الفصل الثالث والعشرون

من فينسيا إلى أباتسيا

صباح يوم الثلاثاء ٢٣ أغسطس، اللنش الكهربائي يقل الصحافي العجوز من الفندق إلى محطة السكة الحديد مجتازًا القنال الكبير وعمارته الأثرية، ولكل عمارة ولكل حجر تاريخه، وأخصها جسر التنهُّدات الذي يصل بين قصر الدوجات والسجن.

وقد عرف القصصي ميشيل زيفاكو كيف يقص خبره وحسرات من يتخطونه من التعساء الذين يُحكم عليهم بالسجن أو الموت في تلك الحجرات السوداء.

ولم يكد القطار يسير كيلومترات حتى تجلى العالم الآخر: طريق السيارات الذي أنشأه الدوتشي موسوليني. والسيارات والموتوسيكلات والدراجات والعربات وغيرها من أدوات النقل القديم والحديث، كان الله قد أراحنا من مشاهدتها في مدينة القنالات والجوندولات.

ساعات في تريستا

والقطار سريع، لم يقِف إلا في المحطات الكبيرة حتى وصل إلى تريستا: الميناء النمسوية العظيمة التي صارت من نصيب ألمانيا بعد الحرب. فأقفل باب البحر أمام النمسا، وأصبح لإيطاليا أكبر مرفأ من مرافئ الأدرياتيك.

ومدينة تريستا من مدن السواحل التي يمر بها المصطافون المصريون سراعًا، وينزل إليها خاصة القاصدون حمامات النمسا والتشكوسلوفاكيا.

وقد نزلت بها منذ ١٨ سنة، ولكني لم أتجاوز ساحة الأونيتا أكبر ميادين تريستا وأوسعها، وتبلغ مساحتها ١٦ ألف متر مربع، وتحيط به العمارات الشائقة والأندية العامة ومكاتب السياحة ودار اللويد ترستينو والبلدية التي شيدت في القرن السادس عشر وجددت سنة ١٨٧٤ وسراي بيتري، وغيرها.

figure
جسر التنهدات.

جولة وغدوة مع صديق عزيز

وقد امتازت زيارتي لها هذه المرة بمقابلة الصديق العزيز الأستاذ أحمد رمزي قنصل مصر في تريستا الذي نُقِلَ إلى طهران.

والقنصل الشاب عرفتُه طالبًا في سويسرا سنة ١٩٢١ ورأيته في إستانبول سنة ١٩٣٢، فأدلى إليَّ حينذاك بمعلومات عن حالة تركيا، أدركت منها كيف يُعنى بدراسة شئون كل بلد ينزل إليها.

واستقبلني في مكتبه بقنصلية تريستا بما هو معروف عنه من أدب وكياسة، وقدمني إلى موظفي القنصلية الأستاذ عبد المنعم، والأستاذ لطف الله.

وكان موعد الغداء قد حلَّ، فأكلت معه في مطعم الكاستلو، وقضينا نحو ساعة في التجول ببعض أنحاء المدينة القريبة من البحر ومحطة سكة الحديد، وفيها العمارات القديمة والمباني الحديثة والفترينات الزاخرة بصنوف البضائع.

ودخل بي مكتبة انتقى منها بعض المؤلَّفات، ومنها إلى قهوة تناولنا فيها الشاي.

figure
منظر عام لمدينة تريستا.

ولم يفتُر عن الإفاضة ببيانات طريفة عن المدينة وماضيها وحاضرها وحركتها المالية والبحرية، وما أدخله فيها الطليان من تغيير وتبديل. ووصف لي الكثير من أحيائها الداخلية وأرباضها وما فيها من قصور ومتنزهات وأخصها قصر ميرامار والقلعة ومغارة بوستوميا.

قال: وسيكون للاتفاق الإيطالي الألماني أثره المباشر في فتح ميناء تريستا وثغر فيومي للسفن الألمانية. وقد شرعت إحدى شركات الملاحة الألمانية في إعداد خط منظِّم للسير بين تريستا والإسكندرية.

وحدثني كذلك عن الحركة العربية الصهيونية في فلسطين، وكيف درسها لمَّا كان قنصلًا لمصر في القدس، وأدهشني بمعلوماته عن علاقتنا بهذا القطر الشقيق، ووصف لي بعض المستعمرات الصهيونية وأخصها مستعمرة كومونية قريبة من القدس.

وأراني في الطريق مدرجًا أثريًّا، قال إنه مرسح روماني قديم كُشِفَ عنه عند هدم أحد المباني لتجديدها وتوسيع الطريق، وسيحيون التمثيل فيه كما فعلوا في روما وسيراقوزة وغيرهما.

وودَّعته في القنصلية في نحو الساعة السادسة قاصدًا مصيف أباتسيا بسكة الحديد عن طريق فيومي.

بين تريستا وفيومي

وفيومي هي الثغر النمسوي المعروف الذي نزل إليه الشاعر الضابط الباسل جبرائيل دانونزيو واختطفه لقمة سائغة من النمسا، بالرغم من أنف الدول، وسد بضمه إلى إيطاليا آخر منفذ بحري لدول الوسط.

وأرخى الليل سدوله، فمنع الظلام من التمتُّع بجمال الطبيعة في هذه المنطقة الإيطالية النمسوية.

وأخذ القطار يتنقَّل من محطة إلى أخرى، منها الكبيرة ذات الحركة والصغيرة التي تضيئها لمبة بترول.

وفي خلال الطريق، تساءلتُ عن المسافة بين فيومي وأباتسيا، فاختلفت الإجابات من قائل إنها بسكة الحديد ولكن بين محطتها والفنادق مسافة، إلى قائل إن هناك أتوبيسات بين فيومي وأباتسيا، وانتهى الأمر بأن قررت المبيت في فيومي.

ومن المحطة إلى الفندق الصغير.

ليلة في فيومي

وكانت الساعة العاشرة مساء، ولكنهم أحضروا لي العشاء الساخن والفاكهة الجَنِيَّة والنبيذ الخفيف.

وكانت هناك جازباند تلطش تطبيلًا وتزميرًا من النشاز الأصلي باحثة عن راقصة أو راقص، ولا حياة، فلمَّت عزالها وذهبت إلى حيث.

وكان لا بد من النوم، فالاستيقاظ الساعة السابعة صباحًا حسب العادة، والسؤال عن مركز أتوبيسات أباتسيا، فقالوا إنه في الميدان على بعد خطوات من الفندق.

ساعات في فيومي

وفي الميدان وجدت قهوة فيها الشاي والكيك والجيلاتي وصبايا ملاحًا يقُمن بالخدمة، فحططت رحالي، وتركت عندهن الحقيبة الصغيرة وتجولت في الأحياء القريبة من البحر فشهدت السفن الشراعية، وقد أنزلت إلى الأرصفة حمولتها من البطيخ والعنب والخضر والمقاتي والثوم والبصل.

figure
التياتر الكبير في فيومي.

والطابع النمسوي متجلٍّ ظاهرٌ في الشوارع العظيمة والبوائك والأندية والمطاعم والحانات الصغيرة والكبيرة وأكشاك الصحف وانتشار الجرائد الألمانية والنمسوية في الأيدي.

وكفتني ساعةٌ لتعرُّف بعض ما في المدينة من مظاهر العِزِّ القديم والحركة التجارية البرية والبحرية.

ثم ركبت الأتوبيس الذي يسير أربع مرات في النهار بين فيومي وأباتسيا، ويقطع المسافة في عشرين دقيقة مجتازًا شوارع فيومي الواسعة وأرباضها الزاهية بحدائقها وفيلاتها وقصورها وقهواتها البحرية وكازيناتها، ثم يسير وسط المروج حتى يصل إلى أباتسيا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤