرائيل، فقد قادت هذه الأوضاع الاقتصادية الجديدة إلى تسريع إيقاع الاستيطان فيها، فزاد عدد السكان، وزاد إنتاج محاصيل وصناعات التبادل النقدي، فصارت الزيوت واللحوم والخمور والأخشاب تُدفع للمتاجرة بها مع فينيقيا ودمشق والبقاع على طرق التجارة التي استأنفت نشاطها. كما لجأ السكان هنا إلى استصلاح المنحدرات الهضبية وتجهيز المصاطب من أجل البستنة وزراعة الأشجار المثمرة. وأما عن مصادر سكان إسرائيل الجدد، فقد ورد إلى الهضاب المركزية، كما أوضحنا سابقًا، عددٌ من الجماعات المختلفة المنشأ؛ فمنهم فريقٌ من السكان المُقتلَعين سابقًا من المناطق الزراعية السهلية، وفريقٌ من الرعاة المحليين، وفريقٌ من الرعاة القادمين من السهوب المجاورة للهضاب المركزية إلى الشرق والجنوب، إضافةً إلى الشريحة الضئيلة الباقية في الهضاب منذ عصر البرونز الأخير. ولا شك أيضًا في أن الهضاب قد استوعبت بعض الجماعات المتبقية من شعوب البحر التي ذابت في محيطها السوري الجنوبي. وقد أخذ هؤلاء المستوطنون بالتقارب والتلاحم وتكوين إثنيةٍ خاصةٍ بهم، توضَّحت مع بدايات القرن التاسع قبل الميلاد. وفي هذا السياق تم بناء مدينة السامرة كعاصمةٍ لإقليمٍ يتجه نحو المركزية سعيًا وراء تنظيم شئونه السياسية والاقتصادية التي دخلت طور النضج. ذلك أن البُنى السياسية والاقتصادية البدائية السائدة لم تعد صالحةً للتصرف بالأوضاع الجديدة، وتصريف المنتجات المحلية صار بحاجةٍ إلى إدارةٍ مركزية قادرة على ربط شبكة التجارة المحلية المتواضعة بشبكة التجارة الدولية. وهكذا، ومع بناء مدينة السامرة وقيام الأسرة الملكية الأولى فيها، دخلت إسرائيل لأول مرة عالم السياسة الدولية، ووجدت نفسها وجهًا لوجه أمام مدينة صور الفينيقية؛ بوابة التجارة البحرية، وأمام مملكة دمشق الآرامية؛ بوابة التجارة البرية نحو العالم المتحضِّر في ذلك الوقت.
يروي سفر الملوك الأول أن الملك عُمري قد حكم أولًا في بلدة ترصة، التي كانت عاصمته لمدة ست سنوات، ثم بنى عاصمةً جديدة له أسماها السامرة وانتقل إليها: «في السنة الحادية والثلاثين لآسا ملك يهوذا، مَلَك عُمري على إسرائيل اثنتي عشرة سنة. مَلَك في ترصة ست سنين، واشترى جبل السامرة من شامر بوَزْنَتَين من الفضة وبنى على الجبل، ودعا اسم المدينة التي بناها باسم شامر صاحب جبل السامرة» (الملوك الأول، ٢٣: ١٦–٢٤). وفي الحقيقة، فإن معلوماتنا التاريخية والأركيولوجية تؤيد واقعة بناء السامرة على يد الملك عُمري، كما تؤيد قيام مملكة السامرة مع مطلع القرن التاسع قبل الميلاد. إن أسرة عُمري ذات أساسٍ تاريخي لا لَبْس فيه، إلا أننا لا نملك أي أساسٍ تاريخي لعقد الصلة بين هذه الأسرة الملكية الأولى في إسرائيل وأولئك الملوك المفترضين للمملكة الموحدة، أو التحدث عن إسرائيل التاريخية هذه كفرعٍ من تلك المملكة التي أثبتنا بالدليل القاطع عدم قيامها.
ومن ناحيةٍ أخرى، فإن الانتماء الثقافي السامري إلى فينيقيا يبدو واضحًا من قصة زواج الملك آخاب بن عُمري من ابنة الملك الفينيقي أثبعل ملك الصيدونيين، على ما يرويه سفر الملوك الأول (١٦: ٢٩–٣١): «ومَلَك آخاب بن عُمري على إسرائيل في السامرة اثنتين وعشرين سنة. وعمل آخاب بن عُمري الشر في عينَي الرب أكثر من الذين قبله جميعهم … حتى اتخذ إيزابيل ابنة أثبعل ملك الصيدونيين امرأةً، وسار وعبدَ البعل وسجد له. وأقام مذبحًا للبعل في بيت البعل الذي بناه في السامرة.» ولدينا قصة مشهورة في الأدب التوراتي عن النبي إيليا وما جرى بينه وبين أنبياء البعل الذين كانوا ينشطون تحت رعاية الملكة إيزابيل زوجة آخاب. فقد كان إيليا يدعو وحده لعبادة يهوه في إسرائيل، بينما بلغ عدد أنبياء البعل ٤٥٠ نبيًّا، وأنبياء عشيرة ٤٠٠ نبي، وهؤلاء جميعًا كانوا يأكلون ويشربون على مائدة الملكة. ولكي يثبت إيليا تفوق يهوه على بعل، دعا جميع أنبياء البعل إلى مجابهةٍ علنية أمام الشعب ليُظهر لهم من هو الإله الحق. فاجتمع الفريقان على قمة جبل الكرمل، وكان على كل فريقٍ أن يُقرِّب ثورًا فوق الحطب ثم يدعو إلهه دون أن يشعل نارًا، فالإله الحق هو الذي يجيب بناره التي تشعل الحطب ويأخذ القربان إليه. دعا أنبياء البعل أولًا إلههم ورقصوا وأنشدوا من الصباح إلى الظهر، ولكن إلههم لم يجبهم بشيء. وعندما جاء دور إيليا تقدم من قربانه ودعا ربه، فسقطت من السماء على الفور نارٌ أكلت المحرقة والحطب والحجارة والتراب من حولها. «فلما رأى الشعب ذلك سقطوا على وجوههم وقالوا: الرب هو الله، الرب هو الله. فقال لهم إيليا: أمسكوا أنبياء البعل ولا يفلت منهم رجل، فأمسكوهم فنزل بهم إيليا إلى نهر قيشون وذبحهم هناك» (الملوك الأول، ١٨: ١٩–٤٠).
تختلف رواية الملوك الثاني عن رواية ميشع بعددٍ من النقاط. ففي الرواية التوراتية تُفرض الجزية على موآب في عهد آخاب لا في عهد عُمري، ويعصي ميشع على إسرائيل في عهد يهورام بن آخاب لا في عهد آخاب، ويقوم ملك إسرائيل بمهاجمة ميشع بالتعاون مع ملك يهوذا وملك آدوم لا منفردًا، ويرتد المهاجمون الثلاثة عن مدينة ميشع بدافعٍ من حسِّهم الإنساني الراقي (كذا) لا بسبب هزيمتهم على يد ميشع. ونلاحظ بشكلٍ خاص عدم ذكر نقش ميشع لمملكة يهوذا، وهذا أمرٌ يتفق مع ما قدمناه سابقًا من عدم وجود مملكةٍ اسمها يهوذا خلال القرن التاسع قبل الميلاد. وفي هذه الاختلافات الشاسعة بين النصين وثيقةٌ فريدة عن كيفية تصرف المحرر التوراتي بالخبر التاريخي، وتوجيهه وَفق المنظور الأيديولوجي الموضوع مسبقًا.
إن ما نستنتجه من نص ميشع — وهو نصٌّ تاريخيٌّ لا غبار عليه، دُوِّن زمن الحادثة التي يخبرنا عنها — أن الملك عُمري بعد بنائه للسامرة كان مهتمًّا بالسيطرة على الطرق التجارية الدولية لتأمين اتصاله بالعالم الخارجي. لقد أمَّنت له المصاهرةُ مع أقوى ملوك فينيقيا، وزواجُ ابنه آخاب من ابنة ملك الصيدونيين؛ الوصولَ إلى الساحل السوري، وكان في الوقت نفسه مسيرطًا على شبكة التجارة المحلية، بما فيها الطريق الصاعد من النقب عبر أورشليم. وبقي أمامه طريق الملوك الدولي الذي يعبر شرقي الأردن باتجاه دمشق. وبما أنَّ المشيخات القبلية في شرقي الأردن قد أخذت بالتحوِّل إلى ممالكَ صغيرةٍ وقوية يُعتد بها، فإن إرضاءها الآن صار يتطلب أكثر من دفع القليل لها أو التلويح بالعصا الغليظة، من هنا كان لا بد من التواجد العسكري الدائم في تلك المناطق من أجل حماية طرق القوافل. وبما أن الملك عُمري، وابنه آخاب من بعده، كان تابعًا اسميًّا لملك دمشق ويدخل معه في معاهدة دفاع مشترك، كما سنرى بعد قليل، فإن من المرجَّح أن تكون دمشق هي التي أطلقت يد أسرة عُمري في شرقي الأردن من أجل الحفاظ على المصالح الحيوية للطرفين، ولتخفيف الأعباء عن دمشق، التي كانت تستعد في ذلك الوقت للمواجهة العسكرية الكبرى مع آشور.
وكان على عرش دمشق في ذلك الوقت، أي أواسط القرن التاسع قبل الميلاد، ملكٌ كبير، وشخصيةٌ عسكرية وسياسية فذة، اسمه هدد عدر، وهو أول ملكٍ آرامي دمشقي موثَّق تاريخيًّا. وَلِي هدد عدر عرش دمشق خلال الفترة التي ابتدأ فيها المد العسكري الآشوري المنظم والمتواصل على مناطق غربي الفرات، بعد أن تم إخضاع أو الحصول على ولاء الدويلات الآرامية على الفرات والخابور. وقد افتتح الملك الآشوري شلمنصَّر الثالث (٨٥٨–٨٢٤ق.م.) هذا العهد الجديد من الصراع الآشوري الآرامي، والذي دام نحو قرنين من الزمان، بحملته المعروفة باسم حملة قرقرة. فتصدى له هدد عدر ملك دمشق، وجمع تحت لوائه اثني عشر ملكًا من ملوك الدويلات السورية اتحدت في جيشٍ واحد، وسار للقاء شلمنصَّر الثالث عند قرقرة على نهر العاصي إلى الشمال من مدينة حماة عام ٨٥٤ق.م. ولدينا نصٌّ طويل ومفصَّل تركه شلمنصَّر الثالث معروفٌ باسم نص المسلة السوداء، يصف الحملة ونتائجها من وجهة النظر الآشورية، وهذه ترجمته:
«… غادرت نينوى، فعبرت نهر دجلة، وتقدمت إلى مدن الملك غيامو على نهر بليخ، فتملكهم الخوف من هيبتي ومن أسلحتي الفتاكة، فقتلوا سيدهم غيامو بأسلحتهم (يلي ذلك تعدادٌ لأصناف الإتاوة التي أخذها من المدن المغلوبة). من سحلالا توجهت إلى كار شلمنصَّر (= برسيب) وعبرت الفرات في ذروة فيضانه على أطوافٍ من جلد الماعز. وفي المدينة التي يدعونها أهل حطيئة بترو، على الجهة الأخرى للفرات عند نهر الساجور، تلقيت الجزية من ملوك الجهة الأخرى للفرات؛ من سنغارا ملك كركميش، ومن كوندا شبي ملك كوماجين، ومن آرام ملك جوشي (تعداد لأصناف الأتاوَى النقدية والعينية المدفوعة). ثم غادرت الفرات نحو حلب التي خاف أهلها وخروا عند قدمي. فتلقيت منهم فضةً وذهبًا جزيةً، وقدمت قربانًا إلى هدد إله حلب. من حلب توجهت إلى مدن إرخوليني ملك حماة، فتحت مدينة أدينو وبرغا، ومقره الملكي في أرغانا، وأضرمت النار في قصره. غادرت أرغانا وأتيت إلى قرقرة فدمرتها وأحرقتها.

نلاحظ من دراسة التنظيم القتالي للحلفاء أن مملكة دمشق قد قدمت القوة الضاربة الرئيسية، تليها مملكة السامرة فمملكة حماة. ويبدو أن توزيع القوات المقدمة من قبل الحلفاء كان مدروسًا ومخططًا بعنايةٍ، وبما يتلاءم والإمكاناتِ المادية لكل دولة. فبينما تفوَّق هدد عدر على آخاب بالعدد الهائل من الفرسان والمشاة الذين قدمهم، فإن آخاب قد تفوَّق على الجميع بعدد المركبات العسكرية التي بلغت الألفي مركبة. كما يمكن أن نلاحظ من الخارطة، التي رسمتها للمعركة على الصفحة التالية، أن الدويلات الحليفة لدمشق تتوضع على خط التجارة الدولي الصاعد من الجزيرة العربية عبر شرقي الأردن نحو الأناضول. وأن بعضها، مثل أرواد وعرقاتا وسيانو (في منطقة جبلة) كانت تتحكم بالتجارة البحرية ومسالكها البرية نحو الداخل. وأغلب الظن أن ميناء أرواد كان الثغر الرئيسي الذي تعتمد عليه دمشق في تجارتها البحرية، نظرًا لاستقلال بقية المدن الفينيقية على الساحل اللبناني في سياستها الخارجية، وعدم تنسيقها مع مملكة دمشق. ويبدو هذا الاستقلال واضحًا في عدم مشاركة هذه المدن في معركة قرقرة، أو في المعارك التالية التي خاضها الحلف الدمشقي ضد آشور، ولا حتى بطريقةٍ رمزية كما فعل ملك أرواد، الذي واكب الحلفاء شخصيًّا ولكن بمائتي جنديٍّ فقط.
أما عن نتيجة معركة قرقرة، فرغم ادِّعاء الملك الآشوري الانتصار التام على الحلفاء، إلا أن مسار الأحداث اللاحق، الذي سنتابعه بعد قليل، يُظهر أن المعركة انتهت إلى إحدى نتيجتين؛ فإما تراجُع أحد الفريقين دون التوصل إلى حسمٍ كامل، وإما هزيمة الآشوريين وعودتهم إلى بلادهم من أجل التحضير لحملةٍ جديدة. ذلك أن جميع ملوك التحالف الدمشقي قد عادوا إلى عواصمهم، وكان على شلمنصَّر الثالث أن يعود لمواجهة التحالف نفسه في حملاته المؤرخة في أعوام ٨٤٩ و٨٤٨ و٨٤٦ و٨٤٥ق.م. إضافةً إلى أن نص المسلَّة السوداء لم يذكر شيئًا عن قتل أو أسر أي ملكٍ من ملوك التحالف، ولم ينتهِ بالصيغة المعروفة في السجلات الحربية الآشورية، التي تقول: «وجعلتهم يركعون تحت قدمي ويقدمون لي الجزية.» ولقد كان على آشور أن تنفق قرنًا آخر ونيفًا قبل أن تكون قادرةً على تحصيل الجزية من ملوك التحالف واحدًا إثر آخر.
رغم السلطة الواسعة التي تمتعت بها مملكة دمشق على مناطق غربي الفرات منذ أواسط القرن التاسع قبل الميلاد، ورغم بنائها لقوةٍ عسكرية جبارة وقيادتها للتحالف في كل معركة مع آشور، وتقديمها القسم الأكبر من القوات والمعدات اللازمة للمعركة، إلا أن دمشق لم تُشكِّل إمبراطورية سورية بالمفهوم الرافدي أو المصري، ولم تكن راغبةً في تشكيل مثل هذه الإمبراطورية. إن ما صنعته دمشق كان إمبراطوريةً اسميَّة غير معلنة، أو فلنقل نظامًا إقليميًّا سياسيًّا خاصًّا، يتفق مع المفهوم السوري للسلطة والحكم، ومع نظام دولة المدينة الذي كان سائدًا في بلاد الشام منذ عصورها المُغرِقة في القِدم، والذي لم يتحوَّل في يومٍ من الأيام إلى إمبراطورية كبرى. فلقد رأى السوريون في دولة المدينة النظام السياسي الأمثل، الذي يُطلق الإمكانات المبدعة للأفراد والجماعات، ويحافظ على مشاركةٍ أكثر فعاليةً بين السلطة والشعب، بالغًا ما بلغ من استئثار بعض الملوك بالسلطان وانفرادهم باتخاذ القرار، لأن السلطة في دولة المدينة تبقى قريبةً من الناس، قادرةً على التفاعل المباشر معهم، بعكس السلطة الإمبراطورية التي تفصلها عن الناس أسوار العاصمة وأسوار القصور الملكية وأسوار الهرمية البيروقراطية. ولقد قلَّد الأغارقةُ السوريين في نظامهم السياسي الذي اقتبسوه عن فينيقيا، وحافظوا على نظام دولة المدينة وتعبدوا له، فأعطَوْا من خلاله كل إنجازاتهم الثقافية.
قبل أن نغادر عصر هدد عدر، الذي أسس لنظامٍ إقليمي سوري استمر قرابة قرنٍ من الزمان، لا بد من التوقف عند الموضع المقابل في الرواية التوراتية، والتفتيش في أخبار الملك آخاب بن عُمري عن أثر هذه الأحداث الجسام التي كانت تجري على الساحة السورية.

إن الرواية التوراتية في سفر الملوك الأول بين الإصحاح ١٦ والإصحاح ٢٢، وهي الإصحاحات التي تتحدث عن حياة وأعمال الملك آخاب، تتجاهل تجاهلًا تامًّا الحروب الآشورية السورية، ولا يرد فيها ذِكر الملك شلمنصَّر الثالث أو ذكر هدد عدر ملك دمشق، وبالتالي فإنها لا تورد شيئًا عن دخول آخاب في حلف دمشق ولا عن مساهمته في معركة قرقرة. وتفاجئنا الرواية التوراتية هنا بأن ملك دمشق الذي عاصر آخاب ليس هدد عدر، بل ملكٌ آخر اسمه بنهدد، الذي يرد اسمه مجردًا دون نسب. من هنا فقد تعوَّد المؤرخون التقليديون على دعوة هذا الملك ببنهدد الثاني تمييزًا له عن بنهدد بن طبريمون بن حزيون، الذي هاجم بُعشا ملك إسرائيل بتحريضٍ من آسا ملك يهوذا، مما رأيناه في الإصحاح ١٥ من سفر الملوك الأول سابقًا وتحدثنا عنه. وفي مقابل الحروب الآشورية السورية وتحالف إسرائيل مع دمشق، فإن الرواية التوراتية تقصُّ عن حروبٍ طاحنة بين بنهدد ملك دمشق وآخاب ملك إسرائيل. نقرأ في الملوك ٢٠ ما يأتي:
«وجمع بنهدد ملك آرام كل جيشه، واثنين وثلاثين ملكًا معه، وخيلًا ومركبات، وصعد وحاصر السامرة وحاربها. وأرسل رسلًا إلى آخاب ملك إسرائيل وقال: هكذا يقول بنهدد: لي فضتك وذهبك ولي نساؤك الحسان. فأجاب ملك إسرائيل وقال: حسب قولك يا سيدي الملك، أنا وجميع مالي لك. فرجع الرسل (ثانيةً إلى ملك إسرائيل) وقالوا له: هكذا تكلم بنهدد قائلًا: إني قد أرسلت إليك قائلًا إن فضتك وذهبك ونساءك وبنيك تعطيني إياهم، فإني في نحو هذا الوقت غدًا أرسل عبيدي إليك فيفتشون بيتك وبيوت عبيدك، وكل ما هو شهيٌّ في عينيك يضعونه في أيديهم ويأخذونه. فدعا ملك إسرائيل شيوخ الأرض جميعهم وقال: اعلموا وانظروا. إن هذا يطلب الشر، لأنه أرسل إليَّ يطلب نسائي وبنيَّ وفضتي وذهبي، ولم أمنعها عنه. فقال له الشيوخ كلهم والشعب كله: لا تسمع له ولا تقبل …» فاصطف الآراميون على المدينة في اليوم التالي وشددوا الحصار، وإذا بنبيٍّ يتقدم إلى ملك إسرائيل ويخبره بأن الرب سيدفع آرام إلى يده لكي يعرف أنه هو الإله الحق. فخرج ملك إسرائيل بجنوده جميعًا، وعددهم سبعة آلاف، وفاجأ ملك آرام الذي كان يشرب ويسكر في الخيام هو والملوك الاثنان والثلاثون الذين معه. ولما جاءه خبر ظهور الإسرائيليين قال باستخفافٍ واضح: «إن كانوا خرجوا للسلام فأمسكوهم أحياء، وإن كانوا قد خرجوا للقتال فأمسكوهم أحياء.» ولكن ضربة ملك إسرائيل كانت عظيمة ومفاجئة، فهرب ملك آرام ومن معه، وعاد إلى بلده (الملوك الأول، ٢٠: ١–٢١).
وبعد مرور عامٍ كامل رجع ملك آرام إلى إسرائيل ومعه جيوش الملوك التابعين له، التي عيَّن عليها قوادًا من عنده لإحلال مزيدٍ من التنسيق القتالي تحت قيادة واحدة، واختار لأرض المعركة أرضًا سهلية لا هضبية، ليستطيع استخدام مركباته الحربية بكفاءةٍ أكثر، لأن هذه المركبات كانت عديمة الفائدة في المعركة الأولى التي خاضها في المناطق الهضبية حول السامرة. نقرأ في بقية الملوك الأول ٢٠ ما يأتي: «وعند تمام السنة، عدَّ بنهدد الآراميين وصعد إلى أفيق ليحارب إسرائيل. وأُحصي بنو إسرائيل وتزودوا وساروا للقائهم، فنزل بنو إسرائيل مقابلهم نظير قطيعين من المعزى، وأما الآراميون فملئوا الأرض. فتقدم رجل الله وكلم ملك إسرائيل وقال: هكذا قال الرب: من أجل أن الآراميين قالوا: إن الرب هو إله جبالٍ وليس إله أودية، أدفع هذا الجمهور العظيم ليدِك فتعلمون أني أنا الرب. فنزل هؤلاء مقابل أولئك سبعة أيام، وفي اليوم السابع اشتبكت الحرب، فضرب بنو إسرائيل من الآراميين مائة ألف راجل في يومٍ واحد، وهرب الباقون إلى أفيق إلى المدينة، وسقط السور على السبعة والعشرين ألفًا الباقين، وهرب بنهدد ودخل المدينة من مخدعٍ إلى مخدع.» ولما جدَّ أتباع ملك إسرائيل في البحث عنه أرسل أتباعه لاستعطاف ملك إسرائيل وطلب العفو منه، فأعطاه ملك إسرائيل الأمان فخرج إليه، فأصعده ملك إسرائيل إلى مركبته وأكرمه. وكان بين الملكين عهدٌ يرُدُّ بموجبه ملك دمشق المدن التي كان أبوه قد أخذها من أبي ملك إسرائيل، ويفتح أمام تجار السامرة أسواق دمشق، كما فتح الملك السابق لإسرائيل أسواق السامرة أمام تجار دمشق. وانطلق بنهدد راجعًا إلى بلده بعد قطع هذا العهد. ولكن الرب غضب على ملك إسرائيل لإطلاقه عدوه، وأرسل إليه نبيًّا قال له: «هكذا قال الرب: لأنك أفلتَّ من يدك رجلًا قد حرَّمته، تكون نفسك بدل نفسه، وشعبك بدل شعبه. فمضى ملك إسرائيل إلى بيته مكتئبًا مغمومًا، وجاء إلى السامرة» (الملوك الأول، ٢٠: ٢٦–٤٣).
وأقام آرام وإسرائيل ثلاث سنينَ بدون حرب، حافظ خلالها ملك دمشق على العهد الذي قطعه لملك إسرائيل. ولكن ملك إسرائيل بعد وفاقه مع ملك يهوذا المدعو يهوشافاط، هو الذي فكر بأن ينكث بعهده مع دمشق. فبينما كان ملك يهوذا في زيارةٍ ودية لملك إسرائيل، قال الملك لعبيده: «أتعلمون أن راموت جلعاد لنا ونحن ساكتون عن أخذها من يد ملك آرام؟ وقال ليهوشافاط: أتذهب معي للحرب إلى راموت جلعاد؟ فقال يهوشافاط لملك إسرائيل: مثلي مثلك، وشعبي كشعبك، وخيلي كخيلك …» فجمع ملك إسرائيل كل الأنبياء، نحو أربعمائة رجل، واستشارهم أيذهب للقتال أم لا. ولكن الرب ضلل هؤلاء الأنبياء ووضع على أفواههم مشورةً كاذبة، فقالوا للملك أن يذهب للقتال لأن الرب سيقف إلى جانبه، وأنه سيدفع إليه براموت جلعاد: «فصعد ملك إسرائيل ويهوشافاط ملك يهوذا إلى راموت جلعاد. فقال ملك إسرائيل ليهوشافاط: إني أتنكر وأدخل الحرب، وأما أنت فالبس ثيابك. فتنكر ملك إسرائيل ودخل الحرب. وأمر ملك آرام رؤساء المركبات التي له، الاثنين والثلاثين، وقال: لا تحاربوا كبيرًا ولا صغيرًا إلا ملك إسرائيل وحده. فلما رأى رؤساء المركبات يهوشافاط قالوا: إنه ملك إسرائيل، فمالوا عليه ليقاتلوه، فصرخ يهوشافاط. فلما رأى رؤساء المركبات أنه ليس ملك إسرائيل رجعوا عنه. وإن رجلًا نزع في قوسه غير متعمدٍ وضرب ملك إسرائيل بين أوصال الدرع، فقال لمدير مركبته: أخرجني من الجيش لأني قد جُرحت. واشتد القتال في ذلك اليوم، وأوقف الملك في مركبته أمام راموت جلعاد، ومات عند المساء، وجرى دم الجرح إلى حضن المركبة. وعبرت الرنَّة في الجند (أي جماعة المنادين) عند غروب الشمس قائلًا: كل رجل إلى مدينته، وكل رجلٍ إلى أرضه، فمات الملك وأُدخل السامرة …» (الملوك الأول، ٢٢: ١–٣٧).
والآن، ما هي علاقة هذه الصورة، التي تقدمها لنا الرواية التوراتية عن العلاقات بين دمشق والسامرة، بالصورة التاريخية التي قدمتها لنا النصوص الآشورية المعاصرة للأحداث؟
إضافةً إلى ما لاحظناه سابقًا من تجاهل الأحداث الجارية على الساحة السورية، خارج العلاقات الثنائية بين دمشق وإسرائيل، وعدم الإشارة إلى ملك دمشق بالاسم هدد عدر، بل بالاسم بنهدد، فإن الرواية التوراتية ترسم للملك آخاب صورةً مختلفة تمامًا عن صورته التاريخية. ففي رواية سفر الملوك الأول ٢٠ نجد آخاب ملكًا مستضعفًا قليل الحيلة والعُدة والجند والمركبات القتالية، على عكس ما رأيناه في النص الآشوري عندما قدَّم إلى حلف قرقرة ثاني قوةٍ ضاربة بعد دمشق. وهو بعد أن يعلن خضوعه لملك آرام يعود فيقوى عليه بمعونة الرب، الذي أراد أن يُظهر له ولأهل إسرائيل أنه الإله الحق، ويتغلب آخاب على بنهدد مرتين، ولكنه يخسر المعركة الثالثة ويخسر حياته أيضًا؛ لأن الرب قد غضب عليه لإطلاقه بنهدد في الوقت الذي توجب عليه فيه قتله. أما عن ملك آرام، فإنه رغم ظهوره في النص التوراتي رئيسًا لتحالف الملوك السوريين الذين يرتفع عددهم هنا إلى اثنين وثلاثين، يقف عاجزًا أمام الفئة القليلة الإسرائيلية، ولا يستطيع التغلب على ملك إسرائيل إلا بعد خذلان الرب له والتخلي عنه. فأي الصورتين هي الأقرب للحقيقة التاريخية؟ لماذا لم يظهر الجانب القوي في سيرة آخاب التوراتية، وهو الذي تُظهر لنا آثار مدينة السامرة وآثار مدنه الأخرى مدى قوته وغناه واتساع نفوذه؟ لماذا غيرت الرواية التوراتية اسم ملك دمشق، وما علاقة هدد عدر النصوص الآشورية ببنهدد النص التوراتي؟ لماذا لم تذكر الرواية التوراتية شيئًا عن حلف قرقرة ومشاركة آخاب في هذا الحلف؟
ونحن إذ نقف إلى جانب أصحاب الرأي الأخير فإننا نضيف إليه ما يلي: إن الأخبار التي ساقها المحرر التوراتي في الإصحاحين ٢٠ و٢٢ من سفر الملوك الأول، كانت تدور حول ملك مجهول الاسم لإسرائيل، وقد تم حشر اسم آخاب حشرًا في هذه الأخبار ثم نُسبت إليه. والسبب في ذلك عدم وجود أخبارٍ موثقة بين يدي المحرر عن تلك الفترة الحافلة من أواسط القرن التاسع قبل الميلاد، وعن تاريخ العلاقات الآشورية السورية، والآرامية الفلسطينية، خلال عصر آخاب. ولا أدَل على ذلك من جهلهم بوجود الملك الكبير هدد عدر المعاصر لآخاب، وبحروبه الخمسة ضد آشور، وبالنظام السياسي الإقليمي الذي فرضه وشمل إسرائيل من جملة ما شمل من الدويلات الآرامية والكنعانية. ويبدو أن محرري التوراة قد وصلهم عِلْم ملكٍ كبير في المنطقة اسمه هدد عدر، ولكنهم لم يستطيعوا وضعه في الإطار التاريخي والجغرافي الصحيح، فجعلوه ملكًا على صوبة في عصر الملك داود، وصنعوا منه خصمًا لداود تحت اسم هدد عزر. وبذلك نستطيع أن نفهم الأساس التاريخي لدعوى امتداد سلطة ملك صوبة إلى الفرات، والتي تستند أساسًا إلى الأخبار اللاحقة عن سلطة هدد عدر ملك دمشق. ولما بقي عرش دمشق شاغرًا (بالنسبة إليهم) في عهد الملك آخاب، جعلوا عليه ملكًا اسمه بنهدد، واستلهموا بعض الأخبار اللاحقة عن بنهدد بن حزائيل ملك دمشق فيما بعد، وصاغوا منها قصصًا ملأت تلك الفترة المجهولة لديهم تمامًا. وهذا التحليل الذي أقدمه هنا يُخرج البحث في هذه المسألة من الحلقة المفرغة التي دار بها حتى الآن، ويضعه على أرضيةٍ منطقية لا غبار عليها.
ويمكن أن نضيف إلى ما قدمناه أعلاه أن محرري التوراة، إلى جانب جهلهم بالأحداث الجارية من حول إسرائيل، وفي داخلها، في عهد آخاب، فإن اهتمامهم الرئيسي في النصف الثاني من سفر الملوك الأول الذي يتضمن أخبار أسرة عُمري كان مُنصبًّا على أخبار النبي إيليا والنبي أليشع من بعده، وتبشيرهما في مملكة السامرة والعجائب التي صنعاها. أي إن المحور الرئيسي للرواية هنا كان يدور حول فترةٍ من التاريخ الديني بالدرجة الأولى، أما الخبر التاريخي فكان ثانويًّا ويأتي في سياق أخبار هذا النبي أو ذاك كعنصرٍ مساعد في القصة الدينية التي تجري في جوٍّ ميثولوجي صِرف؛ فالنبي إيليا يعتزل عند نهر كريت حيث كانت الغربان تعوله وتأتي إليه بالطعام. وبعد أن جف النهر ذهب إلى بلدة صرفة وأقام في بيت امرأةٍ أرملة، وطيلة مدة إقامته عندها لم يفرغ من بيتها الدقيقُ والزيت حتى انتهت أيام الجفاف في الأرض، وعندما مات ابن الأرملة صلَّى إيليا فعادت الحياة إلى الصبي. وعندما أرسل الملك وراءه ضابطًا وخمسين رجلًا للقبض عليه أتت نارٌ من السماء والتهمتهم جميعًا. وعندما أراد عبور الأردن مع النبي أليشع ضرب الماء بردائه فانشق الماء ومشى النبيان على اليابسة. ثم جاءت بعد ذلك مركبةٌ ناريةٌ من السماء فحملت إيليا إلى السماء وترك رداءه خلفه لأليشع … إلخ. وفي خضم هذا الجو الميثولوجي فإن أي خبرٍ عن ملكٍ يمكن أن يُعزى لملكٍ آخر في سياق القصِّ الأسطوري الذي يجعل التاريخ آخر همٍّ من همومه.
وخلاصة الأمر، فإن الملك آخاب قد توفي عام ٨٥٣ق.م. أي بعد عامٍ واحد من معركة قرقرة التي كان فيها شريكًا لدمشق، ومن غير المحتمل على الإطلاق أن تكون المملكتان قد دخلتا في حربٍ ضَروس بينهما بعد قرقرة مباشرة، ولا يوجد في الواقع أي مبررٍ لهذه الحرب، لأن حلف دمشق قد بقي قائمًا بين المتحالفين أنفسهم حتى وفاة هدد عدر بعد عشر سنواتٍ تقريبًا من معركة قرقرة. ورغم أن إسرائيل لم تُذكر في النصوص الآشورية اللاحقة كعضوٍ في الحلف، إلا أن مسار الأحداث يشير إلى أنها بقيت على السياسة المرسومة من قِبل دمشق رغم عدم مشاركتها العسكرية. وكل هذا يعني أن النص التوراتي، إضافةً إلى عدم تقديمه معلوماتٍ موثوقة عن مملكة إسرائيل في عهد آخاب، فإنه لا يقدم لنا معلوماتٍ عن مملكة دمشق أيضًا خلال أواسط القرن التاسع قبل الميلاد، ويجب عدم اللجوء إليه في إعادة بناء تاريخ دمشق خلال هذه الحقبة.

يعطينا النص التوراتي في سفر الملوك الثاني قصته الخاصة عن اغتصاب حزائيل للسلطة في دمشق. وبما أننا قد أثبتنا فيما سبق أن محرري التوراة لم يكن لديهم معلومات عن عصر هدد عدر ونظيره في إسرائيل الملك آخاب، فإن قصتهم عن صعود حزائيل قد استمدوها من الأخبار التي تواترت إليهم من عصر حزائيل لا من عصر هدد عدر. فلقد عرفوا بالتأكيد أن حزائيل لم يكن من الأسرة المالكة الدمشقية وأنه كان مغتصبًا للعرش، فقاموا بصياغة قصةٍ عن ذلك الحدث تغلب فيها العناصر اللاهوتية على العناصر التاريخية. فلسببٍ غير معلوم يتوجه النبي أليشع إلى دمشق، ويعرف ملك دمشق المدعو هنا بنهدد بوجود النبي، وكان مصابًا بداء عُضال، فيرسل تابعه حزائيل ليسأل النبي في أمر مرضه وهل يُشفى منه أم لا: «فذهب حزائيل لاستقبال أليشع وأخذ هديةً بيده، ومن كل خيرات دمشق حمَّل أربعين جملًا، وجاء ووقف أمامه وقال: ابنك بنهدد ملك آرام قد أرسلني إليك قائلًا: هل أُشفى من مرضي هذا؟ فقال له أليشع: اذهب وقل له شفاءً تُشفى، وقد أراني الرب أنه موتًا يموت. فجعل نظره عليه وثبته حتى خجل، فبكى رجل الله. فقال حزائيل: لماذا يبكي سيدي؟ فقال: لأني علمت ما ستفعله ببني إسرائيل من الشر؛ فإنك تطلق النار في حصونهم، وتقتل شبانهم بالسيف، وتحطم أطفالهم، وتشق حواملهم. فقال حزائيل: ومن هو عبدك الكلب حتى يفعل هذا الأمر العظيم؟ فقال أليشع: قد أراني الرب إياك ملكًا على آرام. فانطلق من عند أليشع ودخل على سيده، فقال له: ماذا قال لك أليشع؟ فقال: قال لي إنك تحيا. وفي الغد أخذ اللبدة وغمسها بالماء ونشرها على وجهه ومات. ومَلَك حزائيل عوضًا عنه …» (الملوك الثاني، ٨: ٧–١٥.)
ولكن المشكلة في هذا التفسير أن الفترة التي تغطيها حروب بنهدد هذا، وَفق الرواية التوراتية، تقارب ست السنوات، أي ضعف الفترة المفترضة هنا لحكم بنهدد بن هدد عدر. فبعد الحملة الأولى التي لا بد أن الإعداد لها والقيام بها قد تطلب عامًا كاملًا، فإن الحملة الثانية التي شنَّها ملك دمشق على إسرائيل قد جرت بعد سنةٍ كاملة من الحملة الأولى (الملوك الأول، ٢٠: ٢٦)، وبعد أن عاد ملك دمشق من حملته الثانية هذه أقام الطرفان بدون حربٍ مدة ثلاث سنوات (الملوك الأول، ٢٢: ١)، ثم وقعت الحرب الثالثة بينهما في السنة الرابعة لفترة السلم. وهذا ما يجعل فترة الحرب بين دمشق وإسرائيل ست سنوات.
(٢) عصر حزائيل
انحلَّ حِلف قرقرة بعد موت هدد عدر، ولكن ملك دمشق الجديد كان قادرًا على ما يبدو على جمع كلمة الممالك السورية في مواجهة آشور كلما رأى ضرورةً لذلك، وهذا ما يدلنا عليه النص الآشوري الذي أوردناه سابقًا عن اعتلاء حزائيل عرش دمشق، وجمعه الجيوش الكثيرة في وجه شلمنصَّر الثالث. ولكن إلى جانب سياسته في الدعوة إلى الأحلاف المؤقتة، فقد عمل حزائيل على التأكد من عدم انحياز أية مملكةٍ في غربي الفرات إلى الجانب الآشوري أو وقوفها على الحياد في الصراع القائم مع آشور؛ لأن ذلك من شأنه إضعاف موقف دمشق، التي تحمل على عاتقها الجزء الأكبر من مسئولية التصدي للمد العسكري الآشوري. من هنا فقد عَمَد حزائيل إلى رسم سياسةٍ جديدة تسمح له بالتدخل ضد أية دولةٍ تميل إلى مهادنة آشور ودفع الجزية لها في مناطق غربي الفرات. وقد سار ابنه بنهدد من بعده على السياسة نفسها كما سوف نرى لاحقًا. وقد كانت مملكة إسرائيل أول دولة تطالها عقوبة حزائيل. فلقد عزف خلفاء آخاب — أخزيا ويهورام — عن المشاركة في حروب دمشق، ثم مال يهورام إلى استرضاء آشور بدفع الجزية لها. ورغم أننا لا نعرف من النصوص الآشورية أو من التوراة عن قيام يهورام بدفع الجزية إلى آشور، إلا أن سياسة الخضوع التام لآشور في عهد خليفته ياهو تُظهر لنا أن جذور هذه السياسة كانت متأصلة في عهد يهورام.
أخذ حزائيل يضغط بشكلٍ تدريجي على يهورام ملك إسرائيل (وهو الابن الثاني لآخاب بعد أخزيا الذي مَلَك قبله) في مناطق التواجد الإسرائيلي في شمال شرقي الأردن، فأرسل يهورام قواته الرئيسية إلى هناك وأقام في راموت جلعاد لحراسة تخومه في تلك المناطق، ولكنه أصيب بجرحٍ بليغ في إحدى المعارك، فترك قائده المدعو ياهو هناك وانسحب إلى مدينة يزرعيل الداخلية ليبرأ من جراحه. ومصدرنا هنا هو رواية سفر الملوك الثاني: «وكان يورام (يهورام) يحافظ على راموت جلعاد هو وكل إسرائيل من حزائيل ملك آرام. ورجع يهورام الملك لكي يبرأ في يزرعيل من الجروح التي ضربه بها الآراميون حين قاتل حزائيل ملك آرام.» وفي هذا الوقت دعا النبي أليشع، الخصم القديم لأسرة آخاب في إسرائيل، واحدًا من الأنبياء وقال له: «خذ قنينة الدهن هذه بيدك واذهب إلى راموت جلعاد. وإذا وصلت إلى هناك فانظر ياهو بن يهوشافاط بن نمشي، وادخل وأقمه من وسط إخوته، وادخل به من مخدعٍ داخل مخدعٍ، ثم خذ قنينة الدهن وصُبَّ على رأسه وقل: هكذا قال الرب: إني مسحتك ملكًا على إسرائيل. فانطلق الغلام النبي إلى راموت جلعاد … ودخل البيت فصبَّ الدهن على رأسه وقال: هكذا قال الرب إله إسرائيل: قد مسحتك ملكًا على شعب الرب إسرائيل، فتضرب بيت آخاب سيدك، وأنتقمُ لدماء عبيدي الأنبياء ودماء جميع عبيد الرب من يد إيزابيل، فيبيد كل بيت آخاب» (الملوك الثاني، ٩: ١–٨). فانطلق ياهو في رهطٍ من جماعته المقربين وعَبَر الأردن حتى وصل إلى مدينة يزرعيل. وكان الرقيب واقفًا على البرج فرأى جماعة ياهو عند إقباله، فنادى ملك إسرائيل قائلًا: إني أرى جماعةً قادمة، فقال الملك: أرسل فارسًا للقائهم لنعرف أأتوا للسلام أم للحرب، فذهب الفارس، وعندما وصل منعه ياهو من العودة وألحقه بجماعته، فأرسل البرج فارسًا ثانيًا ولكنه لم يعد أيضًا. فقال المراقب لملك إسرائيل: قد وصل الفارس إليهم أيضًا ولم يعد، وإني أرى سَوق الخيل كسَوق ياهو بن نمشي لأنه يسوق بجنون. فخرج يهورام بمركبته للقاء ياهو وهو يتوجس شرًّا. فلما رأى يهورام ياهو قال: أسلامٌ يا ياهو؟ فقال: أيُّ سلامٍ ما دام زِنا أمك إيزابيل وسِحرها الكثير! فرد يهورام فرسه وهرب، فقبض ياهو على القوس وضرب يهورام بين ذراعيه، فخرج السهم من قلبه فسقط في مركبته. أما ياهو فقد دخل إلى يزرعيل وقتل إيزابيل زوجة آخاب وطرحها للكلاب، ثم كتب إلى شيوخ السامرة أن يرسلوا إليه برءوس أولاد آخاب السبعين الأحياء، فقُطعت رءوس أولاد آخاب وأُرسلت إليه في سلالٍ إلى يزرعيل. وقتل ياهو كل الذين بقوا لبيت آخاب وكل عظمائه ومعارفه وكهنته حتى لم يبقَ له شارد (الملوك الثاني، ٩–١٠).
أما حزائيل فقد عاد إلى دمشق بعد أن سمع بعودة شلمنصَّر الثالث إلى المنطقة مجددًا، وذلك في العام ٨٤١ق.م. وهو العام نفسه الذي اعتلى فيه ياهو عرش إسرائيل. عمل حزائيل على تحصين دمشق، ولكنه لم ينتظر وصول شلمنصَّر الثالث إليه، بل انطلق لملاقاته عند أسفل جبل الحرمون حيث تحصَّن لقطع طريق الحملة الآشورية. ونستنتج من تحصُّن حزائيل في هذه المنطقة أن شلمنصَّر الثالث كان يقصد إلى التوجه جنوبًا نحو فلسطين والساحل السوري دون المرور بدمشق. وهذا ما يفسر لنا حرب حزائيل ضد إسرائيل، والتي سبقت مباشرة وصول شلمنصَّر الثالث إلى المنطقة؛ ذلك أن حزائيل كان يعرف بطريقةٍ ما أهداف الحملة الآشورية في الوصول إلى المناطق الجنوبية والغربية وعَزْل مملكة دمشق، فأراد استباق الأمور وخلع ملك إسرائيل الذي كان يستعد لتقبيل أقدام شلمنصَّر، وإحلال ملكٍ جديد محله مُوالٍ لدمشق. نقرأ في نص شلمنصَّر الثالث عن هذه الحملة ما يلي:

وهناك ملاحظةٌ أخرى في رواية سفر الملوك الثاني عن اغتصاب ياهو للعرش وإبادته لذرية آخاب تدعم هذا التفسير، وهي أن النص كان يكرر على الدوام أن ياهو قد أباد أسرة آخاب من دون التطرق إلى أسرة عُمري، دلالةً على أن المغتصب قد قضى على فرع آخاب من أسرة عُمري، لا على أسرة عُمري كلها.
بعد آخر هذه الحملات عقب عام ٨٣٧ ق.م. أقلع شلمنصَّر الثالث نهائيًّا عن مشروع إخضاع دمشق، وصرف نظره عن مناطق غربي الفرات. ولمدة ثلاثين سنة تلت ذلك، لم يظهر أي جيش آشوري في المنطقة. فبعد وفاة شلمنصَّر الثالث عام ٨٢٤ ق.م.، بعد فترة حكم مديد دامت ٣٤ سنة، نشبت نزاعاتٌ داخلية بين ورثة العرش، وانشغل الآشوريون بالحروب ضد المناطق الشرقية لحكمهم. وقد أطلق هذا الوضع الجديد يد حزائيل في مناطق نفوذه التقليدية، وبدأ بإعادة ترتيب شئون المنطقة استعدادًا لأية مواجهةٍ مقبلة مع آشور. تفرغ ملك دمشق أولًا لعقاب ياهو ملك إسرائيل بسبب موقفه المخزي من آشور وخيانته لدمشق، وبعد أن ضمن خضوع إسرائيل له قام ببسط سلطته على كامل الأراضي الفلسطينية ووصلت قواته حتى مدينة جت على الساحل الفلسطيني. وأخبارنا عن هذه الفترة مصدرها الوحيد سفر الملوك الثاني، لأن النصوص الآشورية بقيت صامتةً تمامًا عما يجري في مناطق غربي الفرات، وذلك حتى عام ٨١٠ق.م.

نقرأ في سفر الملوك ما يأتي: «ولكن ياهو لم يتحفظ على السلوك في شريعة الرب إله إسرائيل من كل قلبه … في تلك الأيام ابتدأ الرب يقصُّ إسرائيل، فضربهم حزائيل في تخوم إسرائيل جميعها من الأردن لجهة مشرق الشمس … واضطجع ياهو مع آبائه فدفنوه في السامرة، ومَلَك ابنه يهوأحاز عوضًا عنه. وكانت الأيام التي مَلَك فيها ياهو على إسرائيل في السامرة ثمانيًا وعشرين سنة» (الملوك الثاني، ١٠: ٣١–٣٦). ثم «مَلَك يهوأحاز بن ياهو على إسرائيل في السامرة سبع عشرة سنة. وعمل الشرَّ في عينَي الرب … فحمي غضب الرب على إسرائيل، فدفعهم ليد حزائيل ملك آرام وليَد بنهدد بن حزائيل كل الأيام … لم يُبقِ ليهوأحاز شعبًا إلا خمسين فارسًا وعشرة آلاف راجل وعشر مركبات، لأن ملك آرام أفناهم ووضعهم كالتراب للدَّوس … ثم اضطجع يهوأحاز مع آبائه فدفنوه في السامرة، ومَلَك يوآش ابنه عوضًا عنه» (الملوك الثاني، ١٣: ١–٩). بعد ضمان تبعية إسرائيل، التي تُشكِّل القوة الرئيسية في منطقة فلسطين، شقَّ حزائيل طريقه نحو مدن فلستيا فضمن ولاءها، ثم انقلب نحو الداخل إلى أورشليم التي أعلن ملكها ولاءه لدمشق قبل وصول قواتها أطراف أورشليم: «حينئذٍ، صعد حزائيل ملك آرام وحارب جت وأخذها، ثم حوَّل وجهه ليصعد إلى أورشليم. فأخذ يهوآش ملك يهوذا الأقداس جميعها التي قدَّسها آباؤه ملوك يهوذا، وأقداسه. والذهب الموجود في خزائن بيت الرب وبيت الملك كله، وأرسلها إلى حزائيل ملك آرام، فصعد عن أورشليم» (الملوك الثاني، ١٢: ١٧–١٨).
لا يوجد لدينا سببٌ للشك في صحة هذه الرواية التوراتية عن حروب حزائيل في شرقي الأردن وفلسطين؛ لأن مثل هذه الحروب كانت متوقعة بعد غياب آشور المؤقت عن المنطقة. فلقد أخلى حزائيل منطقة شمال شرقي الأردن من القوات الإسرائيلية، ودفع هذه القوات بعد أن أضعفها إلى السامرة، التي لم يكن راغبًا في فتحها، بل في تحييدها أو كسبها إلى جانبه في أي صراعٍ قريب محتمل مع آشور. ثم أكد بعد ذلك سيطرته على المناطق الساحلية والداخلية في مرتفعات يهوذا، فأمَّن بذلك سلامة الطرق التجارية الحيوية جميعها بالنسبة لمملكة دمشق. ولسوف نجد بعد سنواتٍ قليلة أن ابنه بنهدد يمارس السياسة نفسها في المناطق الشمالية، مما تصفه لنا بعض النصوص الآرامية المعاصرة للحدث.
لا نعرف على وجه التحديد تاريخ موت الملك حزائيل، ولكننا إذا قبلنا الخبر التوراتي الوارد في سفر الملوك الثاني (١٣: ٢٢–٢٥) يمكن أن نضع موت حزائيل حوالي العام ٨٠٠ق.م. لأننا نستشفُّ من الخبر أن الملك حزائيل والملك يهوأحاز قد توفيا في وقتين متقاربين، ولما كانت وفاة يهوأحاز تقع حوالي عام ٧٩٨ق.م. فإن موت حزائيل يمكن أن يوضع قبل ذلك بعامٍ أو عامين. فالخبر التوراتي يقول: «وأما حزائيل ملك آرام فقد ضايق إسرائيل كل أيام يهوأحاز … ثم مات حزائيل ومَلَك بنهدد ابنه عوضًا عنه. فعاد يهوآش بن يهوأحاز وأخذ المدن من يد بنهدد بن حزائيل، التي أخذها من يده يهوأحاز أبوه بالحرب. ضربه يوآش ثلاث مراتٍ واسترد مدن إسرائيل» (الملوك الثاني، ١٣: ٢٢–٢٥).
(٣) عصر بنهدد بن حزائيل
كانت المهمة الثانية التي وضعها بنهدد لقواته بعد إخضاع إسرائيل هي إخضاع مملكة حماة التي كانت تسلك نهجًا مواليًا لآشور. إن الحملات الآشورية على سوريا منذ عام ٨٤٥ق.م. وصولًا إلى عهد أدد نيراري لم تتعرض لمملكة حماة، الأمر الذي يدل على تابعيتها الآشورية خلال تلك الفترة. فصعد بنهدد على رأس حلفٍ سوري يضم سبع ممالك معروفة بعدائها الشديد لآشور وخصوصًا مملكة بيت جوشي، التي سنراها فيما بعد على رأس تحالفٍ سوري في مواجهة القوات الآشورية، فقاتل ملك حماة المدعو زاكير وضرب عليه حصارًا طويلًا، بعد أن لجأ إلى مدينة حاتريكا الشمالية عاصمة مملكة لوعاش (نوخاشي سابقًا) الواقعة بين حماة وحلب، والتي ضمها إليه زاكير مُشكِّلًا قوةً لا يُستهان بها في ذلك الوقت. ولحسن الحظ فقد وصلتنا معلوماتٌ مباشرة عن هذه الحرب في نص تركه الملك زاكير نفسه، منقوشٌ بالآرامية على حجرٍ عُثر عليه في قرية آفس على مسافة ٤٠كم إلى الجنوب الغربي من مدينة حلب. ويُرجَّح أن يكون موقع آفس هذا هو حاتريكا القديمة نفسها. نقرأ في نص زاكير ما يلي:
نلاحظ من أسماء الممالك الداخلة في حلف دمشق الجديد أنها تقع جميعًا في المناطق الشمالية بين الفرات والساحل السوري. وهذا يعني أن بنهدد قد بسط نفوذه على كامل مناطق الشمال السوري، إضافةً إلى مناطق وسط وجنوب سوريا، وفلسطين، وأنه قد استطاع فعلًا تعبئة كامل مناطق غربي الفرات في جبهةٍ واحدة استعدادًا للوقوف في وجه الملك الآشوري أدد نيراري الثالث، الذي ما لبثت جيوشه حتى ظهرت في المنطقة حوالي عام ٧٩٨ق.م. أي بعد أربع سنواتٍ من ارتقاء بنهدد عرش دمشق. أما عن النتيجة التي آل إليها حصار حاتريكا، فمن غير الممكن أن يكون زاكير قد انتصر على حلف دمشق، خصوصًا إذا أخذنا بعين الاعتبار عدد الممالك الحليفة وقوة جيوشها. ويكفي أن نذكر أن مملكة جوشي، التي يتزعمها برجوش، كانت أقوى الممالك الآرامية الشمالية، وكانت أراضيها تمتد من شاطئ الفرات إلى سهل العمق غربًا، أما مملكة يأدي (أو شمأل) فكانت قوةً لا يُستهان بها وذات ثقلٍ في ميزان القوى العسكرية في غربي الفرات. فإذا أضفنا إلى هاتين القوتين القوة الرئيسية لمملكة دمشق، التي أَعْيت الآلة الحربية الآشورية لنصف قرنٍ مضى، لأدركنا استحالة هزيمة بنهدد عند أسوار حاتريكا. وهناك نتيجتان محتملتان لهذه الحرب؛ فإما أن الحلفاء قد تراجعوا عن حاتريكا بعد أن وصلتهم أخبار عن عبور أدد نيراري نهر الفرات، وإما أنهم قد توصلوا إلى اتفاقٍ يضمن حياد زاكير في المعركة المقبلة.
وفي نص أدد نيراري نقطةٌ هامة ينبغي ملاحظتها وفهم مدلولاتها. فالممالك الواردة في النص جميعها قد جرى تعدادها بأسمائها دون ذكر ملوكها أو شرح مجريات المعارك التي قادت إلى إخضاعها، عدا دمشق التي توقف النص عندها مطولًا وأعطانا تفصيلات حول استسلامها والجزية التي دفعتها. وهذا يدل دلالةً قاطعة على أن الهدف الرئيسي لحملة، أو لحملات، أدد نيراري في مناطق غربي الفرات كان إخضاع مملكة دمشق، وأن الحملات الأولى على ممالك الشمال التي جملها النص تحت اسم حاتي، وممالك الوسط والجنوب، لم تكن إلا مقدمةً ضرورية لضمان استسلام دمشق.
لقد كانت دمشق آخر من دفع الجزية في مناطق غربي الفرات، منذ أن بدأت الحملات الآشورية المنظمة على بلاد الشام. ويبدو أن حملة أدد نيراري الأخيرة على دمشق قد أضعفت قوة المملكة إلى حدٍّ كبير، وأفقدتها الكثير من هيبتها كمركز ثقلٍ إقليمي في المنطقة. وكان أول المستفيدين من ضعف دمشق مملكة إسرائيل. فقد وَلِي عرشَ السامرة بعد يوآش — الذي أخضعه بنهدد قبل أن يتوجه إلى حاتريكا — ابنُه يربعام الثاني (٧٩٧–٧٥٣ق.م.)، ويروي لنا سفر الملوك الثاني في نصٍّ مختصر، وبدون أية تفاصيل، خبرًا عن حملة يربعام الثاني هذا على مملكة دمشق، التي لم تكن قد التقطت أنفاسها من الحملة الآشورية الساحقة. هذا مع العلم بأن نص سفر الملوك الثاني قد بقي حتى هذا الوقت من مطلع القرن الثامن قبل الميلاد، متجاهلًا كل ما يحدث على الساحة السورية والفلسطينية من أحداث، وأن قارئ التوراة لم يعرف بعد بوجود مملكةٍ اسمها آشور، ولا بحملات ملوك آشور على دمشق وعلى إسرائيل وبقية الدويلات الفينيقية والفلسطينية. يقول الخبر التوراتي ما يلي: «مَلَك يربعام بن يوآش ملك إسرائيل في السامرة إحدى وأربعين سنة. وعمل الشر في عينَي الرب … هو ردَّ تُخُم إسرائيل من مدخل حماة إلى بحر العربة حسب كلام الرب إله إسرائيل … وبقية أمور يربعام وكل ما عمل وجبروته — كيف حارب وكيف استرجع إلى إسرائيل دمشق وحماة، التي ليهوذا — أمَا هي مكتوبة في سفر أخبار الأيام لملوك إسرائيل؟» (الملوك الثاني، ١٤: ٢٣–٢٨.)
ونستطيع الآن بفضل هذا النص الجديد أن نعرف التاريخ التقريبي لوفاة بنهدد، والذي يمكن وضعه حول ٧٧٠ق.م. كما نستطيع أن نضع ثَبَتًا بملوك آرام دمشق وفترات حكمهم خلال القرن الممتد من أواسط القرن التاسع إلى أواسط القرن الثامن، على الوجه التالي:
هدد عدر | ٨٦٠–٨٤٤ق.م. |
حزائيل | ٨٤٤–٨٠٠ق.م. |
بنهدد | ٨٠٠–٧٧٠ق.م. |
حديانو | ٧٧٠–؟ |
في هذا الوقت الذي شهد بداية النهاية لكل من دمشق وإسرائيل؛ أخذت مملكة يهوذا بالتكوُّن والظهور على المسرح السياسي الإقليمي.
انظر أيضًا ترجمة د. علي أبو عساف: الآراميون، المرجع السابق ص١٣٠–١٣٢.