مُقدِّمَةٌ

بسم الله الرحمن الرحيم

عرفتُ شعرَ البهاء زهير إذ أنا صبيٌّ أقرأ على والدي — يرحمه الله — شيئًا من كتب الأدب في بعض الليالي، وقد أحببتُ شعرَ البهاء زهير مذ عرفته.

كان يتأتَّى لعقلي الناشئ أن يستشفَّ معانيه من ثنايا ألفاظه اللطيفة وتراكيبه، على حين تقوم الألفاظُ والتراكيبُ حجابًا دون المعاني كثيفًا في الشعر أحيانًا وفي النثر، وكان موقع وزنه الموسيقي ونَغَمه يستثير في نفسي أرْيحيِّةً وطربًا، حتى لتأثر بذلك ذوقي، فهو يهفو في البيان إلى نوع من الأنغام والوزن.

ثم درست بعد ذلك سيرة البهاء زهير فيما كتب الكاتبون عنه وفيما حفِظت لنا الأيامُ من آثاره، فتجلَّى لي من امتياز الرجل وتفوُّقه ما ملأني حبًّا له وتقديرًا.

البهاء زهير مِثالٌ من مُثُلِ الخلق العظيم؛ يجمع إلى حبِّ الخيرِ وفضيلةِ العفوِ قوَّةَ الشخصية وشرفَ النفسِ وعِزَّةَ الإباء، وتلك صفات لا تجتمع إلا لأهل الفِطَر الفائقة، خصوصًا في عصرٍ كعصرِ البهاء زهير ولمن كان في مثل منصبه.

كان البهاء زهير صديقًا للشاعر المشهور جمال الدين المصري يحيى بن مطروح، الذي وُلد بأسيوط سنة ٥٩٢ﻫ، ثم أقام بقوص زمنًا، وفي قوص تعارف البهاء زهير وابن مطروح، وعاشا كالأخوين أيام الصبا، ثم اتصلا معًا بخدمة الملك الصالح نجم الدين أيوب من قبل أن يتولى الملك في حياة أبيه الملك الكامل، واستمرا في خدمته بعد أن صار ملكًا.

أما ابن مطروح فكان في صورة وزير لدمشق، وحسنت حاله، وارتفعت منزلته.

قال ابن خلكان: «وفي سنة ٦٤٦ﻫ، عُزل ابن مطروح عن ولاية دمشق … ثم عاد الملك بعسكره إلى الديار المصرية وابن مطروح في الخدمة، والملك الصالح متغير عليه، متنكر له؛ لأمور نَقَمها عليه، وخيَّم الملكُ الصالح عسكره على المنصورة وابن مطروح مواظب على الخدمة مع الإعراض عنه. ولما مات الملك الصالح وصل ابنُ مطروح إلى مصر وأقام بها في داره إلى أن مات سنة ٦٤٩ﻫ.»

أما البهاء زهير فقد بلغ رتبةً تزاحم الوزارةَ جاهَها أو تزيد، وهي رتبة الرياسة لديوان الإنشاء، وقد تنكَّر له الملكُ الصالح أيضًا في أواخر أيامه وعزله — في حديث نرويه مفصلًا بعد — فأبى للبهاء زهير شرف نفسه أن يتنصل من ذنب لم تكن كل تَبِعته عليه، وأبى له شممه أن يقيم في الخدمة مع الإعراض عنه، فرحل من فوره إلى داره، ولزمها فقيرًا معدمًا حتى مات.

وإذا كان البهاء زهير عظيمًا في خُلقه — كما رأيت — فهو عظيم أيضًا بمقامه في تاريخ الأدبِ العربيِّ.

عاش البهاءُ زهير في القسم الأخير من العصر العباسي، وكان الأدبُ العربيُّ في هذا الدور قد جاوز المدى في التنميق والعناية بالمحسِّناتِ البديعيةِ والسجعِ والإغرابِ اللفظيِّ.

وأشهر أئمة الإنشاء في ذلك العصر رجلان؛ أحدهما: القاضي الفاضل محيي الدين — أو مجير الدين — أبو علي عبد الرحيم البيساني ثم العسقلاني ثم المصري، وزير صلاح الدين وصاحب ديوان الإنشاء لعهده، المتوفَّى سنة ٥٩٦.

وثانيهما: العماد الكاتب الوزير أبو عبد الله محمد بن أحمد بن حامد الأصفهاني، المتوفَّى سنة ٥٩٧.

ويُلقَّب القاضي الفاضل بشيخ البلاغة، ويلقب العماد الكاتب بعمدة المُنشئين.

وقد أدخل العماد أساليبَ الترسُّلِ بما فيها من سجع، وجناس، واقتباس، واستعارات، وكنايات في المؤلفات العلمية، فكتب في التاريخ كتبًا على هذا الطراز؛ مثل مؤلفه المعروف بالفيح القسي في الفتح القدسي.

أما القاضي الفاضل فله في كتابة الإنشاء طريقة تعرف بالطريقة الفاضلية، سار على نهجها أهلُ عصره ومن جاء بعد عصره، وفشتْ في الأدب العربي، وقد سنَّ سُننًا فيما تُصدَّر به الرسائلُ والتواقيع وما تُختم، وفي أساليب الدعاء وغير الدعاء.

وتمتاز الطريقة الفاضلية بالإطناب، وكثرة الاقتباس والتضمين، والمطابقة، والتورية، والمجاز، مع الإسراف في الجناس وما إليه من المحسِّناتِ اللفظية، ومع الميل إلى المفردات الغريبة والتراكيب الفخمة.

عُيِّن البهاء زهير رئيسًا لديوان الإنشاء في الدولة الأيوبية، فحلَّ محلًّا كان القاضي الفاضل صاحبه من قبل، وتولاه بعده تلميذان من أتباع مذهبه.

جاء البهاء زهير والطريقة الفاضلية في عنفوان مجدها، فابتدع هو في الشعر والإنشاء نمطًا جديدًا خرج به عن التقاليد المرسومة في صور المخاطبات وفي الأساليب؛ فهو مُوجِز لا يُحب الإطناب، وهو مُقتصدٌ في زِينة اللفظ، وهو نزَّاعٌ إلى الوضوح والبساطة، فلا يرضى كثرة المجاز والكناية، وهو عدوٌّ للجمود على نُظُمٍ في البيان تقتل مواهب الإبداع والتفنن.

ثم هو لا يريد أن يستبدل الناسُ بكلامِهم العادي كلامَ الجاهلية الأولى إذا نظموا الشعر أو كتبوا، وإنما يريد أن يصحح الشعراءُ والكتاب أساليبهم على مقتضى القواعد العربية، حتى لا تنقطع الصلة بين ماضيهم وحاضرهم، من غير أن يجني ذلك على سهولة التفاهم، ولا على حركة اللغة ونموها وحياتها.

هذا المذهب الجديد في إصلاح الأدب العربيِّ لم يلق في ذلك العصر ما يمدُّه ويقوِّيه، ولم يكن البهاء زهير بفطرته السمحة، وخلقه الوديع، رجلَ كِفَاح يجاهد متحمسًا في سبيل دعوة لمذهب جديد.

لم يَرُقْ لكثيرٍ من الأذواق التي أفسدها التقليدُ هذا المذهب الذي يفك عنها قيودها، ويُخلِّصها من التكلُّف إلى مسايرة الفِطَر. ولقد أغفل المؤرخون الذين وقفنا على مؤلفاتهم شأن البهاء زهير في ديوان الإنشاء، حتى مَن تخصص منهم بهذا الموضوع؛ كالقلقشندي صاحب كتاب صبح الأعشى، فلم يَرْوِ لنا منهم أحدٌ شيئًا من الرسائل التي كُتبتْ بقلمه على كثرة ما نقلوا من رسائل كُتَّاب هم دونه مقامًا.

وكلُّ ما عُثر عليه من ذلك رسالته في الردِّ على كتاب لويس التاسع ملك فرنسا إلى الملك الصالح نجم الدين أيوب، وسنعرض لها فيما بعد.

ذكر هذه الرسالة الإسحاقيُّ في تاريخه، ثم أوردها المقريزيُّ في خططه، ونقلها علي مبارك باشا في الخطط التوفيقية.

وهذه الرسالة المفردة تهدي — عند مقارنتها بما كان يكتبه القاضي الفاضل والعماد الكاتب وأضرابهما — إلى المَنَازع التي اختص بها البهاءُ زهير، ويعين على ذلك ديوان شعره، وعسى أن يوفَّق الباحثون إلى أخوات لهذه الرسالة تزيدنا علمًا بطريقة البهاء زهير وخصائصها.

هذا، ولستُ أعرف شاعرًا نفخت مِصرُ فيه من روحها ما نفخت في البهاء زهير، فهو مصريٌّ في عواطفه، وفي ذوقه، وفي لهجته إلى الغاية القصوى، وإن كان مولده في بلاد الحجاز.

من أجل ذلك كله وضعتُ هذا البحث في البهاء زهير الشاعر المصري، إحياءً لذكرى رجلٍ جديرٌ أن يحيا بيننا تَذْكارُه، وقد سبقني في العامِ الماضي إلى نشر بحوث في البهاء زهير وشعره الأستاذان المنشاوي والسقا، المدرسان بالمدارس الثانوية الأميرية، والأستاذ الشايب، المدرس بالجامعة المصرية، واطلعتُ على ما كتبوا بعد أن فرغت من رسالتي.

وقد تحرَّى الأساتذةُ مطابقةَ المنهجِ الذي وضعتَهُ وزارةُ المعارف لدرس الأدب العربي وتاريخه، فلهم في البحث وجهةٌ غير وجهتي. وهذا ما يُسوِّغ لي أن أنشر رسالتي بعد أن نشروا كتابيهم القيمين، معترفًا بفضلهم، مثنيًا عليهم جميل الثناء.

مصطفى عبد الرازق
مصر في مارس ١٩٣٠

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤