الفصل السادس

مصر والشرق

(١) المسألة الشرقية

سواء بدأ الأفغاني من العام إلى الخاص، من الشرق إلى مصر أو بدأ من الخاص إلى العام، من مصر إلى الشرق فإن النهاية واحدة، مصر بؤرة الشرق، والشرق مركزه مصر.

ويبدأ الأفغاني بتأصيل الموضوع في المسألة الشرقية في الماضي والحاضر والمستقبل. فقد انتشر الإسلام في الشرق، ومصر والمغرب العربي جزءٌ من روح الشرق. انتشر حربًا أم صلحًا في أقصر عصر، انطلاقًا من شبه الجزيرة العربية إلى الشام والعراق ومصر وفارس والهند وتركيا بدافع ديني يقوم على المساواة والترابط الاجتماعي وانتشار الآداب واللسان العربي والأخلاق الفاضلة مثل الصدق والوفاء بالعهد والعدل والحرية والمساواة وإغاثة الملهوف والكرم والشجاعة. لذلك سقطَت العروش. وتحوَّلت مصر الرومانية إلى إسلامية عربية، وكذلك سوريا والعراق. كانت الفضائل وسيلة التعرب وكذلك الآداب. فقد كان العرب الأوائل، حتى قبل الإسلام، يقدرون آداب الغير، ويحلون بها لسانهم مثل كسرى أنوشروان. وظهر من بينهم الحكيم الطبيب مثل الحارث بن كلدة يُماثل حكماء الفرس. وكان للشاعر في قبيلته المكان الأول. وإذا ما استعمرت أقوام وحافظت على لسانها فإن ذلك يكون أحدَ أسبابِ تحرُّرِها.

أما الفتح التركي فقد كان عسكريًّا وليس ثقافيًّا. توغل الأتراك في كبد أوروبا حتى فينَّا، واستولوا على بلغاريا والصرب والجبل الأسود، ولكنهم لم يتركوا آثارًا كما ترك العرب في مصر والشام والعراق والأندلس وكما قال الشاعر:

هذه آثارنا تدل علينا
فانظروا بعدنا إلى الآثار
تعرَّب الأتراك ولكن الأتراك لم يعرِّبوا غيرَهم أو يترِّكوه. لذلك ثارت دول البلقان ضدهم. عرَّب العرب بالحكمة والتسامح واللين، والتركي لم يترك أثرًا باعتراف الأتراك أنفسهم مثل ضيا باشا. فتوحات العرب حضارية وفتوحات الأتراك مجرد غزو. لم تتبع الأتراك سنةَ محمد الفاتح والسلطان سليم، وهو قبول اللسان العربي. أخذ الأتراك الإسلام الشعائري العقائدي البدوي، ولم يتركوا وراءهم الإسلامَ الحضاري للناس وللشعوب المفتوحة. وانغمسوا في السفه والترف والبذخ والإسراف. وكلُّها عوامل اضمحلال وانقراض وزوال للعمران. الأتراك مسلمون كالعرب ولكن شكلًا دون مضمون. وفضل العرب على الأتراك ترك الآثار والعمران. والفرنسيون كالعرب يتركون الآثار في حين تظهر عيوبُ الألمان لفرنسا في الحروب السبعينية. ويستشهد الأفغاني بآية وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى، ويفسر السعي بأنه ترك الآثار. وهو سبيل النجاح. لقد أثر العرب في الشعوب بإعطائهم أفضل ما لديهم، اللغة والعلم، وانتشر الإسلام باللغة والحضارة في كل الأرض القديمة بآداب الدين وليس بالجزية، ونَشْر قيم المساواة وحفظ كيان المجموع بحريَّة دون إكراه مع الإبقاء على التعددية اللسانية والفكرية والاجتماعية. وسببُ ذلك أخلاق العرب، واستحسان الأمم أخلاقَ الوافدين، والإعجاب بلسانهم. انتشر اللسانُ العربي ليس بسبب الفتح بل بسبب الآداب العربية، الحِكَم والأمثال والمواعظ. وقد ساهم فيها البدو والحضر. ولكن العربية وسَّعها البدو في البراري والقفار وضيَّقها الحضر في المدن والأمصار. وكان التحول من البدو والحضر خسارة للغة وانتقال لها من الطبيعة إلى الصنعة، ومن الحرية والإبداع إلى التزمُّت والتقليد، لا فرق في ذلك بين الأفغاني وروسو. لذلك لزمت التربية الوطنية للشرقيِّين بعد أن حظر الغربُ إدخالَ الأسلحة والتعليم إليها، أي القوة والعلم لإبقائهم تحت الوصاية وإبعادهم عن الوطن والعمل له. فحياةُ الشرقيِّين بالعلم الصحيح موتٌ لحكم الغرب فيهم وفك الحجر عنهم.١ يدرس الأفغاني المسألةَ الشرقية كفيلسوف سياسة وفيلسوف تاريخ نظرًا لارتباط فلسفة السياسة بفلسفة التاريخ، السياسة محرك التاريخ، والتاريخ مجال النشاط السياسي. ويقصد بها الخلافة العثمانية وضعفها وتفككها وطريقة فتوحاتها للبلقان وشرق أوروبا وحال ولاياتها مثل مصر. وجوهرها الصراع بين الغرب والشرق، واستعمال الدين لصالحِ كلٍّ منها. يتذرَّع الغربُ بالنصرانية والشرق بالإسلام، وأهل كل دين صامت خامل لا يتحرك. يسخِّر قادة النصرانية الدين من أجل الدنيا، ويحسنون أمور حياتهم، ويسخِّر قادة الإسلام الدنيا من أجل الدين ولا يعملون بأحكامه فخسروا الدين والدنيا معًا. في الغرب الدين وسيلة والدنيا غاية. وفي الشرق الدين غاية والدنيا وسيلة. سبب نهضة الغرب التحول من إحياء علوم الدين إلى إحياء علوم الدنيا، وسبب تخلُّف المسلمين التحول من إحياء علوم الدنيا إلى إحياء علوم الدين.٢

لقد ولَّد فتْحُ محمد الفاتح القسطنطينية حقدَ الملوك المسيحيين ضد المسلمين، وأخذوا في الكيد لهم، وناصبوا الدولة العثمانية العداء والعمل على اضمحلالها وسلب فتوحاتها منها. ويتحمل العثمانيون جزءًا من المسئولية؛ لأن استمرار الحروب والتغلُّب والانتصار فيها لا يكون إلا بالقوة والعلم وليس بالقوة وحدها. ولو أن الدولة العثمانية راقبَت حركاتِ الغرب وجارَته في مدنيته وحضارته وعمرانه، وزاوجت الفتوحات المادية بالقوة العلمية كما فعلت اليابان لما كانت هناك مسألة شرقية، ولما ظهر هذا التباين بين قوة وجهل عند العثمانيِّين، وقوة وعلم عند الغربيِّين. ولما انهزمت حكومة الجهل على يد حكومة العلم. يهزم الغرب المسلمين الآن بالعلم مصدر القوة. وينهزم المسلمون الآن أمام الغربيين بالجهل مصدر الضعف. إذن ليس الدينُ وحده سببَ المسألة الشرقية. فقد فتح آل عثمان الممالك، وبقيَ أهلُها نصارى أشد تمسكًا بالنصرانية. فتحوا البلاد ولم ينشروا الإسلام ولا لغته، ولا عملوا بآدابه وتعاليمه. انتصر الأتراك أولًا على الأوروبيِّين بالعلم العربي، وقد كان الأوروبيون أولًا جاهلين به. وجمعوا بين القوة والعلم كما يفعل الأوروبيون الآن. وجمع السلاطين بين القوة والعدل. وظل النصارى في طاعتهم طالما كانوا يجمعون بين القوة والعلم في الحكم، والضعف والجهل في المحكوم. ثم انعكس الأمر فتحول الحاكم إلى محكوم، والمحكوم إلى حاكم بنفس القانون، وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ، وهو قانون ثابت، وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا، وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلًا.

قامت الدولة العثمانية في القرن السابع الهجري بآسيا الصغرى. واستخلص السلطان عثمان الأول ما بيد السلجوقيِّين من الملك من الشرق، والروح من الغرب. وركزوا على شبه جزيرة البلقان، وهي منطقة التقاء آسيا وأوروبا. وقد كانت في المملكة الشرقية بعد قسمتها إلى شرقية وغربية. وفيها غير تركيا اليونان والصرب ورومانيا والجبل الأسود. ولكل أمة منها مطامع وعروق وطوائف وميول سياسية. وقد كانت البلقان مهد الفتن والقلاقل ولا تزال. كل دويلة صغيرة تطمع في توسيع نطاقها على حساب جاراتها أو ابتلاعها كلية من الدول الكبرى؛ كروسيا والنمسا اللذَين ساعدَا البلقان على الاستقلال تحت ذريعة الدفاع عن العنصر السلافي والصربي مثل حجة النصرانية وتخليصها من الحكم الإسلامي.

افتتح السلطان مراد الثاني بلغاريا عام ١٣٨٢م. وبقيَت تحت حكم الأتراك أربعة أجيال. وهم قوم أشداء من أصول مغولية مثل المجريِّين والفنلنديِّين، نزحوا من قازان في روسيا وأوروبا، ونزلوا البلقان في القرن السابع الميلادي. تعودت على الاستقلال منذ نشأتها. وقد خَشِيَها البيزنطيون. ثم تقهقرَت وتخلَّفَت فاستولى عليها الروس. ثم استقلَّت وضعفَت حتى فتحَها الروم، وصارَت جزءًا من المملكة الرومانية الشرقية. ثم استقلَّت وضعفَت مرة ثانية ففتحها العثمانيون. ولكنَّ العثمانيِّين لم يتركوا شيئًا وراءهم ولم يُبدلوا شيئًا، وتركوا البلقان لجاهاتهم ودينهم ولسانهم ولتاريخهم، يتطورون مع الغرب. والحكام الأتراك قاعدون في فخفخة وغطرسة وفخر بالإسلام. فنهضَت وبدأت تُهدد العثمانيِّين.

وفتح مراد الثاني الصربَ عام ١٣٨٩م. وظل الأتراك بها مدة أربعة قرون بالرغم من ثورتهم أربعة عشر عامًا حصلوا بعدها على نوع من الاستقلال الجزئي أولًا ثم النهائي ثانيًا عام ١٨٧٨م مثل بلغاريا. كما أخضع العثمانيون اليونان حتى عام ١٨٢٩م. ثم استقلَّت بمناصرة الغرب، وبعد حروب دامت سبع سنوات اشترك فيها الأسطول المصري بقيادة إبراهيم باشا. وأخضع العثمانيون رومانيا وأدَّت لهم الجزية حتى عام ١٧١٦م، وظلت تحت الحكم العثماني حتى استولت عليها روسيا. ثم ثارت عام ١٨٦٦م، وأصبحت ملكية. ثم فتح السلطان سليمان القانوني الجبل الأسود وسكانه من الصقالبة. ثم استقل عن العثمانيِّين عام ١٨٦٢م. والخلاصة أن الدولة العثمانية لم تكن تُحسن الاستعمار. وكانت سدًّا يمنع الشعوب من التقدم والرقي.٣
شعوب البلقان أمم وممالك، لها تاريخٌ ودين ولسان، وعادات وأخلاق، على طرفَي نقيض مع العثمانيِّين. لم يوحدها العثمانيون دينًا أو لسانًا أو ثقافة كما يفعل المبشرون. بدءوا باللسان التركي لتعميمه دون الدين، فكان لغة المستعمرين. وتحررت شعوب البلقان طبقًا لسنَّة الكون على عكس فتوحات المسلمين الأوائل في مصر والشام. ولو أن الأتراك نشروا اللسان العربي والدين الإسلامي لاستمرت البلقان تحت حكم العثمانيِّين. وبدلًا من تعريب الترك بدأ تتريك العرب، فبدأ النفور بين العرب والأتراك. لم يقبل العثمانيون فكرةَ السلطان الفاتح والسلطان سليم بتعميم اللسان العربي. وقد توغل العثمانيون في أوروبا والبلقان، وجعلوا القسطنطينية عاصمةً لهم، مع أن المدينة المستعمرة لا تكون عاصمة للملك لأنها قابلة للاسترداد. كانت المدينة مثل دمشق وبغداد عواصم وسط المحيط العربي وليست على الأطراف. وأن فتح الأتراك القسطنطينية أمرٌ عظيم بعد أن فشل فيه يزيد وخالد وأبو أيوب الأنصاري والعباسيون واكتفى الرشيد بالجزية مع أن الرسول تنبَّأ بفتحها لتفتحن القسطنطينية، فنعم الأمير أميرها، ونعم الجيش ذلك الجيش. إشارة إلى السلطان محمد الفاتح. العيب أن الأتراك جعلوها العاصمة. ولو فُتحت قديمًا لكان عليها من الولاة مثل مصر والأندلس والهند وبخارى وفارس.٤

كان فتحُ البلقان إذن مظهرَ ضعفٍ في الدولة العثمانية نظرًا للقلاقل والفتن وإعداد الجيوش لسفك الدماء. لذلك لم يكن البقاء في البلقان مضمونًا، وكان استقلالُها معروفًا للعقلاء. وهو رأيُ عالي باشا الصدر الأعظم بعد أن رأى مخاسر تركيا. ولكن الدولة العثمانية لم تأخذ برأيه، جعل الخلافة في بغداد وسط الأمة. وربما لم تصدق نبوءة الأفغاني هنا. فالقسطنطينية ما زالت باقيةً في يد الأتراك، وتشهد نهضةً إسلامية معاصرة. ولو كانت إمارة لشجع ذلك الغرب على استردادها كما استردَّ الأندلس.

لو عمَّر الأتراك الأرض، وعدلوا في أهلها، وجروا على سنة الرشيد أو المأمون، وقد كانوا أغنى أمم الأرض وأكثرهم سلطانًا! لم يحسنوا إلا الحرب دون العمران، ولم يقبلوا اللسان العربي، لسان الدين والأدب، والذي دخل اللسان التركي فأغناه، ولو خلا اللسان التركي من الكلمات العربية والفارسية لكان من أفقر لغات الأرض، ولعجز عن التعبير عن حاجات الأمة البدوية، ولما كان للأتراك شعرٌ ونثر وبيان. فكيف يعقل تتريك العرب، وقد تبرك العجم بالاستعراب، وأصبح اللسان العربي لغير المسلمين لسانًا؟ لقد خاطب الأفغاني السلطان عبد الحميد في الأمر ولكن السلطان لم يكن جيد الإصغاء. وكان لا يرى أن فضل اللسان العربي كما كان يرى سليم أمرٌ صائب. وكان لا يريد الاعتراف بأن توغلهم في أوروبا وفتح شبه جزيزة البلقان كان خطأ. وواضح أن الأفغاني هنا ضد الاستعمار، واحتلال أراضي الشعوب بالقوة والقهر حتى ولو كان من جانب المسلمين الأتراك؛ فالفتح الإسلامي ليس استعمارًا للشعوب ولكنه تحرير لها، وليس احتلالًا للأرض بل فتحًا لها. لم يحتلَّ المسلمون العرب مصر وفارس والشام بل فتحوها في حين احتل الأتراك العثمانيون شبهَ جزيرة البلقان ولم يفتحوها.٥

لقد ساءت الأمور، في رأي الأفغاني. وانقضى وقتُ الإصلاح، وإخراج التصورات من ميدان النظر إلى ميدان العمل، بعد أن كانت الدولة العثمانية في عنفوان قوتها وأوج عزتها. أصبح الأمر الآن للقوة وحدها. ينتصر القوي على الضعيف. ولم يَعُد في إمكان السلطان عبد الحميد ما كان يفعله السلطان الفاتح أو السلطان سليم أو السلطان سليمان. لم يَعُد الأمر الآن، في رأي الأفغاني، تحقيق ما ينبغي أن يكون بل الاعتراف بما هو كائن، وليس تحقيق الواجب بل تحقيق الممكن، وبلغةِ الفقهاء، ليس تحقيق المنفعة بل الإقلال من الضرر، ليس العمل إيجابًا بل العمل سلبًا. ليس طلب المستحيل، إبقاء الدولة العثمانية في أوروبا، بل تحقيق الممكن وهو إبقاء الدولة العثمانية في غير أوروبا. وقد حادث الأفغاني عبد الحميد في تصوراته عن الإصلاح، ورفض تدوينها حتى يظلَّ الأمرُ سرًّا لا يطَّلع عليه أحد، وجوهرها تحويل الممالك إلى خديويات وليس إلى مجرد ولايات يُرسل إليها الولاة من الآستانة مثل باكير باشا ومحمد علي باشا لجمع الأموال من غير حقٍّ وإرسالها إلى الآستانة، وتوزيعها على رجال الدولة. إن نظام الولايات ليس خيرًا لها بل هو خير للسلطنة، أما نظام الخديويات فهو خيرٌ للولايات وحفاظ على السلطنة كما فعل الإنجليز في الاستيلاء على الولايات باسم السلطنة وحفاظًا عليها. وأيهما أفضل أن يأتمر الوالي بأمر السلطان، وتكون العساكر المصرية عثمانية تنفِّذ الأوامر باللحاق بجيوش السلطان، وأن يكون الشعب المصري رعية خاضعة طائعة للسلطان أم أن تُصبح الولاية خديوية، وأن يكون الخديوي معينًا من السلطان ولكنه منفذ لمصالح الخديوية وشعبها؟ كان الأفغاني من أنصار اللامركزية وإعطاء الاستقلال الذاتي للولايات. ولكن السلطان كان يخشى من أن يتحول الاستقلال الذاتي إلى استقلال كامل وبالتالي تتفتَّت الدولة العثمانية، وتضيع الخلافة. وكاد محمد علي وإبراهيم باشا أن يستقلَّا بمصر. إن السلطنة العثمانية تتألف من ثلاثين ولاية، ومساحتها في آسيا فقط ٦٦١٠٠٠ ميل مربع على حين أن مساحة بريطانيا وإيرلندا معًا ۱۲۰۰۰۰ ميل مربع. يمكن أن تتحول الولايات إلى خديويات في بغداد والبصرة والموصل وبيروت وسورية وحلب والقدس والجزائر والحجاز مع تعزيز أساطيل الدولة لحماية الخديويات من الغزو الأجنبي. تقتصر مهمة الدولة المركزية على الدفاع عن الخديويات اللامركزية كما هو الحال في الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي قديمًا، وكل الدول الفيدرالية مثل ألمانيا. وتتحول تركيا ذاتها إلى ثلاث ولايات، لكلٍّ منها منفذ على البحر، كما تصبح ألبانيا خديوية، ويكون مجموعها عشرَ خديويات أو ممالك كل واحدة منها أعظم من اليونان. ولا يعوقها عن التقدم واللحاق بما خسرَته من الانفصال عن الدولة العثمانية إلا شكل الحكم التسلطي والسلطة المركزية البيروقراطية القاتلة للهمم والموهنة للعزائم. والدولة العثمانية اليوم لا تُرسل من الولاة إلا أحدَ رجلين: إما الخامل البليد الذي همُّه جمعُ المال، وإما الرجل النشيط العاقل ولكن ليس له من الأمر شيء، يستأذن الباب العالي في ترميم جسر في بغداد سقط منه حجران فلا يأتي الإذن إلا بعد أشهر وأعوام يكون طغيان النهر قد جرف الجسرَ كلَّه! وما يقترحه الأفغاني أن يفوض السلطان آل عثمان إلى الخديويات بدلًا من قعودهم مع النسوان، وتقريبه الخصيان. ويكون مع كل أمير وزير فاضل وأمين من غير حاشيته التي تحاصره وتكذب عليه. كان همُّ الأفغاني إذن الحفاظَ على الدولة العثمانية وحمايتها من التفكك وتوحيد أجزائها وفي نفس الوقت إعطاء الولايات قدرًا من الحكم الذاتي، وربما فيما بعد، وهو ما لم يصرِّح به الأفغاني، تعيين حكام وطنيِّين من أهل البلاد وليس من الأتراك بالضرورة، وتعزيز أساطيل الدولة لحماية الولايات من الغزو الأجنبي. هذا هو الحل الوحيد لأية دولة في حالة اتساع ملكها. اتبعه العباسيون قديمًا، ولا يغيب عن تصور الإنجليز حديثًا، هو النظام الفيدرالي الذي يحافظ على الكيان الوطني القومي في إطار من وحدة الأمة.

ولكن السلطان عبد الحميد شعر بأنه لم يبقَ له من السلطة شيء بعد أن سمع هذا التصور الفيدرالي للدولة العثمانية والاستقلال الذاتي للولايات. لم يبقَ شيء لتخت آل عثمان. ورد الأفغاني عليه بأنه يبقى له ملك الملوك وعرش العروش، ربما للإبقاء عليه بلا سلطات من أجل القضاء عليه وربما اقتناعًا باللامركزية من أجل الحفاظ عليه وعلى الدولة في آنٍ واحد. كان السلطان عبد الحميد سيِّئَ الظن، لا يأمن لأحد. وظنَّ أن الأفغاني بتصوره عن اللامركزية العثمانية يعمل لحساب إسماعيل كمال الذي عُيِّن لولاية طرابلس الغرب، وطلب توسيعَ صلاحياته وحق عقد قرض لتحسين الولاية وإصلاحها. وإذا كان الأفغاني لا يعمل لحساب إسماعيل ضد العرب فإنه يعمل لحساب إسماعيل التركي. ولكن السلطان رأى أن الأمر قد فات أوانُه، ولا يمكن عمل شيء الآن، مستعمِلًا المثل التركي أن الجواد اجتاز اسكدار.
والعجيب أن يمدح الأفغاني بعد ذلك السلطان عبد الحميد. فلو وزن السلطان عبد الحميد مع أربعة من رجالات العصر لبزَّهم ذكاء ودهاء. لقد ذلَّل لملكه الصعاب، وصمد أمام دول الغرب، وحوَّل العدو إلى صديق من دول الغرب، واقتنع الجميع بحججه. يعلم دقائق السياسة ومطامع الغرب، ويخرج سالمًا من كل أزمة. ولكن عيبه هو العجز عن اتخاذ القرار، والجبن من أكبر عيوب الملوك، وعيب الكبير كبير، مع أن السلطان قد قبل بارتياحٍ أفكارَ الأفغاني عن اللامركزية ومحاسن الحكم الدستوري، والإسلام أول من أقامه، وحسنت نواياه لإقامة الدولة اللامركزية، المناط بها نهضة المسلمين. وأعد كلَّ شيء حتى لا تتفق أوروبا على عمل خطير ضد الممالك العثمانية. وأقنعها أن ذلك سيكون خرابًا على نفسها. فيقظ لدول البلقان الصغيرة التي أحدثَتها أوروبا للتدخل في شئونه ولتقطع أجزاء من مملكته. وكلما حاولَت أوروبا توحيدَ البلقان ضده استطاع بدهائه تفريقَ ما جمعوه. فخضع له أميرُ البلغار، ولبس الشعار العثماني «الطربوش»، وافتخر برتبة المشيرية، وانتظم في حفلة صلاة الجمعة. وكان أمير الجبل الأسود يعتبر نفسه كالابن أمام والده، يطلب الإعانة لمساعدته في تجهيز ابنته. فدفع ذلك أوروبا إلى تحريض اليونان على حرب السلطان، والأعجب من الأفغاني مدح أبي الهدى الصيادي وهو المدافع عن السلطان والخلافة بأي ثمن. أما الرجل (أبو الهدى الصيادي) فهو خير عربي صحب السلطان. وقد درأ شرًّا واستدرَّ ما استطاع من الخير لقومه. وفي الرجل هزة هاشمية، وخلق كريم، وهمم وشمم لا ينبغي أن ينالَه طعنُ الطاعنين. ولا أدل على فضل الرجل من قياسه مع غيره من العرب الذين انسلوا إلى السلطان ودخلوا خدمته.٦

(٢) مصر والخلافة العثمانية

مصر هي بؤرة الخلافة. والدفاع عن الخلافة العثمانية إنما هو دفاع عن استقلال مصر وتقدمها؛ فمصر من الأراضي المقدسة. ولها في قلوب المسلمين جميعًا منزلة كبيرة. وقلق المسلمين عليها ركنٌ من أركان الدين. مصر في المركز والقلب. ومع أن الأفغاني غير مصري إلا أنه تجلَّى في مصر، وتجلَّت روح مصر الوطنية فيه. ويُعلن الأفغاني عن ذلك في العروة الوثقى قائلًا: وعزة الحق أن ما كتبتُه عن حق مصر وما استنهضت من الهمم وما حذرتُ به من سوء المصير لو تُليَ على الأموات لتحرَّكَت أرواحُهم، ولرفرفَت على أجداثهم، ولأحدثَت لأعدائهم أحلامًا مزعجة ومراءٍ مريعة. كاد لا يخلو سطرٌ من العروة الوثقى إلا فيه ذكرُ مصر، ولا براهين وأدلة على ظلم الإنكليز إلا ويتمثل في مصر، ولا خوف من شرٍّ مستطير يفكك أجزاء السلطنة العثمانية إلا وتراه في التهاون في أمر مصر. وذلك لأن جرحَ مصر كان ولم يزل له في جسم الأمة الإسلامية والعرب عمومًا نغولًا وبعروقها اتصالًا … ولا يفوتنَّ أهل الشرق العلم بأن كل مدينة وكل مقاطعة إسلامية شرقية هي بمنزلة مصر وإن لم تسقط تحت الاستعمار بعد. فالشَّرَك منصوبٌ للكل.٧ فمصر هي نموذج مصغر أو مكبر لكل الدول التي يطمع فيها الاستعمار والتي تناهض وتقاوم من أجل الاستقلال.

مصر مركز الخلافة ودرَّة الممالك العثمانية. وصون مصر صونٌ لها. ومصر مفتاح المسألة الشرقية. وتحررها بداية العالم الإسلامي كله. وكل المقاطعات الإسلامية في الحملة العثمانية هي بمنزلة مصر. فمصر هي نموذج الوطن والذب عنه. وقد كانت مصر قبل الدولة العثمانية مركزًا للخلافة. فقد انقسمت الخلافة قديمًا إلى عباسية في بغداد، وفاطمية في مصر والمغرب، وأموية في الأندلس. وبدأت مصر والدولة العثمانية نهضتَهما الحديثة معًا بنقل العلوم الغربية دون معرفة كيفية نشأتها. ونصبَت الدول الغربية الحبائل للإيقاع بهما معًا.

ويرصد الأفغاني تاريخًا لمصر قبل محمد علي وأثناء محمد علي وبعد محمد علي حتى ثورة عرابي واحتلال الإنجليز لمصر، مبينًا مأساة مصر وعظمتها في آنٍ واحد. كانت حكومة مصر قبل محمد علي تُعدُّ من حكومة الأشراف (المماليك) دون معرفة ما حقيقتها. ثم أتاها محمد علي يحول مصر إلى دولة حديثة وحكومة نظامية حتى تقدمت على جميع الممالك الشرقية. وهو أميٌّ على الفطرة يحب الحضارةَ وبثَّ العلوم وتأسيس العمران. وتفجَّرت في مصر ينابيع الثورة وفاضَت على البلاد الشرقية حتى صارَت قبلةَ الغربيِّين. سادها الأمنُ وأصبحَت مثل الممالك الأوروبية العظيمة. ثم تعثَّرَت مصر، وحسدَتها الأيام. عثر العاقل، وفرط المالك، وتهور الغبي، تقرب البعيد، وبعد القريب. وانتشرت الدسائس في دوائر الحكومة. تقطع الوصال، وعمَّت الفتن. حلَّ القضاء بالبلاد، وطمع فيها الأجانب. واحتلَّتها إنجلترا بحجة الدفاع عن طريق الهند. وقامت إنجلترا بالقتل والشنق والحرق والتدمير. وأصبحَت ماليتُها محطَّ أنظار أوروبا، وبدعوى عدم الوفاء بالدين تم احتلال مصر وأوروبا ناقصة الإيراد، وتريد تعويض مخاسرها في السودان في احتلاله ثم إخلائه. وألغى الجيش الوطني وهو الذي حقق أعظم الانتصارات أيام محمد علي وإبراهيم. وطرد آلاف الوطنيِّين من الحكومة، وتشرَّد الأطفال والنساء. سادَت الأهواء، ومُلئَت السجون بالرعية، والكرابيج على الأبدان. أُغلقَت أبواب العمل، وتنازع الحكام، وعمَّت الفوضى. وارتفعَت الأصوات بالشكوى، وانتشرَت الأمراض، وفسدَت الزراعة. اشتدَّ الضنك، وباع الفلاح بيتَه. وزاد الويل بالنَّيل من الحريات الشخصية والأخذ بالشبهات والتُّهَم الباطلة. تحتاج مصر إلى الإصلاح ولكن إنجلترا دخلَت البنجاب بدعوى الإصلاح، واستولَت عليه أربعين عامًا. فليحذر المصريون. دخل الإنجليز مصرَ لقمع الثورة العرابية والاستيلاء على طريق الهند وإعادة الأمن. وطردوا الآلاف من الموظفين الوطنيِّين فأصبحوا مشردين. امتلأَت السجون بالأحرار. وأُغلقَت أبوابُ العمل. شاعَت الفوضى، وتوقَّف العمل، وانتُهكَت الحريات الشخصية. أراد الأفغاني توجيهَ بريطانيا إلى إيقاف الخطر الروسي على شمال الهند بدلًا من وقوعها في الشَّرَك المصري بعد أن ظنت أنها تستطيع القضاء على مصر. وذلك لا يتم إلا بمساعدة العثمانيِّين وبعض المصريين.٨
والحديث عن محمد علي هو الاستثناء في الدولة العثمانية التي آثرت الغزو لا الفتح والقوة لا العلم، والاستعمار لا التمدن، وذلك بفضل محمد علي في مصر. محمد علي ذلك الأمي الكبير، نابغة رجال أمصار وأجيال. فقد طوى تحت جبَّتِه هممًا تدكُّ الجبال، وقلبًا يُقدم به على هائل الأعمال، وتحت عمامته دماغًا فعالًا، وعقلًا جوالًا، وبصرًا نافذًا، وفكرًا ثاقبًا، ورأيًا صائبًا.٩ فقد بلغ من حدة الذهن وفرط الذكاء، وبعد أن حسن خراج مصر، وعدل ما اختل فيها، وبنى القناطر الخيرية، وشقَّ الترع والرياحات طلب من الباب العالي أن يُعيضَه بالبصرة عن مصر، يفعل فيها ما فعل في مصر ثم الموصل للإعمار والبناء، وكما عمَّر القدماء دمياط ورشيد والإسكندرية ودلتا النيل. عمَّر محمد علي مصر كما عمَّر القدماء البصرة والموصل. وكان المسافر من بغداد في عصر الرشيد غربًا يمشي بين الأشجار حتى يصلَ إلى دمشق وحلب، وشمالًا يرى الخضرة حتى سيحون وجيحون، وجنوبًا حتى دمياط ورشيد والإسكندرية ومصب النيل. وكلُّها ملكٌ للمسلمين. وكانوا في نفس الوقت قادرين على الصمود ضد أهل المكر والخديعة.
كان يمكن أن تكون نهضة مصر كخديوية مستقلة نموذجًا لنهضة باقي الخديويات التي يقترحها الأفغاني كصيغة للامركزية للعراق ولباقي الولايات العشر. كما أن نهضة ولاية مثل مصر ستبعث باقي الولايات على التنافس. فتنهض ولاية العراق. بل إن ولاية إيران تُسرع لتأييد السلطنة والاتحاد معها تدعيمًا لكليهما ضد مطامع الغرب الموجهة نحو عموم الشرق. وقد يبعث ذلك الهند إلى الاتحاد مع السلطنة حماية لهما من الغزو الاستعماري، ويعود الشرق للشرقيِّين بفضل نموذج مصر وعلاقتها بالخلافة العثمانية، الخديوية القوية المستقلة في الدولة اللامركزية. ولكن السلطان عبد الحميد تردَّد في قبول فكرة تقسيم الدولة العثمانية إلى عشر خديويات بدلًا من ثلاثين ولاية؛ لأن محمد علي باشا وابنه إبراهيم كادَا أن يستقلَّا بمصر فتحًا بالقوة. ولم يرغب في الاستماع إلى نصيحة الأفغاني باللامركزية ابتداء من الواقع الذي فرض نفسه، واقع مصر، روح الممالك الإسلامية، وباب الحرمين. ففي صونِ مصر داخل الملك الإسلامي وطرد الإنجليز منها صونٌ للممالك الإسلامية، وغلقٌ لكل بلية قد تقع للمسألة الشرقية وبؤرتها ومحرِّكها مصر، أوصل محمد علي مصر إلى باب السعادة والثراء في أقل وقت. وما أبعد الشقة بينه وبين الإنجليز في صنع مصر.١٠
وقدم إلى الآستانة الخديوي عباس حلمي مع وفد من المصريين. فدعاه الخليفة إلى حدائق يلدز. وخطب فيهم الأفغاني بأن الخديوي قد أحسن صنعًا بزيارة دار الخلافة التي تجمع شتاتِ المسلمين. ثم طلب الخديوي مقابلة جمال الدين فأذن السلطان. وقابله الأفغاني في نزهته المعتادة. عبَّر الخديوي عن إعجابه بجمال الدين ومحبته له، ودعاه لزيارة مصر. ولم يتطرق إلى أيِّ موضوع سياسي. ثم أبلغت الجواسيس السلطان أن جمال الدين قد تعهَّد للخديوي عباس بتأسيس دولة عباسية في مصر كما فعل الخراساني مع العباسيِّين قديمًا. ومصر مفتاحُ الطريق إلى ربوع الدولة الإسلامية. وحذر الأفغاني السلطان من خطورة الجواسيس وشبَّهَهم بالكلب العقور الذي يمنع نزولَ صاحب المنزل لاستقبال الضيف أو صعود الضيف لصاحب المنزل. وقد اتهم عبد الله النديم بالمشاركة في هذه الخطة لقوله دعابةً إنه لو تخلَّصَت مصر من براثن بريطانيا وتسنَّى لعباس أن تكون له همة محمد علي ومضاء إبراهيم وسخاء إسماعيل لأصبح لائقًا للخلافة. ولكن ليس لأمير المؤمنين اليوم ولايةٌ على ممالك الإسلام. ولا يوجد مؤمنون ملتفون حوله. ولا توجد حرية للخليفة للتصرف، وليس لديه القوة للدفاع بها عن الإذلال واستعباد المسلمين في بلادهم. ومع ذلك أخذ السلطان على الأفغاني اتصاله بعباس حلمي خدیوی مصر من أجل نقل الخلافة إليه. وهو اتهام باطل. فالخلافة في رأي الأفغاني، كفالة الله في خلقه، لها صفاتها وشروطها، وعباس حلمي نظرًا لظروفه أعجز من السلطان في القيام بأعباء الخلافة.١١
والسودان جزءٌ متمم لمصر؛ فالأفغاني من أوائل الذين وضعوا شعار وحدة وادي النيل؛ فمصر للمصريين والسودان جزءٌ متممٌ لها. ويدافع الأفغاني عن السودان ضد الإنجليز كما يدافع عن مصر. والعثمانيون والمصريون يُخففون من حدة ثورة المهدي حقنًا للدماء ولكنهم متعاطفون معها، مؤيدون لها مثل تأييدهم لثورة عرابي. ويكشف الأفغاني تفصيليًّا خداعَ الإنجليز في السودان منذ كان اللورد دوفرين بالقاهرة لبيان حالة مصر وكتابة تقرير لحكومته عنها، وتلويح الإنجليز بالتنازل عن السودان حرصًا على عدم النفقات. وأصدرَت الأمر إلى جوردون بالتخلِّي عن السودان لتُوهمَ السودانيِّين بمنَّة الاستقلال. فعيَّن المهديُّ أميرًا على کردفان، وردَّ الاعتبار لأمرائها على الولايات للاستيلاء عليها تعويضًا لها عن مقاومة مصر، وإقامة سكة حديد من سواكن إلى بربر لتخليص جوردون تظاهرًا، والحقيقة لربط إنجلترا بالسودان عن طريق البحر مباشرة في التجارة دون المرور بمصر. ومع ذلك حدث زلزال للإنكليز في السودان، وزحف محمد أحمد عليه بجيش، والسلطان ومصر معه. ويحثُّ الأفغاني مصر والمصريين على القيام بواجب الدين والوطن دون انتظار أمر السلطان ضد الإنجليز ودون بيع البلاد بالنقد. والخائن للوطن خائن للدين. ويعطي الأفغاني نموذجًا من الخطاب الوطني والدعوة إلى الجهاد اعتمادًا على قول الأسلاف، والحث على الشجاعة ورفض الجبن. ويستعمل آيتَين قرآنيَّتَين فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لَا يَرْجُونَ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللهِ، وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ، وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. ويرفض الأفغاني تتويجه على السودان؛ لأن ما لا يملك لا يمنح، وصاحب الحق السلطان حيٌّ يُرزق. ويخدع الإنجليز السودان كما يخدعون مصر؛ لأن الذي يريد الإصلاح يُنشئ الجامعات، وهي معدومة في مصر والسودان.١٢ وقد كان الموضوع الرئيسي للعروة الوثقى مصر وسوريا، وثورة المهدي في السودان بالرغم من انتهاء الحركة وموت المهدي واحتلال الإنجليز للسودان ومصر فدية لموت غوردون. فارتباط مصر بالسودان الاحتلال والثورة.
وإذا كان السودان محورَ مصر الجنوبي فإن سوريا محورُ مصر الشمالي منذ صلاح الدين ووحدة مصر وسوريا لمواجهة الزحف الصليبي. والتاريخ يكرِّر نفسه؛ فمصر هي القلب، والساقان في السودان، والرأس في الشام. مصر هي مفتاح الحجاز وباب الأقطار الشامية. لذلك لا يوجد مصريٌّ ينتقد سوريًّا أو سوريٌّ ينتقد مصريًّا نظرًا لرابطة الجنس، العروبة.١٣
لا فرق بين برِّ الشام وبرِّ مصر كما هو الحال في نهضة العرب الحديثة. وقد كان معظم تلاميذ الأفغاني من برِّ الشام، أديب إسحاق، وسليم النقاش، من المسيحيِّين. وكان أديب إسحاق المسيحي أثيرًا عند الأفغاني أكثر من محمد عبده المسلم. وقد حاول الغرب إجبارَ مصر وسوريا معًا على قبول المسيحية. وهو يدعي أن الإسلام متعصب. ومصر أيضًا بؤرة محورها الغربي العرب، في المغرب العربي وإن كان الأفغاني لا يُشير إليه كثيرًا ولا إلى استعمار فرنسا للجزائر منذ ١٨٣٠م ولتونس بعد مصر مباشرة، ولكن ينبِّه على نفور العرب بالطبع من الخضوع للأجنبي. ولمصر أيضًا محورها في الشرق، في فارس والهند وأفغانستان. فوحدة الأفغان والفرس نواة وحدة الشرق، وظهير للمسألة المصرية. كما أن احتلال مصر وقناة السويس كان ذريعةً لحماية الهند؛ فإنجلترا عدوٌّ مشترك لمصر والهند حتى لقد أصبح ٢٢ فبراير ١٩٤٦م عيدًا وطنيًّا عالميًّا للطلاب يوم أن ضربت إنجلترا مظاهراتِ الطلاب في مصر والهند في آنٍ واحد. فمصر والهند وريثَا الشرق ومحرِّكاه كما اتضح بعد ذلك في حركة عدم الانحياز في هذا العصر بقيادة عبد الناصر ونهرو.١٤ فمصر طائر ساقاه في السودان ورأسه في الشام، وجناحه الغربي في المغرب العربي وجناحه الشرقي في فارس والهند. فإذا طارَت نهض الشرق والغرب مع القلب، بدلًا من أن يقوى الجناحُ الغربي فتطير متجهةً غربًا كما يحدث هذه الأيام.

(٣) مصر للمصريين

والأفغاني هو الذي وضع شعار مصر للمصريين الذي تحوَّل إلى عنوان رسالة سليم النقاش التي تقدَّم بها في باريس للحصول على الدكتوراه، والشعار موجَّهٌ ضد سيطرة الأجانب على مصر ابتداء من الاحتلال الإنجليزي والامتيازات الأجنبية التي أدَّت إلى ثورة عرابي. وكان الناس أيامَ عرابي قسمين: الأول مع توفيق والثاني مع عرابي. الأول فاشل، والثاني متردد. ومع الفشل تضيع الأمة، ومع التردد يغيب الحزم. فدخل الإنجليز مصر بلا حرب حقيقية، بالترغيب والترهيب والدسائس، فابتعد الناس عن عرابي ظانين أن الإنجليز يؤيِّدون توفيق. تساهل المصريون مع الإنجليز وأحسنوا الظن بحكومة إنجلترا التي أوهمَت بأنها جاءت دفاعًا عن الشرعية. ولا يوجد من المصريين مَن يميل إليهم، وذهلوا عن الأسباب التي مكَّنت الإنجليز من النَّيل منهم مع أن الإنجليز دخلوا البلاد بمعونتهم. ولو علم المصريون أنه ليس في طاقة الإنجليز حشدٌ أكثر من ۲۰۰۰۰ جندي لمصر والسودان لقاوموهم في الشرقية وفي منطقة البحيرات. والإنجليز في ارتباك شديد في المسألة المصرية مع ضعفهم في القوة العسكرية وتورطهم بسبب اختلاف الدول حول مقاصدهم. هذه هي الأسباب التي أدَّت إلى وقوع المصريين تحت سيطرة الإنجليز. القسم الأول يريد الحفاظ على الحالة القديمة وطاعة الخديوي، والثاني يميل إلى عرابي ولكنه يهاب القسم الأول. فارتاب في أمره، ووهنَت عزيمته. فدخل الإنجليز مصر من باب الوهم بلا حرب بدعوى تأييد الخديوي وتأديب الثائرين عليه. واقتنع المصريون أن صاحب السيادة الشرعية هو السلطان، ففاز الإنجليز غدرًا. ودخل الإنجليز مصر بمعونة المصريين وتأييد الخديوي بفرمان من السلطان. هذا هو الوهم. كما يوحي الوهم بأن الإنجليز قادرون على السيطرة على الأهالي دون مقاومة. وهذا هو الفرق بين الإنجليز ومحمد علي نابغة الدهر فيما حلَّ بمصر، وهو الفرق بين الهدم والبناء، بين الأجنبي والوطني، بين الاستعمار والاستقلال، بين العبودية والتحرر.١٥
وتضرب الإنجليز في الأراضي المصرية ولا يتحرك أحدٌ من إخوانهم الشرقيِّين مع أن احتلال مصر ينبِّه الأذهان، صحيح أن الاحتلال قانون تاریخي، احتلال القوي للضعيف، والموحد للمفكك مثل احتلال إنجلترا لقوة كبيرة ضعفَت وتفكَّكَت. وصحيح أيضًا أن التحرر من الاحتلال دفاعًا عن الاستقلال قانونٌ تاريخي كذلك، إذا تأنف الأمم من الخضوع للأجنبي المختلف عنها في الأخلاق والعادات. لذلك نشأت حركةٌ فكرية في أغلب أقطار الشرق للمطالبة بالخلاص من الأجنبي والدعوة إلى الوحدة. ويضرب الأفغاني المثل لذلك بالحركة العرابية والتي يسميها «العشواء» بالرغم من أنه هو منظِّرها والتي اتخذها الإنجليز ذريعةً لاحتلال مصر، مما يبيِّن أن نقد الأفغاني للثورة العرابية ليس لتعاليمها ومبادئها بل لطرق تنفيذها ووسائل تحقيقها على نحوٍ أهوج غير منظَّم، وهي تُشبه الثورة المهدية في السودان عندما يقف السودانيون أمام البنادق بالسيوف. ومصر عند المسلمين من الأراضي المقدسة مثل الحرمين. لذلك حرَّكَت أحزانُ مصر أشجانَ المسلمين. وقد اعتمد الإنكليز على المداهاة والمكر أكثر من الاعتماد على الجيوش. ولكن من الهند إلى مكة إلى مصر ما زال الناس غافلين. ومع ذلك فقد جدد احتلال مصر الروابط ووحَّد الكلمة. كاد الإنجليز لمصر مرة بدعوى الدفاع عن الخديوي والشرعية ضد الخارجين عليه والثائرين ضده، ومرة لإخضاع رجال الدين وأئمة المساجد وعلماء الأوقاف. وهي نفس الطرق التي اتبعتها إنجلترا في الهند، الاستيلاء على الأوطان بالحيلة والدهاء وليس بالسلاح حتى ملكوا ثلث العالم، يشككون في الحكام الوطنيِّين، ويقلبون عليهم الرعية للعصيان حتى يخلعوهم أو طي الضعيف الأحمق وإقامة صغير بدلًا عنه. وقد يسلبونه كلَّ شيء إلا اللقب ولواحقه، مثل: نائب، صاحب، راجا، خدیوي، سلطان. وأشهرهم حيلة اللورد نورثبروك (كرومر) الذي فقد حكْمَ الهند. عذَّبها وبكى عليها، ووعدها بالإصلاح مثل زعيم المنافقين عبد الله ابن سلول. ثم خدع المصريين، واستعمل توفيق باشا لإدخال مصر تحت حماية إنجلترا، ويلقنه الأوامر. ثم خلع توفيق وطلب توليةَ عباس ولدًا صغيرًا، وجعل نوبار باشا وزيرًا يُعيِّنه الإنجليز، وهو غير مسلم ولا عربي. وقام بنفس الشيء في الهند، خلْع أميرٍ وتنصيب أمير. والحال هو سبات مَن له الحق وحراك مَن لا حقَّ له.١٦ فبينما تنظر أوروبا خاصة فرنسا إلى ضياع مصالحها في مصر، والدولة العثمانية لما لها من مكانة في قلوب الهنود، وإنجلترا بين أصابع آل عثمان فإن الناس لا تحرك ساكنًا ولا تتقدم إلا بالشكوى، وهم فقراء. والإنجليز تَعِد بالجلاء وهم على يقين أن الدولة العثمانية في طريقها إلى الزوال. وأعلنت السيادة على مصر، وتم الاستيلاء على السودان فداءً لرأس جوردون. وقد سمح العثمانيون لإنجلترا بذلك، وسكن الناس انتظارًا لوعود إنجلترا بالجلاء، فلما بسطَت إنجلترا سيادتَها ثار الناس، وأيَّدوا الثورة المهدية في السودان والثورة العرابية في مصر.
وكما لا تكون مصر للمصريين إلا بالاستقلال والتحرر من الإنجليز كذلك لا تكون مصر للمصريين إلا بالحكم النيابي والتحرُّر من الاستبداد. ففي الشعب المصري الخاملُ والجاهل، ولكن هناك أيضًا العاقل والعالم، وكما ينظر الأمير إلى الشعب ينظر الشعب إليه. النصيحة هي إشراك الأمة في حكم البلاد عن طريق الشورى، وانتخاب نواب الأمة لسنِّ القوانين. فهذا أثبت للعرش وأدوم للسلطان. وتتكون القوة النيابية من نفس الأمة وليس من قوة أجنبية تكون الأمة تابعة لها أو حماية منها. ويُثبت التاريخ أن الملوك لم يثبتوا رغم إرادة الشعوب، وتستطيع الأمة أن تعيش بدون ملك ولكن الملك لا يستطيع أن يعيش بدون أمة، ويكون المجلس النيابي المصري مشابهًا للمجالس النيابية الأوروبية. أقل ما فيه من الأحزاب حزبان، حزب الشمال وحزب اليمين، الشمال للمعارضة واليمين للحكومة. والمجلس لا يعيش بقوة واحدة مناهضة للحكومة أو مؤيدة لها. ليس النائب هو هذا الوجيه الذي يمتصُّ دماء الفلاح، الجبان الذي لا يقوى على مناهضة الحكام، الضعيف الذي لا يملك الحجة تجاه الحاكم الظالم، بل ذلك الرجل القوي في الخير والحكمة والدفاع عن الوطن ومناقشة الحساب، ويرفض الأفغاني المجلس النيابي المزور والمعين الذي يزيف إرادة الأمة ويبرِّر للحاكم إرادته. ويتوجه بنداء إلى قيصر روسيا بأن تكون الملايين من الرعية أصدقاء للعرش خيرًا من أن تكون أعداءً له تتربص به الفرص. كما يتوجه إلى شاه إیران ناصر الدين بأن عظمة التاج والعرش بالحكم الدستوري، وأن الفلاح والعامل والصانع أنفع للأمة من الأمراء والوزراء.١٧
ولكن الأحزاب السياسية في الشرق دواء وداء في نفس الوقت؛ إذ تتألف الأحزاب لطلب الحرية والاستقلال، وتبدأ والكل أصدقاء، ثم ينتهون والكل أعداء بسببِ عدمِ تكافؤ القوى بين الأمة وأحزابها السياسية أو بلغة العصر بين الدولة والمجتمع المدني؛ إذ يقوم الحزب السياسي بعناصر ضعيفة وبأفراد قلائل، يُعلنون برنامجًا لتحرير الأمة من الاستعمار والاستعباد، فتتألف القلوب حولها، وتجتمع الكلمة. ويستحسنها الغريب، ويخافها الدخيل. تفرح الأمة ببرنامج الحزب ووعوده في الآجل والعاجل فتؤازره وتطيعه، ثم بعد ذلك تظهر في رؤساء الأحزاب الأثرة والأنانية، وتفضيل حب الذات على مصلحة الأمة. فتنزوي الناس عنه وتنكمش النفوس منه، وتترك الحزب أو تعاديه. لا يعني ذلك أنه لا فائدة من الأحزاب على الإطلاق، فإن الشرق بعد أن وقع في الاستعباد في حاجة إلى يقظة، والحزب يقوم بذلك حتى يظهر في الشرق أفرادٌ كما ظهر في الغرب أفرادٌ يستشهدون في سبيل الأوطان. حينئذٍ ينشأ الحزب لجمع الشتات، والقضاء على الذل، وبيان نعمة الإخاء والتعاون والاتحاد، يعمل على عزة البلاد ونصرة المظلوم، فواضح أن مهمة الحزب تربوية ثورية، وهو ما كان الأفغاني يحلم به بتأسيس العروة الوثقى، النواة السرية للحزب، وحولها تقوم الخلايا، ولكنه لم ينجُ نظرًا لعدم استقراره في وطن. وهو ما حاوله حسن البنا بعده وينجح في تأسيس جماعة الإخوان المسلمين، وهو ما نجحَت فيه أيضًا الجماعات الإسلامية ولكن دون نظرية ثورية.١٨
ومع ذلك، وبالرغم من تأكيد الأفغاني على أهمية الحكم النيابي والتعدد الحزبي إلا أنه صاغ أيضًا نظريتَه في المستبد العادل كنظام أمثل للشرق، فقد عرفت مصر النظام الفرعوني على ضفاف وادي النيل. وانتصر لها موسى ويوسف. فالمصريون في حاجة إلى عزم وحكمة وقوة، وذلك لا يتم بالقهر بل بالكلمة وتوحيد الأهواء وتوجيهها نحو الغاية، وتلك مهمة الرجل القوي العادل. القوة المطلقة استبداد، والعدل بلا قوة تراخٍ. يحتاج العدل إلى قوة قصدية وهو ما يستطيعه المستبد العادل. لا تحكم مصر إلا بأهلها واشتراكهم في الحكم والدستور الصحيح دفاعًا عن الحرية والاستقلال؛ فالحرية لا يهبها الملك، والاستقلال لا يعطيه المستبد. إنما يؤخذان بالكفاح. ولا يسلم الشكل الدستوري من رجل قوي. لذلك لا يحكم الشرقَ إلا قوةٌ عادلة تخضع لها الأمة. وهي تحقق مصالحه. وهي قوة وطنية؛ لأن الأمير الصالح القريب أولى من البعيد الغريب. أما الحكم الجمهوري فلا يصلح للشرق اليوم ولا لأهله.١٩
ومصر أحب البلاد إلى الأفغاني، ترك لهم فيها محمد عبده، طودًا من العلم الراسخ، وعرمرمًا من الحكمة والشمم وعلو الهمم. ومع ذلك ما زال المصريون في جمود وقعود. ويتساءل الأفغاني كيف لم يستطع الشيخ تحقيقَ مهمته وله تلاميذ مثل سعد زغلول؟ كيف لم تتألف منهم اليوم عصبة حق تقف للإنجليز، تحمي الهرمين وتصون الحرمين؟ يريد الأفغاني الاستمرار في تلاميذه ليس فقط في البداية في الثورة العرابية ولكن أيضًا باستمرارها في ثورة ١٩١٩م التي قادها سعد زغلول. واستمر تراثُ الأفغاني في الحزب الوطني المصري الذي كتب برنامجَه محمد عبده معبِّرًا عن أفكار الأفغاني. كان الأفغاني يسمي محمد عبده الشيخ الصديق، وعبد الله النديم الصديق. كان عبد الله النديم كثيرَ التردد في آخر أيامه على جمال الدين حتى غار منه محمد عبده. ذهب الشيخ محمد عبده إلى لندن لمناقشة المسئولين. فناقش اللورد هرتكتون وزير الدفاع دفاعًا عن حق المصريين في الاستقلال؛ لأن حبَّ الأوطان مغروزٌ في الطبيعة البشرية التي تنفر من الأجنبي، وأن مصر شعب تعلَّم منذ محمد عبده بعد أن رأى اللورد أن ذلك من خصائص الأمم المتعلمة المهذبة، وأن الشعوب المستعمرة مثلها مثل الحيوانات السائمة. فالمصريون إما إن يختاروا الاستقلال دفاعًا عن شرف الوطن أو الدين أو يكونوا كالحيوانات. لقد عرف الأفغاني محمد عبده في الضراء والنديم في السراء. وقد كان النديم نفسه كالأفغاني في النفي والسجن والحكم عليه بإهدار الدم.٢٠
كما اعتبر الأفغاني رياض باشا رمز الوطنية، ونعم الوطني الغيور. خدم بلاده. مواقفُه كالهرمين، صائب الرأي، ثاقب الفكر. أقوم أمير، وأشد حرصًا على الاستقامة، وأبصر أهل البلاد بعواقب الأمور. نقد مَن يتجنس بالجنسية الإنجليزية ويصبح كالأجنبي، موقفُه الوطني جعله يرفض الحماية؛ فلفظ برتكتورا غير مفهوم. فإما ترك إنجلترا البلاد وإما احتلالها ولا وسط بين الاثنين. وشريف في وطنيته مثل رياض. لذلك تأسست مجلة الرياض المصرية على اسمه، والتي قال فيها الأفغاني إنه يعيش زمن تحرير الأرقاء وإسارة الأحرار. ويغادر الأفغاني إلى لندن وباريس ويطالب بأموالِه وكتُبِه من رياض باشا، ويبيِّن ما وقع له في الهند. ويطلب من عبد الله فكري التدخُّلَ لصالحه. أما نوبار باشا فعلى العكس رمز الخيانة. ليس مصريًّا ولا عربيًّا ولا مسلمًا. باع مصرَ بثمن بخس. طالب بإبعاد الوطنيِّين من مصر مثل الزبير ورياض وشريف وكل شريف وربما أيضًا منع العروة الوثقى، وطالب بإغلاق الأزهر. عطل جريدة وطنية كالأهرام شهرًا وزجَّ بأصحابها في السجون. عمل على نكاية مصر. وتبوَّأ منصبَ رئيس النظار وليس بينه وبين المصريين أيُّ صلة. فلو باع مصر بأبخس الأثمان فهو الرابح، ولا يخسر ببيعه ملةً أو دينًا أو صلة أو جنسًا. ومن الدخلاء في مصر ما هو أشنع من نوبار وآلة للاستعباد. والخونة لا يتبدلون إلا في الأسماء. لذلك وجبت مواجهةُ نوبار وإحباط مساعيه ومساعي أوليائه الإنجليز في الكيد لمصر وتطبيق ما يسمَّى بإصلاحات للورد دوفرين التي عارضها رياض. ومثل نوبار الضابط عثمان باشا. ففي رسالة إلى عبد الله فكري يصرِّح الأفغاني أنه لم يُضمر للخديوي ولا للمصريين شرًّا ولا أراد ضرًّا، ولكن الضابط عثمان باشا نهشه ضغينةً منه على إبراهيم اللقاني وإغراء من أعدائه، أحزاب عبد الحليم باشا. كان الأفغاني يقف في صفِّ الوطنيِّين المصريين مثل رياض وشريف ضد الأجانب المتغربين مثل نوبار وعثمان وغيرهم من الأرمن والشراكسة تحقيقًا لشعاره مصر للمصريين.٢١
١  بين العرب والأتراك، الأعمال، ص۲۲۳–٢٢٥، تفسير لما أشكل على المؤرخ والشاعر التركي ضيا باشا من عدم ترك الأتراك أثرًا بعد أن توغلوا في أوروبا، ولم يكن لهم ما للعرب في فتوحاتهم وحجج جمال الدين وأيضًا العرب والتعرب، الأعمال، ص۲۱۹-٢٢٠، قوله في تأثير فضائل الوفود والفاتحين وضربه المثل بالعرب في فتوحاتهم وانتشار لسانهم، خاطرات، ص٨٤–۹۰، فعاليات آداب اللسان، الأعمال، ص٢٢٠-٢٢١، تأثير آداب اللسان، خاطرات ص٩۳-٩٤ / ٣٩٦. المسألة الشرقية وما ارتآه في حلِّها وتبجيله لفكرة السلطان محمد الفاتح والسلطان سليم باتخاذ اللسان العربي لسانًا رسميًّا والأخذ بتعميمه، خاطرات ص۲۰۹. وبراهينه على استحالة مطلب تتريك العرب خصوصًا وأن شواهد التاريخ من الأدلة القاطعة؛ إذ تُبرهن على أن كثيرًا من الأعاجم استعربوا ولم يسمع أن عربيًّا استعجم، وبالإجمال نتيجة ما ارتآه في حلِّ المسألة الشرقية على توسع في الموضوع وتناوله حالات العناصر في المملكة العثمانية، من حيث روجها وذكره الأسس الثابتة للأقوام من مدنية ولسان وتاريخ وما لذلك من التأثير، وفيه إفاضة ذكره الفرق بين عدل يأتيه الفاتح من علم وحب بإجراء العدل والأخذ به وبين ما يأتي من ذلك عن غرور وعزة وإتيان العدل إذ ذاك عرضًا، خاطرات، ص۱۲.
٢  انظر دراستنا: التصوف والتنمية، إحياء علوم الدين أم إحياء علوم الدنيا؟ في الإسلام في العالم الحديث، ج١، الدين والأيديولوجية والتنمية، الأنجلو المصرية، القاهرة ١٩٩٥، ص١٦–٤٣ (بالإنجليزية).
٣  المسألة الشرقية، الأعمال، ص٢٢٨–٢٤٣.
٤  المسألة الشرقية، الأعمال، ص٢٢٨–٢٤٣.
٥  في تأثير فضائل الوفود والفاتحين والمستعمرين وضربه المثل في العرب وفتوحاتهم وانتشار لسانهم، وتفسير ما أشكل على المؤرخ والشاعر التركي ضيا باشا من عدم ترك الأتراك أثرًا بعد أن توغلوا في أوروبا ولم يكن لهم ما كان للعرب في فتوحاتهم، وبيان الأسباب، وتأثير آداب اللسان، واستنتاجه أن ترك الأثر مع التفريط في صون الملك وعدم حفظه أدعى للتأثر وليس فيه شيء من الفخر، خاطرات ص٨٤–٩٠.
٦  السلطان عبد الحميد، الأعمال، ص٢٤٥–٢٤٨ / ٥٣٩، خاطرات، ۱۲۱.
٧  المسألة الشرقية، الأعمال، ٢٣٨، ص٢٤٠-٢٤١، أسباب تخلف المسلمين، الأعمال  ص ٣٦٢، ص١٩٥، التعصب، الأعمال، ص۳۰۸.
٨  مصر، الأعمال، ص٤٦٦–٤٧١، خاطرات، ص٢٦٢، سياسة إنجلترا في الشرق، الأعمال، ص٤٦٣.
٩  المسألة الشرقية، الأعمال، ص٢٣٦.
١٠  خاطرات، ص٢٦٦.
١١  مقابلة جمال الدين للخديوي عباس حلمي واختلاق الجواسيس فرية. مسألة الدولة العباسية واهتمام السلطان عبد الحميد بذلك وما احتمل هذا الأمر الذي أقام وأقعد، وما جرى من مقابلة السيد السلطان وما دار بينهما من الحديث في هذا الشأن، دعابة السيد عبد الله النديم في بحث الدولة العباسية وتعريضه فيمن اختلقها في ذلك الحين، خاطرات ص١٢٠-١٢١.
١٢  الأعمال، ص٥٠٥، العروة، ج١، ص١٣٢–١٣٨، سياسة إنكلترا في الشرق، ص٤٦٢، السودان، الأعمال، ص٤٩٨-٤٩٩، زلزال الإنكليز في السودان، ص٥٠١–٥٠٦، عبرة وذكرى، خاطرات، ص٣٩٨-٣٩٩.
١٣  رجال الدولة وبطانة الملك، الأعمال، ص۳۹۸، التعصب، ص۳۰۷.
١٤  دعوة الفرس إلى الاتحاد مع الأفغان، الأعمال، ص٣١٨، الأعمال، ٥١٦، أعمال الإنجليز في مصر والهند، ص٤٣٦–٤٦٤، العروة، ج١، ص٢٠٧.
١٥  الوهم، الأعمال، ص٣٦٨-٣٦٩، خاطرات، ص٢٦٠، انظر أيضًا دراستنا «الدين والثورة في الثورة العرابية» في الدين والثورة في مصر، ج٣، الدين والنضال الوطني، القاهرة، مدبولي، ۱۹۷۹م، ص٢٤٥–٣٠٦.
١٦  أسباب تخلُّف المسلمين، الأعمال، ص٣٦٠، احتلال مصر ينبِّه الأذهان، الأعمال، ص٤٨٣–٤٨٧ من المصائب والنوازل وبحثه في التعصب الجنسي والتعصب الديني وتتبعه سير إنكلترا في الحوادث المصرية سنة ١٨٨٤م وموقف الدولة العثمانية والفرنساوية إزاء تلك الحوادث، خاطرات، ص۳۷۳–۳۷۹، کید الإنجليز لمصر، العروة، ج٢، ص١٧٥–١٧٧ / ٢٠٨، المعتمد البريطاني في مصر، الأعمال، ص٤٩٣–٤٩٦، سبات مَن له الحق وحراك مَن لا حق له، الأعمال ص٤٨٩–٤٩١.
١٧  مصر والحكم النيابي، الأعمال، ص٤٧٣–٤٧٥ / ٢٩٦، رأيه في مصر والمصريين، وبيان صورة الحكم النيابي الذي يجب أن تحكم فيه مصر خصوصًا والشرق عمومًا، خاطرات، ص٧٧–٨٠.
١٨  رأيه في الأحزاب السياسية في الشرق، خاطرات، ص٧٢–٧٤، انظر أيضًا تركيزنا على ذلك في «التراث والتجديد»، موقفنا التراث القديم، المركز العربي للبحث والنشر، القاهرة ۱۹۸۰م، ص٣٧–٥١.
١٩  رأيه في مصر والمصريين وصورة الحكم أن تحكم فيه مصر خصوصًا والشرق عمومًا المعروف عنه قوله «يحتاج الشرق إلى مستبد عادل»، وهو من قبيل الأضداد؛ إذ كيف يجتمع العدل والاستبداد؟ وخير صفات الحاكم القوة والعدل وليس الضعيف العادل أو القوي الظالم، خاطرات، ص۷۸، مصر والمصريون والشرق، الأعمال، ص٤٧٧–٤٧٩.
٢٠  توفي سعد زغلول في ١٩٢٧م، ورثاه المخزومي في الخاطرات، ص١٢٨-٢٢٩. هؤلاء رجال الإنكليز، وهذه أفكارهم، العروة، ج۲، ص١١٧–٢١٣.
٢١  رياض باشا، خاطرات، ص٣٦٥–۳۷۱ / ٢٢٧–٢٣١، في التربية والتعليم، الأعمال، ص۲۷۸، العروة، ص۲، ص١٤٢–١٤٧، نوبار رمز الخيانة، الأعمال، ص٥٣٨-٥٣٩، رسالة من جمال الدين إلى عبد الله فکري، الأعمال، ص٤٨١.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤