الفصل السابع والعشرون

أسبوع في طرابلس

«قهوة فيكتوريا» قهوة مختلطة في أول القسم الوطني خلف الكاستلو، زبائنها من المستعمرين الإيطاليين، والنزلاء المالطيين، والأهالي المسلمين والإسرائيليين.

وبجوارها مطعم، وفوقها فندق من الدرجة الثالثة، جُلت فيها مع الطالب الطرابلسي أبو بكر ساسي، ولاحظت أنه يحدثني ويجيب على أسئلتي بحذر واحتياط. ولكني انتهيت بأن هدأت روعه وطمأنته بأنني لا أريد البحث في السياسة أو علاقة الطليان بالعرب، بل كل قصدي هو الفرجة على البلد وما فيها من معالم قديمة ومنشآت حديثة والوقوف على حالة الأدب والصحافة والتربية والتعليم.

لهجات أبناء المدينة والريف

وتسمعت إلى لهجات المتكلمين من جُلَّاس ومشاة، فإذا بها في تباين واختلاف.

وتأكدت بذلك صحة ما قلته في هذا الموضوع منذ سنتين وعارضني فيه أديب طرابلسي على صفحات الأهرام؛ فأبناء المدينة، وأخصهم من تربوا في الأزهر والمدارس الوطنية وحفظوا القرآن الشريف أو بعض أجزائه، تقرُب لهجتهم من اللهجة المصرية ممزوجة بألفاظ عربية صحيحة.

وعلى عكس ذلك العامة وأبناء الريف، فلهم رطانة خاصة مشوبة بكلمات إيطالية.

وقد حاولت مكالمة هذا الفريق الأخير، فلم يفهموني ولم أفهمهم، ووقف أكثرهم صامتين لا يدرون بأية لغة أخاطبهم.

المواصلات في المدينة

وتنقلت والطالب الأزهري في بعض المواضيع العامة وتاريخ المدينة وثروة الأهالي.

وبسطت بين يديه خريطة المدينة، فأرشدني عليها إلى القسم الإفرنكي والقسم الوطني.

وطرق المواصلات بالتاكسيات وشوفيراتها كلهم من الإيطاليين والأجانب، ثم عربات الأجرة ذات الجواد الواحد وسائقوها وطنيون وأجانب وتسير كلها بالعدادات، ولها في النهار تعريفة وفي الليل تعريفة أخرى، ثم الأتوبيسات الكهربائية، وفيها درجة أولى ودرجة ثانية، ومنها أتوبيس دائري، وأتوبيسات تذهب إلى الضواحي، وفي كل محطة جدول بمواعيد وصول العربات.

والأجرة في السيارات الحافلة مثل مصر والإسكندرية قرش صاغ للدرجة الأولى، وخمسة مليمات للدرجة الثانية.

جولة في القسم القديم

وبدأت تجوالي في المدينة بالحي العربي، وهو القسم القديم، ويقع وراء القلعة وأسوارها، وكان للقلعة أبواب تُقفل ليلًا، فلا يباح للأهالي الخروج إلى الساحل البحري، وهذا القسم القديم مشابه للأحياء الوطنية القديمة في مصر والشام.

ويمتاز الحي الطرابلسي بأن أرضه مرصوفة بقوالب الأسمنت ومصابيح الكهرباء والنظافة التي تشمل البيوت ذات الواجهات المدهونة باللون الأبيض.

وأغلبية البيوت مفتَّحة الأبواب، وتعرف بيوت اليهود بجلوس النسوة إلى جانب الأبواب على الأرض أو الكراسي، وترى الكثيرات منهن جالسات في الحوش، يشتغلن بالأعمال المنزلية أو حياكة الملابس أو الدانتلا.

ولاحظت في أغلب هذه الحيشان موائد مفروشة بالمشمع الملون.

ويكثر في دكاكين القصابين لحم الجمل، وهم يزينونه بورق البهرجان الذهبي وطلاء وردي اللون.

وقَلَّ أن ترى في هذا القسم أحدًا من الإيطاليين.

ويمكنك أن تستعرض فيه الوطنيين بملابسهم المختلفة المتعددة الألوان من برانس وسراويل وجلابيب بيضاء وبالطوات وحرائر ملونة.

وترى فيه السيدات الإسرائيليات سافرات مئتزرات بأزر من الحرير الأبيض.

أما الوطنيات فلا تظهر منهن إلا الخادمات السودانيات.

سوق المشير وقهوتها

وفي هذا القسم سوق المشير، وهي جلارية خاصة بالصناعات الوطنية المحلية من حديد ونحاس ونسيج وغيرها.

وفيها قهوة المشير، وهي قاعة رقص وغناء، ولما وصلت إليها وجدتُها مقفلة الأبواب، وقيل لي إنها لا تفتح إلا شتاء.

figure
سوق المشير.

قلت: وهل تغني فيها وترقص سيدات وبنات من أهالي البلاد؟

قالوا: كلا يا سيدي، فالمغنون والمغنيات والراقصات يأتون إلينا من مصر ومن تونس. وقد يسمح بعض الأهالي الإسرائيليين لبناتهم ونسائهم بالرقص والغناء، أما المرأة الطرابلسية، فقد رأيت أنها لا تسير في الطريق بحكم الشرع والتقليد، فإذا تجاسرت على الظهور في مرسح، كان نصيبها تقطيع جسمها إربًا.

سوق الترك وتجارها

وهناك سوق الترك، وهي سوق عامرة بالتجارات المختلفة بين وطنية وشرقية، ولجماعة الهنود فيها تجارة واسعة.

والسوق في مجملها شبيهة بخان الخليلي، ومنها جزء مسقوف، ويكثر فيها عرض السجاجيد الفارسية.

وقيل لي إنها تقفل يومي السبت والأحد؛ لأن الأغلبية من تجارها مسيحيون أجانب ويهود وطنيون.

مخزن الرخام ومقبرة الجنود

وعلى مقربة من الكاستلو قوس ماركوس أورليوس، وكان مطمورًا ويسميه الأهالي مخزن الرخام، فكشف عنه الإيطاليون وأحاطوه بدائرة من الرخام الأبيض.

figure
قوس ماركوس أورليوس.

وإلى جانب القوس مقبرة الضباط وقادة السيارات الإيطاليين الذين استُشهِدوا في حروب فتح المدينة، ومنهم السيدة قرينة الماجور برجنتي.

وتتفرع من ميدان ماركوس أورليوس عدة شوارع وحارات يسمونها «زنقة» أو عرصة، ومنها «زنقة الفرنسيس» و«زنقة الأربع عرصات».

وفي زنقة الفرنسيس قنصلية فرنسا في دار تمثل العمارة الطرابلسية القديمة خير تمثيل في فنائها ونافورتها وسلمها وبوائكها وزينة قاعاتها.

مسجد القره مانلي وجامع كورجي

وفي الحي الوطني جامعان مشهوران، وهما: مسجد القره مانلي، وجامع كورجي.

ومسجد القره مانلي أنشئ في القرن الحادي عشر للهجرة، وفيه مدافن أبناء العائلة.

وآخرهم حسن باشا القره مانلي.

والسطح الداخلي لجدران المسجد مكسوٌّ بمربعات صغيرة من الرخام الملوَّن.

وتحيط به من الداخل إيوانات يسمونها السُّدَّة، كانت معدة للسيدات المصليات، أما الآن فيصلي فيها الرجال.

والكورجي مملوك لآل القره مانلي، جيء به أسيرًا من بلاده وهو صغير، وكان مسيحيًّا وأسلم، وحسُن إسلامه، وأسرى وبنى الجامع المعروف باسمه في القرن الثاني عشر للهجرة.

وإلى جانب كل من الجامعين مدرسة للعلم الديني.

والجامعان ومدرستاهما تمثل الفن المغربي القديم خير تمثيل.

في مطعم وطني

وشمشمت على مطعم وطني، أتذوق فيه طعم الكسكسي الطرابلسي.

figure
مسجد القره مانلي من الداخل.

فدلني بعض أهل الخير على مطعم خلف سور المدينة يشتمل على دورين.

وقف في الدور الأول منه الطهاة مشمِّرين، وبين أيديهم القِصاع والجِفان وحلل الخضر عُقِدَتْ فوقها سحب كثيفة من الدخان.

واشتمل الدور الثاني على ثلاث غرف متوسطة للطعام، على مثال غرف العجاتي بين الصاغة وخان الخليلي.

ورحب بي الجرسون بلهجة مصرية، وعرَّفني بنفسه وذكر لي أن اسمه حسن الشربيني من أهالي الجمالية بالقاهرة وأنه حاصل على الشهادة الابتدائية وأن جده كان قد دخل في حماية إيطاليا.

وذكرت له الاسم والكنية، فزاد في الترحيب والتكريم وأحضر لي بعض أعداد المجلات المصرية الأسبوعية، وسألته عمَّا إذا كان مسرورًا من الإقامة في طرابلس، فهز رأسه علامة للنفي، وقال إنه يبذل كل جهد في العودة إلى مصر.

وأوصيته على طبق الكسكسي، على أن يكون مجرَّدًا من اللحم، خيفة أن يكون لحم جمل، فلبى الطلب سراعًا.

وبينا أنا أتناول الطعام، حضر اثنان من الزبائن وشاركاني في المائدة.

وبادأني أحدهما بقوله: أظن أن حضرتكم الصحافي العجوز؟

قلت: ومن أدراك؟

قال: أنا صادق عبد الرازق البشتي من خريجي المدارس الثانوية، وأشتغل مترجمًا في ديوان الولاية، وأطالع الأهرام ولا يفوتني هامشك يومًا.

ثم عرَّفني بصاحبه، وهو التاجر عبد السلام الناقوع.

وكانت جلسة طيبة جرى فيها الكلام عن الصحافة المصرية وكتابها.

وأبى الأستاذ البشتي إلا أن يطلب الفاكهة والقهوة، وأومأ إلى صاحبنا الشربيني، فلم يقبل مني ثمن الغدوة.

وبعد مناكفة قبِل البقشيش مني غصبًا.

في قهوة وطنية

ولمحت إلى جانب السور في الحي الأوروبي قهوة نظيفة كُتِبَ عليها «القهوة الطرابلسية» بحروف عربية بديعة.

وسرَّني ترتيبها ونظافة مناضدها ذات الأغطية الملونة.

وسألت عن صاحبها، فعلمت أنه الشاب الوطني بشير بن زغوان، وقد أتم دراسته الابتدائية، ورأى أن ينصرف إلى العمل الحر، ففتح قهوته هذه، فأقبل عليه الوطنيون والأجانب.

والطلب من قهوة وشاي ولكوم بنصف ليرة (قرش تعريفة)، وهناك الشيشة الحِمِّي، وأنواع البسكويت والشكولاتة والفوندان.

سألته عما إذا كان يبيع الخمر؟ فقال: لا سيدي. قلت: وهل الوطنيون ممنوعون من بيعها؟ قال: لا يا مولاي، ولكن ديننا يحرِّم علينا أن نتاجر فيها أو نسقيها.

وفي القهوة فنوغراف أسمعنا عدة أقراص لأم كلثوم وعبد الوهاب.

وقال إنه يشتغل بتركيب جهاز للراديو، ويرجو أن يسمع زبائنه راديو مصر واضحًا مثل بقية المحطات الأوروبية ومحطة تونس ومحطة الجزائر.

وفي هذه القهوة تعرفت إلى بعض التجار والموظفين، وبدأت تزول وحشتهم مني، ودعاني بعضهم إلى بيوتهم فاعتذرت، ووعدت بإجابة الطلب في زيارة قادمة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤