الفصل الخامس

العقود الأخيرة لدمشق وإسرائيل ونشوء يهوذا

(١) أصول يهوذا

حتى الحملة الآشورية الأخيرة التي ذكرناها على دمشق عام ٧٧٣ق.م. إبَّان حكم الملك حديانو، لم تكن مملكة يهوذا قد تشكلت بعد ككيانٍ سياسي واضح في فلسطين، ولم تكن مدينة أورشليم قد دخلت معترك السياسة الإقليمية والدولية. والنصوص الآشورية لم تتجاهل فقط وجود مملكة يهوذا في فلسطين، بل تجاهلت كليًّا مدينة أورشليم وكأنها غير موجودة على الخارطة السياسية للمنطقة. غير أن العقود اللاحقة من القرن الثامن قبل الميلاد قد بدأت تدفع أورشليم بسرعةٍ نحو مركز الأحداث، وبدأت تظهر في النصوص الآشورية بدءًا من الربع الأخير لهذا القرن الحافل بالأحداث الجسام في تاريخ بلاد الشام، والذي شهدت نهايته دمار مملكة إسرائيل وفقدان دمشق لاستقلالها وسيادتها. ولسوف نقوم فيما يلي بإعادة ترتيب المعلومات التي قدمناها سابقًا في عددٍ من المواضع التي تحدثنا فيها عن أصول يهوذا، والتي وردت في معرض المقارنة مع أصول إسرائيل، وذلك لِما لِفَهم أصول يهوذا من أهميةٍ بالغة على فهم الأحداث اللاحقة ومضامينها.

إن عودة الاستيطان إلى منطقة يهوذا وبنيامين، مع الانحسار التدريجي لموجة الجفاف في المنطقة، قد سارت بشكلٍ غير متوازٍ مع عودة الاستيطان إلى منطقة إسرائيل (الهضاب المركزية)، وذلك من حيث الجدول الزمني لهذا الاستيطان، وأصول المستوطنين الجدد، والبنية السياسية التي جمعت القرى الجديدة إلى بعضها في النهاية. قبل عام ١٢٠٠ق.م. كانت مرتفعات يهوذا فيما بين أورشليم شمالًا وحبرون في الجنوب خاليةً تقريبًا من السكان، وذلك فيما عدا موقعين صغيرين، هما خربة رابوض وبيت زور. وفي عصر الحديد الأول (١٢٠٠–١٠٠٠ق.م.) استمر السكن في هذه المواقع مع ظهور قرًى جديدة صغيرة وقليلة جدًّا توضَّعت قرب مصادر المياه الدائمة على الأطراف الشرقية لبادية يهوذا.١ وتُظهر الأساليب الفنية لصناعة الفخار في القرى الجديدة استمرارًا ثقافيًّا لحضارة عصر البرونز الأخير، وعدم وجود تأثيراتٍ فنية وافدة من الخارج. كما نلاحظ الشيء نفسه في المواقع التي عَبَرت بنجاحٍ فترة الجفاف، واستمرت خلال عصر الحديد. ومع التقدم في عصر الحديد الثاني (١٠٠٠–٧٠٠ق.م.) وخصوصًا في نصفه الثاني، يتزايد عدد المواقع الجديدة بشكلٍ كبير، ويتم سكن المنطقة على نطاقٍ واسع لأول مرة منذ نهايات عصر البرونز الوسيط.٢ إلا أن هذا التوسع في المستقرات الزراعية الجديدة لم يأتِ نتيجةً لاقتلاع السكان الأصليين واستبدالهم بسكان جدد وافدين على المنطقة، لأن المخلفات المادية لعصر الحديد الثاني تُظهر أيضًا انتماءً كاملًا للثقافة المحلية في البرونز الأخير وفي الحديد الأول. أما عن أصل السكان في هذه المراكز السكنية الجديدة، فيبدو أنهم أتوا من ثلاثة مصادر؛ فأولًا: هناك التزايد المحلي السريع للسكان بتأثير الأحوال المناخية المؤاتية، وما تبعها من انتعاش الزراعة والأوضاع الاقتصادية عامة. وثانيًا: هناك شريحةٌ لا بأس بها من السكان الزراعيين الذين أتوا من المناطق المجاورة ليهوذا. وثالثًا: هناك جماعاتٌ رعوية وفدت إلى يهوذا من المناطق الرعوية الشرقية والجنوبية، وتحولت إلى حياة الاستقرار. وقد شكَّلت هذه الجماعات جزءًا لا يُستهان به من سكان يهوذا، على عكس منطقة الهضاب المركزية التي لم تساهم الجماعات الرعوية إلا بنسبةٍ قليلة من تركيبها السكاني.٣
لقد شهدت منطقة يهوذا خلال القرن العاشر وأوائل القرن التاسع تحولًا من اقتصادٍ يقوم على الرعي إلى اقتصاد القرية الزراعية، مع بقاء النشاط الرعوي الذي استمر في لعب دورٍ مهم في اقتصادياتها وحياتها الاجتماعية. وخلال القرن العاشر والتاسع قبل الميلاد حدث تزايدٌ سريع في السكان أدى إلى توضيح البنية السياسية لمرتفعات يهوذا كمنطقةٍ موحَّدة بقيادة أورشليم، إلا أن الدولة التي نعرف عنها من النصوص الآشورية لأواخر القرن الثامن قبل الميلاد، لم تكن قد تشكَّلت بعد. إن الاعتماد المتزايد على الزراعة المكثفة قد خلق ازدهارًا اقتصاديًّا، وقاد إلى تكوين شبكةٍ تجارية محلية اتصلت تدريجيًّا بالطرق التجارية الدولية، وذلك من أجل تسويق سلع التبادل النقدي من زيوتٍ وأخشابٍ وخمورٍ ولحوم. غير أنه من المستبعد أن تكون الفترة الانتقالية بين الحديد الأول والحديد الثاني قد شهدت قيام مدينةٍ قوية، وذات تعداد سكاني يسمح لها بالسيطرة على بقية المراكز الحضرية في يهوذا؛ ذلك أن زيادة عدد السكان وطريقة توزُّع هذه الزيادة كان مؤشرًا على دخول المنطقة في فترة استقرارٍ وازدهار نسبي، وعلى قيام تنافس اقتصادي لم يؤدِّ بعدُ إلى نزاعٍ حول الموارد، التي كانت في طور النمو.٤

لقد لعبت أورشليم خلال عصر البرونز دور المركز التجاري المسيطر على المنطقة المحيطة بها، كما لعبت دور السوق التجارية للمراكز الحضرية الواقعة إلى المناطق الغربية، مثل جازر ولخيش. ومع أن أورشليم قد نجحت في عبور فترة الجفاف خلال الفترة الانتقالية من البرونز الأخير إلى الحديد الأول، وشاركت بشكلٍ فعال في عودة النمو الاقتصادي إلى المنطقة، إلا أنها لم تكن، حتى أواخر القرن العاشر قبل الميلاد وأوائل القرن التاسع، أكثر من بلدةٍ صغيرة لم تبلغ بأي معيار أو مقياسٍ مبلغ المدن الكبرى. ويبدو أن موقعها المنعزل قد ساعدها على حفظ استقلالها، ولكنه عمل أيضًا على حصر نفوذها السياسي ضمن منطقتها بشكلٍ رئيسي. وبعد فترة الكمون التي مرت بها المدينة خلال الكارثة المناخية والاقتصادية أخذت أورشليم بالتطلع إلى مناطق يهوذا الواقعة إلى جنوبها، وكان ذلك بدافع التوسع الاقتصادي والتجاري لا بدافع التوسع السياسي. من هنا، فإن قيام أورشليم ببسط سيطرتها السياسية على يهوذا قد جاء عقب اكتمال عملية استيطان المنطقة بشكلٍ واسع ولم يكن سابقًا عليه.

استغرقت عملية الاستيطان في منطقة يهوذا كامل القرنين العاشر والتاسع قبل الميلاد، وأعقب ذلك ارتفاعٌ في الإنتاج الزراعي والحيواني، جعل من يهوذا المصدر الرئيسي لسلع التبادل النقدي مع المراكز الحضرية في الغرب، ومع حبرون في الجنوب، وأورشليم في الشمال. وهذا ما وضع مدينة أورشليم في منافسةٍ مباشرة مع هذه المدن من أجل السيطرة على المراكز الزراعية في منطقة يهوذا، والتي لم تكن تخضع لأي نوعٍ من المركزية السياسية. ولكن المعلومات المتوفرة لدينا تشير إلى أن الوضع السياسي لمنطقة يهوذا قد بقي على حاله حتى العقود الأخيرة من القرن الثامن قبل الميلاد، عندما بدأت أورشليم تكتسب بالفعل ملامح المدينة الكبيرة. وقد ساعدها على ذلك أفول نجم السامرة، ودمار لخيش على يد آشور، وقيام الآشوريين بتنظيم تجارة الزيت في المراكز الرئيسية لإنتاجه على الساحل. كما ساعد على ذلك أيضًا التغيير الجذري في الوضع السياسي لفلسطين الكبرى، واستيعاب أورشليم لأفواج النازحين من مناطق التدمير الآشوري إبَّان عهد تغلات فلاصَّر الثالث وصارغون الثاني، كما سنرى بعد قليل. وهكذا ظهرت مملكة يهوذا بقيادة النخبة السياسية والاقتصادية في مدينة أورشليم التي تحوَّلت إلى مركزٍ سياسي إقليمي كبير. وقد بدأت المدينة عهدها هذا عميلًا لآشور، ثم قادها التدخل المتزايد في شئون التجارة الدولية إلى حتفها بعد قرنٍ ونصف القرن تقريبًا من ظهورها على مسرح الأحداث.٥

وسنعود الآن إلى متابعة أحداث القرن الثامن، ودخول مملكة يهوذا ذلك المسرح.

(٢) الحروب الأخيرة بين دمشق وآشور

لقد دفعت دمشق الجزية للملك أدد نيراري الثالث عام ٧٩٦ق.م. ثم تمردت على آشور بعد موت أدد نيراري فأُخضعت ثانيةً في عام ٧٧٣ق.م. وقد بدا لآشور بوضوحٍ بعد هذا التمرد أن الوضع في منطقة دمشق وسوريا الغربية والجنوبية لن يستقر إلا بعد إلحاق دمشق بآشور وحكمها بطريقةٍ مباشرة. وكان على هذه الخطة أن تنتظر صعود ملكٍ قوي جديد.

في عام ٧٤٥ق.م. ارتقى عرش آشور الملك تغلات فلاصَّر الثالث (٧٤٥–٧٢٧ق.م.) وكان عهده فاتحةً لعصر الإمبراطورية الآشورية التي دامت بعده قرنًا من الزمان، وامتدت من إيران ضمنًا في الشرق إلى مصر ضمنًا في الغرب، ومن الأناضول ضمنًا في الشمال إلى أواسط شبه الجزيرة العربية في الجنوب. وقد أسس تغلات فلاصَّر لسياسة ضم الأراضي المقهورة بالقوة إلى التاج الآشوري، وحُكمها بواسطة ولاة آشوريين مُعيَّنين عليها، يقومون بدور نائب الملك. كما أسس هذا الملك لسياسة الترحيل المنظم للشعوب المغلوبة، وإحلال جماعاتٍ متنوعة محلها يتم اختيارها من الشعوب المغلوبة الأخرى. وقد شملت عمليات التهجير الإجباري أكثر من ١٠٠ شعب، بما في ذلك الآشوريون أنفسهم الذين فُتحت أمامهم فرص الهجرة والاستقرار في أفضل الأراضي الشاغرة من سكانها. وبذلك تمكن الآشوريون أخيرًا من حكم الممالك الثائرة بعد أن فقدت تكوينها الإثني والسياسي، وبعد أن غيرت آشور الخريطة الديمغرافية للشرق القديم بكامله.

ترك تغلات فلاصَّر عددًا لا بأس به من السجلات، إلا أنها وصلتنا في حالةٍ سيئةٍ جدًّا، وذلك بسبب الإهمال المُتعمَّد لخلفائه، والذي أدى إلى تشظي الرُّقم الفخارية، وفقدان كثير من أجزائها، وتشوش الترتيب الزمني لأحداثها. وهذا ما صعَّب على الباحثين مهمة إعادة ترتيب هذه الأحداث. وفيما يتعلق بأخبار مملكة دمشق، لدينا عددٌ من النصوص القصيرة عن حملاتٍ آشورية مُغفَلة التواريخ، إضافةً إلى عددٍ من الإشارات في الحوليات الجغرافية المختصرة (Eponym Chronicles) التي تذكر فقط تاريخ الحملة والمكان الموجهة إليه. وبمطابقة هذه النصوص القصيرة على تلك الإشارات، والاستعانة بالأخبار التوراتية في سفر الملوك الثاني (الذي بدأ محرروه يذكرون آشور اعتبارًا من الإصحاح ١٥، وذلك في معرض تَقصِّيهم للأحداث الأخيرة التي قادت إلى دمار السامرة وزوال إسرائيل)؛ يمكننا فيما يلي تقديم ثَبَت بأسماء ملوك إسرائيل ودمشق ويهوذا وسنوات حكمهم.
دمشق إسرائيل يهوذا
رحيانو (رصين) ٧٥٠–٧٣٢ منحيم ٧٥٢–٧٤٢ آحاز ٧٣٥–٧١٥
فقحيا ٧٤٢–٧٤٠ حزقيا ٧٢٩–٦٨٦
فقح ٧٤٠–٧٣٢
هوشع ٧٣٢–٧٢٢ (٧٢١)
لدينا ثلاثة نصوصٍ قصيرة تذكر اسم دمشق على رأس الممالك التي أُجبرت على دفع الجزية في مناطق غربي الفرات، وتذكر اسم ملكها «رحيانو»، الذي تدعوه النصوص التوراتية رصين. وهذا الاسم التوراتي ربما كان تحويرًا للاسم «رصيانو»، الذي استقاه المحرر التوراتي من مصادرَ غير مباشرة قلبت الحاء الأكادية صادًا. نقرأ في أحد هذه النصوص الثلاثة ما يلي: «تلقيت الجزية من رحيانو ملك دمشق، ومنحيم ملك السامرة، وحيرام ملك صور، وسيبتي بعل ملك جبيل، وأوريكي ملك قوية، وبيسيريس ملك كركميش، وإنيل ملك حماة، وبنامو ملك شمأل … وزبيبة ملكة العرب.»٦ ومن المُرجَّح أن تكون هذه الحملات الثلاثة — التي استهدفت دمشق بالدرجة الأولى — قد جرت في الفترة الواقعة بين عامَي ٨٤٢ و٨٣٨ق.م. وهذا ما يعطينا فكرةً تقريبية عن تاريخ اعتلاء الملك رصين (رحيانو) عرش دمشق. فبما أن الملك الأسبق لدمشق والمدعو حديانو قد ذُكر في السجلات الآشورية عام ٧٧٣ق.م.، وأن أول ذكرٍ لرصين قد ورد حوالي عام ٨٤٢ق.م.؛ فمن المُرجَّح أن يكون رصين قد اعتلى عرش دمشق حوالي عام ٧٥٠ق.م. إن ذكر مملكة دمشق في رأس قائمة المدن والممالك التي دفعت الجزية لتغلات فلاصَّر الثالث في سجلات حملاته الثلاثة الآنفة الذكر يجعل الاحتمال قويًّا في أن يكون الملك رصين قد أحيا سياسة الأحلاف القديمة، وأن تكون دمشق خاضت حروبها الأخيرة ضد آشور على رأس تحالفٍ سوريٍّ قويٍّ جديد، وذلك قبل أن تفقد الدويلات السورية استقلالها واحدةً إثر أخرى.
ولدينا نصٌّ مفصَّل لتغلات فلاصَّر الثالث يتعلق بحملةٍ واسعة على مناطق غربي الفرات، وإلحاق العديد من ممالكها بالتاج الآشوري. تبتدئ الحملة من مملكة حاتريكا، ثم تهبط مناطق الساحل السوري وصولًا إلى غزة، ثم تصعد نحو إسرائيل، التي دفع ملكها منحيم الجزية لآشور واحتفظ باستقلال مملكته بعد خسارته جزءًا من أراضيه الشمالية. نقرأ في النص: «مدينة حاتريكا وكل الأراضي إلى جبل سيوا، ومدن جبيل وسيميرا (عاصمة آمورو) وعرقاتا وأوزنو وعربا … مدن … البحر الأعلى جميعها بسطت نفوذي عليها، ووضعت قوادًا من عندي لحكمها. وكذلك مدن … غالزا وأبيلاكا (في شمال شرقي الأردن) المتاخمة لأرض عُمري، وأرض … الواسعة بكامله وحَّدتُها مع مملكة آشور. أما هانو ملك غزة، الذي هرب أمام قواتي والتجأ إلى مصر، فقد قهرت مدينته غزة واستوليت على ممتلكاته وعلى صور آلهته، أقمت صور آلهتي وصوري في قصره، وأعلنتها آلهة للبلاد، وفرضت على أهلها الجزية. وأما منحيم (ملك السامرة) فقد انقضضت عليه كعاصفةٍ ثلجية، فهرب من أمامي وحيدًا كالعصفور، ثم عاد فسجد عند قدمي. فأعدته إلى قصره وفرضت عليه الجزية فضةً وذهبًا وعباءاتٍ حريرية مزركشة٧ … ومن أرض عُمري استوليت على … وسُقت سكانها وممتلكاتها إلى آشور …»٨

أما سفر الملوك الثاني فيقدم لنا معلوماتٍ تتقاطع مع النص الآشوري أعلاه، ولكنه يدعو ملك آشور باسم «فول»، وهو اسمٌ غريب ولا وجود له في لائحة ملوك آشور. ولربما اختلط على محرر السفر اسم ملك آشور تغلات فلاصَّر باسم واحدٍ من قواده الذي ربما قاد الحملة على إسرائيل، في الوقت الذي كان فيه الملك مشغولًا بقتال غزة. نقرأ في سفر الملوك الثاني هذا الخبر الأول عن آشور في كتاب التوراة: «مَلَك منحيم بن جادي على إسرائيل في السامرة عشر سنين، وعمل الشر في عينَي الرب … فجاء فول ملك آشور على الأرض، فأعطى منحيم لفول ألف وزنةٍ من الفضة لتكون يداه معه، ليثبِّت المملكة في يده. ووضع منحيم الفضة على إسرائيل، على جميع جبابرة البأس، ليدفع لملك آشور خمسين شاقل فضة على كل رجل. فرجع ملك آشور ولم يُقم في الأرض … ثم اضطجع منحيم مع آبائه، ومَلَك فقحيا ابنه عوضًا عنه» (الملوك الثاني، ١٥: ١٧–٢٢). ويشذُّ هذا الخبر التوراتي عن الخبر الآشوري في نقطتين؛ الأولى تتعلق باسم ملك آشور، والثانية تتعلق بعدم ذكره لقتال تغلات فلاصَّر لمنحيم، وهروب الأخير ثم عودته إلى السامرة بعد موافقته على دفع الجزية.

بعد الحملات المتوالية على مناطق غربي الفرات، والتي أدت إلى ضم قسمٍ كبير من الأراضي السورية إلى التاج الآشوري، بقيت دمشق تجهز لحروب مقاومةٍ جديدة، وتهيئ المناخ السياسي الملائم للمواجهات المقبلة. وقد ساعدها على ذلك انشغال تغلات فلاصَّر بحروبٍ في المناطق الشمالية والشرقية لمدة ثلاث سنوات، فيما بين ٧٣٧ و٧٣٥ق.م. ولما كانت مملكة يهوذا تلعب في ذلك الوقت دور العميل الرئيسي لتغلات فلاصَّر الذي هاجم كل ممالك سوريا الجنوبية وفلسطين من دون يهوذا، فقد كان لا بد لرصين ملك دمشق من إزاحة الملك آحاز في يهوذا، ورفع ملكٍ جديد يناهض آشور. وهنا تقوم دمشق بعقد حلف جديد مع إسرائيل، ويتوجه رصين وفقح ملك إسرائيل لحصار آحاز. ومعلوماتنا عن هذا الحلف مصدره الرواية التوراتية فقط. نقرأ في سفر إشعيا:

«وحدث في أيام آحاز بن يوثام ملك يهوذا أن رصين ملك آرام صعد مع فقح بن رمليا ملك إسرائيل إلى أورشليم لمحاربتها، فلم يقدر أن يحاربها. وأُخبر بيت داود (أي: ملك يهوذا) وقيل له: قد حلَّت آرام في أفرايم (أي: إسرائيل). فرجف قلبه وقلوب شعبه كرَجَفان شجر الوَعْر قدام الريح. فقال الرب لإشعيا: اخرج لملاقاة آحاز وقل له: … لأن آرام تآمرت عليك بشرٍّ مع أفرايم وابن رمليا قائلة: نصعد على يهوذا ونُقوِّضها ونستفتحها لأنفسنا، ونُملِّك في وسطها ملكًا؛ ابن طبئيل. هكذا يقول السيد الرب … إلخ» (إشعيا، ١–٧). ونقرأ في سفر الملوك الثاني أيضًا:

«كان آحاز ابن عشرين سنة حين مَلَك، ومَلَك ست عشرة سنةً في أورشليم. ولم يعمل المستقيم في عينَي الرب إلهه، بل سار في طريق ملوك إسرائيل … حينئذٍ صعد عليه رصين ملك آرام وفقح بن رمليا ملك إسرائيل إلى أورشليم للمحاربة. فحاصروا آحاز ولم يقدروا أن يغلبوه … وأرسل آحاز رسلًا إلى تغلات فلاصَّر ملك آشور قائلًا: أنا عبدك وابنك، اصعد وخلصني من يد ملك آرام ومن يد ملك إسرائيل القائمَين عليَّ. فأخذ آحاز الفضة والذهب الموجودة في بيت الرب وفي خزائن بيت الملك وأرسلها إلى ملك آشور هدية. فسمع له ملك آشور وصعد إلى دمشق وأخذها وسباها إلى قير، وقتل رصين. وسار الملك آحاز للقاء تغلات فلاصَّر ملك آشور إلى دمشق» (الملوك الثاني، ١٦: ١–١٠).

لا يخرج هذان الخبران عن الخط العام الذي التزمه محررو التوراة في تقديم المعلومات التي تيسَّرت للمحرر من خلال رؤيةٍ أيديولوجية ساذجة لا ترى في التاريخ إلا نتاجًا لتدخل القدرة الإلهية في عالم الناس، ولا تنظر إلى الأحداث في أسبابها ونتائجها، ولا تحفل بالدائرة الكبرى التي يتحرك ضمنها الحدث المنعزل الذي يجري تقديمه. فرصين ملك آرام، وفقح ملك إسرائيل ليسا إلا أداةً في يد الرب أصعدهما لحصار أورشليم عقابًا على خطاياها وخطايا ملكها. وملك آشور يقبل هدية آحاز ويشنُّ حملته على دمشق بعد قبوله الرشوة من أورشليم. ولكننا إذا أردنا فهم هذين الخبرين على خلفية الأحداث الهامة في بلاد الشام في ذلك الوقت، علينا أن نبحث عن أسباب حصار أورشليم في موقفها حيال السياسة الآشورية في المنطقة، وعلاقاتها بالممالك المحلية المجاورة.

لقد اتسمت سياسة إسرائيل-السامرة حيال آشور — عقب معركة قرقرة — بالذبذبة؛ فكانت تعاضد دمشق أحيانًا، وتقف على الحياد أو تعلن ولاءها لآشور وتدفع الجزية لملوكها في أحيانٍ أخرى، وذلك حسب تقديرها للموقف السياسي العام، وتبعًا للتكوين الشخصي لملوكها المتعاقبين. أما يهوذا فقد التزمت منذ قيامها موقف الممالأة لآشور والعمل على تنفيذ سياستها في سوريا الجنوبية، مستفيدةً من الانهيار العام للبُنى السياسية القديمة في هذه المنطقة، وسقوط الممالك السورية من حولها واحدةً إثر أخرى، فانتعشت وأَثْرت من الدمار المنتشر من حولها. وبينما ضمت آشور معظم المناطق في سوريا وفلسطين إلى التاج الآشوري؛ بقيت يهوذا حرةً مستقلة، وعَبَرت القرن السابع قبل الميلاد بنجاحٍ لا تحسد عليه. من هنا، فقد عملت دمشق على إحداث تغييرٍ جذري في هيكل السلطة السياسية في يهوذا، ووضع ملك عليها يخلع طاعة آشور ويقف إلى جانب دمشق في المعركة المقبلة، التي كانت آشور تخطط من خلالها إلى توجيه الضربة الأخيرة لمملكة دمشق، والممالك القليلة الأخرى التي بقيت حتى الآن على استقلالها. هذا، ويُطلق خبر سفر إشعيا — الذي أوردناه أعلاه — على الملك البديل في يهوذا اسم ابن طبئيل دون أية تفصيلاتٍ أخرى. ومن ناحيتها، فقد كانت إسرائيل تشعر بالخطر الكبير الذي تمثله سياسة يهوذا على حدودها، واعتقدت بأن جبهةً واحدة تضم دمشق وإسرائيل ويهوذا، من شأنها دفع الخطر الآشوري عن المنطقة ولو مؤقتًا، بانتظار تغييراتٍ داخلية في آشور، أو تحركاتٍ في مناطق نفوذها الشرقية والشمالية، تشغلها ردحًا من الزمان.

عندما آلت أورشليم إلى السقوط بيد رصين ملك دمشق وصلته الأخبار عن عبور تغلات فلاصَّر الثالث نهر الفرات وتوجُّهه إلى سوريا الجنوبية، فتراجع عن أورشليم وعاد بسرعةٍ إلى عاصمته استعدادًا لقتال الآشوريين. وعند هذه النقطة من القصة يقفز النص التوراتي فوق الأحداث، ويُظهر أن الحملة الآشورية التي قضت على دمشق هي التي أعقبت تراجع رصين عن أسوار أورشليم. أما سجلات تغلات فلاصَّر فتُظهر بوضوحٍ أن عامين من القتال الشديد بين دمشق وآشور قد سبقا الاستسلام الأخير لدمشق. ففي الحوليات الجغرافية المختصرة لتغلات فلاصَّر لدينا ثلاث حملاتٍ على سوريا الجنوبية؛٩ واحدة منها على فلسطين عام ٧٣٤ق.م.، واثنتان على دمشق في عام ٧٣٣ق.م. وفي عام ٣٣٢ق.م. وهي الحملة التي قُتل فيها رصين. خلال الحملة على فلسطين يستولي تغلات فلاصَّر على المناطق الشمالية من مملكة السامرة، ثم لا يتوجه لحصار العاصمة، بل يتآمر لإحداث فتنةٍ تطيح بالملك فقح حليف دمشق. يقول تغلات فلاصَّر عن ذلك: «… ومن أرض عُمري استوليت على … وسُقت سكانها وممتلكاتهم إلى آشور. ثم ثاروا على ملكهم بيقحا (فقح)، فجعلت عليهم المدعو أوشي (هوشع) ملكًا، وتلقيت منهم جزيةً مقدارها ١٠٠٠ وزنةٍ من الذهب.»١٠ وهنا يتقاطع الخبر التوراتي مع الخبر الآشوري، ونقرأ في سفر الملوك الثاني: «في أيام فقح ملك إسرائيل جاء تغلات فلاصَّر ملك آشور وأخذ عيون وآبل بيت معكة ويانوح قادش وحاصور وجلعاد والجليل وكل أرض نفتالي، وسباهم إلى آشور. وفتن هوشع بن إيلة على فقح بن رمليا، وضربه فقتله، ومَلَك عوضًا عنه» (الملوك الثاني، ١٥: ٢٩–٣٠).
إن بعض الشذرات الباقية من رُقم تغلات فلاصَّر، إضافةً إلى نصٍّ آرامي مهم من مملكة شمأل؛ تعطينا صورةً عما كان يجري بين تغلات فلاصَّر ورصين ملك دمشق خلال هذا الهزيع الأخير من حياة مملكة دمشق المستقلة. فعلى شذرةٍ مُشوَّهة من أحد الرُّقم نقرأ بقايا نصٍّ يفيد وقوع هجومٍ غير ناجحٍ على دمشق، يكتفي إثره تغلات فلاصَّر بتدمير عددٍ هائل من المدن والقرى التابعة لرصين، بينها مدينة حدرا التي يصفها النص بأنها مسقط رأس الملك رصين (رحيانو). ونرجِّح أن تكون حدرا هذه هي بلدة عدرا الحالية الواقعة على مسافة ٢٥كم إلى الشمال من دمشق. يقول النص: «لقد حاصرت مدينة حدرا، بيت أسلاف رحيانو ملك إميريشو ومسقط رأسه، وفتحتها وسُقت منها ٨٠٠ أسير مع ممتلكاتهم غنيمةً. كما سُقت ٧٥٠ أسيرًا من مدينة كوروصَّا، ومن مدينة إرميا، و٥٥٠ أسيرًا من مدينة ميتونا غنيمةً. ودمرت ٥٩١ بلدة في ١٦ مقاطعةً من بلاد إميريشو، فتركتها كما الأنقاض بعد عاصفة الطوفان.»١١ ونستدل من هذا العدد الكبير من المدن والقرى المدمَّرة على أن حملة تغلات فلاصَّر قد طالت مملكة إميريشو الكبرى، والتي تشمل حوران والجولان والبقاع وبعض الأجزاء الشمالية من شرقي الأردن. كما يعطينا وصف الحملة الآشورية صورةً عن شراسة القتال بين دمشق وآشور خلال المعارك التي ختمت قرنًا ونصفًا من الصراع بين هاتين القوتين العُظميَين في المنطقة.
ويبدو أن تغلات فلاصَّر كان يستعين في حروبه على دمشق بجيوش بعض الممالك المقهورة والموالية له في سوريا الشمالية. يدلنا على ذلك نص الملك بنامو بن راكب ملك يأدي (شمأل)، الذي وُجد على نُصُب أقامه هذا الملك تخليدًا لذكرى أبيه الذي قُتل وهو يحارب في أرض دمشق إلى جانب الآشوريين. نقرأ في نص بنامو ما يلي: «بحكمته وبصدقه، أخذ بطرف ثوب سيده ملك آشور الذي أعلاه بين الملوك الكبار، وسار بركاب سيده تغلات فلاصَّر بوسط الجيش، من مطلع الشمس إلى مغربها … ثم مات أبي بنامو على رجلَي سيده تغلات فلاصَّر في المعركة، فبكاه أقرباؤه الملوك، وبكتْه قوات سيدي ملك آشور كلها. فقام ملك آشور وجعل له نُصُبًا على الطريق. ونُقل أبي من دمشق إلى آشور.»١٢
أما عن اقتحام دمشق وقتل رصين فلا يوجد لدينا نصٌّ واضح يصف ذلك فيما تبقى من سجلات وشذرات سجلات تغلات فلاصَّر. وقد عمل الباحث Tadmor عام ١٩٦٢ على إعادة ترتيب ثلاث شذراتٍ لرُقيم مكسور وقرأها على النحو التالي: «لقد ألحقت بآشور كل الأراضي الواسعة لبيت حزائيل (أي: مملكة دمشق) من جبال لبنان إلى بلدة جلعازو (راموت جلعاد في شرقي الأردن) وأبيلاكا (آبل بيت معكة) عند أطراف أرض عُمري، وعيَّنت عليها حاكمًا من قِبلي.»١٣ وعلى الأرجح فإن معارك حملة عام ٧٣٢ق.م. كانت بمثابة المواجهة الأخيرة بين دمشق وآشور، وهي التي أفقدت دمشق استقلالها، وألحقتها بالممتلكات الآشورية. وسيكون لدمشق انتفاضةٌ أخيرة بعد قليل، ولكن لا كمملكةٍ كبيرة، بل كمدينةٍ مستضعفة تحارب تحت إمرة ملك حماة.

(٣) نهاية إسرائيل

قبل هجومه الأخير على دمشق، عاقب تغلات فلاصَّر مملكة إسرائيل على وقوفها إلى جانب دمشق، فسلبها أراضيها الشمالية، وعيَّن عليها ملكًا جديدًا يأتمر بأمره، ويدير شئون مملكةٍ صغيرة تلعب دور التابع في منطقة فلسطين. فقد كانت آشور — إلى جانب اعتمادها سياسة ضم الممالك المستقلة إلى التاج الآشوري — ترغب في الإبقاء على الحكم الذاتي لبعض الممالك بعد إضعافها ونزع أسنانها، وذلك إلى الحد الذي يخدم مصالحها وحساباتها الاستراتيجية، وكانت تُبقي على الأُسر الحاكمة في هذه الممالك طالما أمَّنت لها هذه المصالح، فإذا آنس بعض هؤلاء الحكام من أنفسهم قوةً، وانتهزوا فرصة سانحةً للتمرد؛ عمدت آشور إلى البطش بهم وتصفية دُولهم. وهذا ما حدث لإسرائيل في سنواتها الأخيرة التي عاشتها بعد نهاية مملكة دمشق.

اعتلى عرشَ آشور بعد تغلات فلاصَّر الثالث ابنُه شلمنصَّر الخامس، الذي حكم فترةً قصيرة فيما بين ٧٢٦ و٧٢٢ق.م.، ثم خَلَفه صارغون الثاني، الذي حكم سبع عشرة سنة فيما بين ٧٢١ و٧٠٥ق.م.، وكان من أوائل أعماله حملته في مناطق غربي الفرات على حلفٍ سوري جديد تشكَّل هذه المرة بقيادة مملكة حماة، التي اغتصب العرش فيها رجلٌ من الجالية الحثية القوية التي تقيم فيها منذ زمنٍ بعيد، والتي صعد من صفوفها عددٌ من الملوك، أشهرهم إرخوليني حليف حدد عدر الآنف الذكر. وقد تألف حلف حماة من دويلات حماة وأرواد وسيميرا والسامرة ودمشق. ولا ندري كيف شاركت دمشق في هذا الحلف بعد زوالها كمملكةٍ مستقلة وضمها إلى التاج الآشوري. والأغلب أنها قد ثارت على الحاكم المُعيَّن عليها من آشور، ولجأت إلى ملك حماة الجديد، الذي وعدها بالحماية وتأمين الاستقلال. ومثلها في ذلك مدينة سيميرا التي كانت قد أُلحقت بآشور قبل دمشق. أما هوشع ملك السامرة فقد كان يتلقَّى تحريضًا مستمرًّا من مصر على الثورة، ووعودًا بالدعم العسكري والمادي، وقد وجد في دعوة ملك حماة مناسبة لبدء عصيانه.

لدينا نصان لصارغون الثاني عن قتاله لحلف حماة. نقرأ في أولهما: «ياوبيدي من عامة مدينة حماة، حثيٌّ ملعون، جعل نفسه ملكًا على المدينة، وحرَّض ضدي مدن أرواد وسيميرا ودمشق والسامرة، فتعاونوا وجهزوا جيشًا مشتركًا. دعوت جميع جند آشور وأطبقت عليه في قرقرة مدينته الأثيرة، ففتحتها وأحرقتها. أما هو فقد أمسكت به وسلخت جلده، وقتلت المتمردين في مدنهم، وأحللت النظام والسلام بها.» ونقرأ في النص الثاني: «لقد خرَّبت حماة كعاصفة الطوفان، وسُقت ملكها ياوبيدي وعائلته وكل محاربيه إلى آشور مُكبَّلين بالأصفاد، فشكَّلت منهم فرقةً مؤلفة من ٣٠٠ عربة، و٦٠٠ مقاتل مُجهَّزين بالتروس والرماح، وضممتهم إلى فِرَقي الملكية. ثم أسكنت ٦٣٠٠ آشوري في أرض حماة، وجعلت عليهم حاكمًا من عندي.»١٤ وسوف يطبِّق صارغون سياسة التهجير الجماعي — التي مارسها على نطاقٍ محدود في حماة — على أوسع نطاقٍ في إسرائيل، التي ما لبثت أن تلقَّت الضربة الآشورية الأخيرة التي أزالتها من الوجود باعتبارها كيانًا سياسيًّا وشعبًا.
في سجلات صارغون لدينا نصَّان قصيران يخبران عن دمار السامرة. نقرأ في الأول: «صارغون ملك آشور، فاتح السامرة وكل بيت عُمري. الذي غنم أشدود وشينوختي، وأمسك الياماني في البحر كالسمك. الذي قضى على كاسكو وطابالي وخيلاكو. الذي طارد ميتا ملك موشكو. الذي قهر مصر في رفح. الذي أخذ هانو ملك غزة أسيرًا. الذي أخضع الملوك السبعة بأراضي يدنانا على مسافة سبعة أيام في البحر.»١٥ وهكذا لم يكتفِ صارغون الثاني بالاستيلاء على الثغور السورية على شاطئ المتوسط جميعها، من كيليكيا (خيلاكو) إلى غزة ورفح في الجنوب، بل عمل على بسط سلطته على الشعوب البحرية التي تتاجر مع الثغور السورية، مثل الأيونيين (= الياماني) في الجزر اليونانية، والقبارصة في يدنانا (جزيرة قبرص)، وبذلك ضمنت آشور السيطرة التامة على التجارة البحرية في حوض المتوسط. كما وجه صارغون إلى مصر ضربةً أليمة في رفح التي تشكِّل آخر نقطةٍ لحدودها الشمالية التقليدية، وذلك عقابًا لها على تدخلها في شئون آشور، وتحريضها الدويلات الفلسطينية على العصيان.
وفي نصٍّ آخر أكثر تفصيلًا لصارغون عن فتح السامرة نقرأ ما يلي: «لقد حاصرتُ السامرة وفتحتها وجَلوتُ ٢٧٢٩٠ من سكانها، وجهزت من بينهم فصيلة بخمسين عربة ضممتها إلى فيلقي الملكي. أما المدينة، فقد أعدت بناءها بأفضل مما كانت عليه، وأسكنت فيها شعوبًا من المناطق الأخرى التي قهرتها. ثم أقمت عليهم حاكمًا من ضُباطي، وفرضت عليهم الجزية.»١٦

وبالطبع فإن سفر الملوك الثاني يحدثنا عن دمار السامرة، ولكنه يعزو ذلك إلى الملك شلمنصَّر الخامس سلف صارغون الثاني. ولعل مما يلفت النظر فعلًا أن معلومات محرري التوراة بخصوص آشور ودورها في أحداث النصف الأول من الألف الأول قبل الميلاد قد بقيت غامضةً ومشوشة، حتى عند هذا الوقت المتأخر من حياة مملكة إسرائيل. فصارغون الثاني بقي مجهولًا لديهم تمامًا، ومحررو سفر الملوك الثاني لم يَخصُّوه بخبرٍ واحد رغم حملاته الشهيرة التي غيَّرت الخارطة السكانية لبلاد الشام. نقرأ في سفر الملوك الثاني الخبر التالي عن فتح السامرة: «مَلَك هوشع بن إيلة في السامرة على إسرائيل تسع سنين، وعمل الشر في عينَي الرب، فصعد عليه شلمنصَّر ملك آشور فصار هوشع له عبدًا ودفع له الجزية، ووجد ملك آشور في هوشع خيانةً لأنه أرسل رسلًا إلى سوا ملك مصر ولم يؤدِّ جزيةً إلى آشور حسب كل سنة. فقبض عليه ملك آشور وأوثقه في السجن، وصعد ملك آشور على كل الأرض، وصعد إلى السامرة وحاصرها ثلاث سنين. في السنة التاسعة لهوشع أخذ ملك آشور السامرة، وسبى إسرائيل إلى آشور، وأسكنهم في حلج وخابور ونهر جوزان وفي مدن مادي» (الملوك الثاني، ١٧: ١–٦).

وبسقوط السامرة في عام ٧٢١ق.م. انتهت مملكة إسرائيل ولم تقم لها قائمةٌ بعد ذلك، كما اختفى الاسم «إسرائيل» وبطل استعماله، وحلَّ محله اسم السامرة للدلالة على المقاطعة التي قامت على أراضي إسرائيل، وذلك من العصر الآشوري إلى العصر الروماني.

(٤) سياسة التهجير الآشورية: أساليبها وأهدافها

لم تكن عمليات التهجير المنظمة — التي نشطت فعليًّا في عهد تغلات فلاصَّر الثالث — بالأمر الثانوي في الأيديولوجية السياسية للإمبراطورية الآشورية، بل كانت عمادها الرئيسي. فلقد طالت سياسة التهجير المناطق الواقعة تحت سيطرة آشور كلها؛ من إيران والخليج العربي، صعودًا إلى جبال طوروس، فهبوطًا نحو الساحل الفينيقي، وصولًا إلى حدود مصر، وكانت لها نتائجُ عميقة الأثر على التكوين السياسي والسكاني والاقتصادي للأراضي المقهورة. وقد وصلنا حتى الآن حوالي ١٥٠ نصًّا آشوريًّا تذكر عمليات ترحيلٍ واسعة النطاق، والشعوب التي طالتها هذه العمليات، والمناطق التي تم تهجيرها إليها. وقد تبين أن الجزء الأكبر من عمليات الترحيل كان باتجاه مناطق آشور الرئيسية في مدن آشور وكالح ونينوى ودور شاروكين، أما بقية عمليات الترحيل فكانت نحو المناطق التي شغرت من سكانها نتيجة عمليات ترحيل سابقة.١٧ فالمهجَّرون من مملكة حماة قد أُخذوا إلى آشور كما رأينا في نص صارغون الثاني أعلاه، وتم ضمهم إلى الجيش الآشوري، وكذلك سكان مملكة كركميش على ما يذكره نصٌّ آخر لصارغون، نقرأ فيه: «في السنة الخامسة لحكمي حنث بيصيري ملك كركميش بالعهد والقسم الذي أقسمه أمام الآلهة العظام، وبعث برسالةٍ إلى ميتاكوشي ملك موكشي مليئة بالمخططات العدوانية ضد آشور. فرفعت يدي إلى إلهي آشور بالصلاة وتوجهت إليه، فجعلته يستسلم عاجلًا مع عائلته، فخرجوا جميعًا من كركميش ومعهم ذهبهم وفضتهم وممتلكاتهم الشخصية تقدمةً لي، فرميتهم بالأصفاد، ثم أحللت في كركميش سكانًا من آشور.»١٨ أما أهل القبائل العربية الذين قهرهم صارغون في المناطق الشمالية من جزيرة العرب فقد تم ترحيلهم إلى أراضي السامرة التي سبقتهم إليها جماعاتٌ مغلوبةٌ أخرى. نقرأ في نص لصارغون الثاني: «بناءً على نبوءةٍ صادقة من إلهي آشور، سرت وقهرت قبائل ثمود وأباديدي ومارسيمانو وحاييبا؛ العرب الذين يعيشون بعيدًا في الصحراء، الذين لا يعرفون البحار ولا الرؤساء، ولم يأتوا بجزيتهم لأي ملك. لقد أبعدت من بقي منهم حيًّا وأسكنتهم في السامرة.»١٩
يذكر العديد من نصوص الترحيل الآشورية أن شعوبًا بأكملها قد سِيقتْ إلى المنفى، إلا أن النصوص التي تذكر أعداد المهجَّرين لا تزيد عن ثلاثة وأربعين نصًّا من أصل مائةٍ وستة وخمسين. ولكي نأخذ فكرةً عن العدد الإجمالي للسكان، الذين طالتهم عمليات الترحيل، يكفي أن نذكر أن ١٣ نصًّا من أصل اﻟ ٤٦ نصًّا التي تذكر أرقام المهجَّرين يتحدث عن تهجير ما يزيد عن اﻟ ٣٠٠٠٠ نسمة في كل عميلة، بما فيها عملية الترحيل الكبرى لسكان بابل، والتي طالت حسب الرقم الآشوري المقدم ٢٠٨٠٠٠ نسمة. من هنا فإن الحديث عن ملايين الناس الذين طالتهم عمليات التهجير الآشورية لا يدخل في نطاق المبالغة.٢٠ أما عن أهداف سياسة التهجير الآشورية فمتعددة؛ فأولًا: كان التهجير بمثابة عقوبةٍ للشعوب الثائرة، التي لم تنفع الوسائل الأخرى في إخماد ثوراتها المتلاحقة. وثانيًا: كان توطين المهجَّرين في المناطق الجديدة، باستثناء آشور، يستهدف تغيير التركيب السكاني في المناطق المتمردة التي رحل إليها هؤلاء المهجَّرون، وخلخلة التجانس الإثني فيها من أجل منع حدوث ثوراتٍ محتملةٍ فيها. وثالثًا: كان قسمٌ لا بأس به من المهجَّرين يُوطَّن في مناطقَ خاليةٍ من السكان بهدف إحيائها اقتصاديًّا والاستفادة منها لصالح التاج الآشوري. أما إعادة التوطين في مناطق آشور فقد استهدفت رفد القوة العسكرية الآشورية بأفضل جنود البلاد المقهورة، والإفادة من الحرفيين المَهَرة لدعم الصناعات المحلية، والإفادة أيضًا من الإنتلجنسيا المغلوبة في شتى وظائف القصر والإدارات العامة، وأخيرًا تزويد أعمال البناء العامة باليد العاملة المُسخَّرة.

وكما هو شأن الدعاوى الإمبريالية الحديثة، التي كانت تقدم الاستعمار للشعوب المغلوبة على أنه إنقاذٌ لها من حكامها ومن أوضاعها الاقتصادية المتردية، وترسم صورةً للمستعمر باعتباره مصلحًا وحاملًا لرسالة التقدم، كذلك كان شأن الدعاوى السياسية الآشورية التي كانت تتوجه للشعوب بشعاراتٍ مشابهة. فآشور هو المنقذ لهذه الشعوب، والمنفى الذي ينتظرها هو جنةٌ وفردوسٌ لمن يستسلم للآلة الحربية الآشورية. ولدينا نصٌّ من سفر الملوك الثاني يتفق كل الاتفاق مع هذه النغمة الإعلامية التي نجدها في العديد من النصوص الآشورية. فعندما كان القائد الآشوري ربشاقي يحاصر أورشليم في عهد حزقيا؛ يتوجه هذا القائد إلى أهل أورشليم بخطابٍ تحت السور يدعوهم فيه إلى الاستسلام، الذي ستكون مكافأته ترحيلهم إلى أرضٍ جديدة يتملَّك فيها كل واحدٍ منهم حقلةً طيبة تفيض خمرًا وعسلًا، ويأكل من كرمته وتينته الخاصة، التي زرعها بنفسه. نقرأ في سفر الملوك الثاني: «اسمعوا كلام الملك العظيم ملك آشور. هكذا يقول الملك: لا يخدعْكم (ملككم) حزقيا لأنه لا يقدر أن ينقذكم من يدي … لا تسمعوا لحزقيا، لأنه هكذا يقول ملك آشور: اعقدوا صلحًا معي واخرجوا إليَّ، وكلوا كلُّ واحدٍ من جفنته، وكلُّ واحدٍ من تينته، واشربوا كلُّ واحدٍ من ماء بئره. حتى آتي وآخذكم إلى أرضٍ كأرضكم، أرض حنطةٍ وخمر، أرض خيرٍ وكروم، أرض زيتونٍ وعسل. واحيوا ولا تموتوا» (الملوك الثاني، ١٨: ٢٨–٣٣).

١  عن تقاريرَ أثرية للمنقبَين الإسرائيليَّين كوشافي وفنكلشتاين انظر تومبسون:
Th. L. Thompson, Early History of the Israelite People, p. 288.
٢  عن تقاريرَ أثرية للمنقبَين الإسرائيليَّين مازار وكوشافي انظر تومبسون، المرجع نفسه ص ص٢٨٨–٢٨٩.
٣  Th. L. Thompson, op. cit., pp. 289-290.
٤  Ibid., pp. 328–330.
٥  Ibid., pp. 330–334.
٦  Leo Oppenheim, op. cit., p. 283.
٧  إن الخبر في هذا المقطع الذي يبدأ ﺑ «ومن أرض عُمري … إلخ» ينتمي إلى أخبار حملةٍ لاحقة؛ لأنه وقع في عهد فقح.
٨  Ibid., p. 283-284.
٩  Wayne T. Petard, op. cit., p. 186.
١٠  Leo Oppenheim, op. cit., pp. 283-284.
١١  Wayne T. Petrad, op. cit., p. 187.
١٢  د. علي أبو عساف، المرجع السابق ص١٢٤–١٢٥.
١٣  Wayne T. Pitard, op. cit., pp. 188-189.
١٤  Leo Oppenheim, op. cit., p. 284.
١٥  Op. cit., p. 284.
١٦  Op. cit., p. 284.
١٧  Thomas L. Thompson, op. cit., p. 341.
١٨  Leo Oppenheim, op. cit., p. 283.
١٩  Ibid., p. 286.
٢٠  Thomas L. Thompson, op. cit., p. 342.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤