الفصل الثامن والعشرون

طرابلس الجديدة

لمهندسي التنظيم رأيان متعارضان في توسيع المدن القديمة وإصلاحها.

يقول الفريق الأول إنه يجب أن يترك القديم على حاله وتنشأ إلى جانبه مدينة حديثة.

ويقول الفريق الثاني بإصلاح القديم وتنظيمه بشَقِّ الشوارع الواسعة، ولو بإزالة الآثار والمعالم القديمة.

وقد اتبع المستعمِرون الفرنسيون والإيطاليون رأي الفريق الأول، في مدن أفريقيا الشمالية من بنغازي وطرابلس شرقًا إلى طنجة والدار البيضاء غربًا.

طرابلس الجديدة

ففي مدينة طرابلس، كان سور الكاستلو هو الحد الفاصل بين المدينة والفضاء المترامي على ساحل البحر، حيث كانت الأرض خرابًا يبابًا.

وفي هذا الفضاء خطَّط المهندسون الإيطاليون المدينة الجديدة، تحت رعاية وإرشاد الماريشال بالبو، وأنشَئوا على ساحل البحر كورنيشًا دونه كورنيش الإسكندرية، ورسموا الشوارع والميادين الواسعة، وقسموا أرض البناء بين قطع صغيرة وكبيرة، وسهلوا شراءها للطالبين بأثمان زهيدة وأقساط طويلة الآجال.

فأقبل على الشراء جماعات من أفراد وشركات إيطالية، وكثير من أسرياء اليهود الوطنيين وبعض التجار والماليين الطرابلسيين.

ووُضِع نظام للبناء والتعمير وتعدد الأدوار، فلم تمضِ سنوات حتى ظهرت المدينة الجديدة تختال في ثوب بديع من المنشآت الحديثة، وقد رُوعِي فيها الطراز العربي مع شيء من التعديل، وفي الكثير من العمارات الكبيرة بوائك، فإذا بعدتَ عن وسط المدينة رأيت الفيلات البديعة والقصور والعمارات، ولكل واحدة حديقتها الكبرى.

وفي الكثير من الشوارع حدائق ومنتزهات ممتدة على مسافات طويلة.

وإلى جانب الكاستلو على شاطئ البحر عمودان وُضِعَ على أحدهما مركب رومانية، وعلى الثانية تمثال الذئبة من النحاس.

بياتسا ديتاليا

وتبدأ المدينة الجديدة بميدان إيطاليا، وهو ميدان متسع يشرف من جهة على البحر، ومن جهة أخرى على الكاستلو وديوان الحاكم العام.

وفي وسطه نافورة بديعة تتدفَّق منها المياه ليل نهار، ممتزجة ليلًا بالأنوار ذات الألوان المختلفة، وتحيط بالنافورة عمارات كبيرة ومصالح مختلفة ودور للبنوك والأندية والمطاعم والبارات ومكاتب شركة السياحة الإيطالية والطيران «الليتوريا» وبنك روما وغيرها.

figure
ميدان إيطاليا.

ويتفرع من البياتسا ديتاليا عدة شوارع هي: فيكتور عمانويل، لومبارديا، لاسيون، سيسليا، كونت فولبي، ميزران.

وإلى جانب من الميدان شارع أمير بيمونتي أو شارع البحر، وهو قسم من طريق السيارات التي توصِّل من أقصى المغرب إلى حدود مصر الغربية، ويغص بالقصور والحدائق حتى يخرج إلى أطراف المدينة، وفيها تاجورة وسيدي مصري والبساتين والقرى العامرة.

شارع فيكتور عمانويل

ويتوسط البياتسا ديتاليا «كورسو فيتوريو إيمانويل»، وهو شارع البورصات والفنادق والقهوات، وفيه بنك ليبيا، ودار البوستة العمومية، وإلى جانبها قهوة كبرى تغص كل ليلة بالزبائن وفيهم عدد يُذكر من الوطنيين لسماع جوقة موسيقية صغيرة كنت أغشاها كل ليلة.

وهناك مكتبة خاصة لبيع الكتب الشعبية والمجلات التي ترد بالطيارة، فتجد العشرات من القراء واقفين صفوفًا لأخذ حاجاتهم من هذه الدوريات بين يومية وأسبوعية ونصف شهرية، وأغلبها من صحف روما، وفيها بعض صحف باريس ولندن.

ومما لاحظته وجود غير واحد من الوطنيين يزاحمون الإيطاليين على شراء الصحف الإيطالية ومطالعتها بشغف.

وهناك كذلك عدد كبير من مخازن الأقمشة والآثار وأدوات الزينة وغيرها تمتلئ بالزبائن النهار بطوله وشطرًا من الليل.

فندق مهاري

وكنت في انتقالي بين الكاستلو وفندق مهاري أمتع النظر نهارًا بشارع فيكتور عمانويل، وليلًا بالكورنيش البديع وأنواره الزاهية.

وفندق «مهاري» من فنادق الدرجة الأولى، في دورين مبني على الطراز المغربي، وفيه ست حدائق صغيرة تتوسط كل منها نافورة تحيط بها البوائك وتنثر فيها الكراسي المريحة إلى جوانب موائد صغيرة لتناول الفطور صباحًا والشاي بعد الظهر.

والغرف، وإن صغرت، فقد فُرِشَتْ فرشًا أنيقًا، ولبعضها حمَّام خاص، أو حمام لكل غرفتين.

ويمتد بين الفندق والبحر سرداب تحت الشارع العمومي يوصِّل إلى البحر حيث يوجد مطعم الفندق والبار والغُرَف والقاعات المُعَدَّة للرقص والحفلات الساهرة.

figure
فندق مهاري.

ويتولَّى الخدمة في الفندق والمطعم غلمان وصبيان من الوطنيين بملابسهم وطرابيشهم الوطنية المغربية ذات الأزرار الطويلة، وكلهم ظرفاء أَلِبَّاء يقومون بواجبهم على أحسن حال.

مشاهد أخرى في المدينة

وممَّا يشاهد في شارع البحر الفندق العظيم «جران أوتيل»، وهو عمارة كبيرة عديدة الأدوار يجري فيها التصليح والتعمير استعدادًا لاستقبال السُّيَّاح في فصل الشتاء.

وعلى مقربة منها كازينو «ودان» ويدل ظاهرُه على فخامته واتِّساع جوانبه، وهو مقفل مثل الفندق الكبير، وقيل لي إنه يحوي من القاعات والمراسح والملاعب ما لا مثيل له في بلاد أفريقيا كلها.

ثم قصر الحاكم العام، وتحيط به حدائق ناضرة بما فيها من أنواع الزهر والأشجار المختلفة.

ثم كتدرائية طرابلس تعلوها القباب وأبراج النواقيس والصلبان.

وميدان المعارض والسوق الدولية السنوية التي تشترك فيها الدول المختلفة.

figure
خرائب لبتس مانيا.

ومضمار سباق الخيل، وسباق السيارات، والمطار البحري، والمطار البري الذي تقوم منه كل يوم طيارة وتحط أخرى من أوروبا إلى بنغازي في طريقها إلى مصر والسودان والحبشة.

وتجد في أنحاء المدينة، وعلى الأخص في الضواحي، الأسواق الوطنية التي يشتغل فيها الوطنيون ببيع الخضر والفاكهة والمقاثي وتزدحم صباحًا بالزبائن من الأهالي والإيطاليين.

وهناك متحف للتاريخ الطبيعي أنشأه فخامة الماريشال بالبو في أحد أجنحة الكاستلو وقسَّمه إلى قسمين: أحدهما للجيولوجيا، والثاني للإيتنوغرافيا.

وقيل لي إن على الشاطئ حمَّامات وليدو وكازينو، ولكن ضيق الوقت لم يسمح لي بزيارتها.

وكان السنيور برناردي يشير إلى كثير من العمارات المختلفة، أثناء تَجوالنا بالمدينة، ويسمى لي ما هنالك من معاهد صحة ومدارس ورعاية أطفال وقاعات سينما وغيرها ممَّا أنشأته الحكومة وجماعات من الماليين. فأصبحت مدينة طرابلس بحقٍّ من أبدع مدن الشمال الأفريقي بعد الإسكندرية.

بلد السياحة والآثار

وعنيت الحكومة الإيطالية بتمهيد طرق السياحة في طرابلس وتوجيه نظر السائحين إليها.

فتغص بهم المدينة وتروج حركة الأخذ والعطاء، ثم تنطلق بهم السيارات إلى مدن الآثار التي كشف عنها العلماء وأهمها آثار لبتس مانيا (واسمها بالعربي لبده)، وفيها التماثيل والمدرَّجات والهياكل والبرابي الشاهدة بفضل قدماء الرومان وتفنُّنِهم في التشييد والتعمير والحفر والنقش والتصوير.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤