الفصل الأول

الموضوع والمنهج

(١) دلالة الأفغاني

جمال الدين الأفغاني هو رائد الحركة الإصلاحية، وباعث النهضة الإسلامية كما هو مسطور على شاهده في كابول، وهو أول مَن صاغ المشروع الإصلاحي الحديث في النصف الثاني من القرن الماضي، الإسلام في مواجهة الاستعمار في الخارج والقهر في الداخل. وبفضل تعاليمه اندلعَت الثورةُ العرابية وعبرَت بلسان عرابي أمام الخديوي توفيق في ساحة قصر عابدين إن الله خلقنا أحرارًا ولم يخلقنا عقارًا، والله لا نُورَث بعد اليوم. وهو رافع شعار مصر للمصريين، فكان الأبَ الروحي للحزب الوطني المصري والذي كتَب برنامجَه تلميذُه محمد عبده. وهو أول مَن صاغ مفاهيم الوحدة في العصر الحديث وبؤرتها مصر، الدولة القاعدة، مصر وجنوبها، مصر والسودان، وحدة وادي النيل. مصر وغربها، وحدة المغرب العربي. مصر وشمالها، وحدة مصر وسوريا، مصر والشام. مصر وشرقها، وحدة مصر وشبه الجزيرة العربية، مصر ومحيطها، الوحدة العربية. مصر وجناحها الشرقي في الجامعة الشرقية. مصر كعبة الإسلام ومنارة الأزهر الشريف في الوحدة الإسلامية الشاملة. ولما أعادَت الصحوة الإسلامية الحالية للإسلام حيويته من جديد، وأعادَت الحركة الإصلاحية، الإسلام الثوري، فعاليتَها في المقاومة الإسلامية في فلسطين وجنوب لبنان وأفغانستان قبل أن تتحول المقاومة الأفغانية ضد الاحتلال السوفيتي إلى حرب أهلية ومقاومة البوسنة والهرسك العدوان الصربي ظهرَت دلالة الأفغاني في ذكراه المئوية الأولى، لحاقًا به بعد أن كانت النتائج تتناقض مع المقدمات، وأصبح الجيل السادس من الإصلاحيِّين على طرف نقيض من جيل الرواد الأوائل، وبعد أن كان يطويه النسيان؛ لأنه لم يَعُد موضوعَ اهتمام في عصر الاستقطاب في الخطاب السياسي الحالي بين السلفيِّين والعلمانيِّين، صراعًا على السلطة وليس تأصيلًا للفكر حتى انقسمَت الأمة إلى فريقين متقاتلين متخاصمين، يتبادلان تُهَمَ التكفير والتخوين، والعدو يحاصر من على الأبواب، ويُحكم الحصار يومًا وراء يوم.
من الأفغاني تبدأ كبوة الإصلاح؛ فبعد أن أسَّس حركة إسلامية ثورية لتحرير العالم الإسلامي وتوحيده بشعار بسيط وواضح، الإسلام في مواجهة الاستعمار في الخارج والقهر في الداخل وانتشرَت تعاليمُه عند بعض رجال الدين وضباط الجيش والأدباء والمفكرين المهاجرين من الشام اندلعَت الثورة العرابية في مصر للمطالبة بالحرية والدستور والمساواة بين الوطنيِّين والأجانب. واستمرَّت روحها عند عبد الله النديم. خطيب الثورة، متخفيًا عشرات السنين.١
ولما فشلَت الثورة العرابية واحتُلَّت مصر، ونُفيَ عرابي ورفاقه إلى سرنديب في المحيط الهندي ارتدَّ تلميذُه محمد عبده، ونَدِم على اشتراكه في هوجة عرابي وفتنة العرابيِّين.٢ ونُفيَ إلى بيروت أستاذًا في جمعية المقاصد الإسلامية معززًا مكرمًا. فقد كان صديقًا للورد كرومر. وآثر محمد عبده التحولَ من السياسة إلى التربية، ومن الثورة السياسية إلى التغير الاجتماعي، ومن النفَس القصير إلى النفَس الطويل ابتداء من إصلاح اللغة العربية والمحاكم الشرعية والتحول بالوقائع المصرية من ثبت للقوانين إلى مقالات نقدية إصلاحية. ومع ذلك قامت ثورة ١٩١٩م بفضل تلاميذه، مثل سعد زغلول، وبدأت حركةُ تحرُّر المرأة المصرية بفضل قاسم أمين، وبداية الليبرالية السياسية بفضل علي عبد الرازق، والنقد الجديد بفضل طه حسين والعودة إلى التراث الفلسفي بفضل مصطفى عبد الرازق.

ولما قامت الثورة الكمالية في تركيا، وانتصرَت القومية الطورانية على الجامعة الإسلامية، وحزب الاتحاد والترقِّي على حزب الإصلاحيِّين، وتركيا الفتاة على الخلافة حدث ردُّ فعلي سلفي عند رشيد رضا تلميذ محمد عبده خوفًا من تكرار التجربة التركية في باقي أرجاء العالم الإسلامي، فدافع عن الإمامة أو الخلافة العظمى ضد العلمانية التركية، ودافع عن الوحي المحمدي ضد العقلانية العلمية الغربية، وحاجج الإسلام ضد شبهات النصارى. فارتدَّت الحركة الإصلاحية مرة ثانية من السلفية المجاهدة عند الأفغاني إلى السلفية المحافظة عند محمد بن عبد الوهاب الذي ردَّه إلى ابن تيمية الذي ردَّه بدوره إلى أحمد بن حنبل باسم النص. وتحوَّلت الدولة القاعدة من مصر إلى السعودية، ومن الدستور والبرلمان إلى القبيلة والأسرة.

ولما أراد حسن البنا تلميذ رشيد رضا في دار العلوم العودة إلى تعاليم الرائد الأول، الإسلام المجاهد، وتحقيق حلمه لتأسيس حزب إسلامي ثوري يقوم بتحقيق الأيديولوجية الإسلامية الثورية أسس الإخوان المسلمين في الإسماعيلية وعلى ضفاف القناة وأمام جنود الاحتلال الإنجليزي في الشرقية، وقيادتها في التل الكبير، وأصبحت الجماعة بعد الوفد أكبرَ تنظيم سياسي شعبي في الأربعينيات قبل الثورة المصرية وبعدها بسنتين. ولما اغتيل حسن البنا في ١٩٤٩م وبداية تكوين التنظيم السري، وبعد الصدام بين قيادة الإخوان والضباط الأحرار في ١٩٥٤م واستشهاد بعض قياداتهم ونزول الإخوان تحت الأرض وتعذيبهم في السجون نشأ جيلٌ جديد منهم رافضٌ غاضب. يودُّ الانتقام من المجتمع والثأر من النظم العلمانية الليبرالية والقومية والماركسية خاصة بعد أن تحوَّل سيد قطب في السجن وتحت أهوال التعذيب من العدالة الاجتماعية في الإسلام ومعركة الإسلام والرأسمالية والسلام العالمي والإسلام إلى معالم في الطريق الذي يكفِّر المجتمع ويقسِّمه إلى إیمان وكفر، إسلام وجاهلية، إيمان وطاغوت. ويدعو إلى حاكمية الله ضد حاكمية البشر تحت تأثير المودودي وكأنهما متناقضان. ولا علاقة بين الاثنين إلا بقضاء أحدهما على الآخر. ولا يقضي على الكفر والجاهلية والطاغوت إلا جیلٌ قرآني فرید تحت شعار لا إله إلا الله. فارتدَّت الحركة الإصلاحية مرة ثالثة لتكوِّن جيل الجماعات الإسلامية الحالية. تمارس العنف، وتحمل السلاح، وتكفِّر حتى الخارجين عليها. فالحق المطلق لا يقبل المساومة أو الحوار.٣

وإلى الأفغاني تعود الفعالية للحركة الإسلامية المعاصرة في أفغانستان أثناء حرب الاستقلال ضد الغزو السوفيتي قبل أن تتحول إلى حرب أهلية بين الفِرَق، كلٌّ منها يظن أنه الفرقة الناجية، وفي البوسنة والهرسك بالرغم من عجز المسلمين على مدى ثلاث سنوات وانتظار القطب الأوحد في العالم لإنهاء الصراع على حساب المسلمين، وفي لبنان وفلسطين ضد الاحتلال الإسرائيلي دون استنارة الأفغاني وليبراليته ودعوته إلى حرية الفكر والنظم البرلمانية والدستور. فقد بعدت المسافة بين ليبرالية القرن الماضي وأوائل القرن، منذ ثورة ١٨٨٢م حتى ثورة ۱۹۱۹م، وبين هذا الجيل بعد أن قضَت الثورات العربية الأخيرة منذ أوائل الخمسينيات على النظم الليبرالية العربية، وغابَت عن النظم الملكية الوراثية التي ترسخَت بعد انحسار المد الثوري العربي، وبالرغم من أشكال الديمقراطية في مجالس الشورى والشعب والأمة والبرلمان والتعددية الحزبية في بعض الأقطار.

ويبدو أن طول اضطهاد الحركة الإسلامية واستبعادها من العمل الوطني على مدى نصف قرن حولها إلى حركة مناهضة تقابل الإقصاء بالإقصاء، والرفض بالرفض، والاستبعاد بالاستبعاد، وتواجه العنف بالعنف، والسلاح بالسلاح. لا تفرق بين العدو الخارجي، الاستعمار والصهيونية، وبين العدو الداخلي، الملكية والعسكرية. ولا تفرق بين المرحلتَين التاريخيتَين، مرحلة التحرر الوطني ضد الاستعمار، ومرحلة التحرر الاجتماعي ضد التخلف وبعد استقلال الدول. بل يعطي البعض الأولوية للنضال ضد الداخل على النضال ضد الخارج ولتحرير الأنظمة العربية من الطاغوت على تحرير فلسطين من الاستعمار الاستيطاني. إذ إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ، في حين أن القرآن أيضًا أعطى الأولوية للنضال ضد الخارج على النضال ضد الداخل، أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ، وجاعلين الجهاد الأكبر هو جهاد النفس، والجهاد الأصغر هو الجهاد ضد العدو الخارجي بالرغم من تحذير الإخوان الأوائل من سوء تأويل الأحاديث وعدم التيقن من صحتها لخطورتها على الجهاد ضد الاستعمار والصهيونية.٤
وتظهر دلالة الأفغاني في عصر الاستقطاب بين خطابَين سائدَين في الفكر العربي المعاصر، الخطاب السلفي الذي يعرف كيف يقول ولا يعرف ماذا يقول، والخطاب العلماني الذي يعرف ماذا يقول ولا يعرف كيف يقول. إذ يقدِّم الأفغاني الخطابَ الثالث الذي يعرف كيف يقول ويعرف ماذا يقول. وهو الخطاب الذي حاول اليسار الإسلامي إعادةَ صياغته في أوائل الثمانينيات في بداية الاستقطاب. أما وأن الاستقطاب تحوَّل إلى حرب أهلية في الجزائر وإراقة الدماء بالآلاف، دماء الأبرياء من الأطفال والنساء والشيوخ والشباب، وأصبح يهدِّد تركيا بالنزاع بين الجيش وحزب رافاه، ويُثير القلاقل في مصر واليمن والخليج وليبيا ولدرجة الكبت في سوريا والعراق والمغرب وتونس فقد أصبحت دلالة الخطاب الثالث عند الأفغاني، الإسلام الوطني أو الإسلام الثوري أو الإسلام السياسي، ملحَّةً للغاية في الداخل والخارج، وفي عصر التحول من قرن مضى إلى قرن آتٍ.
وظهرَت محاولات لتشويه صورة الأفغاني في جيلنا من أجل قطع جذور نضالنا الوطني والقضاء على الإسلام الثوري إبقاءً للاستقطاب بين الإسلام السلفي والثورة العلمانية الغربية، والفتور من الأول والإعجاب بالثانية، وحتى يبقى الباحث وحده مثالًا للوطنية ورافعًا شعار مصر للمصريين بمضمونه العلماني وليس الإسلامي الوطني وربما بمضمونه القبطي ودرءًا لمخاطر الثورة الإسلامية في إيران التي أصبحت محطَّ جذب للشعوب العربية الإسلامية. فالثائر لا يكون إلا غريبًا والإسلامي لا يكون إلا متخلفًا؛ فكل شيء سيِّئ في الأفغاني حتى الوطنية والمعاداة للاستعمار ودعوته للجامعة الشرقية في مواجهة الغرب؛ فالباحث قبطي والمبحوث إسلامي، والباحث علماني والمبحوث ديني، والباحث غربي والمبحوث شرقي.٥
وقد استمدَّت هذه الصورة من أرشيف المخابرات البريطانية، وكأن صورة الأفغاني أصدقُ في ملفات الأعداء منها في كتابات الأفغاني وتلاميذه، وفي كتب الاستشراق المعادية للحركة الإسلامية المعاصرة دفاعًا عن الغرب وقِيَمِه التي كانت موضعَ نقدٍ من الأفغاني؛ فتقارير المخابرات مثل تقارير المباحث العامة عن الوطنيِّين لتشويههم لإيجاد ذريعة للقبض عليهم وتعذيبهم. فالوطني إرهابي، والاشتراكي شيوعي، والليبرالي إباحي.٦ وقد قيل عن الأفغاني:
  • (١)

    إيراني ولیس أفغانيًّا وكأن الجنسية عنصر حاسم في حياته ورسالته وآرائه. وهو الذي حارب الجنسية كرابط بين الجماعة وكعامل توحيد بين الأقوام. وهو الذي ردَّ على رينان في الربط بين الثقافة والعرق ونظريته العنصرية التي راجَت في القرن الماضي، تفوُّق العقلية الآرية الغربية في مقابل انحطاط العقلية السامية الشرقية. فالتركيز على الجنسية إسقاط من الحاضر على الماضي، ومن الباحث على المبحوث، ومن الدولة الوطنية المعاصرة على عصر الخلافة. ويتحول الحديث عن الجنس إلى حديث بيولوجي عرقي عن ملامح الوجه ولون البشرة وفصيلة الدم في ثقافة ساوَت بين الشعوب، وجعلَت لا فضلَ لعربي على عجمي إلا بالتقوى والعمل الصالح.

  • (٢)

    طائفي شيعي، ادعى أنه من أهل السنة للوصول إلى قلوب الأغلبية من المسلمين. بل إنه بابي بهائي من فرقتَين شيعتَين معاصرتين أخرجهما المسلمون من الأمة لادِّعاء الباب وبهاء الله النبوة، استثمارًا للنزاع التقليدي الموروث بين السنة والشيعة. والأفغاني نفسه يدعو إلى وحدة الأمة وتجاوز هذا الخلاف التاريخي.

  • (٣)

    إرهابي انقلابي، شارك في عديد من المؤامرات والانقلابات السياسية في أفغانستان، مؤيدًا فريقًا ضد فريق، بل أخًا ضد أخيه. دبر اغتيال الخديوي إسماعيل على كوبري قصر النيل. وهو الاتهام الذي يُلقى عادة على كلِّ الثوريين من الأنظمة الرجعية التسلطية أو نظم الاحتلال مثل اتهام المقاومة الفلسطينية المشروعة ضد الاحتلال الصهيوني بالإرهاب. الإرهاب أفعال فردية أو جماعية محاصرة لا تجد مَن يساندها. في حين أن الثورة حركات شعبية بدليل اندلاع كثير من الثورات في العالم الإسلامي بفضل تعاليمه. الثورة العرابية في مصر، والثورة المهدية في السودان. وقد قامت الانقلابات الحديثة بفضل الجيوش في البلاد النامية بتثوير مجتمعاتها في الخمسينيات والستينيات وكما حدث في الثورات العربية الأخيرة. كما نجحَت الثورة الإسلامية في إيران ضد إرهاب الشاه والسافاك. ومع ذلك فالأفغاني من كبار المدافعين عن النظم البرلمانية والتعددية الحزبية والدستور والملكيات المقيدة حتى أصبحت الليبرالية الغربية نمطًا للتحديث في الحركة الإصلاحية لا فرق بينها وبين الليبرالية السياسية عند الطهطاوي وخير الدين التونسي أو العلمانية عند شبلي شميل وفرح أنطون وسلامة موسى وزكي نجيب محمود. وقد ظهرَت تيارات إخوانية تعود إلى هذا النموذج الليبرالي في الأردن واليمن والكويت وحزب الوسط (تحت التأسيس) في مصر.

  • (٤)

    استبدادي تسلطي نازي، ينتقل من استبداد إلى استبداد حتى ولو قال بالمستبد العادل. فالمستبد لا يكون عادلًا والعادل لا يكون مستبدًّا. والحقيقة أن المستبد العادل تعبير عن تجربة النهضة في عصره وإعجابه بمحمد علي وبنهضة اليابان وبسمارك في ألمانيا. ويعتمد في ذلك على حكم شرعي قديم باجتماع صفتَي القوة والعدل في الإمام، وأولوية الأولى على الثانية في حالة التعارض؛ لأن الحاكمَ القويَّ ضروريٌّ للدفاع عن البلاد، ويستطيع العالم أن ينبهَه على ضرورة مراعاة العدل ومقاومة الظلم.

  • (٥)

    متآمر ومناور، يتفق مع رياض في إستانبول ويخطط معه. يتآمر على عزل إسماعيل، وتفضيل عباس حلمي. يُقيم محاور ضد محاور، ضد تركيا ومع الخلافة، وضد الخلافة العثمانية ومع الخلافة القرشية. أنشأ «العروة الوثقى» دفاعًا عن الخلافة، واختفت رسالة التأسيس التي أرسلها له السلطان لهذه الغاية. كما ادعى باحث آخر من نفس الملة اختفاء رسالة خطيرة من محمد عبده إلى تولستوي. لو ظهرَت لكشفَت النقاب وبان المستور.

  • (٦)

    انتهازي متلون، لا يثبت على حال، وله ظهرٌ وبطن، ولا ينتمي إلى مذهب سياسي. يشكُّ كل الحكام في ولائه بعد أن يثقوا فيه. وهي صفة السياسي أكثر منها صفة المفكر. لا يعني ذلك أنه ضحَّى بالفكر من أجل السياسة أو تنازل عن النظر من أجل العمل بل يكشف عن القدرة على تجميع المذاهب والفِرَق تحقيقًا لوحدة المسلمين. ويعترف الأفغاني نفسه بذلك ويكشف عن صورته في ذهن الناس؛ إذ يقول عن نفسه بالنثر الفارسي: الإنجليز يعتقدون أني روسي والمسلمون يظنون أني مجوسي، والسنة يحسبون أني رافضي، والشيعة يخالون أني نصيبي (أعداء علي)، وبعض أصحاب الرفاق الأربعة يعتقدون أني وهَّابي، وبعض أتباع الأئمة يتوهمون أني بابي، والمؤمنون بالله يظنون أني مادي والأتقياء يتصورون أني خاطئ مجرد من التقوى، والعلماء يعدونني جهولًا، والمؤمنون يظنون أني كافر. لا الكافر يدعوني إليه ولا المسلم يعدني من ذويه. منفي من المسجد، منبوذ من المعبد. وفي نفس الوقت له صورة أخرى: عالمٌ دینيٌّ قويُّ الإيمان، مفكِّر حرٌّ، متفلسف ملحد. وهي نفسُ صورةِ كلِّ مفكر من هذا النوع يحاول أن يلمَّ الشمل، ويجمع بين فِرَق الأمة، ويوحِّد الخطاب الوطني. فهو عند السلفيِّين شیوعيٌّ متخفٍّ، وعند الشيوعيين سلفيٌّ متخفٍّ، وعند الدولة إخوانيٌّ شيوعيٌّ.

  • (٧)
    عمیل سوفييتي، يعمل لحساب القيصر. وهي نفس التهمة التي قيلت على عبد الناصر في عصر الاستقطاب، بل وعلى كلِّ الزعماء الوطنيِّين في العالم الثالث في عصر التحرر الوطني. بل وقيلت على لينين إنه عميل لألمانيا، والأفغاني هو الذي أراد توحيد الشرق في مواجهة الغرب. وتتداخل لديه الوحدة الإسلامية مع الجامعة الشرقية. وقد استأنفها السلطان جالييف وهوشي منه. وكانت أكبرَ ملهمٍ لربط مصر بالشرق منذ حافظ إبراهيم أنا تاج العلاء في مفرق الشرق والصحافة المصرية مثل مرآة الشرق حتى كوكب الشرق، وريح الشرق عند نیدهام، وأنور عبد الملك.
  • (٨)

    ماسوني یهودي، انضم إلى عديد من المحافل الماسونية، وكان من زعمائها، ما دام يريد السيطرة على العالم مثلها. ويهودي صهيوني بالرغم من أنه تُوفي في نفس العام الذي عقد فيه المؤتمر الصهيوني الأول في بازل بزعامة هرتزل. صديق يعقوب صنوع مع أنه صديق أيضًا لنصارى الشام المهاجرين مثل سليم الضموري، وسليم النقاش، ولويس صابونجي وشبلي شميل، وأديب إسحاق أقرب تلاميذه إلى قلبه، ولم يُتهم بأنه نصراني، ويكشف هذا الاتهام عن طائفية بغيضة من الباحث وإسقاطها على المبحوث، وينبِّه على صداقته للشوام إقلالًا من مصريته في ثقافة لا تقوم على القومية ولدى مفكر يسعى إلى وحدة الأمة بداية بين مصر والشام.

  • (٩)
    طموح شخصي، يريد أن يكون رئيس جمهورية، سياسي متطلع يحقق أحلامه. وهو الذي رفض تتويجه على السودان. وهو الذي كان مطاردًا من كل نظام حتى استقر به المقام في باريس ينشر العروة الوثقى. وعادة ما يتهم كل زعيم وطني بأنه يعمل لصالحه وليس للوطن مما يدفع بعض الزعماء للتوحيد بينهم وبين الأوطان كما فعل ديجول في عبارته الشهيرة أنا فرنسا.
  • (١٠)

    مثالي لم يَعِ الواقع القطري. حماسي خطابي، لم يترك فكرًا سياسيًّا نظريًّا منظمًا. والحقيقة أن هذه الصورة قراءة للحاضر في الماضي؛ فقد كان عصر الأفغاني ما زال عصر الخلافة بالرغم من محاولات الأقطار الانفصال بعد ضعف مركز الخلافة. فكان دفاع الأفغاني عن وحدة الأمة حماية لها من الاستعمار الذي يتوحَّد للقضاء عليها بعد تفتيتها. فلا فرق بين الاستعمار الإنكليزي والروسي والفرنسي. والخطاب العربي المعاصر ما زال على هذا المستوى من التنظير؛ لأنه خطاب جماهيري اختارته النخبة من أجل النضال الوطني وليس خطابًا نظريًّا في مجتمعات مستقرة بلغَت شأْوًا من التعليم وقطعَت مع تراثها الماضي. وهو نفس نوع الخطاب في الثورة الفرنسية، والثورة الأمريكية والثورة الروسية مع اختلاف في الدرجة وليس في النوع.

هذا التشويه المتعمد لصورة الأفغاني هو في الحقيقة قضاء على جذور النضال الوطني في وقت تشتد فيه الحاجة إلى التمسك بها حرصًا على وحدة الوطن وكرامته. وهو حكم مسبق عليه له دوافعه غير العلمية. لم يترك له حسنة واحدة مثل عدائه للاستعمار وللاستبداد وتثويره للمسلمين وتوحيده للقوى الثورية. يشقُّ على القلوب لمعرفة ولائها وهو ما قد ينطبق على الباحث أيضًا. يسقط التصور القومي على مسيرة حياته، من المرحلة الأفغانية إلى المرحلة التركية إلى المرحلة المصرية، والأخيرة هي أكبر المراحل لهزِّها وانتزاعها من الشعور الوطني.٧ يحول الفكر إلى تاريخ. والمفكر إلى رحلاته من أجل القضاء على استقلال الفكر وقدرته على التأثير ما دام وليدَ الظروف، وانطباعات رحالة. ويقيم فكره من سلوكه الشخصي لسهولة رفض الفكر عن طريق الحجة ضد الشخص. بل إن الدهرية التي ارتبطَت بأحمد خان عميل الإنجليز أصبحت مجردَ غنوصية من تراث الشرق القديم دون أن يكون لها مغزًى سياسيٌّ. وتتم السخرية من فلسفته في التاريخ، نهوض الأمم ثم سقوطها ثم نهوضها من جديد، ومن محاضرته عن النبوة والصناعة مع أنها من تراث الفلاسفة القدماء خاصة الفارابي وابن سينا. وينضم إلى موقف الخصوم الذين اتهموا الأفغاني بالإلحاد ولإنكاره النبوة وتشبيهها بالصناعة، وقسمته الناس إلى خاصة وعامة، وتقريبه بين النبي والفيلسوف. والباحث تقدمي علماني، لا یرى التقدمية والعلمانية إلا في التراث الغربي دون جذورهما في التراث الفلسفي القديم.

(٢) السيرة والشخصية

كتابة الأفغاني في ثلاث فقرات لسيرته الذاتية ذات دلالة كبيرة. يذكر فيها تاريخ ميلاده، وهو غير ذي نفع كبير. وعاش نصف عصر أو نصف قرن. ولا يهمُّ التاريخ. إنما الذي يهم الشخصية في عصرها. اضطر إلى مغادرة بلاده الأفغان، ومن ثَم يعترف بأنه أفغاني وليس إيرانيًّا بالرغم من عدم أهمية السلالة البيولوجية في البشر. وترك الهند إلى مصر ثم إلى الآستانة، وكل هذه الرحلات غير مفيدة للناس، مجرد خاطرات. والسجن رياضة في طلب الحق، والنفي سياحة، والقتل شهادة. وهو غيرُ راضٍ عن نفسه لخموله وعدم وصوله إلى مرتبة الشهداء، بل وصل فقط إلى مرتبة السجن والنفي. ومن ثَم لم يَقُم بمهمته الأولى وبالعمل الجليل المناط به مع أنه لم يترك عملًا جليلًا للنوع الإنساني عامة وللشرقيين خاصة إلا اقتحمه إلى حد الخروج من الاعتدال إلى التهور.٨

لا يهمُّ إذن مسقط رأسه فذلك تصور قومي، ابن هذا القرن ولم يكن في القرن الماضي في العالم الإسلامي. لم تكن هناك حدود قومية بين أفغانستان وإيران. ولكنه وُلد بالقرب من كابل، ومسقط رأسه بلاد الأفغان. أقام في الهند وإيران وفي مصر وتركيا ثم في باريس. تعدَّد المقام والشخصية واحدة، والفكر متصل. هو شرقي في مقابل الغرب، يحمل معه هموم الشرق.

نعمت ونحن مختلفون دارًا
ولكن كلنا في الهم شرق٩

وقد كتب محمد المخزومي مقدمة قصيرة عن حياته مما اختبره بنفسه ودون الاعتماد على ما سبق كتابتُه من آخرين، لا فرق بين حياته وشخصيته، بين فكره وملامحه. كما أبدى جرجي زيدان صاحب الهلال، وكان من محبِّيه، رغبته في كتابة سيرته الذاتية مع أن العادة كتابتها بعد وفاة صاحبها؛ لذلك أرسلها المخزومي إليه بعد وفاة الأفغاني، ونُشر جزء منها في «الهلال». ولما أبدى المخزومي هذه الرغبة إلى جمال الدين قال: «العيان لا يحتاج إلى ترجمان». يكفي ما قاله الآخرون عنه، «سري، سري»، أي متشرد تائه في الأرض. وهي صورته لدى خصومه وحسَّاده بعد إقبال السلطان عبد الحميد عليه.

كان صحيحَ العقيدة، مؤمنًا بالألوهية، شديدَ التمسك بحكمة الدين. ومع ذلك كان نفورًا من التعصب ومن التقليد في المذهب، مجتهدًا لدرجة الغرابة والخروج على المألوف في التفسير. كان قويَّ الذاكرة، سريع الحفظ، بطيء النسيان. يذكر خطابًا ارتجله أو مقالًا أملاه أو كتابًا ألَّفه منذ سنين. كان قويَّ الحجة يجذب مخاطبَه إليه ويرضخ لبرهانه ولو لم يكن ساطعًا. له أسلوبه الخاص في المقدمات التي تتولَّد عنها مقدمات أخرى بالطبع. يتعذر إقناعه جدلًا لأسلوبه الخاص في إبطال الحجة عليه أو التخلص منها دون مكابرة. يُعطي خصمَه الحقَّ بعد أن يفحمَه، ويدلُّه على ما أغفل من حجج وهو حادُّ الذهن لا يخلو من حدة في المزاج، يحمل مَن خاطبه على العظائم ويُذلِّل له الصعاب.

وهو عظيم النفس، كبير الهمة، شجاع جريء. يقدم حيث يحجم الناس. ويتكلم حين يسكتون رغبة أو رهبة، سريع بمبادآته الذهنية. كان مُهابًا أكثر منه محبوبًا. وفي نفس الوقت كان متواضعًا مع من أقل منه، متكبرًا على الملوك والعظماء لحد التجبر. لم يكن مغترًّا بنفسه، مستخفًّا بمن يخاطبه بألقاب دولتكم أو سماحتكم أو يمدح فكره وحكمته وخطابته واحتقار الموت. كان غرضه بهذه الصفات الوصول إلى طمأنينة القلب بأنه قال الحق ولم يكتمه. يذكر المسلمين لأنهم العنصر الغالب في الشرق وملة ممالكه؛ فالشرق لفظ يدل على الأمة الإسلامية. أراد إيقاظ الشرقيين وتنبيههم وتقريبهم. وفي نفس الوقت محبٌّ لخير البشر، يساوي بينهم جميعًا في الحقوق العمومية التي تقوم على الحرية العاقلة.١٠

وأفضل مَن كتب سيرتَه تلميذُه محمد عبده كما كتب الجوزجاني سیرة أستاذه ابن سينا. كتب بعضها، ونسيَ البعض الآخر، وكتم جزءًا لأسباب سياسية. وُلد في قرية سعد أباد عام ١٨٣٩م، وانتقل مع أبيه إلى كابول. تعلَّم في سنِّ الثامنة. واعتنى به والدُه لمَّا رأى فيه قوة الفطرة والعزيمة وذكاء العقل. برع في علوم العربية والتاريخ والشريعة والتفسير والحديث والفقه وأصول الفقه والكلام والتصوف. كما برع في بعض العلوم العقلية مثل المنطق والسياسة والاقتصاد، والعلوم الرياضية مثل الحساب والهندسة والجبر والفلك، والطب والتشريح. فجمع بين الحكمتَين.

ويبرز محمد المخزومي باشا الذي رافقه في آخر سنوات حياته بالآستانة طفولته أنه ابنُ السيد صفر من أسرة أفغانية ينتسب إليها الترمذي المحدث، وترتقي إلى الحسين بن علي. نشأ في كنر من أعمال كابول، في بيت علم له احترامُه لنسبِه الشريف. وكانت للأسرة السيادة على بعض الأراضي الأفغانية. ثم سلبها الإمارة دوست محمد خان الذي نقل والد جمال الدين وبعضَ أعمامه إلى كابول.

تعلَّم بالطرق التقليدية، وأكمل تعليمَ المشايخ وهو في الثامنة عشرة. ثم سافر إلى الهند لمدة عام؛ فقد كانت موطنَ التعليم الإسلامي التقليدي وأحيانًا الحديث، لاستكمال الدروس الرياضية الحديثة. ومنها إلى الحجاز لأداء فريضة الحج. فتعرَّف على عادات الأمم وأخلاق الشعوب لمدة عام آخر. ثم عاد إلى كابول موظفًا في حكومة دوست محمد خان. رافقه الأفغاني لفتح هراة التي كان يحكمها أحمد شاه صهرُه وابنُ عمه، واشترك في الحصار إلى أن توفي الأمير وفتحت المدينة وتقلَّد إمارتَها وليُّ عهده شير علي خان. وأشار عليه وزيرُه بالقبض على إخوته محمد أعظم ومحمد أسلم ومحمد آية. وانتصر الأفغاني لمحمد أعظم. وفرَّا سويًّا حتى عظم أمر الأمير وغلب على منافسيه. ثم تولَّى بعده محمد أعظم الذي عظَّم الأفغاني وجعله الوزير الأول ومستشارًا له دون استبداد بالرأي حتى أوغر صدره عليه. فأوسد الأمر إلى أبنائه الأحداث مما أدى إلى هزيمته. ترك بعدها الأفغاني إلى الأراضي الحجازية للحجج عن طريق الهند. وهناك استقبلَته الحكومة الإنجليزية استقبالًا حارًّا، وبعد نشاطه في الهند ضاقَت به الحكومة الإنجليزية وأخرجَته منها وقبل خروجه وجَّه نداءَه الشهير إلى الهنود بأنهم لو كانوا ذبابًا لطنَّ آذان بريطانيا، ولو كانوا سلحفاة لخاضوا البحر وأغرقوا جزيرة بريطانيا. ولم يجئ السلطان الغزنوي الهند باكيًا يذرف الدمع بل فاتحًا شاهرًا السلاح.١١

نُفي من الهند إلى مصر وأقام بها أربعين يومًا تردَّد فيها على الجامع الأزهر. وخالطه كثيرٌ من طلبة العلم السوريِّين ومالوا إليه، وطلبوا منه قراءة شرح الأظهار، فقرأ لهم منه بعضًا في بيته. كان مقامه أول مرة قصيرًا في مصر، ولكن كان له أبلغ الأثر في إنارة الأزهريين بالعلم الجديد والجرأة على شرح القدماء شرحًا عصريًّا، وهو ما كان يبحث عنه طه حسين فيما بعد ولم يجده إلا في الجامعة المصرية.

ثم سافر إلى الآستانة، والتقى بالصدر الأعظم عالي باشا، وأقبل عليه الأتراك بزيِّه الأفغاني. وبعد ستة أشهر عُيِّن عضوًا بمجلس المعارف مما أثار حفيظةَ شيخ الإسلام في ذلك الوقت لآراء الأفغاني التي كانت تمسُّ رزقَه، فتآمر عليه بأن طلب إليه مديرُ دار الفنون أن يُلقيَ خطابًا للحثِّ على الصناعات. فكتب الخطاب وعرضَه على وزير المعارف وعلى مشير الضابطة وعلى بعض أعضاء مجلس المعارف فاستحسنوه. وقد قام الخطاب على تشبيه المعيشة ببدن حي، وكل صناعة بعضو في البدن؛ فالملك هو المخ مركز للتدبير، والإدارة والحدادة العضد، والزراعة الكبد، والملاحة الرِّجلان، وعلى هذا النحو يتألف جسم السعادة الإنسانية وهو التشبيه القديم الموروث من الفارابي وابن سينا. ولما كان لا جسم بلا روح فإن الروح هي النبوة أو الحكمة. الأولى هبة إلهية، والثانية كسب للبشر. الأولى يقين والثانية ظن، الأولى صادقة والثانية يعتريها الخطأ والصواب. الأولى واجبة الاتباع والثانية مندوبة من جهة الأولى والأفضل بشرط عدم مخالفتها للشرع الإلهي.

غضب شيخ الإسلام، واتهم الأفغاني بأنه يعتبر النبوة صنعة كعادة المزايدين في الدين في كل عصر، وأنه ذكر النبوة في معرض خطاب عن الصناعة. وأعطى توجيهاتِه إلى خطباء المساجد، هذا الجهاز الإعلامي الجاهز في أيدي رجال الدين ورجال السياسة، بنقد الأفغاني والمطالبة بمقاضاته واتهامه بالكفر وإنكار ما علم من الدين بالضرورة. ووقعَت الفتنة، وانقسم الناس فريقين، فريق معه وفريق ضده. وخشِيَ الصدر الأعظم وطالب الأفغاني بمغادرة الآستانة كي تهدأَ النفوس، معتذرًا له عن أهل الجمود، وأنه كان بودِّه أن يجعلَه شيخَ الإسلام. ومثل الأفغاني يناهض السلطتَين الدينية والسياسية ويفضح تعاونَهما الخفيَّ والعلنيَّ.

ثم غادر الأفغاني الآستانة إلى مصر في ٢٢ / ٣ / ١٨٨٧م سياحة فيها حتى لاقَی ریاض باشا رجل الإصلاح فمال إليه. والتفتَ حوله طلبةُ العلم. وقرأ عليهم كتبَ الكلام والحكمة النظرية الطبيعية والعقلية والفلك مع أصول الفقه في بيته وفي الأزهر يوم الجمعة. فذاعَت أفكاره في مصر، واستمر في محاولاته للقضاء على الأوهام والدفاع عن العقول. نبغ تلاميذه وتأثروا به، واتسعَت حلقاته. فحسده الحساد، وحقد عليه الحاقدون كما هو الحال في كل عصر. واتهموه بقراءة الفلسفة التي حرَّمَها المتأخرون بفتاوى ابن الصلاح. وشوَّهوا ما ينقلون عنه عن طريق أنصاف المتعلمين عن قصد.

تم تولَّى توفيق حكمَ مصر وأيَّده الأفغاني وجمع القلوبَ عليه. ولمَّا كان الأفغاني ميالًا بفطرته إلى السياسة، فقد نظر في أحوال مصر ورأى تزايدَ تدخُّلِ الأجانب في شئونها يومًا بعد يوم. فبدأ يفكر كيف تتغير الأحوال بتأييد الحاكم الصالح أو بتنوير العقول أم بالعمل على إنشاء الجمعيات الإصلاحية وتنشيط ما هو موجود منها.

فانضم إلى الجمعية الماسونية، المحفل الاسكتلندي، وأصبح من رؤسائها دون أن يُخفيَ ذلك. وبعد أن عايشها انتقدها، ردًّا على مَن قال إنها لا دخل لها بالسياسة، وأنه يخشى عليها من بطش الحكومة. وضاق المحفل بآرائه التي ينتقد فيها الخمول والخوف والجبن. وأنشأ محفلًا وطنيًّا تابعًا للشرق الفرنسي لتحويل الماسونية الغربية إلى حركة وطنية مصرية. وانضم إلى المحفل عددٌ بارز من المفكرين والمصلحين المصريين من تلاميذه ومريديه من العلماء والوجهاء. وقسَّمه إلى شُعَب. شعبة لإنذار ناظر الجهادية لإنصاف الضباط المصريين الوطنيين الذين يعملون في السودان أكثر مما تسمح به القوانين الخاصة بالتناوب بين المصريين والشراكسة والمتمصرين. وطالب بأن تكون أقصى مدة للضابط المصري سنتين بعدها يستبدل بالمصري ضابط شركسي بدلًا من مكوثه أربع سنوات دون استبدال أو استبدال مصري آخر لا سندَ له من أمير أو شفاعة من وزير، وشعبة أخرى لإنذار ناظر الحقانية، وثالثة للمالية ورابعة للأشغال، وغيرها لباقي النظارات والمصالح الأميرية لإحقاق الحق وإقامة العدل مع الموظفين المصريين والمساواة في الرواتب مع غير المصريين. وقامت الشُّعَب بواجباتها خيرَ قيام.

بلغ توفيق الأمر. وكان لا يبالي قبل ذلك بالماسونية. وجزع من تحويل الأفغاني لها إلى حركة وطنية مصرية. فتردَّد في زيارة الأفغاني له. ثم استدعاه الخديوي وأخبره أنه يحب الخير لكل المصريين ويبغي تقدُّمَ مصر. ومع ذلك قد تضرُّ أفكار الأفغاني الثورية الشعب المصري؛ لأنه ما زال قاصرًا عن فهمها كما هي العادة في فرض وصايا الحكام على الشعوب. دافع الأفغاني عن شعب مصر وأن من بينهم العقلاء والعلماء، وطالبَه باشتراك الأمة في حكم البلاد. فهذا أثبتُ للعرش. ولم يرضَ الخديوي بكلامه وأضمر له الشر. واستأنف الأفغاني خُطُبَه في المحفل الماسوني لتعليمِ الجاهل واستنفارِ الخامل وحثِّ المستمعين على الدفاع عن حقوق الشعب المهضومة. وكان في مقدمتهم أديب إسحاق، طراز العرب وزهرة الأدب كما كان يسميه الأفغاني، أقرب التلاميذ إلى قلبه وهو النصراني، وكان يُمسك بتلابيب محمد عبده صارخًا فيه والله إنك لمثبط. وهو المسلم.
وبدأت الحركة الوطنية في مصر في الظهور، وأخذَت الحكومة حذرَها منها. تُماطلها وتُجاملها وتتقرَّب إلى الشعب بالوعد بمجلس نيابي إذا ما حافظ على الهدوء. وطلب المصريون الأحرار من جمال الدين وضعَ خطة للمجلس النيابي.١٢ وكانت تلك بداية الثورة العرابية، تحويل الماسونية إلى حركة سياسية وليست صوفية، وإلى حركة وطنية وليست غريبة. وتحوَّل الأفغاني من مصلح الأمراء والوزراء والقادة والنخبة إلى فقيه الأمة ومثوِّر الشعب. انتشرت أفكارُه بين الوطنيِّين المصريِّين، وذاع نقدُه لسياسة بريطانيا. فتُرجمَت إلى الإنجليزية ونُشرَت في جرائد إنجلترا، وأثارَت جدلًا واسعًا شارك فيه جلادستون. ولما اشتدَّت خطورة المحفل تدخَّل قنصل إنجلترا عن طريق أعيُنِه في الحفل، وأخاف الخديوي من خطورته، فأصدر أمرًا بإخراجه من مصر عام ١٨٧٩م وترحيله إلى الهند. وقابله في السويس بعضُ تلاميذه وقنصل إيران، وعرضوا عليه بعضَ المال، فرفض قائلًا أنتم إلى هذا المال أحوج، والليث لا يعدم فريسة حيثما ذهب. وأقام بحيدر أباد. وفيها كتب رسالته في الرد على الدهريِّين. وأجبرَته حكومةُ الهند على عدم مغادرتها والبقاء في كلكتا حتى انتهاء الثورة العرابية. بعدها سمحت له بالمغادرة إلى أوروبا، لمدة أيام في لندن ثم بعدها في باريس. وأقام بها ثلاث سنوات، ولحق به محمد عبده.

وكانت تألَّفَت في مصر جمعية من الفضلاء، جمعية العروة الوثقى. وكلَّفته أن يُنشئَ جريدةً تدعو إلى الوحدة الإسلامية تحت لواء الخلافة. فكلف محمد عبده بتحريرها، ونشر منها ثمانية عشر عددًا قبل أن تتوقف، صُودرَت في الهند. ووُضعَت تحت الرقابة في مصر بأمر من نوبار الأرمني. وصدر قرارٌ من مجلس النظَّار بمنع دخول الجريدة الأراضي المصرية. ويُغرَّم كلُّ مَن توجد لديه نسخة منها من خمسة جنيهات إلى خمسة وعشرين جنيهًا، ويبرئ الأفغاني نظار مصر والخديوي من إصدار هذا الحكم سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين، مصريِّين أو شرقيِّين؛ لأنها تدافع عن المصريين وجميع الشرقيِّين، وتدعوهم إلى نبْذِ التنازع بينهم، وترتيب البيت من الداخل قبل الخارج. كانت مهمةُ الجريدة مناهضةَ سياسة بريطانيا. وكانت الشرطة الإنجليزية في الهند تستدعي المشتبهَ فيه بقراءة الجريدة وتمتحنه في آية الجهاد أو في حديث فيه. فإن لم يشأ الردَّ وأخبر أنه صوفي درويش معتزلي أمهل أربعة أيام لتحديد رأيه. فإذا أثبتها نُفيَ نفيًا مؤبدًا إلى جزيرة إندومان حتى امتلأت بالعلماء.

ثم اندلعَت ثورةُ المهدي في السودان، وزاد تدخُّل الإنجليز في مصر بحجةِ قمعِ ثورة السودان. فحذَّر الأفغاني جلادستون من سوء مصير غوردون. واستمر في الكتابة في موضوع السودان فحذر بريطانيا كاشفًا دسائسها. حتى استدعياه سالزبوري وتشرشل إلى لندن لسؤاله عن رأيه في المهدي. فأوضح لهما خطأَ سياسة إنجلترا نحو الإسلام ومصر والشرق. واقترحوا عليه تتويجَه سلطانًا على السودان لاستئصال ثورة المهدي وتحقيق أهداف بريطانيا. فرفض لأن بريطانيا تعطي ما لا تملك لمن لا يستحق كما فعل بلفور في وعده إلى وايزمان بإنشاء دولة فلسطين؛ فمصر للمصريين والسودان متممٌ لها، وصاحب الحق فيها الخليفة. والأولى ببريطانيا إصلاح أيرلندا. فأعجب به الأيرلنديون الأحرار. ثم عاد إلى فرنسا. واستمرت بريطانيا في مصادرة العروة الوثقى. وأقام في باريس أكثر من ثلاث سنوات. نشر في المجلة عدة مقالات عن سياسات روسيا وإنجلترا ودولة الخلافة في مصر. وأجرى حوارًا مع الفيلسوف الفرنسي رينان في العلم والإسلام وحقيقة القرآن والمعجزات. وشهد له رينان بصحة العلم وقوة الحجة. ورجع عن كثير من آرائه في الإسلام والقرآن والحضارة والعمران، وأرجع تخلُّفَ المسلمين وتأخرهم إلى جمود رجال الدين.
ثم استدعاه ناصر الدين شاه الفرس إلى طهران. فغادر باريس والتقى في أصفهان بالأمير الذي عظَّمه وقدَّمه إلى طهران، وعَهِد له بنظارة الحربية مع لقب مستشار خاص للشاه. حاول الأفغاني تغييرَ كلِّ قديم، ونصحه الشاه بالتدرج وعدم التسرع. ثم خاف الشاه من شعبيته وخشيَ على سلطانه. فتنكَّر له. فاستأذنه جمال الدين في السفر إلى روسيا. ونال هناك الاحترام والتقدير لما عرفوه عنه من أنه كان وزيرًا أولًا في عهد الأمير محمد أعظم خان، ونشره مقالات عن سياسة الأفغان والفرس والدولة العلية والروسية والإنجليزية ونفوره من سياسة الإنجليز في الشرق. ولما سأله القيصر عن سبب اختلافه مع الشاه وأجابه الحكومة الشورية. فأيَّد قيصر روسيا شاه إيران وأمر بإخراجه من روسيا. فجال في أوروبا، لندن وغيرها من العواصم مع كلِّ إجلال وتقدير في أيِّ مكان حلَّ به، ناقدًا استبدادَ الشاه، ومؤيدًا لأحرار إيران للانقلاب على حكم الطغيان دون تدخُّل الإنجليز. ثم تصادف وجود الأفغاني في معرض باريس عام ١٨٨٩م، فالتقى بالشاه في ميونخ، واعتذر له الشاه، وطلب منه العودة إلى طهران. فرجع معه لتنظيم الدولة. فسنَّ لها قانونًا تكون به الحكومة ملكية شورية. ثم أوغر صدر الشاه عليه من جديد، وخشيَ من تقلُّص سلطانه، فذهب الأفغاني إلى قرية بالقرب من طهران، وتابعه العلماء. ولما عظم أمرُه قبض عليه الشاه وأخرجَته الشرطة إلى البصرة وهو مريض، فقامت ثورة في إيران من مريديه أخمدها الشاه. ثم قتله رجلٌ من أهل فارس بطعنه ثأرًا لجمال الدين.١٣
وبعد أن غادر إلى لندن تلقَّى دعوةً من السلطان عبد الحميد لزيارة الآستانة. وبعد إلحاح شديد قَبِل جمال الدين الدعوةَ وذهب إليها آخر عام ۱۸۹۲م، وليس عليه إلا جبةٌ واحدة، وكتُبٌ في رأسه لكثرة نفيه من مكان إلى مكان. واستمر في نقد استبداد السلطان ناصر الدين الذي رجا السلطان عبد الحميد التدخلَ لدى جمال الدين لوقف الحملة عليه. ولما عاتبه أحد المنافقين أنه يلعب بالسبحة في حضرة السلطان ردَّ عليه بأن السلطان يلعب بمقدرات الملايين دون اعتراض أحد. فعظمه السلطان عبد الحميد بالرغم من الدسائس. ولما طلب جمال الدين زيادةَ راتبِ أحد المصريين بالآستانة وعد السلطان ولم يفعل. فطلب جمال الدين الإذنَ بمقابلة السلطان وقد جرَت العادة استقدام السلطان له. ودخل عليه جمال الدين عبوسًا والسلطان بشوشًا، وطلب خلْعَ البيعة له. فاستعجب السلطان، وحقَّق وعدَه، واعتذر لجمال الدين. وناوله الحاجب عند خروجه كيسًا ودنانير فرفض. ولما كانت هبة السلطان لا تُردُّ فوزَّعها على طلاب العلم وأهل الفضل والأدب المعوزين. واستمرت العلاقة بين جمال الدين والسلطان بالرغم من دسائس الأمراء والحساد. فطالب جمال الدين بتخليص الحاشية من الخونة الدساسين. فعظَّم السلطان جمال الدين، وتذكَّر جدَّه محمود وقتَ أن كان الفساد في الإنكشارية. وقد عمَّ الآن الفسادُ في البلاطِ كلِّه. ولكن المسئولية تقع على جمال الدين الذي اعتذر عن عدم قبول المشيخة لإصلاحها، ولا حلَّ الآن إلا بحدوثِ أمرٍ عظيم في أوروبا يشغلها عن السلطان وتُعطيه الفرصة لإصلاح الدولة. وقد اعتذر جمال الدين؛ لأن وظيفة العالم مجردُ الوعظ والإرشاد والتعليم. وقد مكث أربعة أعوام يعلِّم ويحذِّر حتى أُصيبَ بسرطان في فكِّه الأسفل. وأُجريَت له ثلاث جراحات لم تنجح. فتوفي في ٩ / ٣ / ١٨٩٧م.١٤
وبالإضافة إلى رحلاته التي تجعل من الأفغاني رجلَ نظرٍ وعمل، فكرٍ وممارسة، هناك أيضًا صفاتُه ومذهبه، وآماله ومقاصده، ومناقبُه وأخلاقه، ومنزلته من العلم التي تحدِّد معالمَ شخصیته.١٥

فمن صفاته وملامحه أنه عربيٌّ، قمحيُّ اللون، عظيمُ الرأس، عريض الجبهة، واسعُ العينين، عظيمُ الأحداق، ضخم الوجنة، رحبُ الصدر، جليل النظرة، مسترسل الشعر، ينجذب إليه كلُّ مَن يراه بهذه الملامح الأخَّاذة حتى قبل أن يتكلم.

وهو حنفيُّ المذهب غیرُ مقلد، سنيُّ العقيدة مع ميل إلى التصوف، حريص على الفرائض، حميُّ الدين. آمالُه ومقاصدُه إنهاضُ دولة الإسلام من ضعفها كي تلحقَ بالأمم الراقية، وحل العقول من الأوهام، وتوحيد الشرق كي يستعيدَ مجدَه، ومناهضة سياسة بريطانيا في الشرق، وبث الحياة في الناس بعيدًا عن الخمول والكسل. ومن مناقبه احتفاؤه بزائريه، ونهوضه للاستقبال والوداع، وزيارة الصغير والكبير. لا يتكلم إلا الفصحى، ولا يتحدث بالعامية إلا مع العامي. يوضح مقصدَه كي يوصلَ فكرَه للناس. يخطب دون أن يمزحَ كثيرًا. وهو رزينٌ كتوم زاهد في الدنيا، لا مطالبَ له في زوج أو ولد أو منصب أو جاه. لذلك لم يتزوج ولم يتقلد وظيفة ثابتة.

ومن أخلاقه سلامةُ القلب، حرية الضمير، صدقُ الحجة، عفة النفس، رقَّة الجانب. وهو وديع حليم. فإذا مسَّ كرامتَه أحدٌ انقلب إلى غضب. يعتمد على الله وحده دون مبالاة لأيِّ شخص آخر. وهو عظيمُ الأمانة، سهلٌ مع مَن يلين له، صعبٌ على مَن يستغلظ عليه. لديه قدرٌ عظيم من العلوم مع بعض التسرع والعجلة للوصول إلى مقاصده. وهو قليلُ الحرص على الدنيا، لا يغترُّ بزخرفها، مشغولٌ بعظائم الأمور، ويُعرض عن صغائرها. وهو ثابتُ الجأش، شجاعٌ لا يهاب الموت، حادُّ المزاج لدرجة التهور، فخورٌ بنسبِه الشريف دون ترفُّع. قد يكون في أخلاقه بعضُ التناقض. فهو كريمٌ إلى حدِّ الإسراف، بخيلٌ إلى حدِّ التقتير، متواضع لدرجة الذل، متكبر لدرجة التجبر، كتومٌ جهور. وهو التناقض الموجود في شخصية كل عظيم.١٦

أما علمه فإنه خالٍ من اللغو أو اللهو، غزيرُ المعارف، دقيق المعاني، قادرٌ على حلِّ المعضلات بنظرة شاملة ليوضحها، إدخالًا للجزء في الكل. وهو متخصصٌ في كل شيء، واسع الأفق، خصبُ الخيال، قويُّ الحجة، شديدُ الجدال. ما خاصم أحدًا إلا انتصر عليه. وهو قويُّ الذهن، نافذُ البصيرة، حيُّ الذاكرة، وهو واسع الاطلاع في العلوم العقلية والنقلية والفلسفية القديمة والتمدُّن الإسلامي، عليمٌ بأحوالِ المسلمين وظروفِ عصرهم. يعرف اللغات الأفغانية والفارسية والعربية والتركية والفرنسية التي تعلَّمها في ثلاثة أشهر مع إلمام باللغتين الإنجليزية والروسية.

وقد ردَّ الأفغاني على منتقديه بأنَّ حكمتَه في لسانه أكثر مما هي في قلبه بأن كلَّ مسلم مريضٌ ودواؤه القرآن، وعلى طالب الحكمة تدبُّر معانيه. وهي حجة تقليدية سلفية. وكان محمد حكيمًا، حكمتُه من قلبه. فكيف يرفضها مرضى القلب وساقطو الهمم وأهل الذل؟ وهي حجة خطابية اتهامية كما يفعل الخطيب يوم الجمعة. فهل المسلمون اليوم عاملون بما جاء به الرسول أو مقتدون به كما اقتدى الصحابة؟ وهي حجة خطابية أخرى تقوم على الاقتداء بالرسول والاهتداء بالسلف الصالح كما يفعل الوعاظ. بئس الخلف نحن ونعم السلف السلف، يخشى من إدراك ذله خوفًا من نزعه فيرجع إلى القول البارد والرأي السفيه.١٧

لذلك كان جهوريًّا، يُسرع بذهنه، يجهر بالرأي حتى ولو كان فيه خطرٌ وضرر. يُحسن الجدل والحجاج. كان من أكبر علماء الكلام. فعرف أنواع السفسطة لدرجة الإقناع في حالتَي السلب والإيجاب وتأثيره في مخاطبه وحمل الخامل على العظائم والجبان على الجسارة. وساعده على ذلك حكمتُه وسرعةُ الخاطر وتوقُّد الذكاء، وسعةُ الاختبار لأخلاق البشر، وكثرة مخالطة الأمم، وحصوله على ملكة الخطابة وإحاطته بأخلاق العرب والترك والفرس والأوروبيِّين. يُغالي في المدح ولا يسترسل في الذم. ويستعمل الصور الجدلية للمدح والذم مثل الهر والكلب.

اختلف الناس في أمره وتباعُد صوره في الأذهان مع أنه شخص واحد يتميز بصفاء الجوهر وذكاء المخبر. وصفه أديب إسحاق بأنه قد تمرُّ بالناس الأيام حتى يظهر عالم يعبِّر عن حاجات الناس أو يكشف أسرارَ الطبيعة في كل عصر. مثال ذلك جمال الدين، فيلسوفًا، سياسيًّا مثل سقراط. لم يؤلف إلا رسالة، ولكنه باقٍ بمريديه، يجلس في الأماكن العامة ويحولها إلى مراكز علم وحلقات درس حتى حسدَه فقهاءُ السلطان وفقهاء الحيض والنفاس.

(٣) قراءة الأعمال

تتنوع أعمال الأفغاني بين الرسائل، والخاطرات، والمقالات. الرسائل هي الأعمال التي كتبها الأفغاني بنفسه. وهو لم يكتب إلا رسالة واحدة شهيرة هي الرد على الدهريِّين أثناء مقامه بالهند للمرة الثانية. كتبها بالفارسية ثم ترجمها محمد عبده إلى العربية بمساعدة أبي تراب، تابع الأفغاني وصديقه. كانت حياة الأفغاني وتنقُّلاته من بلد إلى آخر لا تسمح له بالاستقرار والكتابة المنظمة. كما أن طبعه الشفاهي يجعله أشبهَ بحكماء الشرق وأنبيائه، بوذا، المسيح، سقراط. كتبها عام ١٨٨٠م وعمرُه واحد وأربعون عامًا. والغاية منها إبطال مذهب الدهريِّين وإثبات أن الدين أساس المدنية، والكفر فساد العمران.١٨
والخاطرات هو الاسم الذي فضَّله الأفغاني لمجموعة أقواله المتناثرة التي جمعها المخزومي منه في سنواته الأربع الأخيرة في الآستانة بين ۱۸۹۲–۱۸۹۷ وهو ملازم له. فهي حديثٌ موجَّهٌ إلى شيخ بني مخزوم. كان المخزومي قد سماها جمال الدين الأفغاني في البلاط السلطاني. ولكن الأفغاني رفض هذه التسمية لأنها لا تطابق المضمون، وفضل لفظ خاطرات كما هو الحال في خاطراتبسكال، وفيض الخاطر لأحمد أمين، وهو لفظٌ أفضل من لفظ خواطر الأكثر شهرة. ويعني هواجس النفس، السوانح، اللوامع والهوامع بتعبير الصوفية، ما يطرأ على النفس وما ينشغل به القلب بعيدًا عن التصورات الذهنية الكلامية الفلسفية وبعيدًا عن التاريخ الميت. لا يهمُّ دعاة اللسان الأجوف الذين ليس لديهم جملةٌ تمسُّ شغاف القلوب. وهي من جوامع الكلم، نوع أدبي، جمل مختصرة، وأمثال حكيمة، معروف عند القدماء. ألَّف فيه المبشر بن فاتك.١٩ تُحفظ وتُدوَّن ويُضرَب بها المثل كالحِكَم والأمثال العامية. وكان السبب في اختيار هذا النوع الأدبي يحمي صاحبه من اضطهاد السلاطين، ويحميه من شدة المراقبة وكثرة الجواسيس والافتراء على الأبرياء.
وسببُ نشرِه أن الأفغانيَّ استقدم من إنجلترا إلى الآستانة ولم يكن له من الآثار المطبوعة أو غير المطبوعة نظرًا لانشغاله بالمقاومة لكل صنوف القهر ومناهضة الحكام وتحمُّل جورهم في سبيل نهضة الشرق دفاعًا عن الحرية والعدل. فلازمَه المخزومي، وأبدَى رغبتَه في التدوين. ووافق عليها الأفغاني أخيرًا. وسمح له بالسؤال عمَّا يريد اكتب ما تسمع واحفظ ما تراه مع التحذير من خطر النشر ومخاطر الطاغية وجواسيس عبد الحميد وعناد أهل الجمود وقلبهم للحقائق. فهم في كلِّ زمان ومكان سببُ هلاك الناس حتى يظهر الحقُّ من أناس آخرين ناقدين باحثين؛ فالبحث التاريخي قادرٌ على إجلاء الحقيقة.
تأخَّر الكتاب في النشر ما يقرب من ثلث قرن. كان يمكن نشرُه بعد صدور الدستور العثماني بناء على طلب العلماء في مصر والهند ولكن حال الأحزاب في الشرق ينطبق أيضًا على جمعية الاتحاد والترقِّي، أي الإهمال. ثم تكرَّر الطلب مرة أخرى للنشر عام ١٩١٢م، ولكن انقلب الجو السياسي، وتنمَّر الاتحاديون مع أن الأفغاني لا يهاجم الأشخاص أو المؤسسات أو يدعو إلى قلب نظم الحكم بل ينقد الأوضاع. ولما اندلعَت الحرب الأوروبية الأولى قطَّع الحلفاء تركيا إلى دويلات فتم تأجيل النشر.٢٠
وبالرغم من أعجمية الأفغاني ومرونته في الالتزام بقواعد اللغة إلا أن العروبة هي اللسان وليست العِرق حتى لقد قال الفيروزآبادي خذوا لغتكم من أعجمي.٢١ وما يعيبها فقط أنها بطبيعتها موضوعاتٌ متفرقة غير مرتبة، وأجوبة على أسئلة كما هو الحال في الفقه القديم في أحكام السؤال والجواب. وهنا تبرز صعوبةُ التبويب المستقل لها عن باقي موضوعات الأفغاني في مقالاته في العروة الوثقى أو حتى في رسالته في الرد على الدهريين. يمكن دراسة أشكالها الأدبية في إطار آداب الشرق القديمة، ويمكن دراسة مضامينها الأخلاقية والاجتماعية والسياسية وإعادة ترتيبها داخل موضوعاتها كتأكيد على وضوح الفكر وبلاغة التعبير.
وصعوبة العروة الوثقى أنها تمثِّل روح الأفغاني وصياغة محمد عبده كما هو الحال في محاورات أفلاطون، روح سقراط وصياغة أفلاطون، وكما هو الحال في الأناجيل، روح المسيح وصياغات كتاب الأناجيل. ومع ذلك جرت العادة على نسبتها إلى الأفغاني. فالروح أقرب إلى الفكر، والصياغة مجردُ ألفاظ وعبارات، بالرغم من الصلة الوثيقة بين المعاني والألفاظ. صدر منها ثمانية عشر عددًا ابتداء من ١٣ / ٣ / ١٩٨٤ حتى ١٦ / ١٠ / ١٩٨٤م على مدى سبعة أشهر من عام واحد بعد الثورة العرابية بما يقرب من عامين. أصدرها بناء على تكليف من جمعية العروة الوثقى لإنشاء جريدة تدعو المسلمين إلى الوحدة تحت لواء الخلافة.
أنواعها الأدبية متعددة، بين المقال والخبر والتحليل السياسي والفن الأدبي مثل الأعجوبة والأسطورة والغريبة … إلخ. وأهمها المقال الذي يتراوح بين العرض النظري وهو المقال الفكري الإصلاحي الذي يُعزى أحيانًا إلى محمد عبده، والخطبة الإنشائية الحماسية الموجَّهة مباشرة إلى الجمهور للحثِّ على الثورة ضد إنجلترا في مصر والسودان والهند والأفغان. وغالبًا ما يبدأ المقال بآية قرآنية بمفردها، وهو الأغلب أو بحديث نبوي وهو الأقل.٢٢ وأحيانًا يبدأ بالآية القرآنية دون عنوان للمقال، وهو الأغلب، أو مع عنوان في عبارة، أو في مجرد لفظ واحد، وهو الأقل، وهذا يدل على منهج الأفغاني في التفسير؛ فإنه يبدأ بالآية، وهو الأغلب، أو الحديث، وهو الأقل، ويفسرها باللجوء إلى التجربة الفردية أو الجماعية ويحولها إلى قانون نفسي أو اجتماعي أو تاريخي وكأن الآية هي الواقع، وحكم الشرع هو قانون التاريخ. لا يستنبط معنى الآية من النص عن طريق قواعد اللغة العربية كما يفعل المفسرون بل يستقرئ التجارب والحوادث ليجد في العالم الخارجي تصديقًا للآية كما هو الحال في المنهج التجريبي المعروف؛ فالواقع خير تصديق للوحي. وبتعبير القدماء يتبع الأفغاني منهجَ التأويل وليس التذيل، أي صعود المعاني من أسفل إلى أعلى وليس نزولها من أعلى إلى أسفل كما هو الحال عند الصوفية، وقد تم اختيار الآيات بعناية؛ لأنها هي التي تصوغ قانونًا تاريخيًّا عامًّا يمكن التحقق من صدقه في الواقع. وهنا يتحول القرآن من قراءة إلى رؤية، ومن كلام إلى واقع، ومن عبارة إلى ثورة، ومن وحي إلى تاريخ.

وقد فصَّل الأفغاني منهجَ العروة الوثقى وأهدافها على النحو الآتي:

  • (١)

    خدمة الشرقيين، وبيان الواجبات التي كان التفريطُ فيها موجبًا للسقوط والضعف، وتوضيح الطرق لتدارك ما فات، والاحتراس مما هو آتٍ. فهي موجهة إلى الشرق، والإسلام جزءٌ من ريح الشرق، والمسلمون جزء من الجامعة الشرقية، والخلافة جزء من جامعة شعوب الشرق.

  • (٢)

    البحث في الأسباب والعلل التي أدَّت إلى التفريط وبواعث الحيرة والتشابه والتِّيه والضلال. لذلك اتجهت العروة الوثقى إلى العلوم الاجتماعية وفلسفة التاريخ.

  • (٣)

    كشف الغطاء عن أوهام المترفين، ونزع الوساوس من عقول المنعمين الذين يئسوا من الشفاء، وظنوا أن زمان التدارك قد فات مما أدى إلى فتور الهمم، درءًا لروح اليأس وبثًّا لروح الأمل.

  • (٤)

    التمسُّك ببعض أصول الأسلاف الشرقيِّين للتمسك بالقوة لدفع الكوارث. وهو ما يتمسك به الأوروبيُّون. يلجأ الشرقيون إلى الأسلاف وليس إلى تقليد الغربيِّين، دفاعًا عن الأصالة ضد التغريب والاغتراب الثقافي.

  • (٥)

    التكافؤ في القوى الذاتية والمكتسبة هو السبيل للمحافظة على العلاقات والروابط السياسية وإلا ابتلع القويُّ الضعيفَ احترامًا للجميع، والمساواة الفطرية بين البشر، ثم التعارف وتبادل الخبرات بين الشعوب طبقًا لتجاربِ كلٍّ منها وكسْبها.

  • (٦)

    درء تهمة تخلُّف المسلمين والشرقيِّين وأنهم غير قادرين على اللحاق بالمدنية ما داموا متمسكين بأصول الآباء وإمكانية الجمع بين الأصالة والمعاصرة، بين القديم والجديد، وهو الدرس المستفاد من الاجتهاد.

  • (٧)

    تقوية الصلات بين الأمم والألفة بين أفرادها، والدفاع عن المنافع المشتركة عامة، وحقوق الشرقيين خاصة تأكيدًا لوحدة الجنس البشري والمقاصد الكلية للشريعة، وهي مقاصد الوحي.

  • (٨)
    إرسالها مجانًا كي يتداولَها الأمير والحقير، الغني والفقير، فهي نموذج للصحافة الملتزمة بالقضايا الوطنية وليست صحافةَ الإثارة أو التكسُّب بالرزايا والمصائب والفضائح.٢٣

وتجمع العروة الوثقى بين المقال الفكري والتحليل السياسي والوصف الإخباري، فهي مجلة فكرية سياسية تجمع بين الفكر والواقع، بين الأيديولوجية والحزب، بين النظر والعمل. وتعلق على أخبار الجرائد الإنجليزية والفرنسية، وعلى أقوال السياسيِّين وتصريحاتهم، مثل غوردون وجراهام وجلادستون وبيكونسفيلد وغيرهم. وتعطي أخبار الحرب والمعارك الدائرة بين الإنجليز من ناحية، ومحمد أحمد وعثمان دجمة من ناحية أخرى. وتستدعي ذكريات التاريخ مثل قتال الإنجليز للأمير عبد الله الوهابي على حدود الهند، ومثل حملات فرنسا على الصين. المقالات أقل، والتحليلات والأخبار والتعليقات السياسية أكثر. كما تعطي معلوماتٍ مفيدةً للمسلمين خاصة وللشرقيين عامة عن الاستعمار والغرب والإنجليز حتى تضيع هيبتُهم ورهبتهم من النفوس؛ فقد أباح غوردون بيعَ الرقيق في السودان وهو الآتي من الحضارة الغربية التي طالما دافعَت عن حقوق الإنسان. كما استبعدت بريطانيا مصر من إدارة السودان، وطلبت من الميرغني التدخلَ لدى عثمان دجمة لوقفِ جهادِه ضد الإنجليز، وإعلان الحرب الدينية على إنجلترا، واستنفار أوروبا وروسيا ضدها، وكشف سياسة التلوي والمخادعة والنفاق التي تتبعها إنجلترا. وتنقد المجلة تدخُّلَ الأجانب في شئون الدول الإسلامية، وتقلَّد الجيشَ المصري جنرالٌ أجنبي، وتدخل بريطانيا في شئون مصر والدولة العثمانية. كما تساعد المجلة على تبديدِ وهْمِ القوة البريطانية والعجز عن مقاومتها، ورفض اعتقاد السذَّج أن الله يؤيد المهدي بالملائكة المسومين. وقد ارتبط القرَّاء بالمجلة وراسلوها مما دفع المجلة إلى التعليق على الرسائل وازدياد ارتباط الناس بها. فمنعت من دخول البلاد المصرية.

لقد عاش الأفغاني في عصر بسمارك والوحدة الألمانية بالقوة وفي عصر الرومانسية الأوروبية. فانعكس ذلك على المجلة بالدعوة إلى الوحدة الإسلامية بالخطاب الرومانسي لحشد الناس، وأحيانًا بالخطابة المباشرة، وأحيانًا أخرى بالتأمل النظري، ومرة ثالثة بالتحليل الاجتماعي الطبيعي لأسباب انهيار الدولة الإسلامية. فجاءت تعبِّر عن عصرها وكلِّ عصر مطحون بالتجزئة والاستعمار الجديد والرهبة من الغرب أو تقليده وفتور الناس وركونهم إلى الوهم والخمول.٢٤
وتعتمد هذه الدراسة عن الأفغاني في ذكراه المئوية الأولى على منهج القراءة وإعادة إنتاج النص ونقله من ظروف القرنِ الماضي إلى ظروف هذا القرن، تمثُّلًا للأفغاني وروح عمله؛ فلو أن الأفغاني بُعث الآن بعد مائة عام فأي مذهب يردُّ عليه، الدهريين أم غيرهم من الفرق؟ يكتب الرد على الدهريين أم دفاعًا عن الدهريين؟ وأي خاطرات يمكن أن تجول في ذهنه أو تعتمل في نفسه، وقد أخذَت أمريكا مكانَ بريطانيا في السيطرة على العالم، وأصبحَت تركيا تهدِّد شمال العراق وسوريا بالتحالُف مع إسرائيل وأمريكا، ولم تَعُد دولةُ الخلافة ويهدِّدها الشقاق بين الجيشِ الذي ما زال يمثِّل الثورة الكمالية والحكومة التي تمثِّل حزب رفاه، التيار الإسلامي المعقول وريثُ تركيا الإسلامية؟ وماذا عن إسرائيل التي استولَت على فلسطين، وتقوم بتهويد القدس أمام عجزِ العرب وتفكُّكِهم؟ وماذا عن حصار العراق وليبيا؛ فالعرب لم يعودوا أحرارًا في بلادهم؟ وماذا عن مخاطرِ تفتيت السودان وتهديد وحدتها من جيرانها بتدعيم الغرب وإسرائيل بعد أن كانت تمثِّل ثورة المهدي ضد الإنجليز، وتكوِّن مع مصر وحدة وادي النيل؟ وهل انتهى مشروع الأفغاني الذي صاغه القرن الماضي: الإسلام في مواجهة الاستعمار في الخارج والقهر في الداخل؟ وماذا عن الغزوِ الصربي للبوسنة والهرسك، والسوفيتي للشيشان وقبلها لأفغانستان، والهند واحتلالها كشمير، وتقسيم باكستان؟ وهل انتهت نُظُم القهر في الداخل، والدول العربية نموذجًا محكومة إما بنظم عسكرية أو ملكية، إما من الجيش أو قريش، وكلاهما ليسا نظامَين إسلاميَّين يقومان على أن الإمامة عقد وبيعة واختيار؟ وهل انتهى تقليدُ الغرب أو جهل علماء المسلمين؟ وهل انتهت سلبية الجماهير وعجزها ولا مبالاتها أم أنها ما زالت في حاجة إلى أفغاني يُبعث من جديد، وإلى عروة وثقى جديدة؟ لذلك يقوم المنهج المتبع في هذا الكتاب على عدة مستويات:
  • (١)

    العرض والتحليل لنصوص الأفغاني كما هي عن طريق شرحها والتعبير عنها موضوعيًّا كما يفعل المبتدئون في العلم وطلاب الدراسات العليا دون اجتهاد أو تأويل دون الوصول إلى حدِّ التكرار الممل وتحصيل الحاصل الذي يسود الكتب الجامعية.

  • (٢)

    المناقشة والحوار للآراء المعروضة في حدِّ ذاتها، وفي إطارها التاريخي، وفي مستوى عصرها من أجل تعميقها وتفتيحها وتحريكها استعدادًا لإعادة كتابتها وإنتاجها وصياغتها في ظروف أخرى جديدة حدثَت بعد قرن من الزمان. وهو ما يفعله الطالب المجتهد الذي لا يكتفي بالعرض والتحليل بل يتجرأ إلى المناقشة والحوار إعدادًا له وتمرينًا كي يتجاوز المادة العلمية إلى مادة علمية أخرى يضيفها. فهو جزء من العلم وليس خارجًا عنه، ذات وموضوع في آنٍ واحد.

  • (٣)

    إعادة كتابة نصوص الأفغاني بناء على الظروف الحالية، وكأن الباحث أصبح أفغانيًّا جديدًا، وكأن الأفغاني نفسه قد بُعث من جديد بعد مائة عام، فيتحول العلم إلى عمل، ويستمر القصد الأول في التاريخ، ويكون الباحث جزءًا من حركته ولیس متفرجًا عليه، مصورًا له في إحدى لحظاته الماضية.

وتتم الخطوة الثالثة على مراحل ثلاث:

  • (أ)

    وضع النص في صياغته الأولى في إطاره التاريخي من أجل تفسيره ووصف التجارب الأولى التي نشأ فيها، والظروف التاريخية التي عاشها المؤلف من أجل معرفة كيفية إنتاج النص الأول. ويكون الخطأ في إهدار سياق الصياغة الأولى أو تكرارها في سياق آخر مختلف والحكم عليها بالخطأ والصواب.

  • (ب)

    إعادة كتابة النص في صياغة ثانية بناء على الظروف المتغيرة وبيان مدى الاتفاق والاختلاف مع التجارب الأولى، الاتفاق واستمرار الصياغة والاختلاف وإعادة كتابة النص. فعل القراءة هنا يتجاوز فعل التأويل إلى إعادة إنتاج النص من جديد. فلا توجد صياغة ثابتة وإلا قضى على الهدف من النص وهو تحريك الواقع. ولا يوجد للنص مؤلفٌ واحد بل عدة مؤلفين؛ فالقارئ الثاني مؤلف مشارك، والمؤلف هو قارئ أول. المؤلف الأول يفهم من الواقع إلى النص والقارئ الثاني يفهم من النص إلى الواقع ثم يُعيد الكتابة من الواقع إلى النص.

  • (جـ)

    لا يوجد خطأ وصواب في النص في صياغته الأولى إلا بقدر ما يعبر عن ظروفه التاريخية الأولى وبواعث مؤلفه الأول. لا توجد مرجعية خارجه، بعيدة عن لغته وسياقه وبواعثه. ولا يوجد خطأ وصواب في الصياغة الثانية إلا بقدر تغير نشأة النص الأول ثم إعادة إنتاجه في ظروف مغايرة مع الإبقاء على بواعثه ومقاصده وأهدافه التي تحدِّد مسار حركته. الثابت بين النص الأول للمؤلف والنص الثاني للقارئ وربما الصياغات المستقبلية لقراء آخرين هو روح النص، النص باعتباره مقاصد وغايات وبواعث فردية وجماعية وحركة تاريخية وتراكم خبرات طويلة تكوِّن الوعي التاريخي لحضارة وشعب.

والمنهج في كلتا الحالتين، مستويات التحليل الثلاثة أو في خطوات المنهج الثلاث، إنما يعتمد على منهج واحد وهو تحليل الخبرات الشعورية الفردية والجماعية. فالنص صياغة لغوية لتجربة شعورية في صياغته الأولى. وهو أيضًا تجربة شعورية في الصياغة الثانية إذا كان الواقع التاريخي لم يتغير، الاستعمار والقهر والتجزئة والتخلف والتغريب وسلبية الجماهير. هذه الوحدة المستمرة للتجربة الشعورية في النص الأولى وفي إعادة إنتاجه هي إحدى الضمانات للفهم الموضوعي للنص باللجوء إلى مصدره في وحدة التجربة. كانت العروة الوثقى تنزل على قلوب الناس كأنها وحي سماوي أو إلهام إلهي لقدرتها على التعبير عن الواقع وكشفه وإيصاله للناس.٢٥ والخاطرات ما زالت تنزل على قلوب الناس طازجة بالرغم من انقضاء قرن عليها؛ لأن التجربة المعاشة واحدة لم تتغير فيما يتعلق بتجارب الاستعمار والقهر بصرف النظر عن مصدرهما، إنجلترا ثم أمريكا، السلطان عبد الحميد ثم الأنظمة العربية الحالية، الجيش وقريش، وهذا ما سماه الأصوليون القدماء خصوصَ السبب وعموم الحكم.
وبطبيعة الحال كان يغلب على فكر الأفغاني طابعُ الدفاع؛ لأنه عاش في سياق الهجوم على الإسلام من التبشير والاستشراق. فردَّ على رينان كما ردَّ عليه مصطفى عبد الرازق. وما زال هذا الطابع الدفاعي هو الغالبَ على الفكر الإسلامي المعاصر، ردَّ محمد عبده على فرح أنطون وترويجه للتجربة الغربية وتعميمه على غيرها من تجارب الشعوب وثقافاتها في الإسلام والنصرانية بين العلم والمدنية، وفي الرد على هانوتو، ورشيد رضا في شبهات النصارى وحجج الإسلام، وعند محمد فريد وجدي في لماذا أنا مؤمن؟ ردًّا على إسماعيل أدهم لماذا أنا ملحد؟، وعند محمد الغزالي في من هنا نعلم ردًّا على خالد محمد خالد في من هنا نبدأ ومحمد الغزالي أيضًا في ظلام من الغرب ردًّا علي زكي نجيب محمود في شروق من الغرب. وطالما أن الهجوم على الإسلام ما زال مستمرًّا، ثروات وفكرًا وهوية وتاريخًا، فإن الدفاع عنه أيضًا من الإسلام التقليدي أحيانًا ومن الإسلام المستنير أحيانًا أخرى يظل مستمرًّا أيضًا حتى تخفَّ حدةُ الجدل والسجال، ويبدأ العقل بالتحليل والبرهان. ما زال الفكر الإسلامي المعاصر فكرًا جدليًّا كلاميًّا مع العصر ولكن في سياق تاريخي مغاير، ولكنه في النهاية أقرب إلى علم الكلام منه إلى الفلسفة. وإلى الجدل منه إلى البرهان. بل إن الرد على الدهريين كُتب دفاعًا عن الإيمان ضد الملحدين الداعين لنبذِ الأديان وحلِّ عقود الإيمان.٢٦ غايتُه نقضُ مذاهب الطبيعيِّين وإرغام الضالين بتأييد عقائد المؤمنين. والحقيقة أن مقاييس العلم برهانية خالصة وليس الدفاع الجدلي عن مسلَّمات الإيمان. يمكن تأويل الإيمان على نواحٍ عدة حتى يتفق مع العلم أو يختلف معه. وفي هذه الحالة يكون العلم هو الثابتَ والإيمان هو المتغير، والعلم لا يدعى ثباتًا بل هو متغير في كل عصر، والإيمان يدعى ثباتًا وينكر التغير. والحقيقة أن كليهما متغير بتغيُّر فهمِ البشر للعلم وللدين طبقًا لتصورات كل عصر. كما تغلب على فكر الأفغاني الدعوة السلفية، الرجوع إلى الماضي؛ إذ لا يُصلح هذه الأمة إلَّا ما صلح به أولها، وأن السلف خير من الخلف الذي أضاعوا الصلوات واتبعوا الشهوات، وأن خير القرون قرن الرسول، وأن الخلافة ثلاثون سنة تتحول بعدها إلى ملْك عضود. وهي الدعوة التي ما زالت تتردَّد في الخطاب السلفي والتي تجعل النموذج أو القدوة في الماضي وكأن للتاريخ نموذجًا ثابتًا في إحدى لحظات مساره. وهي الدعوة الرومانسية الموجودة في كثير من الحركات الإصلاحية في كل مكان مثل مارتن لوثر، ولامنيه، وشاتوبريان. وذلك على عكس الدعوة إلى المستقبل، وأن الكمال قادم وليس ماضيًا، وأن حركة التاريخ في صعود وليست في هبوط. وهي الروح التي عبر عنها رينان في مستقبل العلم ومحمد عبده ربما في الجزء الأخير من رسالة التوحيد عن تقدُّم الإسلام في التاريخ بسرعة لم يشهد مثلَها العالمُ من قبل، وأن الوحي ممكن الوقوع وكما هو الحال في كل محاولات إنشاء فلسفة جديدة للتاريخ تضع شروط النهضة ولا تكتفي بوصف أسباب الانهيار كما فعل ابن خلدون، محاولات بدأها أديب إسحاق تلميذ الأفغاني الأثير.
أما القول الخطابي فما زال يسيطر على الفكر الإسلامي المعاصر بالتناوب مع القول الجدلي، ويقلُّ كثيرًا القول البرهاني إلا فيما ندر. ومن الصعب تحويل الخطابة إلى تصورات، والحماسة إلى أفكار. فالمقصود منها الجماهير وليس العلماء، والمستمع جزءٌ من مكونات الخطاب. فالخطاب رسالة من مرسل إلى رسول. والحركة الاجتماعية جزء من مكونات الخطاب أيضًا باعتباره بواعث ومقاصد وليس مجرد الحقائق النظرية. لذلك يستعمل الأفغاني كثيرًا أسلوب النداء وضمائر المخاطب مفردًا أو جمعًا.٢٧
قد يظهر الأسلوب الخطابي والقول الانفعالي أحيانًا في هذه الدراسة أسوة بالموضوع، ومشاركة في الهم والقصد. فليس المطلوب باسم العلم إيقاف حركة التاريخ أو عزل الخطاب عن الجماهير وإلا كان ادعاءً مقصودًا وخطابة سلطان. وهو خطاب في النهاية كان منبره الصحافة. فالصحافة عند الأفغاني منبر الفكر، عمل شريف. ويعترف بأنه صحفي، له جريدة في باريس.٢٨

وبالرغم من أن تقسيم أعمال الأفغاني على الجبهات الثلاث وارد: الموقف من التراث القديم وضرورة إعادة بنائه، والتحول من السلب إلى الإيجاب مثل إعادة تفسير القضاء والقدر، والموقف من التراث الغربي خاصة السلبي منه مثل الدهرية أي المادية، مذهب الطبائعيين، دارون وسبنسر وبشنر، ويضع الأفغاني معهم السوسياليست والنهيلست فولتير وروسو، واتجاهات الغرب، والاستعمار، والتآمر والتعصب والجنس، والموقف من الواقع المباشر للأمة، الاستعمار والقهر والتفكك والفقر والتقليد للغرب واللامبالاة، إلا أن الأولوية كانت لمادة الأفغاني نفسه، فكره النظري في الرد على الدهريِّين وهو ما يعادل التوحيد، وإعادة تفسيره للقضاء والقدر على أنه حرية وهو ما يعادل العدل، ورأيه في العلم وصلته بالعمل وهو ما يعادل العقل والنقل، ثم الفضيلة كما تتجلَّى في الأخلاق الفردية والاجتماعية وهو ما يعادل الإيمان والعمل. وهنا يبدو الأفغاني متكلمًا في جبهة التراث القديم، ثم يأتي التقابل بين الأنا والآخر، والشرق والغرب، والمسألة الشرقية وهو ما يعادل الموقف من الآخر. ثم يأتي، مصر والمصريون، والوحدة الإسلامية، وأسباب تخلُّف المسلمين، وهو ما يعادل الموقف من الواقع، والمساهمة في حركة التاريخ.

قد يكون نصٌّ ناقصًا هنا أو هناك أو تحليل تنقصه الدقة أو دراسة ثانوية ناقصة من هنا أو من هناك. ولكن الأهم هو إعادة إنتاج الأفغاني بعد قرن من الزمان في ذكراه المئوية الأولى.٢٩
١  انظر دراستنا: كبوة الإصلاح في «دراسات فلسفية»، الأنجلو مصر، القاهرة ١٩٨٧م، ص١٧٧–١٩٠.
٢  يقول الأفغاني عن محمد عبده: «ثم كان ما كان من الثورة العرابية، فبذل جهده في إقناع أهلها بسوء عاقبتها حتى همُّوا كثيرًا بقتله» (العروة الوثقى، باريس ۱۳ مارس ١٨٨٤م–١٩ أكتوبر ١٨٨٤م، جزءان في مجلد واحد، المركز العربي للبحث والنشر، القاهرة ١٩٨٤ ص ك).
٣  انظر دراستنا «أثر أبي الأعلى المودودي على الجماعات الدينية المعاصرة»، و«أثر الإمام الشهيد سيد قطب على الحركات الدينية المعاصرة» في «الدين والثورة في مصر، «ج ٥»، الحركات الإسلامية المعاصرة»، مدبولي، القاهرة ۱۹۸٩م، ص۱۲۳–١٦٦، ص١٦٧–٣٠٠.
٤  حسن البنا، سيد قطب، أبو الأعلى المودودي: الجهاد في سبيل الله، دار الجهاد، دار الإعتصام، القاهرة ١٩٧٧.
٥  لويس عوض: الإيراني الغامض، مجلة التضامن ابتداء من ٢٦ / ٤ / ٨٣ على عشر حلقات أسبوعيًّا.
٦  وذلك مثل:
(أ) إيراج إفشار، أصغر مهدوي: وثائق غير منشورة تتصل بالسيد جمال الدين الأفغاني (بالفرنسية) طهران ١٩٦٣م.
(ب) ألبرت قدس زاده: تراث السيد جمال الدين الأفغاني في مصر (رسالة دكتوراه غير منشورة، جامعة إنديانا ١٩٦٤م).
(ﺟ) هوما باكرمان: جمال الدين الأسد أبادي الملقَّب بالأفغاني (بالفرنسية، باريس ١٩٦٩م).
(د) إیلي کدوري: الأفغاني ومحمد عبده، لندن ١٩٦٦م.
(ﻫ) نیکي کیدي: السيد جمال الدين الأفغاني، کالیفورنیا ۱۹۷۲م.
٧  تستغرق المرحلتان الأفغانية والتركية خمس حلقات، والمرحلة المصرية وحدها خمس حلقات أخرى.
٨  وأي نفع لمن يذكر أني وُلدت سنة ١٢٥٤ﻫ، وعمرتُ أكثر من نصف عصر. واضطررتُ إلى ترك بلادي الأفغان مضطربة تتلاعب بها الأهواء والأعراض. وأُكرهتُ على مبارحة الهند، وأُجبرت على الابتعاد عن مصر أو إن شئت قل نُفيت منها ومن الآستانة ومن أكثر عواصم الأرض. كل هذه الأحوال خاطرات لا تسرُّني، وليس فيها أدنى فائدة للقوم. (جمال الدين الأفغاني الأعمال الكاملة، إعداد د. محمد عمارة، دار الكتاب العربي للطباعة والنشر، القاهرة، ١٩٦٨، ص٥٣٣–٥٣٨؛ وأيضًا، خاطرات جمال الدين الأفغاني، جمعها محمد المخزومي باشا، دار الحقيقة، بیروت، ۱۹۸۰، ص١٦–١٨).
٩  خاطرات ص٦.
١٠  المصدر السابق ص١٥–١٨.
١١  خاطرات ص٢٤.
١٢  مصر والحكم النيابي، الأعمال الكاملة، ص٤٧٣-٤٧٤.
١٣  خاطرات ص٤٥–٥٠.
١٤  المصدر السابق ص٥٤–٥٨.
١٥  يمكن وضع خريطة لرحلات الأفغاني على النحو الآتي:
١٦  المصدر السابق ص٥٩–٦٧.
١٧  المصدر السابق ص٧٥-٧٦، ٩٥–١٠٠، ص٦٣-٦٤، الأعمال الكاملة ص٥٣٥-٥٣٦.
١٨  خاطرات ص٧، ص٤٠٤، الأعمال الكاملة ص٥٣٨.
١٩  المبشر بن فاتك: جوامع الحكم ومحاسن الكلم، تحقيق عبد الرحمن بدوي، النهضة المصرية، القاهرة، ١٩٥٨م.
٢٠  الخاطرات ص١٤.
٢١  الأعمال الكاملة، ص٥٣٨.
٢٢  أولًا: مقالات تضاف إلى عناوينها آيات قرآنية، مثل:
– الأمل وطلب المجد: إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ، وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ الأعمال ص٣٨٩–٣٩٤، العروة، ج١، ص٢٩–٣٩.
– التعصب اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَالأعمال، ص٣٠٢.
– النصرانية والإسلام وأهلها إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ الأعمال، ص٢٨٢، العروة، ج١، ص٨٦.
– الجبن أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ، قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ الأعمال، ص٣٧١، العروة، ج٢ ص٢، ٢١٦–٢٢٠.
– الوحدة الإسلامية وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ الأعمال ص٣٤١، العروة، ج١، ص٢٢٣–٢٥١.
ثانيًا: مقالات عناوينها آيات قرآنية فقط، مثل:
إِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ العروة، ج٢، ص٢–١٠٩.
وَمَا ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ العروة، ج٢ ص٢–١١٠.
الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ، العروة، ج٢، ص١٤.
وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ العروة، ج٢، ص٢–١٦٨.
وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ العروة، ج٢، ص٢–١٧٢.
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ العروة، ج٢، ص٢–١٤.
إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ، ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ العروة، ج٢، ص٢–١٨٨.
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ العروة، ج٢، ص١٦٠–١٦٧.
ثالثًا مقالات تجمع بين عنوان وعبارة وآية، مثل:
رجال الدولة وبطانة الملك «كيف يجب أن يكونوا» يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ الأعمال، ص٣٩٧، العروة، ج٢، ص٤٠–٤٦.
رابعًا: مقالات تجمع بين العنوان والحديث، مثل:
– الوحدة والسيادة المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدُّ بعضُه بعضًا الأعمال، ص٣٥٣، العروة، ج٢، ص٦–١٤.
خامسًا: مقالات تجمع بين العنوان وعبارة دعاء أو شرط، مثل:
– الدهر اللهم اكشف عن بصائرنا ستار الأوهام حتى نرى الحقائق كما هي كيلَا نضلَّ ونشقى الأعمال، ص٣٦٥.
– دعوة الفرس إلى الاتحاد مع الأفغان إذا أراد الله بقوم خيرًا جمع كلمتهم، الأعمال ص٣١٦، العروة، ج٢، ص١٢٤.
٢٣  الأعمال، ص٥٣٣-٥٣٤، ويُجمل الأفغاني هذه الأهداف بالفقرة الآتية: «في هذه الوريقات «العروة الوثقى» أمثلة تشهد وقضايا تصدق على الشرق وأهله ما داموا في تلك الغفلة وذلك الشقاق. رضوا بالخوف والذل. فالظلم يتغير في الشكل لا في النتيجة. ويتغير المظلومون وأعمال الظلم واحدة. ولا تتغير إلا بقوة الأمة وإجماع الكلمة، والصادقون المجاهدون الناهضون في سبيل الأوطان، وتخليص الأمم واحد والخونة الساقطون واحد بالرغم من اختلاف الأسماء، سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا
٢٤  ظهرَت اليسار الإسلامي استئنافًا للعروة الوثقى في ١٩٨٠م بعد أن أراد السادات سرقةَ الأضواء تمسُّحًا بالإسلام ومدَّعيًا أنه خامس الخلفاء الراشدين، فأصدر عدة أعداد من الجامعة العربية بعنوان العروة الوثقى الجديدة.
٢٥  العروة الوثقى ص أ.
٢٦  الرد على الدهريِّين. الأعمال الكاملة، ص١٢٨.
٢٧  مثل «يا قوم، وا أسفاه»، الأعمال، ص٥٣٥-٥٣٦.
٢٨  «الصحافة عمل شريف، وأنا صحفي، وكان لي في باريس جريدة أكتب فيها»، الأعمال، ص٣٢٧.
٢٩  بالإضافة إلى الطبعتين السابقتين لأعمال الأفغاني التي قام بهما د. محمد عمارة، الأولى، في الهيئة العامة للكتاب، عام ١٩٦٨م، والثانية في المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ۱۹۷۹م. صدرت طبعة ثالثة في باريس قام بها علي شلش بالفرنسية لم نطلع عليها. وتتضمن بعض مقالاته بالفرنسية التي لم تجمع من قبل في الطبعتين السابقتين، وما زالت أعمال الأفغاني في حاجة إلى طبعة علمية جديدة نقدية وموثقة لا تقوم فقط على إعادة طبع ما طُبع من قبل.
أما الدراسات الثانوية فعديدة، أهمها:
(١) محمود قاسم: جمال الدين الأفغاني، حياته وفلسفته، الأنجلو المصرية، القاهرة (د.ت).
(٢) عبد الرحمن الرافعي: جمال الدين الأفغاني، باعث نهضة الشرق، دار الكاتب العربي، القاهرة ١٩٦١م.
(٣) محمود أبو رية: جمال الدين الأفغاني، مؤسسة نصار للتوزيع والنشر، القاهرة ١٩٥٨م.
(٤) أحمد أمين، «زعماء الإصلاح»، النهضة المصرية، القاهرة ١٩٤٨م.
(٥) هاني المرعشلي: جمال الدين الأفغاني وقضايا المجتمع الإسلامي، دار المعرفة الجامعية الإسكندرية.
(٦) لطف الله خان: جمال الدين الأسد أبادي المعروف بالأفغاني، ترجمة د. محمد عبد النعيم حسين، دار الكتاب اللبناني، بيروت ۱۹۷۳م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤