الفصل الأول

رحلة صيف

«الصحافي العجوز» يستأذن قرَّاء الهامش لإجازة خارجية عِدَّتُها سبعةُ أسابيع بالكمال والتمام.

في السنة الماضية عندما عُدْتُ من الإجازة قال لي أستاذنا السناتور رئيس التحرير: السنة الجاية إجازة بقيد وشرط.

قلت: وأنت تعلم يا سيدي الرئيس أنني أكره القيود والشروط، ولكن أمرك مُطاعٌ على كل حال.

قال: الشرط أن «تنقطنا بسكاتك» بألَّا تكتب، بل تكتفي بالاستراحة، وتمتنع عن تكرار اللف والبرم وشرح زياراتك للمتاحف والمكتبات.

فوعدته. فهز رأسه، وقال مبتسمًا: أنا عارف اللي فيه شيء ما يخليهشي.

تفصيل أخبار الرحلة

وسأحاول في هذه الرحلة أن أقلِّل من الكتابة إذا طاوعني الاستيليو المحترم ولم يصادفني ما يستحق الكتابة. وإلا فالرسائل متواليةٌ متلاحقة حتى تنتهي الرحلة، وقد يكون لها ذيل يُستخدَم باليومية في مصلحة الكنس والرش.

بروجرام الرحلة

ورحلة هذه السنة لا تتجاوز حوض البحر الأبيض المتوسط، مهد الحضارات المصرية والفينيقية والعبرية واليونانية والرومانية.

فمن مصر إلى بيروت ولبنان، عن طريق البحر.

والبواخر المصرية والفرعونية والفرنسوية والإيطالية مزدحمة مختنقة مكبوسة منذ شهر.

وبعد كل عناءٍ وجدتُ محلًّا مختارًا في الباخرة الرومانية «داسيا» التي تسير متبخترة من الإسكندرية إلى بورسعيد، فحيفا ويافا وبيروت.

وفي بيروت ولبنان الأهلُ والأصدقاء والخِلَّان، والأكل والشرب بالإكراه، والجلسات الطيبة مع أهل السماح الملاح، والخوتة المنتظرة في أحاديث الأدب والسياسة.

خريطة سياحة الصحافي العجوز

من الإسكندرية إلى بيروت، فبيريه، برنديزي، باري، نابولي، روما، فلورنسا، فنيسيا، تريسيا، فيومي، أباتسايا، روما، تونس، طرابلس، بنغازي، مصر.

ثم يكون السفر إلى اليونان على باخرة يونانية طوَّافة تمر بطرابلس الشام وموانئ قبرص الثلاثة فبيريه.

وبلاد زفس وديانا وأبوللو وسقراط وأفلاطون وسولون تحتاج إلى عمرٍ طويل، وتخصُّصٍ لدراسة آثارها وآدابها؛ ليعرف المرء كيف يزورها ويتذوَّق معانيها وأحجارها وأطلالها.

figure
على باب بار اللواء.

فأنا أمر بها لمامًا، وأقضي أسبوعي فيها في التمتع بالجلسات الطيبة مع الأستاذ حاجي مانولي، والأستاذ كوستا أورانيس، وزيارة المفوضية والقنصلية المصريتين، والتنقُّل في الجزر لمشاهدة محاسن الطبيعة التي لم تفسدها الصناعة والحضارة.

ومن بلاد اليونان إلى بلاد الطليان: بلاد دانتي أليجيري والدوتشي موسوليني والفنون والاسباجيتي.

ولي فيها مآرب أهمُّها زيارةُ المعرض الأوغسطي في روما، والطوافُ بديار قداسة سيدنا كبير النصارى بابا روما المعظَّم، وما فيها من كنوز الكتب والتحف والآثار والصور.

ومن روما إلى فلورنسا فبلد الجوندولات فنيسيا حيث يرقد بسلام كاروز مصر ماري مرقس. وفيها الآن معرض الصور الدولي البينالي (أي المعرض الذي يقام كل سنتين).

وفي هذا المعرض العظيم تمثل مصر لأول مرة بطائفة صالحة من صور الفنانين المصريين وتماثيلهم.

figure
الأستاذ مصطفى كامل الشناوي من أسرة الأهرام وزبائن بار اللواء.

ويمثِّلنا في المعرض الأستاذُ سحاب رفعت ألماس ومعه الأستاذ عبد القادر رزق، ولا بد أن يكون هناك راغب عيَّاد والسيدة زوجته، ولبيب تادرس، وغيرهم من الأصدقاء الفنانين المصريين الذين يعرفون زوايا المدينة ودخائلها والنزهات الليلية في الروافد المظلمة.

أما العودة فعن طريق مارسيليا بعد المرور الخفيف بمونت كارلو وزيارة الصديق العزيز الأستاذ صبري السوربوني في نيس.

هذا هو البروجرام المرسوم، وقد يدخل إليه شيء من تبديل وتعديل تبعًا للملابسات والظروف، وليس لي أن أتكهَّن بما تُكِنُّه الأيام والليالي من طيب وردي.

وداع الإخوان والأصدقاء

وبعد وداع الإخوان في دار الأهرام ومكتب السياحة، كان لا بد من المرور ببار اللواء لوداع الزبائن المحترمين.

وكان في مقدمتهم الزميل العزيز الأستاذ الشيخ (باعتبار ما كان) علي الغاياتي الجنيفي صاحب منبر الشرق.

والشيخ يعادي اليومَ الاصطيافَ في أوروبا، ويحمل حملاتٍ نكراءَ على مَن يذهبون إلى فيشي وفيتل وكارلسباد ومارينباد.

استأذنته في السفر وأن يكون راضيًا عني.

فردَّ مبتسمًا: «إن كان علشانك فقط ماعليهش.»

ولست أريد أن أجادل نظرية القائلين بمنع السفر إلى الخارج، ويكفي للرد عليها أن القاصدين إلى أوروبا في هذه السنة لا يقِلُّون عن أربعين ألفًا.

يومان في الإسكندرية

وكان القطار الذي برح الإسكندرية يوم ١٥ يوليو ١٩٣٨ مشحونًا شحنة كاملة.

وبكل نفس وجدت مقعدًا على هامش الكابينات.

ولم ينقذ الموقف غير قاعة الطعام وتناول القهوة مع الشيخ المحترم جرجس تكلا بك، وسماع أحاديثه عن الفلاحين وبؤس أرباب الأملاك وتخوُّفهم من المستقبل.

وليس الحال في الإسكندرية على ما كان يُنتظر.

فالغرفُ المفروشة والشققُ المفروشة تنادي المصطافين، ولا حياةَ لمن تنادي.

وقاعات الرقص والتمثيل الهزلي يعاني أكثرُها الكساد.

والوقت ضيِّقٌ لا مجالَ فيه لزيارات الأصدقاء المقِيمين والأصدقاء المصطافين.

في بيت الدكتور يزبك

ولكن كانت هناك زيارة ضرورية للأستاذ الدكتور يزبك الطبيب البيطري المعروف وعائلته الكريمة.

وفي داره ببولكي وجدتُ زميلَه الدكتور الجارحي بك.

وجرى ذِكر اللحم، ومَن أعرف باللحم من الطبيب البيطري؟!

figure
حمامات ستانلي باي بالإسكندرية.

قال الدكتور يزبك: سيتعهَّد الزميل الجارحي بك بتوريد المرتب لنا يوميًّا من كفر الدوار؛ لأن اللحم في الإسكندرية لا يُؤكَل.

فقد قصدتُ قصَّابًا، وطلبتُ منه قطعةً من البتللو، فقدَّمَ إليَّ لحمَ جمل، ولما رفضته قدَّم لي شريحةً من البتللو مليئةً بجراثيم لزرع الدودة الوحيدة، فذكرت له أنني طبيب بيطري ولست أريد أن أكتب له محضرًا، فقدَّم إليَّ قطعة طيِّبة، وقال إن ثمن الأقة عشرون قرشًا وجاء بورق لِلَفِّها يَزِن ربعَ الأقة.

وهذا الكلام يعرف معناه صاحب السعادة حامد الشواربي باشا مدير مجلس إسكندرية البلدي ويقدِّرُه المصطافون الكرام.

سهرة قبطية

وكانت سهرة قبطية في قهوة التجارة قوامُها الأساتذة الأرشديكون حبيب جرجس مدير المدرسة الإكليريكية، وعياد أبو الخير المحامي، وكامل جرجس من كبار أساتذة المدارس الثانوية، وكان الحديث طائفيًّا محضًا حتى منتصف الليل.

وأدرك شهرزاد الصباح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤