الفصل الخامس

وجد برنتون نفسه مرةً أخرى في شوارع سينسيناتي في حالٍ يصعب وصفه. جاهد نفسه لكي يتمالك غضبه وحزنه، وما زاد من هذه الانفعالات عجزه عن معرفة ما يجب أن يفعله أو ما الذي «كان» بوسعه أن يفعله. استثقل أن يعاود طلب النصيحة من فيريس؛ فلم يكن السبب في عنائه إلا تجاهله للنصيحة التي أسداها إليه ذلك الرجل النبيل. لم يكن يدري إلى أين يتجه في عالمه الجديد. ووجد نفسه يتساءل إذا كان هناك على أرض الأرواح مكتب محاماة يمكن أن يطلب استشارته، ثم تذكَّر كيف لم يكن له مثيلٌ في جهله بشروط الحياة في هذا العالم الذي ينتمي إليه الآن. لكنه شعر أنه لا بد من استشارة أحدٍ ما، وكان فيريس هو الشخص الوحيد الذي يمكن أن يقصده. بعد لحظةٍ وجد نفسه أمامه وجهًا لوجه.

قال برنتون: «سيد فيريس، أنا في كرب مفجع لم أعهده من قبل، وجئت إليك على أمل أن يكون بوسعك أن تنصحني على الأقل بما يجب أن أفعله، إن لم يكن بيدك أن تساعدني.»

أجابه فيريس بنبرةٍ ساخرة في صوته: «إذا كانت متاعبك بسبب اتباعك النصيحة التي أسديتها إليك بالفعل، فسأسعى جاهدًا، وبقدر استطاعتي أيضًا، أن أساعدك على الخروج مما أنت فيه.»

صاح برنتون قائلًا: «أنت تعلم جيدًا أن السبب في متاعبي كلها هو تجاهل نصيحتك أو، على الأقل، لأني تعمدت ألا أنصاع لنصيحتك. لم يكن بوسعي أن أعمل بها.»

قال فيريس: «عظيم للغاية. لست مندهشًا للضيق الذي أصابك. عليك أن تتذكر أن مثل هذه المحنة هي قصة قديمة معنا هنا.»

قال برنتون: «لكن، يا سيدي الفاضل، انظر إلى الوضع المُزري الذي تسير عليه الأحداث وإلى ما وصل إليَّ من أخبار. يبدو أنني قُتلت مسمومًا، ولكن بالطبع هذا الأمر لا يشغلني. لا أشعر باستياء تجاه ذلك الدنيء الذي فعلها. لكن الأمر المفزع في ذلك هو أن زوجتي أُلقي القبض عليها بتهمة قتلي، وقد علمتُ لتوي أن المحاميَين الموكَّلَين لها لديهما قناعة بأنها هي الجانية.»

قال فيريس بهدوء: «تلك الحقيقة لن تتعارض مع مرافعتهما البليغة عند عرض القضية أمام المحكمة.»

نظر برنتون نظرةً غاضبةً إلى ذلك الرجل الذي كان يستقبل الأمور بهدوءٍ جم ونجح في إظهار عدم تعاطفه، لكن أدرك بعد لحظة أن لا طائل من الشجار مع الشخص الوحيد الذي يمكن أن ينصحه، ولهذا واصل حديثه، بكل ما أوتي من صبر:

«الموقف كالآتي؛ أُلقي القبض على زوجتي بتهمة قتلي. وهي الآن في حراسة المأمور. ما بها من عناء واضطراب هو أمرٌ بشع لا يمكن التفكير فيه.»

قال فيريس: «عزيزي، لا يوجد سبب يدفعك أنت أو غيرك إلى التفكير في الأمر.»

صاح برنتون ساخطًا: «كيف لك أن تتحدث بهذه القسوة؟ هل يمكنك أن ترى زوجتك أو أيًّا ممن تعرف محتجزًا في جريمة مريعة، وتظل هادئًا متماسكًا كما أنت عليه الآن وأنت تسمع مِحنة غيرك؟»

أجابه فيريس: «عزيزي، بالطبع ليس متوقعًا من شخصٍ ليس لديه سوى خبرة محدودة بهذا العالم أن يتمكن من موازنة أموره. يبدو عليك أنك تتحدث بنبرةٍ جادة للغاية. ولا يبدو أنك استوعبت التفاهة المطلقة لكل هذا على الإطلاق.»

صاح برنتون: «يا إلهي! أتعتبر امرأة حياتها مهددة بالخطر لجريمة لم ترتكبها مطلقًا تفاهة؟»

أجابه فيريس دونما أي تأثر بغضب رفيقه: «في حال براءتها، ستتكشف الأمور في المحاكم بلا شك، ولن يوجد سبيل لوقوع ضرر، حتى إن نظرت للأمور بعقلية العالم الذي رحلت عنه. ولكن ما أريده منك أن تعتاد النظر إلى الأمور بعقلية هذا العالم وليس العالم الآخر. لنفترض أن ما تدَّعي أنه الأسوأ يجب أن يحدث، افترض أنها شُنِقت، ماذا إذن؟»

وقف برنتون عاجزًا عن الرد وحانقًا من تعليقه الفظ.

واصل فيريس بوتيرته الهادئة: «إذا نظرت إلى الأمور نظرةً صحيحة، فسترى أنه ربما تمر بلحظة ضيق، ربما ليست هذه اللحظة بالضرورة، وستجد زوجتك بعدها هنا في أرض الأرواح. وأنا على يقين من أن هذا لقاء تهفو إليه بشدة. وحتى الرجل في مثل حالتك يجب أن يدرك منطقية هذا الأمر. والآن إذا نظرنا إلى المسألة فيما يتعلق بما تدَّعي أنه الجانب الأكثر خطورة، فانظر إلى ضآلة الأمر. لا يستحق أن تُمضي لحظةً في التفكير فيه، مهما كان الطريق الذي يسلكه.»

«تعتقد أنه من الطبيعي، إذن، أن تموت ميتةً مخزية كهذه وأن تنال مثل هذا الظلم المؤلم؟»

figure
اللعبة المكسورة.

«وأنت في الدنيا، هل رأيت مِن قبلُ طفلًا يبكي على لعبةٍ مكسورة؟ هل أوجعك بكاؤه بأي درجة؟ ألم تكن تعلم أن من الممكن شراء لعبة جديدة تبدد أفكاره المؤلمة؟ هل تحمل أحزان الطفولة البسيطة أي هلع يظل راسخًا ودائمًا في ذهنِ رجلٍ ناضج؟ بالطبع، لا. لديك من الوعي ما يكفي لتدرك ذلك. حسنًا، نحن في هذا العالم ننظر إلى الألم والصراعات والمِحن التي يعاني منها أهل العالم الذي فارقته تمامًا كنظرة رجلٍ مسن لمعاناة طفلٍ انكسرت دميته. هذا هو حجمه حقًّا. وهذا ما أعنيه عندما أقول إنك لم تكتسب بعدُ حس موازنة الأمور. أي حزنٍ وشقاء في العالم الذي فارقته هو حزن عابر ومؤقت، حتى إننا حين نفكر لوهلةٍ في الحياة الحرة الطليقة الخالية من الألم الكامنة وراءه؛ تصبح تلك المشكلات التافهة لا وزن لها. يا رفيقي العزيز، ليكن عقلك راجحًا وخذ بنصيحتي. إن أمرك يهمني بشدة حقًّا وأنصحك بأن تنسى الأمر برمته، وهذا ليس إلا لمصلحتك أنت. وقريبًا جدًّا سيصبح لديك شيء أهم كثيرًا من الحَوم حول العالم الذي فارقته. إذا جاءت زوجتك وأصبحت بيننا، فلا أشك في أنه سيسرك أن ترُحِّب بها وتعلِّمها الأشياء التي ستكون قد اكتشفتها بالفعل عن حياتك الجديدة. وإن لم تأتِ، فستعرف حينها، حتى من منظور عالمك القديم، أن الأمور قد سارت «على ما يرام» كما تقولون. دع هذه الأمور التافهة تمضي، وانتبه للأمور الأهم بكثير التي ستجذب انتباهك هنا عما قريب.»

كان حديث فيريس جادًّا، وكان واضحًا، حتى لبرنتون نفسه، أنه يعني حقًّا ما قاله. كان من الصعب إيجاد ذريعة للشجار مع رجلٍ صار من فوره في غاية الهدوء وواثقًا تمام الثقة من نفسه.

قال برنتون: «لن نتحدث أكثر من ذلك في هذا الأمر. أظن أن الناس هنا يتقبلون الاختلاف تمامًا مثلما كانوا في العالم الذي غادره كلانا.»

أجابه فيريس: «بالتأكيد، بالتأكيد. لقد سمعت رأيي لتوِّك بالطبع، لكنك ستجد آخرين كُثُرًا لا يتفقون معي في الرأي. وسيصادفك كثيرون يهتمون بأمر التواصل مع العالم الذي غادروه. وستعذرني بالطبع عندما أخبرك بأنني أرى مثل هذه المحاولات لا تستحق عناء الحديث عنها.»

«هل تعرف أي شخص يهتم بمثل هذه الموضوعات؟ وهل لك أن تعرِّفني به؟»

أجابه فيريس: «أوه! لقد عرَّفتك من قبلُ إلى واحدٍ من أكثر المحققين في هذا الموضوع حماسًا. أرشح لك السيد جون سبيد، الذي كان يعيش في شيكاجو.»

رد برنتون ببعض التردد: «آه! لا مفر من الاعتراف بأنني لم أستلطف السيد سبيد كثيرًا. ربما ظلمته.»

قال فيريس: «بالتأكيد ظلمته. ستجد أن سبيد رجلٌ جديرٌ بالمعرفة رغم أنه يستنزف طاقته في مثل هذه المشروعات التي لا تأتي بنفع؛ كوضع مخططٍ للتواصل مع مجتمعٍ فانٍ تمامًا مثل مجتمع شيكاجو. ستُعجب بالسيد سبيد كلما تعمقت في معرفته. إنه شخصٌ محبٌّ حقًّا للخير، وهو الآن يتولى أمر سومرز. وأتصوَّر مما قاله بعدما غادرتَ فينيسيا أنه لا يُضمر لك المشاعر نفسها التي تضمرها تجاهه. سأقابل سبيد لو كنت مكانك.»

قال برنتون وهما يفترقان: «سأفكر بالأمر.»

لا ضير من الإقدام على التعرف أكثر إلى رجل تعرف أنه يُحسن التفكير في شخصٍ آخر، حتى إن لم تكن الانطباعات الأولى مُرضِية، وبعد أن أخبر فيريس برنتون بأن سبيد يحمل صورةً جيدةً عنه، وجد برنتون أن الوصول إلى هذا الرجل الحماسي القادم من شيكاجو بات أقل صعوبة.

تحدث برنتون إلى سبيد قائلًا: «لقد واجهت متاعب كثيرةً وكنت أتحدث إلى فيريس عنها. يؤسفني القول إنه لم يمنحني سوى النزر القليل من التشجيع، ولم يُبدِ تقديرًا على الإطلاق لمشاعري تجاه ما أعانيه.»

قال سبيد: «لا تؤاخذ فيريس بما يفعل. إنه رجل من الطراز الأول، لكنه بارد الطبع ولا يُظهر تعاطفه للآخرين مثل؛ حسنًا لنقل مثل المَحار. إن هوايته المفضلة هي الانقطاع عن التواصل مع العالم الذي رحلنا عنه. وفي هذه النقطة لا أتفق معه، وهناك آلاف لا يتفقون معه. أُقر بأن ثمة حالات يزداد الإنسان فيها تعاسةً إذا تردد على العالم القديم عما إذا انفصل عن ذلك العالم وغادره. لكن ثمة حالات أخرى يكون العكس فيها صحيحًا. ولك في تجربتي عبرة؛ فأنا أجد متعةً غريبةً في التجول في شيكاجو. أعترف أنه ظلمٌ لي كصحفي قديم أن أرى أكثر من سبقٍ صحفي كان بإمكاني أن أتفوق به على زملائي الموقرين، لكن …»

سأل برنتون متحيرًا: «سبق؟ ماذا تقصد؟»

«السبق الصحفي هو الخبطة الصحفية، كما تعرف.»

«حسنًا، لكن لا أعرف. ما المقصود بالخبطة الصحفية؟»

«عزيزي، الخبطة أو السبق هو أن تنفرد بخبرٍ لم يحصل عليه زملاؤك. ألم يكن لك خبرة مطلقًا في مهنة الصحافة؟ حسنًا، لقد فاتك الكثير سيدي. إن الصحافة أعظم مهنةٍ في العالم. فأنت تعرف كل ما يدور قبل أن يعلم به أي شخص آخر بفترة طويلة، والطريقة التي يمكن أن تكافئ بها أصدقاءك وتطأ بقدميك على أعدائك هي إحدى متع الحياة هناك.»

قال برنتون: «حسنًا، هذا ما كنت أرغب في الاستفسار عنه. لقد تخصصتَ في معرفة ما إذا كان من الممكن أن يكون ثمة تواصل بين أحد منَّا، على سبيل المثال، وبين شخصٍ من سكَّان العالم الآخر. هل يوجد أي سبيل ممكن للتواصل؟»

«لقد كرَّست بعض الوقت لدراسة هذه المسألة بلا شكٍّ، ولكن لا يمكنني القول إن في نجاحي ما يدعو للزهو به. كانت أغلب محاولاتي في اتجاه الأخبار. توصَّلتُ إلى بعض المعلومات المذهلة التي سمحت لي قُدراتي هنا بأن أصل إليها، وأعترف بأني قد بذلت قصارى جهدي لكي أُطلِع بعض الأصدقاء عليها. لكن ثمة حلقةً مفقودةً في مكانٍ ما. ولكن ما طبيعة متاعبك؟ هل تسعى لإيصال رسالةٍ لشخص ما؟»

رد برنتون باختصار: «هذه هي مشكلتي. إنني هنا لأنني قُتلت مسمومًا منذ أيام قليلة مضت.»

صاح الآخر: «يا للهول! لا تقل هذا! وهل وصل الخبر إلى الصحف؟»

«وصل بكل أسف.»

«يا له من خبر لو انفردت به صحيفة واحدة دون الصحف الأخرى! أم أن جميعها توصلت إليه في التوقيت نفسه؟»

قال برنتون: «لا أدري شيئًا عن ذلك، وعليَّ أن أعترف أن هذا لا يشغلني كثيرًا. لكن المشكلة هي أن زوجتي ألقي القبض عليها بتهمة قتلي، وهي بريئة مثلي تمامًا.»

«هل أنت متأكد من ذلك؟»

صاح برنتون بغضب: «متأكد من ذلك؟! بالطبع متأكد من ذلك.»

«إذن، من الجاني؟»

رد برنتون: «آه، لا أعرف حتى الآن.»

«إذن من أين لك هذه الثقة بأنها ليست الجاني؟»

صاح برنتون: «إذا كنت أنت تتحدث هكذا، فليس لديَّ ما أقوله أكثر من ذلك.»

«أرجوك، لا تأخذ الحديث على محمل الإهانة. أنا أنظرُ إلى هذا الأمر من منظور صحفي فقط، كما تعرف. عليك أن تتذكر أنك لست المعني بالبت في الأمر، بل هيئة محلَّفين مؤلفة من مواطنين أغبياء للغاية. والآن، لا يمكنك أبدًا أن تعرف ما ستفعله هيئة المحلَّفين سوى أنها ستقوم بشيءٍ أحمق. لهذا، يبدو لي أن الخطوة الأولى التي لا بد من اتخاذها أن تكتشف الطرف المذنب. ألا تدرك أثر تلك الخطوة؟»

«أجل، أدركها.»

«عظيم، إذن. والآن، ما ملابسات هذه الجريمة؟ مَن المستفيد من موتك؟»

أجفل برنتون من السؤال.

فقال الآخر: «أتصور الموقف وأتفهَّم امتناعك عن الإجابة. لكن لا تؤاخذني إذا كنت صريحًا، زوجتك هي أكثر من انتفعت بموتك، أليس كذلك؟»

صاح برنتون بغضب: «لا، لم تكن هي. هذا ما قاله المحامون. لماذا ينبغي أن تريد أن تقتلني مسمومًا، في الوقت الذي كانت فيه ثروتي كلها تحت تصرفها؟»

أجاب سبيد: «حسنًا، هذه نقطة قوية. كنتَ زوجًا مخلصًا بدرجة مقبولة، على ما أظن، صحيح؟ هل كنتَ سخيًّا معها في المال؟»

صاح الآخر: «سخيًّا؟ لقد كانت زوجتي تنال دومًا كل شيء ترغب فيه.»

«آها، حسنًا، ستعذرني بالتأكيد، ولكن ألم يكن هناك حبيب سابق في الأفق؟»

أجفل برنتون مرةً أخرى وتذكَّر رولاند وهو جالسٌ بجانب زوجته ويداها في يده.

قال سبيد: «الأمر واضح، لست بحاجة إلى الإجابة. والآن، ما الملابسات مرةً أخرى؟»

«الملابسات كالآتي: في حفل عشاء أقمته، اجتمع قرابة عشرين أو خمسة وعشرين من أصدقائي، وعلى ما يبدو أن سُمًّا قد وُضع لي في فنجان قهوتي. هذا كل ما أعرفه.»

«من صبَّ لك القهوة؟»

«زوجتي.»

«أرأيت! تذكَّر أنني لم أقل للحظة حتى الآن إنها الجاني، لكن عليك أن تُسلِّم بأنه بالنسبة إلى هيئة محلفين حمقاء، ربما لن تسير القضية في صالحها.»

«حسنًا، على فرض أن الموقف هكذا، ثمة حاجة مُلحَّة لأن أساعدها إذا أمكن.»

قال سبيد: «بالتأكيد، بالتأكيد! سأخبرك الآن بما علينا فعله. علينا أن نصل، إن أمكن، إلى واحدٍ من أبرز المراسلين الصحفيين في شيكاجو ممن يتابعون هذه القضية، وعلينا أن نضعه في طريق هذه القضية في بدايتها. تعالَ معي إلى شيكاجو. سنُجري تجربة، وأنا على يقين من أنك ستكرس لهذه المحاولة كل تفكيرك واهتمامك. لا بد أن نتخذ خطواتٍ متزامنةً مع سير القضية، وأنت الشخص الذي كنت أنتظره؛ شخص رزين له شيء مهدد بالخطر. قد نخفق تمامًا، ولكن أعتقد أن الأمر يستحق عناء المحاولة. هل ستأتي معي؟»

قال برنتون: «بالتأكيد، ولا يَسَعُني أن أعبر لك عن مدى تقديري لاهتمامك وتعاطفك.»

عند وصول برنتون وسبيد إلى مبنًى من الحجر البُني عند مُلتقى شارعَين من أهم شوارع شيكاجو، ما لبثا أن صعدا سريعًا إلى أحد الطوابق العلوية. كان ذلك في منتصف الليل تقريبًا، ومن المبنى الضخم الذي كساه الظلام برز طابقان علويان بإضاءة ساطعة يعكسها صفٌّ طويل من النوافذ المتلألئة التي تظهر من خارج المبنى. دخل الاثنان إلى غرفة يجلس في داخلها رجلٌ إلى إحدى الطاولات، وقد خلع عنه معطفه وصدريته، واستقرت قبعته على مؤخرة رأسه. رغم برودة الجو بالخارج، كانت غرفة الرجل يعمها الدفء من الداخل ويلف أرجاءها دخانٌ أزرق. من بين أسنانه برز غليونٌ أسود مقدمته من كوز الذرة، وعلى ورق طباعة أبيض رديء، كان الرجل يكتب سريعًا ودون انقطاعٍ كمن يخشى على حياته من خطر ما، ثم يتوقف من حينٍ لآخر ليملأ غليونه أو ليعيد إشعاله بعدما ينطفئ.

قال سبيد وهو يلوِّح بيده نحو الكاتب يملؤه شعورٌ بالاعتزاز بنفسه: «ها هو هناك يجلس واحد من أمهر الرجال في صحافة شيكاجو. لقد وُهِب هذا الزميل، يا سيدي، أنفًا يتشمم بها الأخبار ليس لها منافس في أمريكا. يظل ينبش في القضية إلى أن يجد ضالته المنشودة، وما إن يبدأ حتى يسير فيها دون أن يرتكب أي خطأ إلى حدٍّ سيبهرك. أجل، يا سيدي، أنا مَن رشَّحتُه لمنصبه الحالي في هذه الصحيفة، وبإمكاني أن أخبرك بأنه كان شخصًا جيدًا.»

قال برنتون غير مبالٍ وكأنه لا يعنيه كثيرًا ذلك الإطراء: «لا بد أنه كان صديقًا حميمًا لك، أليس كذلك؟»

قال سبيد: «على النقيض تمامًا. كان منافسًا شرسًا، وكانت منافسته الشرسة هذه تسبب لي أنا متاعب أحيانًا. كان يعمل لصالح صحيفة مُنافِسة، ورغم أن شأني لم يكن قليلًا في مجال الصحافة حينها، كان ذلك الرجل يسرق مني الأضواء كلما حاول ذلك. ولهذا، وحتى أتخلص من المنافسة، أقنعت مدير التحرير بأن يعيِّنَه في منصبٍ بصحيفتنا، وأؤكد لك أنه لم يندم للحظة واحدة. نعم، يا سيدي، إن مَن يجلس هناك هو جورج ستراتون، ذلك الرجل الذي يجيد مهنته. الآن، دعنا نركِّز انتباهنا عليه. أولًا، دعنا نرَ إن كان بإمكاننا أن نترك أي انطباع في ذهنه إذا سخَّرنا أذهاننا كلها لهذا الأمر. بالطبع لا يخفى عليك مدى انهماكه. إنه يبدو مستغرقًا إلى أقصى حدٍّ في عمله. هذا هو جورج إجمالًا. أيًّا كانت المهمة التي يُكلَّف بها جورج، ينغمس فيها بكل حواسه في الحال، ولا يفكر في شيء آخر حتى يفرغ منها. لنبدأ الآن.»

في تلك الغرفة الكئيبة التي ينتشر في أرجائها ضوء ساطع، جلس جورج ستراتون منهمكًا في حساب عدد الأسطر التي يجب أن تظهر صباح اليوم التالي في الصحيفة. كان واضحًا استغراقه الشديد في مهمته، مثلما ذَكَر سبيد. لو كان قد نظر حوله، وهو ما لم يفعله، لقال إنه كان بمفرده تمامًا. وعلى حين غِرَّة، بدا أن شيئًا ما قد شتت انتباهه، فمرر يده على جبينه بينما اعتلى وجهه تعبير من الحيرة والاضطراب. ثم لاحظ أن غليونه قد انطفأ، فأزاح الرماد بخبطة خفيفة لوعاء الغليون على جانب الطاولة، ثم عبَّأه في شرود غريب عن طبعه. عاد مرةً أخرى إلى كتابته، ومرةً أخرى مرر يديه على جبينه. وفجأةً ودون مبرر، نظر أولًا إلى يمينه ثم إلى يساره. ثم عاود الكتابة مجددًا، لكن، ما إن التفت إلى انطفاء غليونه، حتى أشعل عود ثقاب آخر وبدأ ينفخ فيه بعصبيةٍ حتى تصاعدت سحب من الدخان الأزرق حوله. اتقد وجهه بنظرة امتعاضٍ وحيرة وهو يعمد بعزمٍ إلى مواصلة كتابته. ثم انفتح الباب، وظهر رجلٌ عند عتبته.

قال الرجل: «هل لديك أي شيء آخر عن المؤتمر، يا جورج؟»

«أجل؛ إنني على وشك الانتهاء. إنها مسودات مصورة كما تعلم.»

«لعل بإمكانك أن تعطيني ما أنجزته. سوف أقوم بتصحيحه.»

قال ستراتون وهو يلملم الأوراق أمامه ويسلِّمها إلى محرر الأخبار المحلية: «لا بأس.»

نظر المحرر إلى عدد الصفحات ثم نظر إلى الكاتب.

فقال المحرر: «هل لديك المزيد من هذا، يا جورج؟ لن يكون لدينا متسع من المساحة في الصباح كما تعرف.»

أجابه الآخر، وقد عاد إلى الجلوس في مقعده: «حسنًا، ما لديك يكفي. يفضل الجمهور أن يشاهد دائمًا رسومًا للرجال المنخرطين في المشادة عن أن يقرءَوا تقارير عما بدر منهم من الكلام.»

قال محرر الأخبار المحلية: «نعم، هذا صحيح.»

قال ستراتون: «لكن، بإمكاننا أن نقلل حجمها في الصفحة الأخيرة. هلا سمحت لي بأن ألقي نظرةً على الصفحتين الأخيرتين؟»

تسلَّم ستراتون الصفحتين، وجال بعينيه سريعًا فيهما ثم أشار بسكينه إلى إحدى الصفحات، ثم وضع في نهايتها علامةً غامضةً تشير إلى نهاية النسخة.

«هنا! سأتوقف عند هذه النقطة. ليس لصورة ريكينبيك العجوز أي أهمية، على أي حال. سوف نحذفه.»

قال محرر الأخبار المحلية: «لا بأس، أعتقد أنه لم يعد لدينا شيء آخر لننجزه الليلة.»

figure
تبدو فاتنة الجمال.

وضع ستراتون يديه خلف رأسه وأصابعه متشابكة ثم انحنى إلى الوراء في مقعده واضعًا قدميه على الطاولة أمامه. كان بإمكان أي قارئ للأفكار أن يستشف الموضوع الذي يشغل تفكيره بمجرد التطلع في وجهه. وفجأةً أنزل قدميه بقوةٍ على الأرض ونهض ثم توجَّه إلى غرفة محرر الأخبار المحلية.

قال: «انظر هنا. هل تحرَّيت عن قضية سينسيناتي؟»

سأل المحرر الداخلي، رافعًا بصره إليه: «ما قضية سينسيناتي تلك؟»

«قضية تلك السيدة المتهمة بتسميم زوجها.»

«أوه، نعم، لقد نشرنا خبرًا عن هذه القضية في طبعات هذا الصباح. كما تعرف، هذا خبر خارج خط الأخبار المحلية.»

«أجل، أعرف ذلك. لكنه ليس خارج خط الصحافة. أؤكد لك أن هذه القضية ستُحدِث ضجة. تبدو فاتنة الجمال. تزوجت لستة أشهر فقط ويبدو يقينًا أنها سممت زوجها. ستضج تلك المحاكمة بالإثارة والمفاجآت الصادمة، لا سيما إذا صدر حكم بإدانتها.»

نظر محرر الأخبار المحلية نظرةً تعكس اهتمامه بالحديث.

«هل ترغب في الذهاب إلى هناك، يا جورج؟»

«حسنًا لا أخفيك سرًّا، أعتقد أن الأمر يستحق.»

«دعني أرَ، اليوم هو آخر يوم في المؤتمر، صحيح؟ وسيعود كلارك من إجازته غدًا. حسنًا، إذا كان الأمر يستحق في ظنك، فتوجَّه إلى هناك وابحث في القضية، ثم أعدَّ لنا مقالًا خاصًّا يمكننا نشره في أول يومٍ من أيام المحاكمة.»

قال جورج: «سأفعل ذلك.»

نظر سبيد إلى برنتون.

«ماذا بوسع فيريس العجوز أن يقول الآن؟»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤