الفصل الثالث

أيام في بيروت (١)

بيروت بلد العلم والأدب والأناقة.

الشعر في كل شيء، حتى دوائر الأعمال الرسمية.

الدعاية للاصطياف شعرًا

قبل أن نزايل ساحة الجمرك، قدَّموا إلينا استفتاءً من «وزارة الاقتصاد الوطني في الجمهورية اللبنانية» مُصدَّرًا بالأبيات الآتية:

الله يا لبنان

الله يا لبنان ما أجملك!
وأروع الشيب الذي جلَّلك!
بين يدَيْك الملك في جاهِه
على الثَّرَى، أو عِزَّة في الفلك
الله يا لبنان ما أجملك!
سبحان مَن خبَّأ فيكِ «الصفا»
وسلَّ مِن قلب الصفا جدولَك
أنت نعيمُ الله في وعده
مثلت في النعماء من مثلك
تُقبِل الشمسُ ضحوكًا لها
ويضحك الفجرُ متى قبَّلك
لبنان هيا نتشاكى الهوى
لي التصابي فيك والسحر لك
اللَّه يا لبنان ما أجملك!
أمين تقي الدين
وجاء في هذه النبذة:

إلى زائري لبنان

إن وزارة الاقتصاد الوطني في الجمهورية اللبنانية، وجمعية تنشيط السياحة والاصطياف، ترحِّبان بكم وتتمنَّيان لكم إقامة سعيدة في ربوع لبنان.

ليس لجمعية تنشيط السياحة والاصطياف المعترَف بها رسميًّا كأداة لخدمة المصلحة العامة؛ أيُّ هدفٍ تجاري، وهي بالاتفاق مع وزارة الاقتصاد الوطني تَوَدُّ معرفةَ آرائكم ومَطالبكم وشَكواكم، حتى يمكنها الاهتمام بتحسين الاصطياف استنادًا إلى نصائحكم الغالية.

فنرجو الجواب على السؤالات المبيَّنة بجانبه، وأرسِلْها بدون طوابع بريد إلى وزارة الاقتصاد الوطني.

إن هذه الأسئلة منمرة، ويحقُّ لكل جواب يَرِد إلى جمعية تنشيط السياحة والاصطياف الاشتراك في اليانصيب الذي خُصِّصت له جوائزُ عديدة من صور وبطاقات تحوي مناظر هذه البلاد اللبنانية الخلَّابة.

حقًّا إنه لعمل طيب، وطريقة حكيمة لتعرف رأي المصطافين وملاحظاتهم؛ للوصول إلى تحسين المصايف وتحبيبها إلى الأجانب عامة، وأهل البلاد الشرقية خاصة.

اجتياز الميناء إلى المدينة

ولم نجِدْ أدنى صعوبة أو عنَت في النزول إلى الرصيف أو قاعة الكشف والتفتيش بدائرة الجمرك، ولم يحرك الموظفون مفاتيح «الحاجة شنطة» وابنتها وزميلاتها من حقائب الزوَّار المصريين.

figure
بيروت: شارع المعرض.

ومن الجمرك أقَلَّتْني سيارة إلى دار شيخي الخازن في شارع عبد الوهاب الإنكليزي، بجوار إدارة جريدته «البلاد» المعطَّلة بأمر السلطة، وقد انتهت مدة التعطيل، ولكن الشيخ أردف العطلةَ الجبرية بأخرى اختيارية تأهُّبًا لإعادة إصدار الجريدة يومية في ثماني صفحات.

وبعد التحية والقُبلات الحارة، جاء دور «الأكل بالإكراه»، فالنزول في الترام للزيارات الرسمية، وأولها زيارة الصديق العزيز الفيكونت طرازي مدير دار الكتب الأهلية ومؤسِّسها.

بيروت أمس واليوم

كانت زيارتي الوحيدة لبيروت ولبنان مرة واحدة سنة ١٩٢٧، وقد رأيت تغيرًا في بيروت اليوم عن بيروت الأمس.

عمارات جديدة على الطراز الحديث مؤلَّفة من خمسة أدوار وستة أدوار.

نظافة الشوارع واتساعها بإنقاص عرض الأرصفة.

وفرة عدد السيارات والتكسيات الأنيقة البديعة.

زيادة عدد الجرائد والمجلات.

بلد الجرائد اليومية

ففي بيروت، المدينة التي لا يزيد عدد سكانها على ١٢٠ ألف نسمة (أقل من قسم شبرا أو السيدة زينب أو بولاق)، نحو ٢٠ جريدة يومية (فقط)، وهي: البشير، النهار، اليوم، الحديث، صوت الأحرار، الأحوال، لسان الحال، البلاد، البيرق، المساء، الاتحاد، الدستور، البلاغ، الوطن، الجهاد، الرابطة.

وإلى جانبها ثلاث جرائد يومية فرنسوية، يديرها ويحرِّرها كتَّاب بيروتيون ولبنانيون، وهي: لوريان، ليجور، ولاسيري.

figure
بيروت: ميدان الساعة.

وهذه الصحف كلها، سواء كانت ذات أربع صفحات أو ثماني صفحات، ذاتُ طابعٍ فني، يلمحه الصحافي الحاذق، بإلقاء أول نظرة على الصفحة الأولى؛ فإن ترتيبها المحكم وتنسيق الصور فيها أبدع وأرقى من زميلاتها المصرية، على ما هنالك من فارق عظيم بين فقر الجماعة وحاجتهم وغِنانا ويُسْرنا.

وصحف بيروت ولبنان رازحة تحت ديكتاتورية متعهِّدي البيع، فهم الآمِرون الناهون في الجريدة، يجب أن تعمل بأوامرهم في تحريرها وسياستها وساعة صدورها وجمعها وعدد صفحاتها وتنسيق مقالاتها ووضع صورها.

بين الكتب والتزكة

وكانت ساعة من أحلى الساعات عند الصديق العزيز الفيكونت طرازي، والتعرف إلى معاونيه وزوَّاره، ومنهم الشاب الأديب صلاح الأسير حفيد الشيخ الأسير الكبير.

وأسمعنا الفيكونت الشكوى المريرة من تقتير وزارة المعارف على المكتبة والإنفاق على شراء كتب جديدة.

وعُدْنا إلى بيت الشيخ الخازن للأكل بالإكراه.

figure
بيروت: حي الزيتونة على البحر.

ثم الحديث عن مباحث الشيخ في الأدب والتاريخ.

وعند المساء كانت أمسية مع الشيخ جوزيف الدحداح وزوجته والآنسة أملي الدحداح، عند «عجرم»، وهو أحد الكازينات البحرية المعروفة في بيروت وأوسعها وأحفلها بالزبائن والمستجمِّين على أنغام الموسيقى.

وكان لا بد من التزكة، وهي قنينة العرق المثلَّج وإلى جانبها عشرة من أطباق المَزَّة الفاخرة المتقنة.

ومررنا ليلًا بشارع الكورنيش متفرِّجين على ما فيه من ليدو وكيت كات وكورسال وغيرها من مطاعم ورباطات للسهر والرقص.

وهكذا انقضى اليوم الأول في بيروت على أحسن حال.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤