الفصل الرابع

للحظة، أصاب برنتون ذهول ودهشة من عناوين الصحف المفجعة التي قرأها لدرجةٍ أفقدته القدرة على إدراك ما حدث. على الرغم من أن خبر موته مسمومًا بث فيه شعورًا غريبًا، فلم يسترعِ انتباهه إلى هذا الحد الذي كان متوقعًا. ما يدعو إلى العجب أن صدمته ازدادت عندما وجد نفسه مثار حديث المدينة ومحور ضجة صحفية كبرى. لكن الأمر الذي أفزعه هو إلقاء القبض على زوجته بتهمة قتله. ألحَّت عليه نفسه في البداية من أجل الذهاب إليها في الحال، ثم هداه تفكيره إلى أنه من الأفضل قراءة ما نشرته الصحيفة عن هذا الموضوع حتى يصبح مُلمًّا بالحقائق كلها. حدَّث نفسه بأن عناوين الصحف كثيرًا ما تُبالغ في عرض الموضوعات، وربما لا يدعم صُلب المقال ذلك الخبر المذكور أعلاه. ولكن كلما واصل القراءة؛ بدا الموقف مفزعًا أكثر وأكثر. وجد أن أصدقاءه ساورتهم الشكوك في موته المفاجئ، وأصروا على تشريح جثته. تعهَّد بتشريح الجثة ثلاثة من أبرز الأطباء في مدينة سينسيناتي، وأجمع الثلاثة على أن المتوفَّى — بلغةِ هيئة المحلَّفين — قد وافته المنية إثر تسممه بالمورفين، وأصدرت هيئة القضاة المحققين في أسباب الوفاة حكمها بأن «المدعو ويليام برنتون قُتل مسمومًا على يد شخصٍ مجهول.» ثم استطرد المقال في توضيح كيف انغلقت دائرة الشك تدريجيًّا على زوجته، وعليه صدر قرار بإلقاء القبض عليها. ثم أُلقي القبض عليها في ذلك اليوم.

figure
السيدة برنتون.

ما إن قرأ برنتون هذا القرار، حتى شعر بغصة موجعة. تخيَّل زوجته الرقيقة الجميلة في زنزانة حجرية في سجن المدينة. توقَّع أهوال المحاكمة العلنية على نفسها والحزن والألم العميقين اللذين قد يصيبان مثل هذه السيدة المثقَّفة والراقية من تعليقات الصحيفة على القضية. وبكل تأكيد، لم يساور برنتون في قرارة نفسه أدنى شكٍّ في نتيجة المحاكمة. سوف تُبرَّأ من هذه التهمة. لكن الأمر لن يختلف في النهاية؛ لن يعوضها الحكم النهائي لهيئة المحلفين عن القلق الرهيب الذي لا بد أنها تعاني منه الآن.

اتجه برنتون في الحال إلى السجن وراح يجول عبر ذلك المبنى الكئيب من أوله إلى آخره بحثًا عن زوجته. ثم وجدها أخيرًا لكن داخل غرفة مريحة للغاية في مقر سكن المأمورين. الخوف والمحاكمات التي مرَّت بها خلال الأيام القليلة الماضية جعلها تبدو أكبر سنًّا بما لا تخطئه العين، ومزَّق قلبه التفكير في أنه واقف أمامها عاجزًا، وقد انقطعت به السبل كلها عن تطيِيب خاطرها بكلماتٍ تفهمها. بدا عليها واضحًا أثر دموع الحسرة التي ذرفتها منذ صباح عيد الميلاد المشئوم، ولم تكن الهالات السوداء تحت عينيها الجميلتين إلا دليلًا على الليالي التي هجر النومُ فيها عينيها. جلست على كرسي وثير بمسندين في مواجهة النافذة، تتطلع منها شاردةً في منظر الشتاء الموحش بالخارج، وعيناها تبدوان وكأنهما لا تريان شيئًا. كانت يداها مستقرتين على حجرها، ومن حينٍ لآخر تلتقط أنفاسها بطريقة بدت في جزء منها نحيبًا وفي الجزء الآخر لهاثًا.

دخل المأمور بعد قليل إلى الغرفة.

قال: «سيدة برنتون، يوجد سيدٌ هنا يرغب في مقابلتك. أخبرني بأنه صديقٌ قديمٌ لكِ اسمه السيد رولاند. هل تودين مقابلة أي زائر؟»

أدارت زوجة السيد برنتون رأسها ببطءٍ ثم نظرت إلى المأمور للحظة وكأنها لم تفهم ما قاله. وأجابته في النهاية في شرود:

«رولاند؟! أوه، ستيفن! أجل، تسرني مقابلته كثيرًا. اسمح له بالدخول من فضلك.»

دخل ستيفن رولاند بعدها مباشرة، ونوعًا ما لم يلقَ قبولًا لدى الرجل الخفي الواقف بينهما مجيء السيد رولاند لمواساة السيدة برنتون.

بدأ رولاند حديثه إليها: «عزيزتي السيدة برنتون، أتمنى أن تكوني بحالٍ أفضل اليوم. استجمعي قوتك وكوني شجاعة. لم يعد سوى القليل. لقد وكلت المحاميين الجنائيين البارزين، بنهام وبراون، للدفاع عنكِ. لا يمكنكِ الاستعانة بأفضل منهما.»

ما إن تفوَّه رولاند بكلمة «جنائيين»، حتى ارتعدت أوصال زوجة السيد برنتون.

جلس رولاند جاذبًا كرسيه بالقرب منها ثم أكمل حديثه: «أليس، أخبريني بأنك لن تفقدي شجاعتك. أريدك شجاعة، من أجل أصدقائك.»

ضم رولاند يديها المرتخيتَين في يده دون أن تحاول سحبهما.

اجتاح برنتون شعور بغضبٍ عارم عندما رأى هذا التصرف من جانب رولاند.

كان رولاند أحد الراغبين في الزواج من صاحبة اليد التي يحتضنها بين يديه الآن، ولكن لم يكن الحظ حليفه. ورأى برنتون أن أقل ما يقال إن من تَدنِّي الأخلاق أن يستغل رولاند الآن موقفها المريع ليتودد إليها.

كان الطريق الأقرب للشجار بين برنتون وزوجته خلال حياتهما الزوجية القصيرة التي لم تدم إلا لستة أشهر هو أمر ذلك الرجل الذي يحمل يديها بين يده. ضجر برنتون من التفكير في أن تلك السيدة بشخصيتها الفطِنة، وفطرتها التي تميِّز بها الصواب من الخطأ، لم تسعفها بديهتها لكي تكتشف شخصية هذا الرجل الذي كانا يتشاجران بسببه، لكن المرأة لا ترى أبدًا أن وقوع رجلٍ في حبها جريمة مهما كان رأي زوجها فيه.

همهمت السيدة المسكينة وطفقت دموعها تنهمر من عينيها: «الأمر مريع! مريع! مريع.»

قال رولاند: «الأمر بالطبع مريع، وما يجعله مريعًا على وجه الخصوص هو توجيه الاتهام إليك بهذه الجريمة المزعومة، من بين جميع الناس على وجه الأرض. لا أعتقد من جانبي أنه مات مسمَّمًا على الإطلاق، ولكن قريبًا سنعيد الأمور إلى نصابها الصحيح. سيترك بنهام وبراون أي قضية معهما ليكرِّسا كل اهتمامهما لهذه القضية حتى تنتهي. وكل شيء يُنجز بالمال أو الأصدقاء سنقوم به، وكل ما نطلبه هو أن تستجمعي شجاعتك، ولا تنكسري أمام البشاعة الظاهرية لهذا الموقف.»

بكت السيدة برنتون في صمت، ولم تُعقِّب. لكن بدا واضحًا أن حضور هذا الزائر وكلماته قد أثلجا صدرها. لغرابة الموقف، انزعج برنتون انزعاجًا شديدًا، رغم أنه ذهب إليها وفي أعماقه يريد أن يطيِّب نفسها ويخفف عنها. وكل المرارة التي كان يشعر بها ضد منافسه السابق أُحييت بداخله من جديد، وازدادت ثورته لعجزه عن التعبير عنها. ثم عاد بذاكرته إلى نصيحة فيريس المشئومة بأن يترك وراءه كل شيء في ذلك العالم الذي رحل عنه. شعر أنه لم يعُد باستطاعته أن يطيق أكثر من ذلك، وفي اللحظة التالية وجد نفسه مرةً أخرى في شوارع سينسيناتي الباردة.

ظل اسم المحاميَين، بنهام وبراون، يتردد في ذهنه إلى أن قرر أن يذهب إلى مكتبهما ليسمع، إن أمكن، الترتيبات التي أُعدت للدفاع عن السيدة التي يعلم بأنها بريئة. عند وصوله إلى مكتب هذين المحاميَين البارزَين وجدهما مجتمعَين في غرفتهما الخاصة، وعندما دخل إلى هناك، وجدهما يتناقشان في القضية بمنتهى الهدوء والموضوعية التي يتسم بها المحامون المرموقون عند الحديث عن قضايا تتعلق بالحياة أو الموت.

كان بنهام يقول: «أجل، أعتقد أن ذلك هو أفضل خطٍّ للدفاع يمكن اللجوء إليه ما لم يظهر أي شيء جديد يقلب الموازين.»

سأل براون: «وماذا في ظنك قد يقلب الموازين؟»

«حسنًا، لا يمكنك أن تعرف أبدًا في مثل هذه القضايا. قد يجدون شيئًا آخر؛ قد يجدون السُّم، على سبيل المثال، أو العبوة التي تحتوي عليه. ربما سيتذكر أحد الصيدلانيين أنه باعه إلى هذه السيدة، ومِن ثمَّ، وبكل تأكيد، علينا حينها أن نغيِّر خططنا. لا أحتاج لأن أقول إن من الضروري لا محالة ألا نصرِّح بأي رأي مهما كان إلى الصحافة. ستمتلئ الصحف بالشائعات، وسيظل الوضع هكذا إذا لم نفصح بما في جعبتنا عن خطتنا للدفاع حتى يحين موعد نظر القضية.»

قال براون وهو الشريك الأصغر سنًّا: «ما زال علينا ألا نخسر زملاءنا من الصحفيين؛ سيحضرون إلى هنا بمجرد معرفتهم بأننا مَن سيتولى الدفاع في هذه القضية.»

«حسنًا، لا أشك في قدرتك على التعامل معهم بأسلوبٍ يجعلك تمنحهم شيئًا يكتبونه، من دون أن تفصح عن أي شيء لا نرغب في نشره.»

ردَّ براون بأسلوبٍ يعكس ثقته بنفسه: «أعتقد أنه بإمكانك أن تثق فيَّ وتوكل الأمر إليَّ.»

أجابه بنهام: «سأترك لك هذا الجزء من هذه المهمة برمته بين يديك. ومن الأفضل ألا تنقل الأخبار كاملةً أو تخلط بينها، وفي حال مجيء أحد الصحفيين لمقابلتي؛ فسأُحيله إليك. وسأخبره بأنني لا أعرف أي شيء عن القضية أيًّا كان.»

رد براون: «هذا جيد للغاية. والآن، فيما بيننا، ما رأيك في هذه القضية؟»

«هذه القضية ستُحدث ضجةً كبيرة. أظن أنها ستكون على الأرجح إحدى أكثر القضايا تداولًا من بين القضايا التي تعاملنا معها.»

«أوافقك الرأي، ولكن هل تعتقد أنها مذنبة أم بريئة؟»

قال بنهام بهدوء: «بالنسبة إلى هذه النقطة، ليس لديَّ أدنى شك. هي مَن قتلته.»

بينما قال بنهام ذلك، نسي برنتون نفسه للحظة واندفع إلى الأمام وكأنه سيشرع في خنق المحامي. بدا تصريح بنهام بأنه الجزء الأقبح من هذه الخيانة البشعة. ورأى برنتون أنه أمر مخزٍ أن يتقاضى هؤلاء الرجال أتعابًا من هذه السيدة نظير الدفاع عنها، وهم في الحقيقة يشاركون في قضية ولديهم قناعة بأن موكِّلتهم مذنبة.

قال براون: «أتفق معك. بالطبع هي الشخص الوحيد المستفيد من موته. لقد وهبها هذا الأبله الساذج كل شيء، وهي تعلم ذلك؛ وما فعله هو أمر مثير للعجب عندما تتذكر أنه على علمٍ بأن لها حبيبًا سابقًا قد كان سيُسعدها الزواج منه لو كان في ثراء برنتون. إن الحماقة المفرطة لبعض الرجال فيما يتعلق بزوجاتهم أمر في غاية البشاعة.»

أجابه بنهام: «أجل، هو كذلك بالفعل. لكن سأخبرك يا براون بأنها ليست امرأةً عادية. إن الفكرة وراء الجريمة لها طابع جديد لدرجةٍ تثير إعجابي الشديد بها. لا أتذكر أي حادثة مثلها في تاريخ الجرائم. إنها الطريقة الصحيحة التي ينبغي أن يرتكب بها قاتلٌ جريمته. كانت الطبيعة العامة التي أقيمت فيها المناسبة بمثابة مظلة واقية للجاني. تخيَّل أنك تُسمم رجلًا عند تناوله عشاءً أتى به بنفسه وسط عددٍ من الأصدقاء. أؤكد لك أن في الأمر لمسةً من الجرأة تجبرني على الإعجاب بها.»

«هل تظن في رأيك أن رولاند له علاقة بما حدث؟»

«كانت شكوكي تحوم حوله في البداية، لكن أظنه بريئًا، رغم أنه من منطلق معرفتي به، فلن يتردد الرجل في مشاركة مكاسب هذه الجريمة. وتذكَّر ما أقوله، سيتزوجان في غضون عام من الآن إذا ثَبَتت براءتها. فثمة قناعة داخلي أن رولاند يعلم أنها مذنبة.»

قال براون: «ظننت ذلك أيضًا من تصرفاته هنا وبعض التعليقات التي أبداها دون أن ينتبه إليها. على أي حال، مصداقيتنا في هذه القضية ستتضاعف إذا نجحنا في تخليصها من العقاب. نعم»، ثم واصل حديثه وهو ينهض دافعًا كرسيه للوراء: «زوجة السيد برنتون قاتلة.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤