الفصل الرابع والعشرون

بين أباتسيا وروما

أباتسيا أو أبازيا أو أباظية أو عباسية.

الْفظها واكتبها كما تريد، وكما تشاء.

مدينة ساحلية، وبلد حمامات بديعة أخذها الطليان ممَّا أخذوا من بلاد النمسا والمجر بعد الحرب الكبرى.

عُنِي النمسويون بتجميلها وتحليتها، فشقوا فيها الشوارع الواسعة والميادين البديعة وزيَّنوها بالحدائق والباركات، وأقاموا وسطها الفساقي والنوافير، تتدفَّق منها المياه الصافية نهارًا، والمياه الممزوجة بالأنوار المختلفة ليلًا.

مدينة الفنادق والحمامات والموسيقى والرقص

لكل واحد من الزبائن الفندق الذي يوافقه.

فهناك نحو مائة فندق غير الشقق والغرف المفروشة والبانسيونات. ومن الفنادق العائلي البسيط الذي ينام أهله بعد العشاء، ومنها الفندق الكبير الذي لا تهدأ حركته من الساعة العاشرة مساء إلى الثانية صباحًا: الرقص على أنغام الجازبند الهائج المهيج والأنوار التي تخطف الأبصار.

وأكبر هذه الفنادق فندق كورنارو على ساحل البحر وسط حديقة واسعة تنتهي بحمام بحري مترامي الأطراف، وفي الحديقة مجال للرقص تقام فيه حفلتان إحداهما مسائية والأخرى ليلية، لا يفصل بينهما إلَّا العشاء وتغيير الملابس وارتداء السواريه الكاشف عن جمال الجسم وتقاطيعه.

figure
كورنيش أباتسيا وحماماتها البحرية.

وفي ناحية غير بعيدة عن حومة الرقص كنيسة صغيرة، حِرْتُ في تكييف مكانها من الإعراب، ولم أدرِ هل لها عباد خاصون يأتون إليها من الخارج؟ أم أنشأها أصحاب الفندق ليتمم فيها النزلاء الكرام الغرض المأثور «ساعة لقلبك، وساعة لربك»؟

وعلى طول الشارع ترى القهوات والبارات بين صغير وكبير وحمامًا واسعًا وأكشاكًا للجرائد والمجلات والكتب، ومعظمها من واردات برلين وفينا وبراج.

وتكاد البلد تكون نمسوية في كل شيء: في ضيوفها وأهلها وحديث تجارها ومديري فنادقها وجرسونات قهواتها.

وتتصل أباتسيا بفيومي وفينسيا وغيرهما من مدن شبه جزيرة أستريا بالسكك الحديدية والسيارات والطيارات والسفن.

يومان مع صديق مصري

وفي أباتسيا قابلت الشاب المحامي السري الأستاذ حشمت كيرلس، فكانت مصادفة طيبة.

قلت له: من أرشدك إلى هذه البلدة الحلوة؟

قال: سعادة علي حسين باشا، وقد راقته، فقضى فيها أسابيع أفادته فائدة صحية كبيرة.

وكان الأستاذ كيرلس خير أنيس لي وسمير في التردد على القهوات الموسيقية وقاعات الرقص بفندق البلفي الفاخر، وتركني بعد يومين.

وانتهزت فرصة وجودي في أباتسيا فخرجت مرتين إلى عُرض البحر في إحدى السفن البخارية التي تنتقل بين المدن الصغيرة المتراصَّة على جوانب البحر.

ونزلت في مدينة لوران، وهي مدينة أنيقة هادئة فيها كل ما يلذ ويطيب من فنادق متوسطة وبارات وقهوات تزينها مراكب الصيادين.

figure
منظر عام لمدينة لورانا.

وكان بودي أن أبقى أسبوعًا في أباتسيا، ولكنَّ أسبابًا خاصة دعتني لمزايلتها بعد أربعة أيام.

فقد كان البروجرام المقرَّر للسير هو الذهاب إلى مارسيليا عن طريق ميلانو وجنوى والريفيرا الفرنسوية.

ثم طرأ ما دعا إلى تغيير الخطة بالعودة عن طريق تونس وطرابلس.

ويقضي هذا التعديل بالرجوع إلى روما.

والمسافة بين أباتسيا وروما تُقطع في ١٣ ساعة على الأقل، وليس في الجسم قوة لهذا المشوار الطويل.

اجتياز شبه جزيرة أستريا بالأتوكار

وكنت تائقًا لمشاهدة بعض بلاد شبه جزيرة أستريا، وهي لا تُرى في القطار. فركبت الأتوكار ضُحًى من أباتسيا إلى تريستة.

وعلى جانبي الأوتوسترادا المعبَّدة شهدت أشكالًا وألوانًا من المدن والقرى والعِزَب ومراكز الفاشزم والمروج تمرح فيها الدواب وتعمل الأيدي في إخراج الحاصلات، ووصلت إلى تريستا بعد ساعتين.

من تريستا إلى فلورنسا

ومحطة الأتوكار في تريستا إلى جانب محطة سكة الحديد.

ولم يكن هناك وقت يتَّسع للَّف والبرم. فعمدت إلى قهوة المحطة، ولا تزال حافظة لونها النمسوي برياشها الثمين وزخرفها الفني وزبائنها وصحفها.

وبرتفت فيها وكرزمت، وركبت القطار إلى فينسيا، ولكني لم أدخلها بل انتقلت منها إلى قطار آخر سارٍ إلى بولونيا، وكانت فيها نقلة ثانية إلى قطار سارٍ إلى فلورنسا فوصل إليها مساءً.

وكان العشاء في فندق الماجستك وتناول القهوة والمسامرة مع المدير السويسري وزوجته التي تَعُدُّ نفسها مصرية؛ لأنها وُلِدَتْ في الإسكندرية وخرجت منها عروسًا.

وكانت السهرة المعتادة في ميدان فيكتور عمانوئيل لسماع الموسيقى واليقظة المبكرة للسفر إلى روما.

أيام أخرى في روما

ولم يبق في روما شيء للزيارة أو المشاهدة.

ولكنني ترددت على وزارة الثقافة الشعبية، وقابلت فيها الأستاذ سليم قطان المستشار الشرقي ورئيس قسم الصحافة العربية الذي يعمل ليل نهار لخدمة رجال القلم وكُتَّابِ الصحف من المصريين والسوريين والمغاربة الذين يقصدون الوزارة، فيُسهِّل لهم مطالبهم ويثقل كواهلهم بالمطبوعات، ويقدِّم إليهم كل ما يريدونه من تذاكر السفر بالأجور المخفضة.

مقابلات في وزارة الثقافة

وفي غرفة الانتظار بالوزارة قابلت الخوري أغناطيوس سعد الحلبي.

قال لي إنه قضى زمانًا غير قصير في المطرانية المارونية بشارع حمدي في الظاهر بالقاهرة.

ويقيم الآن في حلب ويصدر مجلة الشهباء، وكلفني تقديم تحيته إلى الأستاذ العالم يوسف شلحت بك والأب بولس سباط.

وفي مكتب الأستاذ قطان عرَّفني إلى شقيقة نيافة الأنبا باسليوس قطان الذي كان مطرانًا للروم الكاثوليك في بيروت، ثم عُيِّنَ رئيسًا لأساقفة مرمرة شرفًا.

وتشرفت بمقابلة القومنداتور نونس وكيل المدير العام لإدارة الصحافة الخارجية في وزارة الثقافة الشعبية، والرجل مثال الظُّرف والرِّقَّة، عمِل زمنًا في المفوضية الإيطالية بالقاهرة، وقد رقي أخيرًا مستشارًا في المفوضيات لجدارته وكفاءته وما عرفه في البلاد المختلفة.

ووزارة الثقافة الشعبية كانت معروفة قبلًا باسم وزارة الدعاية والصحافة، وهي من المؤسسات الفاشستية الحديثة، وتقوم منذ نشأتها بأعمال وخدمات لا تُقدَّر للدعاية لإيطاليا وخدمة الصحافيين الأجانب على نوع أخص بهمة وزيرها الحاضر، وحبذا لو عُنِيَتْ حكومتنا بدراستها واقتباس ما يوافقنا من نُظُمِها لإدخاله في إدارة المطبوعات بوزارة الداخلية.

زيارة إيطالي وبيت فني

وزرت الصديق راغب عياد الأستاذ في مدرسة الفنون الجميلة العليا في القاهرة، بدار حميه وهو من كبار الضباط الإيطاليين المتقاعدين، وقد ربَّى أولاده تربية فنية عالية ومنهم ابنته السيدة إيمي كالي عياد المعروفة بلوحاتها الفنية في صالونات القاهرة، وأخوها وقد أقام في الإسكندرية زمنًا قصيرًا، وبيت القائد كالي مليء بالتحف من تماثيل وصور، من صنع ولديه، وقطع زخرفية فنية.

جولة في فورو موسوليني

وصحبني الأستاذ راغب عياد إلى فورو موسوليني، أحدث المنشآت الرياضية في إيطاليا.

مدرسة ومعهد وملاعب لا مثيل لها في العالم، وستكون بعد إتمامها كعبة لهواة الرياضة والفنون.

وفي هذا الفورو مسلة رخامية من الرخام ارتفاعها ١٨ مترًا على قاعدة علوها ثمانية أمتار.

والمدخل مفروش برخام كرارة وعلى جانبيه كتل رخامية كبيرة نُقِشَتْ عليها أسماء من راحوا ضحايا في ميادين استقلال الإمبراطورية.

figure
التماثيل الرخامية في فورو موسوليني.

وتنتهي الساحة بفسقية رخامية بداخلها كرة كبيرة من الرخام، تنجلي محاسنها ليلًا عندما تتدفق حولها المياه الممتزجة بالأنوار الكهربائية ذات الألوان البديعة.

وتحيط بالفسقية دائرة فُرِشَتْ أرضها بقطع الرخام الموازيكو، وقد أُلِّفَتْ من هذه القطع صور للألعاب الرياضية الرومانية القديمة.

وإلى جانبها ملعب على هيئة مدرج أحيط بتماثيل رخامية بأحجام كبيرة، وكل تمثال مُهدًى من إحدى المقاطعات الإيطالية.

وهناك ملاعب أخرى للتنيس وكرة القدم والجولف وأحواض للسباحة وجاليريات لمعارض وقتية لأشغال صغار التلاميذ.

زيارات وسهرات ومقابلات أخرى

وفي اليوم التالي ألقيت نظرة خاطفة على مباني الجامعة وعماراتها المختلفة من بيوت للطلبة ومطاعم ومكتبات وغيرها.

وترددت غير مرة على المفوضية والقنصليتين المصريتين، وساهرت بعض الإخوان والأصدقاء من ممثلينا السياسيين.

وعرَّفني أحدهم إلى الأستاذ عباس الشربيني خريج كلية الآداب، ومدرس اللغة الفرنسية في مدرسة أسيوط الثانوية. وهو يقضي إجازته كل سنة على حسابه الخاص؛ للتردُّد على معاهد العلم في فرنسا وإيطاليا وسويسرا متزودًا من اللغة الفرنسوية وآدابها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤