الفصل التاسع عشر

في الأكاديمي المصرية

داران في رومة، يجب على كل مصري أن يزورهما: المفوضية المصرية، والأكاديمي المصرية للفنون.

ففي اليوم الثالث لوصولي إلى رومة، سألت بالتليفون عن الأستاذ سحاب رفعت ألماس مدير الأكاديمي، ومدير البعثة المصرية في إيطاليا، فلم أجده، ولكنَّ صوتًا مصريًّا طلب مني عنواني فأعطيته له، وفي مساء اليوم التالي خاطبني الأستاذ سحاب ودعاني للغداء على مائدته.

وقابلته في الموعد المحدد بميدان أسدرا على مقربة من المحطة، فأركبني سيارته الأنيقة ومعنا عبد السلام علي نور أفندي أحد طلبة الأكاديمي.

غدوة مصرية إيطالية

وكانت غدوة مصرية إيطالية فنية شهية.

اشترك فيها الأستاذ يحيى حقي قنصل مصر بالنيابة في روما، والأستاذ محيي الدين فهمي الملحق بالمفوضية، والمسيو بوزيو من رجال السينما، والطلبة عبد الحميد عزمي، وعبد السلام علي نور، ومصطفى متولي حسنين.

وكان لا بد من القيلولة، وفي غرفة الصديق الحفار عبد القادر رزق الفراش الوثير، وإلى جانبها الحمام بمائه البارد والساخن.

ثم كانت جلسة مع الطالب الفنان عبد السلام علي نور، شرح لي فيها ما فاتني الكلام عنه، في رحلة السنة الماضية، من خبر هذا المعهد المصري الفريد.

ما هي الأكاديمي المصرية

وعمارة الأكاديمي من أملاك الحكومة الإيطالية، قدمتها إلى الحكومة المصرية لإقامة بعثة الفنون والهندسة المعمارية المصرية إلى أن تبني لنا دارًا في الأرض التي منحتها لنا في حي الفنون حيث توجد لكل حكومة دار خاصة، ومقابل ذلك أعطينا إيطاليا أرضًا في الإسكندرية شيَّدت عليها معاهدها العلمية والفنية.

figure
الأستاذ سحاب رفعت ألماس.

وقد تسلم هذه الأكاديمي منذ نشأتها سنة ١٩٢٩ الأستاذ سحاب رفعت ألماس، فأُعطِيَت القوس باريها، وعرف هذا الشاب الفنان كيف ينال مركزه الرفيع في قلوب رجال العلم والفن والأدب في إيطاليا سواء بفنه ومعرفته التامة باللغة الإيطالية وآدابها.

figure
تمثال النظرة المؤلمة لمصطفى متولي حسنين.

فنانونا الشبان في الأكاديمي

ويقيم في الأكاديمي الآن أربعة من الطلبة وهم الأفندية:
  • عبد القادر رزق: خريج مدرسة الفنون الجميلة العليا بمصر في النحت، وعضو بعثة وزارة المعارف، وقد قضى سنتين في إيطاليا، ويقضي سنتين أخريين في فرنسا، ابتداء من أول ديسمبر القادم، وأعمال عبد القادر ومنها رأى الصحافي العجوز أدلة ناطقة بنبوغه.
  • وعبد الحميد عزمي: خريج كلية الهندسة، ويتخصص في هندسة المباني على نفقة صاحب السمو الأمير يوسف كمال، وقد قضى في روما سنتين ويقضي سنتين أخريين، وله في الأكاديمي عدة صور شاهدة بجِدِّهِ ومبشرة بنجاحه.
  • ومصطفى متولي حسنين: كان أول الدبلوم في مدرسة الفنون الجميلة العليا سنة ١٩٣٣، فأُرسِل إلى إيطاليا للتخصص في الحفر على نفقة سمو الأمير يوسف كمال، وقد أتم دروسه.

    وأثنت الصحف الإيطالية على ما أخرجه من التماثيل، وأهمها: النظرة المؤلمة، والحلم السعيد، والعائلة، وحواء، والسجود، وسيدنا موسى وزوجته، والحياة، والراحة بعد الحمام.

  • وعبد السلام علي نور: خريج الفنون الجميلة، ويتخصص على نفقة الخاصة الملكية، في التصوير الخيالي والحفر على الخشب والزنك والليتوغرافية (الحجر).

    وقد بدأ دراسته في فلورنسا، ثم دخل مدرسة أوربينو (وهي أكبر معهد للرسم الخيالي)، وكان الأول في امتحان الدبلوم فقررت إدارة المدرسة طبع أطروحته على الليتوغرافيا، على حسابها.

figure
عائلة إيطالية في الطريق، بريشة عبد السلام علي نور.

وتنشر صحف إيطاليا وإنكلترا صوره الخيالية، ويكتب بعضها فصولًا مطولة عن تفننه وإبداعه.

وأطلعني على ألبوم من الجلد الفني الثمين يحتوي على مجموعة فتوغرافية لأعماله، سيرفعه إلى أعتاب حضرة صاحب الجلالة الملك فاروق، اعترافًا بفضل البيت المالك عليه وتشجيعه له على التحصيل.

ويرجو عبد السلام أفندي أن يقضي سنة في فرنسا للتخصص في الحفر على الزنك.

ولكل واحد من هؤلاء الطلبة وغيرهم غرفة للنوم في الأكاديمي وغرفة للعمل والتمرين، ولكن المتزوجين منهم ينامون في بيوتهم.

بين المتحف والآثار الفنية

ثم نزلتُ لوداع الأستاذ سحاب فأجلسني في مكتبه وزوَّدني بمعلومات شائقة عن القسم المصري في معرض البينالي (الثنائي) في فينسيا، وطُفت معه في بعض أرجاء الأكاديمي ومكاتبها، وألقيت نظرة على الدهاليز وغرفة نوم الأستاذ، وقد غُطِّيَتْ جدرانها بالعشرات من اللوحات الفنية التي تخرجها ريشته، وإلى جانبها المكتبة الحاوية أهم كتب الفنون الحديثة وتاريخها ودائرة المعارف الإيطالية.

وخرج بي إلى الحديقة التي عُنِي بتنسيقها وغراسها وتزيينها بالتماثيل المختلفة من صنع الطلبة المصريين، وإلى جانبها قطع من آثار تريانو، فصار الداخل إليها يُحِسُّ بأنه في معهد فني، ويزيد المصريين بهجة واعتزازًا علَمنا الأخضر الخفَّاق على ذاك القصر المحاط بالآثار.

وأبى الأستاذ إلا أن يوصِّلَني بسيارته إلى حيث أريد، فكررتُ الشكر له عمَّا غمَرني به من عطف وإكرامٍ وضيافة.

وخرجت مع الطالبَيْن عبد السلام ونظمي الجاولي عضو بعثة كلية التجارة في باريس، إلى بارك أوبيو وفيه قهوة ظليلة قال لي عبد السلام إنها قهوة الأطلال، وفي جوانبها يحلو ليلًا تناجي أهل العشق والغرام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤