الفصل العاشر

كان واضحًا لجورج ستراتون أن الوقت لن يتسع له قبل بدء المحاكمة لإثبات أن ستيفن رولاند هو الجاني. علاوةً على أنه دخل في حالةٍ ذهنية غريبة استعصى عليه أن يفهمها هو نفسه. ففي اللحظة التي جلس فيها ليفكر في خطةٍ للإمساك بهذا الرجل الذي كان واثقًا في أنه من ارتكب الجريمة، انتابته حيرة غريبة لم يألفها. بدا أن شيئًا ما يخبره بأنه على الطريق الخطأ. وأصبح هذا الهاجس أكثر إلحاحًا عليه لدرجةٍ أصابته بالحيرة، وجعله يتشكك جديًّا في قواه العقلية. فمتى اختلى بنفسه في غرفته، ساورته الشكوك وسيطر عليه شعورٌ بأنه يسلك طريقًا غير صحيح. وكان هذا الإحساس يشتد وطأةً في الأوقات التي يبحث فيها عن أدلة أخرى لحل اللغز، وحاول ذات مرة أن يصل إلى مكان الخادمات اللاتي كُنَّ يعملن لدى عائلة برنتون. لكن ما يدعو إلى العجب، أنه في اللحظة التي بدأ فيها البحث عنهن، بدا أن ذهنه قد أصبح أكثر صفاءً وراحة، وما إن حدث ذلك، حتى عاد الاعتقاد القديم بأن ستيفن رولاند هو الجاني للسيطرة. لكن في اللحظة التي حاول فيها أن يتتبع ما لديه من خيوط في ذلك الاتجاه، وجد نفسه متحيِّرًا وهاجمته الشكوك من جديد؛ ومِن ثَم باتت كل محاولةٍ يُقدِم عليها تبدو فاشلة. لم يألف جورج ستراتون هذه الحالة الذهنية التي وجد نفسه عليها حتى باتت تراوده أفكار جادة بالتخلي عن القضية بأكملها والعودة إلى شيكاجو. وحدَّث نفسه قائلًا: «لقد وقعت في غرام هذه السيدة وسأصاب بالجنون إذا بقيت هنا أكثر من ذلك.» ثم تذكَّر الثقة التي أبدتها في قدرته على كشف لغز هذه القضية، وهذا بدوره ما شجَّعه وحفَّزه على المواصلة.

فُقِد كل أثر لهؤلاء الفتيات على ما يبدو. تردَّد جورج ستراتون في الاستعانة بمحقق من سينسيناتي، خشية أن يتسرب خبر ما اكتشفه إلى صحافة سينسيناتي. حينئذٍ اتهم نفسه بعدم الوفاء للسيدة برنتون؛ إذ جعل الأولوية لمهمته الصحفية على حساب واجبه تجاهها. كان يمزقه ألمًا ذلك الصراع المحتدم داخله بين أفكاره ومشاعره، والذي حسمه في النهاية بأن قرر ترك القضية برمتها والعودة إلى شيكاجو. جهَّز حقيبة سفره وعزم النية على المغادرة في تلك الليلة عائدًا إلى المدينة الكبيرة، سواء بدأت المحاكمة أم لم تبدأ. كان قبل ذلك قد وصف لأحد الأطباء البارزين الأعراض التي ظهرت عليه، وأخبره ذلك الطبيب بأن القضية تدفعه دفعًا إلى الجنون، وأن أفضل ما يمكن فعله هو المغادرة في الحال إلى مكانٍ آخر. فلم يكن يملك لنفسه نفعًا، وربما ينتهي به الحال إلى الجنون.

في الوقت الذي انهمك فيه جورج ستراتون في تجهيز حقيبة سفره في الغرفة بمفرده، حسبما كان يعتقد، كان الحوار التالي دائرًا بجانبه.

قال سبيد: «لا فائدة مما نفعل. نحن نُربِكه فحسب، ولا ننفعه في شيء. الشيء الوحيد الذي يجب أن نفعله الآن هو أن نتركه بمفرده. إذا حقق في دور رولاند في القضية، فسُرعان ما سيكتشف بنفسه أنه على الطريق الخطأ، وحينها سيسلك المسار الصحيح.»

قال برنتون: «هذا صحيح، لكن لم يتبقَّ سوى أيام قلائل على نظر القضية. وإذا كانت هناك أي خطوة يجب اتخاذها، فلا بد أن تُتخذ الآن.»

قال سبيد: «لا أتفق معك في ذلك. ربما يسير كل شيء في المحاكمة على نحوٍ جيد، ولكن حتى إن لم يكن هكذا، فلا يزال أمامنا بعض الوقت. أنت ترى كيف أفسدنا الأمور بتدخُّلِنا. لقد أضلَّنا أول نجاح لنا معه عن الطريق الصحيح. ظننا أن بوسعنا فعل أي شيء، ولكننا في الواقع فعلنا ما هو أسوأ من لا شيء؛ لأننا أضعنا كل هذا الوقت الثمين. لو تُرك ليستكمل طريقه الخاص في التحقيق، لتحرى الأمر في مسألة ستيفن رولاند، ولوجد أنه لم يكن ثمة سبب لشكوكه فيه. لكنه لم يُنجز شيئًا كما هو واضح. إذا تُرِك بمفرده، فسيبقى على ظنه بأن ستيفن رولاند هو الجاني. جميع محاولاتنا لاقتياده نحو سكن جين مورتون ذهبت سُدًى. وكما ترى الآن، فهو على وشك الرحيل والعودة إلى شيكاجو.»

قال برنتون، في قنوط: «حسنًا، دعه يذهب، إذن.»

أجاب سبيد: «من كل قلبي أرى ذلك، لكن على أي حال دعنا نتركه بمفرده.»

قبل أن ينطلق القطار في تلك الليلة، حدَّث ستراتون نفسه بأنه إنسان جديد. لقد عاد جورج إلى نفسه مجددًا. كانت لديه قناعة راسخة بأن ستيفن رولاند هو الجاني، وتساءل حائرًا لمَ سمح لعقله بأن يشرد بعيدًا عن ذاك الخيط ويضيع وقته في هواجس أخرى، تبيَّن له حينها أنها لم يكن لها مبرر حقيقي. شعر أن الوقت لم يسمح له قبل ذلك للتحقيق في الأمر بصفةٍ شخصية، لكنه امتدح نفسه كونه قد عرف بالضبط الرجل الذي سيسند إليه مهمة اقتفاء أثر رولاند، وبدلًا من أن يتجه إلى شيكاجو، بعث الرسالة التالية:

قابِلني صباح غد، دون تأخير، عند جيبسون هاوس. يُرجى الرد.

قبل حلول منتصف الليل كان الرد قد وصله، وفي صباح اليوم التالي قابل رجلًا يثق فيه ثقةً عمياء، ويمتاز، حسب قوله، بتلك المَلَكة النادرة التي لا تُقدَّر بثمن في التكتُّم على الأسرار.

قال ستراتون وهو يناول الرجل الآخر صورةً لستيفن رولاند: «هل ترى هذه الصورة؟ لا يسعني الآن حصر متاجر العقاقير التي تُقدَّر بالمئات هنا في سينسيناتي، لكن أريد منك أن تُعدَّ قائمةً بها، ولا تستثني منها مطلقًا المتاجر الأكثر انزواءً في المدينة. أريد منك زيارة كل متجر للعقاقير في المدينة، وعرض هذه الصورة على صاحب المتجر والموظفين العاملين به، والاستفسار عما إذا كان ذلك الرجل قد اشترى أي مواد كيميائية خلال الأسبوع أو الأسبوعين السابقين لعيد الميلاد. واعرف العقاقير التي اشتراها، ومن أين اشتراها، ثم ائتني بهذه المعلومات.»

كان السؤال: «ما المهلة التي ستمنحني إياها لهذه المهمة، يا سيد ستراتون؟»

«لك ما تشاء من الوقت. أريد إنجاز المهمة بدقة وبكل حذافيرها، وكما تعرف، السكوت من ذهب في قضيةٍ كهذه.»

figure
ما المهلة التي ستمنحني إياها لهذه المهمة؟

رد الرجل الآخر، وهو يضع الصورة في جيبه الداخلي ويزرره: «كفَّيت قولًا.» ثم غادَر الغرفة.

ليس هناك ما يدعو إلى تقديم تقريرٍ مُفصَّل عن المحاكمة. أي شخص يدفعه فضوله لمعرفة القضية يمكنه العثور على التفاصيل كاملةً في ملفات التحقيقات لأي صحيفة داخل البلد. ظهرت السيدة برنتون بوجهٍ شاحب للغاية وهي تجلس داخل قفص الاتهام، ولكن جورج ستراتون كان يرى أنه لم يرَ في حياته امرأةً في جمالها. خُيِّل إليه أن أي شخص داخل تلك القاعة المزدحمة يمكنه الإقرار في لحظةٍ بأنها ليست من ارتكبت هذه الجريمة التي نُسِبت إليها، وتطلَّع إلى هيئة المحلفين المؤلفة من اثنَي عشر رجلًا يحسبهم من صفوة الرجال، وتساءل عن رأيهم في هذه القضية.

figure
في قفص الاتهام.

زعم الدفاع أن ليس من اختصاصهم كشف مرتكب الجريمة. فهذا من اختصاص الادِّعاء. وقد أكَّد السيد بنهام أن الادعاء قد أخفق إخفاقًا ذريعًا في إثبات ذلك. ولكن، دعمًا للادعاء، أبدى السيد بنهام استعداده التام لتوضيح كيف لقي السيد برنتون حتفه. ثم استُدعي الشهود، الذين أثاروا دهشة السيدة برنتون، حين شهدوا بأن زوجها كان طوال حياته لديه نزعة إلى الجنون. وأُثبت على نحو قاطع ونهائي أن بعض أسلافه قد تُوفوا في مصحةٍ للأمراض النفسيَّة، وذُكِر أن أحدهم قد مات منتحرًا. وأخرج الدفاع بعض الكتب من مكتبة السيد برنتون، من بينها كتاب لفوربس وينسلون بعنوان «العقل والدماغ»؛ ليثبت أن برنتون قد بحث في موضوع الانتحار.

كان الأمر الذي أصدره القاضي محايدًا تمامًا. وكان مفاده: إذا ارتأت هيئة المحلفين أن الادعاء قد أثبت أن السيدة برنتون هي مَن ارتكبت الجريمة، أصبح لزامًا عليهم أن يصدروا حكمًا بأنها مذنبة، وإذا تراءى لهم خلاف ذلك أصبح لزامًا عليهم النطق ببراءتها؛ وعليه انسحبت هيئة المحلَّفين للتشاور.

وبينما كانت هيئة المحلفين تهم بمغادرة قاعة المحكمة، غشيت الكآبة جميع مَن كانوا على صلة طيبة بالسجينة الحسناء.

رغم الشهرة الكبيرة للمحاميَين بنهام وبراون، اجتمع كل الحضور على أن أداءهما في الدفاع كان ضعيفًا للغاية. أما الادعاء، على الجانب الآخر، فقد أدير باقتدار منقطع النظير. لقد أثبت الادعاء أن السيدة برنتون هي المنتفع الأول من موت زوجها. فصندوق التأمينات وحده سوف يضيف خمسةً وسبعين ألف دولار إلى الأموال التي ستصبح تحت تصرفها. ثمة عددٌ من النقاط البسيطة التي لم يُعِرها ستراتون اهتمامه عظُمت أهميتها في عينه، واتضح فيما بعدُ أنها وثيقة الصلة بالقضية. اعترف ستراتون لنفسه، للمرة الأولى، بأن الادعاء قد أورد حُجَّةً دامغةً مبنيةً على أدلة ظرفية. والدفاع، كذلك، أظهر أداءً ضعيفًا يرثى له لدرجة أضافت إلى قوة الادعاء. كان متوقعًا من بنهام أن يقيم مرافعةً يُشهد لها، لكنه لم يرقَ إلى مستوى الحدث، وكما قال شخص يعرفه، كان بنهام يعتقد بوضوح أن موكلته مذنبة.

في الوقت الذي انسحبت فيه هيئة المحلفين للتشاور، شعر كل فردٍ داخل قاعة المحكمة أن ثمة أملًا طفيفًا لهذه السجينة، وتعاظم شعورهم بذلك حين أُعلن في المحكمة، بعد مرور لحظات قليلة، بينما كان القاضي يتهيأ لمغادرة منصة المحكمة، أن هيئة المحلفين قد اتفقت على الحكم.

سمع ستراتون، وسط السكون الذي ساد قاعة المحكمة، محاميًا يهمس إلى محامٍ آخر قائلًا إن «مصيرها محتوم.»

صمتٌ مطبق عمَّ القاعة بينما كانت هيئة المحلفين تصطف ليجلس كلٌّ منهم في مكانه على مهل، ثم نهض رئيس هيئة المحلفين.

كان السؤال: «أعضاء هيئة المحلفين الموقَّرين، هل أجمعتم على حكمٍ في هذه القضية؟»

أجاب رئيس هيئة المحلفين: «أجل.»

«هل ترَون السجينة مذنبةً أم غير مذنبة؟»

وكانت الإجابة الواضحة: «غير مذنبة.»

سادت في البداية لحظةٌ من الهدوء، ثم دوَّت موجة من التصفيق الحار سُرعان ما أُخمدت.

وأُخلي سبيل السيدة برنتون.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤