الفصل السابع

الأمة في التاريخ

(١) وحدة الأمة

إذا كانت مصر والشرق تعبران عن أحد جوانب الفلسفة السياسية عند الأفغاني فإن الأمة في التاريخ تعبر عن فلسفته في التاريخ، تحويل فلسفة السياسة إلى دراما التاريخ.

والأمة واحدة، ترتبط فيما بينها برابطة الدين لا الجنس، بعصبة الأخوة وليس بعصبة العرق. ويستعيد الأفغاني العصبية عند ابن خلدون بمعنى الترابط الاجتماعي بالإضافة إلى الأخوة الدينية، والتعصب تهمة لصقها الإفرنجي بالإسلام والمقلدون لهم واتهام كلِّ مَن يحافظ على شريعته بالتعصب Fanatisme مطالبين بالقضاء على التعصب الديني. والتعصب من العصبية نسبةً إلى العصبة والقوم. والعصبة بهذا المعنى أساس الترابط بين الشعوب واتحاد الكلمة، روح كلي يربط بين الأفراد، يحميه من الأجنبي ويرفع الرءوس، وهي سنة الله في خلقه. إذا ضعفَت العصبية فشلوا وغفل بعضهم عن بعض وتقطعت الأواصر فيدخل الأجانب. والتعصب له حدُّ الاعتدال والتفريط. اعتداله كمال، وتفريطه نقص. الكمال وحدة ترابط، والنقص الدفاع عن النفس عن حقٍّ أو باطل وهو الممقوت على لسان الشرع في حديث ليس منَّا مَن دعا إلى عصبية. التعصب الإيجابي نعرة على الجنس والنسب والاجتماع في منبت واحد والترابط بين النوع. هو الذي يربط المصري بالتركي والعربي والفارسي والهندي والمغربي. الأصل عون والعِرق جساس.١ والتعصب المرذول هو الذي قاد الغرب إلى اندفاعه نحو بلاد المشرق لمحض الفتك والإبادة لا للفتح أو الدعوة إلى الدين كما هو الحال في الحروب الصليبية وكما فعل الإسبان في طرد المسلمين من الأندلس وحرق المسيحيين اليهود في القدس.
وإذا كانت رابطة العصبية قد تتحول إلى تعصُّب عرقي فإن رابطة الأخوة الدينية قد تتحول أيضًا إلى تعصُّب ديني. ولا فرقَ بين التعصب الجنسي والتعصب الديني في أن كليهما ذميم وإن كان الثاني أظهر من الأول. والعصبية قد تكون من الدين أو النسب. وهما رابطتان عند كلِّ البشر، وصدرَت عنهما آثارٌ يفتخر بها الإنسان، وأوصلَا الأقوام إلى المجد. ويأمر القرآن برابطة الدين اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ، وللتمييز بين رابطة الدين ورابطة التعصب. الدين أول معلم ومرشد لاكتساب المعارف والعلوم والتحلِّي بالأخلاق الكريمة والفتح والدعوة للدين كما كان الحال في عصر الفتوحات الأولى بناء على تعاليم الإسلام وحديث الرسول إن من رضي بذمتنا فله ما لنا وعليه ما علينا. وآية يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ. وقد وصل رؤساء من الأديان الأخرى إلى مناصب عالية في الدولة الإسلامية ما لم يبلغه الغرب والروم. وساروا على نحوٍ عادل على خلاف اليونان والرومان الذين كانوا يطالبون الناس بالتخلِّي عن دينهم والاقتناع بدين الغزاة كما فعلوا في مصر وسوريا وفي البلاد الأوروبية نفسها.
ولما أراد الغربُ السيطرةَ على المسلمين أوحى لهم بأن رابطةَ الدين تعصب، وهو المتعصب دينيًّا وجنسيًّا. وحاول إبعاد الأمة عن الدين وكما فعل الإنجليز في الهند واعتمادهم على الدهريين في إخراج المسلمين عن دينهم. وأنشئوا مدرسة في عليكره وجريدة لتحقيق هذا الغرض حتى تضعف العقائد فيتسلط الإنجليز تعس مَن يبيع ملته بلقمة وذمته برذائل العيش. كان أسلوب الأوروبيِّين للنَّيل من الشرقيِّين لإيقاع البلاد العثمانية والمصرية بالتعاون مع المدعين بالعلم والمدنية الحديثة ذم التعصب الديني واعتباره ضد العلم والمدنية، لا فرق بين تعصُّبٍ معتدل وتعصُّب مرذول. والغربيون أشدُّ تعصبًا، يتشدقون بالحرية مثل جلادستون، وهو بطرس الراهب. ليست الرابطة الدينية تعصُّبًا بل أحكم الروابط بين التركي والعربي والفارسي والهندي والمصري والمغربي. وهي أساسُ المنافع الوطنية من أرباب الديانات المختلفة. فالمصلحة واحدة للجميع. ليست عصبةُ الدين وسيلةً للعدوان وانتهاك حقوق الآخرين بل هي وسيلة للدفاع عن النفس وتقوية أواصر الأخوة بين المسلمين. ولا تكفي العصبةُ في الداخل بل هي في الخارج أيضًا من أجل التنافس بين الأمم في القوة والسلطان واكتساب العلوم الناقصة والفضائل الخلقية والكمالات الإنسانية اجعلوا عصبيتكم سبيلًا لتوحيد كلمتكم واجتماع شملكم، وأخذ كلٍّ منكم بيد أخيه ليرفعَه من هوَّة النقص إلى ذروة الكمال. وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ.
ويحول الأفغاني رابطةَ الجنس وعصبة الدين إلى قانون عام لقيام الأمم وانحطاطها؛ إذ لا تتكون الدول إلا بقوتَين: الجنس للاتحاد ولمغالبة الآخرين، والدين الذي يجمع الكلمةَ ويوحِّد الوجهة. ويعطي الأفغانيَّ نماذجَ من التاريخ، قيام العرب وسقوط العثمانيِّين. بدأ العرب في التاريخ بقوة العروبة والتوحيد بين القبائل. وجاء الإسلام فضمَّ إلى وحدة الجنس عصبةَ الدين، فانتشر المسلمون في الأرض فاتحين. ودانَت لهم القياصرة والأكاسرة من إسبانيا غربًا إلى خراسان شرقًا في أقل من ثمانين عامًا، واستمر الأمر كذلك عند الأمويين والعباسيين، ووصل إلى الذروة في عصر المأمون والرشيد. ثم حدث التقهقر، ليس لقلة العدد بل لإهمال أسباب التقدم، حكمة الدين والعمل بها، جمع الأهواء وتوحيد الكلمة. فشا الجهل في الخلفاء، وبعدوا عن العلم بحقيقة الدين. وهن الملك ولم تبقَ إلا عصبة الجنس والقبائل. ثم فقدوا عصبة الجنس فلم يبقَ شيء، وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ. نظرًا لوحدة الجنس لم يدخل الغريب في بداية الدولة، وفي نهايتها دخل الغريب فقويَ، واستولى على الدولة. والأمثلة على ذلك كثيرة. وما حدث للعرب تكرَّر للعثمانيِّين. استعملوا الغريبَ في لحظة الانهيار، عكس الأوروبيِّين الذين لا يوجد لديهم مستشار هندي أو مصري، في الدولة العثمانية مستشار الخارجية أرتين باشا الأرمني وسفيرها لدى إنجلترا موزوروس باشا الرومي. وحاكم جزيرة كريت قسطاکي باشا. وشغلت مناصب الدولة ببورغاكي وقسطاكي وأعزب وأوخانس. ولكلٍّ منهم أمة يحكمها العثمانيون، وتريد التخلص منهم. فكان ولاءُ هؤلاء الرجال لأممهم وليس للدولة العثمانية. واضح أن الأفغاني يصف الشعوبية قديمًا وهي الارتباط برابطة الجنس وليس برابطة الدين كأحد عناصر الانحلال في الحكم العربي أولًا، وتعيين الأجانب الذي لا يرتبطون بالأمة بوحدة الجنس ولا الدين كأحد أسباب انهيار الدولة العثمانية حديثًا، في التاريخ القديم، دين بلا جنس وفي الحالة الثانية لا جنس ولا دين، مع أن الشريعة الإسلامية تُبيح توظيفَ غير المسلمين في كلِّ وظائف الدولة المدنية حتى وزارة التنفيذ. وقد كان من سمات العثمانيِّين هذا الانفتاح على أممهم والاعتماد على خبرائهم. إنما القضية كانت في الأمم ونزعاتهم الاستقلالية وولائهم لأقوامهم وليس للدولة العثمانية.٢ ويضع الأفغاني قانونًا أنه في عزة الدولة تم توظيف الغريب باسم وحدة الدين وفي ضعفها تم استبعاده باسم وحدة الجنس. مع أنه في الشريعة وحدة الدين كافية لتجاوز وحدة الجنس؛ فالأمة الإسلامية مكونة من أقوام عدة ساوى بينها الإسلام من حيث المبدأ وتركها تتنافس وتتسابق نحو الخير، ولا تفترق الأفراد في كلٍّ منها إلا بالعمل الصالح، وهو نوع من تحويل التاريخ إلى مثال كما هو الحال في الحركة السلفية المعاصرة.
وباستقراء أحوال الأفراد والشعوب توجد نعرة للجنس وتعصُّب له، ولكنه ليس من الثوابت في الطبيعة البشرية بل من عوارضها، فالإنسان له منافع يحصل عليها بالتربية. وفي حالة العدوان يحتمي الناس بالنسب حتى كوَّنوا أقوامًا وأجناسًا. وتوزَّعوا إلى الهندي والإنجليزي والروسي والتركماني. فلو زالت الضرورة التي أدَّت إلى هذا النوع من العصبية لاختفَت عصبيةُ الجنس. وتساوى الناسُ أمام الله العلي الكبير بدلًا من خضوعهم للحاكم القاهر؛ لذلك أعرض المسلمون عن الجنسيات في وقت قوتهم ولجئوا إليها في وقت ضعفهم. الدين الإسلامي أقوى رابطة تذوب فيها روابطُ الأجناس وكما قال الرسول ليس منَّا مَن دعا إلى عصبية، وليس منَّا مَن قاتل على عصبية، وليس منَّا مَن مات على عصبية. وكما ذكر القرآن إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ. وقد حكمَت المسلمين أجناسٌ عدة لا فرق بينهم ما داموا يلتزمون بالشرع، لا فرق بين عربيٍّ وعجمي وحبشي وتركي وهندي وأفغاني. لذلك يتأسف المسلمون دون غيرهم على انهيار وحدة الأمة إلى عصبية الجنس. فواضح أن الأفغاني يرى أن عصبية الجنس مكتسبة وليست طبيعية في البشر. سببُها التجمع بین قوم واحد درءًا للعدوان وليس للعدوان.٣

أما الوحدة الإسلامية فإنها تقوم على الأخوة الدينية، وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا. قوة المسلمين في دينهم وإيمانهم، وينعكس على وحدة الأمة. وتطالب الشريعة بالوحدة والارتباط، وتظهر العقيدة، التوحيد، في حياة الجماعة. الأخوة الإسلامية نسبٌ وقرابة، أخوة في الله ونصرٌ للدين وليست للعدوان. والملة جسمٌ عظيم قويُّ البنية. يُصاب بأمراض مثل الانحلال وضعف الروابط مما أدَّى إلى انقسام الخلافة إلى دويلات في الداخل، والغارة على العالم الإسلامي في الخارج، من الغرب والشرق على حدٍّ سواء وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ. الوحدة هي الأساس والتجزئة طارئة. والنهضة هي الأصل والسقوط طارئ. والتفاؤل هو الدائم والتشاؤم وقتي. والفضائل هي القاعدة والرذائل استثناء، والعلم هو الجوهري والجهل عرضي. والنصر هو الثابت والهزيمة متغيرة.

ويستقرئ الأفغاني حوادثَ التاريخ، ويقرأ سنن الكون، ويتخذ العبرة التي لخصها القرآن في محكم الآيات، مثل وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ للتأكيد على الوحدة الإسلامية كقانون للتاريخ. الوحدة سببُ النهضة والتفكُّك سببُ السقوط. ويتذكر وحدة الأمة الماضية من المغرب الأقصى غربًا إلى الصين شرقًا، ومن قازان شمالًا إلى سرنديب جنوبًا، أراضٍ وثروات وعمران، وظهور حكماء الشرق، الرازي والفارابي وابن سينا، وحكماء الغرب ابن ماجه وابن طفيل وابن رشد. وتفوقوا في العلوم العقلية والشرعية. وكان الخليفة العباسي موضعَ رهبة من كلِّ الملوك في الشرق والغرب. وكذلك كان باقي حكام المسلمين مثل محمود الغزنوي، وملكشاه السلجوقي، وصلاح الدين الأيوبي، «تيمورلنك» ومحمد الفاتح، والسلطان سليم، وسليمان القانوني. كانت أساطيل المسلمين في البحر الأبيض والمحيط الهندي، تحمي الديارَ الموروثة عن الآباء. والقرآن يعطي العقائد الصحيحة، ويطرد الأوهام، ويحثُّ على الكمال الإنساني. ويتحقق الوعد والاستقلال ووراثة الأرض. وقد تم ذلك بفضل وحدة الأمة والإخاء، والافتخار بالتمسك بأصول الدين ورابطة الأخوة والتواصل بين التركي والهندي والأفغاني والحجازي.

ثم انهار البنيان، وتفكَّكَت الأمة، واستعمرَتها القوى الأجنبية وتأخَّرت في المنافع والصنائع؛ فلا جنسية للمسلمين إلا في دينهم. تفرَّق الأمراء فتسلَّط عليهم الأعداء. ساد الهوى، واكتفوا بمظاهر الإمارة، ووالوا الأجنبي فضاع الأندلس، وانتهَت السلطة التيمورية في الهند، وظهر الحرص على الدنيا، وضاعَت وحدةُ الكلمة. ولو اتبع المسلمون عقائدَهم ورعاية العلماء لتوحَّدَت الكلمة. ويقترح الأفغاني طرقًا ثلاثًا: الأول إثارة الأذهان وتنبيه الغافلين لمعرفة ما يكون به الدفاع، والثاني اتفاق الآراء على القيام بذلك وتوحيد الكلمة، أي القرار الجماعي، والثالث الارتباط القلبي بين الإخوة لبناء الأقطار. وقد توحَّد الروس وكانوا متأخرين عن أوروبا بهذه الطرق الثلاث حتى ارتقَت في الفن العسكري، ولكنَّ الأمراء المترفين تقاعسوا، وركنوا إلى الدنيا، يحرصون على الألقاب والمظاهر في المواسم والأعياد، والانحناءات كردِّ التحيات والتوقيعات على الأوراق الرسمية بأسماء لا مسميات لها، والنياشين على الصدور. فلا سبيلَ للخروج من هذا التفكك والانهيار إلا بالوحدة إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ. من الصعب توحيدُ الأمراء في شخص واحد، بل توحيدهم تحت سلطان القرآن ووجهة الدين. لا يكفي الحزن بل العمل لتجاوز اليأس والضعف وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إلى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، والابتعاد عمَّن كرهَ اللهُ انبعاثَهم فثبَّطهم وقيل لهم اقعدوا مع القاعدين، أو من الذين رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ. القرآن حيٌّ لا يموت ولم يُنسَخ بوحيٍ آخر وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ. وللعلماء العاملين اليدُ الطولى في هذا العمل الشريف.٤

وبالفعل، دبَّت الحياة في الممالك الشرقية فهبَّت من رقدتها، فتوحَّد الفرس مع الأفغان بالاتفاق على أصل واحد، ورابطة واحدة، الدين الإسلامي ونشر ذلك الاتفاق على إخوانهم في الهند. ولا اختلاف بينهم في المذهب يدعو إلى الفرقة. والجزء لا يضحِّي بالكل، والفرع لا يقضي على الأصل، الوحدة الدينية إذن أساس الوحدة السياسية والحضارية لمقاومة العادين والطامعين. وقد تم استيلاء الإنجليز على بلاد الهند لخلافهم مع الأفغان، وكل مسلم في الهند، في بنجاب، شاخص ببصره إلى هذه الوحدة بين الفرس والأفغان. فالاتحاد أفضل وسيلة لدرء العدوان. واتفاق سلطنة الشاه مع إمارة الأفغان، قوة إسلامية جديدة في الشرق، نواة الاتحاد بلاد الشرق. وفي وسطها الخلافة العظمى لاستعادة عز الأمة وسيرة الإسلام الأولى، فتخشاه أوروبا.

ويعبر الأفغاني عن أهمية الوحدة الدينية بأقواله المأثورة؛ مثل: شرُّ دواء الشرقيِّين اختلافُهم على الاتحاد، واتحادُهم على الاختلاف. فقد اتفقوا على ألَّا يتفقوا، عدم التشاكل من أعقد المشاكل، أي إدراك العالم بعين الاختلاف وليس بعين التشابه، لا يتمُّ عملٌ والتآلف مفقود، بالضبط والتضييق تلتحم الأجزاء المبعثرة، وهذا الضبط هو الترابط الديني. الشرق، الشرق، داؤه انقسام أهليه، وتشتُّت آرائهم، واختلافهم على الاتحاد، واتحادهم على الاختلاف، اتفاقهم على عدم الاتفاق، واختلافهم على الاتفاق. لقد تفرَّقَت كلمةُ الشرقيين عمومًا، والمسلمين خصوصًا، وقد كان اتهامُ الغربِ الشرقيِّين بالتعصب من أجل تفكيكهم وابتلاعهم وفرض المسيحية عليهم باسم الحرية.٥
ويفصل الأفغاني دعوتَه لاتحاد الفرس مع الأفغان في آسيا، مثل دعوته لوحدة وادي النيل في أفريقيا، الأولى نواة لوحدة المشرق الإسلامي والثانية دولة — قاعدة لوحدة المغرب الإسلامي. ولما كانت مصر بين آسيا وأفريقيا فإن نواة الوحدة الإسلامية في المشرق والمغرب هي مصر. ويصدر الأفغاني ودعوته بحديث إذا أراد الله بقوم خيرًا جمع كلمتهم. والتعبير عن سروره بخدمة الجرائد الفارسية لأوطانها واعتدالها ونقلها بعضَ أبواب العروة الوثقى إلى الفارسية تنبيهًا للمسلمين، وإنارةً للعقول من أجل تعميم الفائدة. واللغة الفارسية في الشرق كاللغة الفرنسية في الغرب تعبِّر عن إبداع القرائح السليمة خاصة فيما يتعلق بالدعوة إلى الوحدة الإسلامية وإحياء الرابطة الملية بين المسلمين خاصة بين الإيرانيِّين والأفغانيِّين. وهما فرعان لشجرة واحدة وشعبتان لأصل واحد، هو الأصل الفارسي القديم. ومن الطبيعي أن تكون المبادرة من الإيرانيِّين. فالعلماء من فارس: البخاري، ومسلم، والنيسابوري، والنسائي، والترمذي، وابن ماجه، وأبو داود، والبغوي، والبلخي، والكليني، والرازي الطبيب، والرازي المفسر، والغزالي، والإسفراييني، والبيضاوي، والطوسي، والأبهري، والإيجي، وابن سينا، والسهروردي، وكثير من المحدثين من العلماء والمفسرين والمتكلمين والفلاسفة والصوفية. وكانوا أولَ مَن خدم اللسان العربي وضبط أصولَه مثل سيبويه، وأبو علي الفارسي، والرضي، والجرجاني، والجوهري، والفيروزآبادي، والزمخشري، والكسائي، والأصفهاني، والهمذاني من علماء القرآن والبلاغة، والطبري، والإصطخري، والقزويني من المؤرخين والجغرافيِّين، والشيلي، والبسطامي، والهروي، أستاذ ابن عربي من الصوفية، والبزدوي، والآمدي، والميرغناني، والسرخسي، والتفتازاني، والشريف، والأبيوردي من الفقهاء، والقطب، والصدر الشيرازي، وميرباقر، وميرفندركس من الحكماء. لذلك قال الرسول: لو كان العلم في الثريا لناله رجالٌ من فارس. فالفرس مهيَّئون للمبادرة للوحدة الدينية كما أبدعوا في العالم، واسترجاع فتوة الإسلام الأولى، والوحدة مع الأفغان والتحالف معهم على مقاومة المعتدين. وقد تم استيلاء الإنجليز على الممالك الهندية بسبب الخلاف بين الفرس والأفغان، وكل مسلم في الهند ينظر إليهم. وحدة الفرس والأفغان هو السدُّ المنيع الذي يحمي الهند من الشمال ضد الغزو الأجنبي، وأمير الأفغان والأفغان من أشد الناس عداوة للإنجليز. فلو اتحد الأمير مع الشاه لوجدت قوة إسلامية في المشرق نواة لتوحيده، وكانت رصيدًا للمسألة المصرية. مهمة الفرس بيان أسس هذا الاتحاد وأهميته وضرورته. وقد بدأ الروس الهجوم على الهند وأوروبا مشغولة بمقاصدها. فاتحاد إیران وأفغانستان تدعيمٌ لمقاومة الهند للغزو الروسي خاصة وأن الهند بعيدة عن روسيا، وجبالها وعرة، ولا سبيلَ إلى الوصول إلى الهند إلا عبر فارس وأفغانستان. وليس من المعقول أن تستعمر روسيا الهند عن طريق إيران وأفغانستان ومشاركتهما في الغنيمة. ورابطة الدين الإسلامي أقوى الروابط بين الفرس والأفغان والهنود، وترك الخلاف المذهبي الفرعي إلى المصالح العامة والدفاع عن الأوطان. وقد اختلف الألمان في الدين المسيحي كما يختلف الإيرانيون مع الأفغان في الإسلام ولم يكن لهذا الاختلاف الفرعي أساسٌ في الوحدة السياسية، توحَّد الألمان بعد أن ضعفوا، ولم يكن لهم دورٌ في السياسة الأوروبية. فراعوا الوحدة الوطنية في المصالح العامة. واللسان الفارسي هو لسانُ الطائفتَين، وبالتالي تكون مهمة الجرائد الفارسية العمل لهذه الدعوة.٦

واضح أن الأفغانيَّ يؤسِّس الدعوة للوحدة على الرصيد التاريخ الحضاري والثقافة المشتركة بين الشعوب الإسلامية، كما يعتمد على التجارب الأوروبية المعاصرة، مثل الوحدة الألمانية من أجل تدعيم الوحدة الإسلامية.

ويستبعد الأفغاني كونَ الفرس من الشيعة والأفغان من السنة أن يكون ذلك مانعًا من الوحدة بينهما كما لم تكن البروتستانتية والكاثوليكية مانعتَين من وحدة الشعب الألماني؛ فقد ظهرَت أحزابٌ وشِيَع منها مَن ضلَّت مثل المؤلهة التي تقول بألوهية علي، والمفضِّلة والغلاة في محبة آل البيت طريقًا للقول المأثور يهلك فينا أهلُ البيت، محبٌّ غالٍ، ومبغضٌ غالٍ. المفضلة من الشيعة يقلدون جعفر الصادق، من كبار فقهاء آل البيت، يغالون في تفضيل علي، ولكنهم لا يخرجون على الأمة. إنما هي فروع أوجبَت الخصام؛ فالاقتتال لجهل الأمة وسفه الملوك الطامعين في توسيع الممالك، ملوك السنة هوَّلُوا وعظَّموا أمرَ الشيعة لاستهواء العامة بأوهام ضد توسیع شيعة آل البيت ليتسنَّى لهم قتالهم، فيقتل المسلمون بعضُهم بعضًا بحجة الشيعة والسنة، والكلُّ موحِّدٌ بالله، مؤمن بالكتاب والسنة. أما مسألة تفضيل علي والانتصار له يوم قتال معاوية، والخروج عليه فلو كانت في هذا الزمن مفيدة ولإحقاق الحق فإنها لم تَعُد كذلك اليوم ولا ينشأ منها إلا الضرر وتفكيك عُرَى وحدة الأمة. فهل لو أجمع أهلُ السنة اليوم، ووافقوا المفضلة، وأقروا بأولوية عليٍّ بالخلافة قبل أبي بكر فهل يحسِّن ذلك حالَ السنة والشيعة؟ ولو وافقَت الشيعةُ أهلَ السنة على أولوية أبي بكر وأحقه بالخلافة فهل ينهض أهل السنة مما وقعوا فيه من مذلة وهوان؟ لا يرضى عليٌّ عن الشيعة إذا قاتلوا أهل السنة لمجرد تفضيله على أبي بكر، ولا يرضى أبو بكر أن تدافع أهلُ السنة عنه، وتُقاتل الشيعة لأفضليته التي تخالف روح القرآن، وأن المسلم للمسلم كالبنيان المرصوص يشدُّ بعضه بعضًا، إن قصة التفضيل لو استحقَّت البحث لكفى أن يقال لحلِّها إن أقصرَ الخلفاء الراشدين عمرًا تولَّى الخلافة قبل أطولهم عمرًا. فلو تولَّى الخلافةَ عليٌّ لمات أبو بكر وعمر وعثمان ولم يتيسر لهم خدمةُ الإسلام.٧ يقدِّم الأفغاني هنا حجة الأمر الواقع على حجة شرعية الفكر، ومقياس المنفعة وأولويته على الضرر، والزمن الحاضر وأوليته على الماضي، وضرورة الوحدة على الانقسام.
والدين واحدٌ بالرغم من تعدده، والأديان متفقة في الهدف والقصد والغاية. هناك ثلاث ديانات كبرى: اليهودية النصرانية والإسلام، وكتُبُها السماوية: التوراة والإنجيل والقرآن، القصد منها واحد، إرشاد الخلق إلى الحق، وتوجيههم إلى الطريق المستقيم في العبادات والمعاملات، وبيان مشيئة الله في خلقه وصون مصالح العباد. وهو قصدٌ واحد، ومشيئة واحدة. والكتب السماوية كلها تهدف إلى غاية واحدة. عبادة الله واحدة، والمعاد واحد، أنانيةُ الإنسان وحبُّه الذاتي ورغبتُه في البقاء بعد الموت، وكأنَّ الأفغانيَّ يؤسِّس العقائد في التجربة الإنسانية. لا يوجد في الأديان الثلاثة ما يخالف نفْعَ مجموعِ البشر. الكل يعمل للخير المطلق، ودفع الشر، وجلب المنافع، ودفع المضار. الأديان الثلاثة، الموسوية والعيسوية والمحمدية متفقةٌ في المبدأ والغاية، وكلٌّ منها يُكمل الآخر في الخير المطلق. وإذا قَدِم العهد ونشأ الطغيان أو سادَت الكهانة ظهر نبيٌّ لإكمال الناقص، فوحدة الأديان طريقُ البشرية إلى السلام. القصد واحد وهو التحرر، كمال العقل الإنساني واستقلال الإرادة البشرية. فإذا ما ضعفَت الإنسانيةُ عبر التاريخ وقعَت في الخرافة والجهل أو رضيَت بالطغيان يظهر نبيٌّ يذكِّر بالقصد والغاية؛ فالوحي مربِّي الإنسانية.٨

والخلاف فيها بين رجلين: الأول يؤمن بالوحي ويُثبت الأنبياء، والآخر يجحد بالوحي ويُنكر الأنبياء. الأول يُدرك وحدة الأديان، والثاني يقول إن الكون ليس فيه جديد ويأتي العلماء فيصوغونه. توحيد الله عند قدماء المصريين قبل موسى، والتثليث من الوثنيِّين، قال به فيثاغورث قبل المسيح. وموسى وعيسى ومحمد اعتمدوا على أقوال الحكماء القدماء وضمُّوها إلى كُتُبِهم. فهي كتب بشرية وليست إلهية. ولو كان بهذه الكتب بعضُ النفع فضررها أعظم. وقد سبَّبَت الشحناء والبغضاء. ولو كان الدين حقيقة لما وقع الاختلاف فيه. ويردُّ الأفغاني على الجاحد بأن الاتفاق بين الأديان حقيقة، والاختلاف من صنع رؤساء تلك الأديان الذين يتاجرون بالدين ويشرون بآياته ثمنًا قليلًا. وما أنفع رجال الدين إذا صلحوا وما أضرهم إذا فسدوا، الأديان الثلاثة واحدة، يُكمل بعضها بعضًا، إلا أن كلَّ طائفة اعتبرَت نفسها حانوتًا أو متجرًا. فظهر الاختلافاتُ الدينية والطائفية والمذهبية كما قال الشاعر:

قد يفتحُ المرءُ حانوتًا لمتجرِه
وقد فتحتَ لك الحانوتَ في الدين
صيَّرت دينَك شاهينًا تصيد به
وليس يُفلح أصحابُ الشواهين

فإذا قاوم رجلٌ الاختلاف قطع رزقهم، واتهموه بالكفر والزندقة والإلحاد والجحود والمروق على الدين. فأكبرُ خطأ مس كرامة الدين لمجرد عمل يأتيه فردٌ من رجال هذا الدين. والإيمان واليقين ليس معناهما عبادةَ رؤساء الدين. لقد تحوَّلَت الأديان إلى متاجر وحوانيت. وينقد الأفغاني بالمناسبة الشيخ الميرغني الذي صاحب فرقةً إنجليزية ضدَّ ثورة القبائل السودانية، والشرع يحذر منه. وقد حكم العلماء بمروقه، وهو مثل نقد الكندي لرجال الدين الذين يدافعون عن مناصبهم المزورة باسم الدين وهم عدماء الدين؛ لأن مَن جهل الحق عاداه في أول رسالته إلى المعتصم بالله في الفلسفة الأولى.

وتنشأ الشبهاتُ حول الأديان بمقارنة المثال بالواقع، ما ينبغي أن يكون بما هو كائن. فقد سأل أحد نواب الهند: إذا كان الإسلام هو الدين الحق، فلماذا تقهقر المسلمون؟ ويردُّ الأفغاني على ذلك بحجة جدلية بأن الدين الحق هو الظاهر وليس الإسلام. وإذا كان المسلمون غير ذلك فهذا لا ينفي الإسلام؛ لأن حجة الواقع لا تطعن في الفكر. والدين الحق هو الدين الواحد وليس مراحله المتتالية، اليهودية والنصرانية والإسلام، الدين الحق هو الدين الخالص. كما يستعمل الأفغاني حجة خيالية، إذا وضعت الكرة الأرضية بين يدَيه وتم قياسها ببعض الأجرام كانت صغيرة، والإنسان أصغر. وإذا عاش الإنسان في كوكب آخر فإنه قد يمتلك حجم الكرة الأرضية، ولمَا نشأ الاختلاف. وتقوم الحجة على عظم الكون والأرض، والإنسان لا يشغل إلا مساحة ضئيلة فيه، ومع ذلك يختلف الناس عليها. فما بالهم لو تكاثروا وعاشوا في الكون الأرحب والأوسع؟ وما المانع أن يعيش أهلُ كل قرية في أمن وسلام؟٩ ويستشهد الأفغاني بالتوراة والإنجيل والقرآن ما دام الدين واحدًا. وهو أقرب إلى موقف الصوفية والفلاسفة وإخوان الصفا منه إلى المتكلمين والفقهاء إلا أنه يسميها الديانات الموسوية والعيسوية والمحمدية، وهو خطأ؛ لأن أسماء الديانات لا تُشتق من أسماء مؤسِّسيها، مثل البوذية والمسيحية والزرادشتية والمانوية، بل من جوهرها. فالإسلام من أسلم، والنصراني من نصر.
والوحدة تؤدي إلى السيادة. ويصدِّر الأفغاني مقاله عن الوحدة والسيادة بحديث المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدُّ بعضُه بعضًا. فهناك أمران خطيران تدفع إليهما الضرورة أحيانًا والدين أحيانًا أخرى، وهو الميل إلى وحدة تجمُّع وسيادة لا توضع. فكلُّ أمة تنهض وتضمحل كالصحة والمرض، والحياة والموت. التغلُّب في الأمم كالغذاء في البدن. والوفاق تواصل وتقارب إحساسًا من كل فرد بمنافع الوحدة، النظر في أمور الآخرين. ثم تنشأ الرغبة في السيادة كنتيجة طبيعية للوحدة. هذان الأمران، الوفاق والغلب ركنان في الدين وفرضان شرعيَّان طبقًا للحديثَين الشهيرَين المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدُّ بعضُه بعضًا، لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تحاسدوا، وكونوا عباد الله إخوانًا. والاعتصام بحبل الدين ضروري، وكذلك الصلح بين المتخاصمَين كما نصَّ القرآن وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلى أَمْرِ اللهِ، وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ. وكما نصَّ الحديث «يد الله مع الجماعة.» لو دُعيت إلى حِلْف الفضول لفعلت. فالإحساس بالجماعة والتضامن معها وتمثل قيمها قبل الوحي وبعده، وله أساس في الطبيعة البشرية، مثل عدم أخذ فضل من حقه، ورد حق المظلوم إليه. كما يدعو القرآن إلى بَسْط السيادة ولكن افتتن المسلمون أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ، إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ. الميل إلى الوحدة، والتطلُّع إلى السيادة طبيعيان في البشر، أكَّده الدين، وعبَّر عنه القرآن، وصاغه الحديث.١٠
ثم ينتقل الأفغاني من المثال إلى الواقع، من الوحدة إلى التنوع. فالبشر يعيشون في أوطان وفي قوميات وفي إنسانية واحدة، الإنسان نوعٌ واحد وليس له غير هذه الكرة وطنًا؛ فوحدة النوع تقتضي وحدةَ المكان. ومع ذلك لا تتحدد الهوية بالجغرافيا والمكان ولا بالعِرق والدم بل بالفكر والتاريخ، بالتوحيد والثقافة المشتركة، الإخوة الإسلامية والتاريخ المشترك، العروبة هي اللغة، والإسلام هو الفكر، والعالم الواحد هو الواقع الحي، فالعصر عصر الأوطان وتخطِّي الأوطان في آنٍ واحد، ويفصِّل الأفغانيُّ الصلةَ بين القومية والإنسانية معتمدًا على التشبيه طبقًا لعادة القدماء خاصة الفارابي. فكما أن للإنسان «حواس خمس» فللأقاليم حواس خمس بها تميَّزَت الشعوب والقبائل التي خلقها الله من نفس واحدة. وتقسم المعمورة إلى أوطان، والخواص الأربع تستمد طبيعة الإقليم منها، والخامسة تطرأ فتؤثر، وهي: الأول الدين، أي العقائد، وهو الأول في الترتيب، والثاني اللسان، أي اللغة، الثالث الأخلاق أي القيم، والرابع العوائد، أي العادات والأعراف، والخامس الإقليم الذي يؤثر في المجموع. وبهذه العناصر الخمسة تحصل ميزات الأقوام، وتحصل المساواة بينهم. فإذا ما أصابها الغرورُ ساءَت الطبيعة، ونشأ الغلب والقهر بالتذرُّع بالدين. توجد القوميات بالعناصر الخمسة كما توجد الإنسانية أيضًا. وبالرغم من تقسيمات الغرب واستقلال عناصره بميزاتهم القومية تساوَوا نسبيًّا بالفضيلة وأهمها العلم بالواجبات لهم وعليهم. انتفى منهم التفردُ بالسلطة وسوق الأمة على هوى السلطان. وسينتفي هذا الحكم المطلق في التاريخ تدريجيًّا حسب مقتضيات الفطرة كما حدث في الغرب اليوم، تحكمه الشورى. وصارت كلُّ أمة في مأمن من أن تغزوَها الدولة المجاورة. فإذا ما فشَا العلمُ في الأمة فأول ما تقوم به مناهضة هذا الشكل من الحكم حتى تتخلص منه. هذه سنة الله في الكون وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا.١١ ومع ذلك ارتبطَت نشأةُ القوميات في الغرب بالاستعمار بينما ارتبطَت في الشرق بالتحرر. ولم تكن القومية الغربية كلها خيرًا. إذ نشبَت فيه حربان عالميتان طاحنتان في القرن العشرين بعد وفاة الأفغاني. وقامت الحروب باسم القومية بين فرنسا وألمانيا وإيطاليا والنمسا، واستُعمرت فلسطين باسم القومية اليهودية. ووقعَت مذابح المسلمين في البوسنة والهرسك باسم القومية العربية. وذُبح ملايين من الأفارقة في مذابح متبادلة بين القبائل في رواندا. فالأفغاني أحيانًا يحوِّل التاريخَ إلى مثال لا يصدق في الواقع، وأحيانًا أخرى يستقرئ حوادث التاريخ لإثبات المثال في صيغة قانون للتاريخ.

وبحثًا عن الأوطان والقوميات والإنسانية عرَّج الأفغاني على الماسونية. انضمَّ إلى المحفل البريطاني، ثم غادره إلى المحفل الفرنسي ثم غادر الماسونية كلَّها مبيِّنًا ميزاتها وعيوبها؛ إذ تمتاز الماسونية، وهذا ما أغرى الأفغاني بها، أنها هدمٌ للقديم، الظلم والجور والعتو، وبناءٌ للجديد، الحرية والإخاء والمساواة. غرضُها نفعُ الإنسان. تهدف إلى دكِّ الظلم وتشييد العدل. كما تعمل على بلورةِ همَّةِ العمل، وعزة النفس والشمم، واحتقار الحياة في سبيل مقاومة الظلم، واعتبار كلِّ قادر وظالم من الحكام من الخوارج. والماسونية أشرفُ وأرفع من أن تعمل على إيجاد سلطة لرئيس تخدم له بها غاية شخصية أو منفعة مادية أو معنوية. أراد الأفغاني أن يكون عاملًا ماسونيًّا نزيهًا متجنبًا الرذائل حرصًا على شرف الشخصية وحتى لا يُعابَ على الماسونية بأشخاصها، وصحةُ البدن وذلُّ السؤال لا يجتمعان، الماسونية تُسعف الأخَ إذا سقط في العلل أو اعتراه شللٌ. وتقدم على من سواه في البشرية. تربِّي أبناءَه إذا مات فقيرًا، وتُحسن تربيتهم. الماسونية هي أن يُصبح الإنسان إنسانًا، وألَّا يكون الإحسان له إساءة.

ومع ذلك، وبعد أن عرفتها مصر بلد العجائب، وبعد دخول الأفغاني فيها والخروج عليها، وتجربتها ومعايشتها اكتشف عيبها مثل الجبن والخوف والنفاق والزلفى. كما لا يوجد وصفٌ دقيق لها؛ إذ يقول أما نحن معشر الماسون فيؤلمني أنني للآن ما عرفت لنفسي بصفتي ماسونيًّا ولا لمطلق الماسونية تعريفًا يجعل لها صورة في الذهن أو وصفًا ينطبق على مَن ينخرط في العشيرة.١٢ كما تقوم الماسونية على الأثرة والأنانية وحبِّ الرئاسة، والأفغاني لا يحبُّ الرياسة بل يتوجَّه إلى الجماهير. كما تسود الجماعة الأهواء والانفعالات البشرية دون مراعاةٍ لحقٍّ مطلق أو مبدأ ثابت. ويبدو أنها تهدف إلى إخضاع الشرق وتهديده ووعيده، وأنها نحلةٌ غربية تقع تحت معاداة الأفغاني لاستعمار الغرب للشرق. الماسونية لم تزَل في المهد وقد تختنق في المهد إذا لم يفقه مغزاها أحد. الماسونية اليوم مجردُ كيس أعمال وقبول أخ. نوع من أساطير الأولين، تُخلُّ بعقائد الناس، وتُقسمهم إلى رئيس ومرءوس، تابع ومتبوع، غرب يأمر وشرق يرضخ، غرب يجمع المال وشرق يدفع الجزية. لن تعيش الماسونية في الشرق؛ لأنها لا تعبر عن مصالحه ولا تبغي تحرُّرَه، وهي أحد مظاهر الهيمنة للغرب.

(٢) التقدم والتخلف

ويحاول الأفغاني أن يرصدَ بعض القوانين العامة لنهضة الشعوب وسقوطها تنطبق على جميع الأمم عبر التاريخ وليس فقط على الأمة الإسلامية، وهي قوانين التقدم والتخلف على أساس أن النهضة هي القاعدة والسقوط هو الاستثناء، أن التقدم هو الأصل والتخلُّف هو الفرع، مفسرًا الآيات القرآنية والأحاديث النبوية لاستنباط هذه القوانين أو واصفًا حوادث التاريخ مستقرئًا لها، جمعًا للتنزيل مع التأويل. ربما تنقص الصياغة النظرية ولكنَّ الهمَّ واضح، والنية معلنة.

كانت للمسلمين شدةٌ في الدين وقوةٌ في الإيمان وثبات في اليقين. وكانت العقيدة من أوثق الأسباب لارتباطهم. وكان الإيمان يؤدي إلى السعادة في الدارَين. وكان العلماء مرشدين للناس، موجهين للعامة. والمسلمون تحكمهم الشريعة، مطالبون بالحفاظ على ما لديهم من البلدان. ثم غفل المسلمون عن بعضهم البعض. ولم يتألموا لما حلَّ ببعضهم البعض. كان أهل بلوخستان يرَون حركاتِ الإنجليز في أفغانستان ولا يتحركون. والأفغانيون يرون تدخُّلَ الإنجليز في إيران ولا يتكلمون. ويضرب الإنجليز في الأراضي المصرية، تقتل وتفتك ولا ينجد المسلمون. فتفكُّك الرابطة الدينية سببُ الانهيار والاستعمار، وقوتُها سببُ النهضة والتحرُّر.

وتمسُّك المسلمين بالعقائد له أسبابه؛ إذ تبعث الأفكار والعقائد على الأعمال تثبتها. والإنسان بفكره وعقائده، وللأخوة ونسب القرابة صورةٌ من العقل، وهما من الروابط الإنسانية. والآن لم يبقَ للمسلمين إلا الدين والعمل، وانقطع التعارف بينهم، وهجر العلماء بعضهم بعضًا، ولا سفارة للعثمانيِّين في مراكش ولا لمراكش عند العثمانيِّين. ولا توجد صلاتٌ بين العثمانيِّين والأفغان. كثرَت المذاهب والتشعُّب والخلاف في بداية القرن الثالث للهجرة. وانقسمَت الخلافة إلى عباسية في بغداد، وفاطمية في مصر والمغرب، وأموية في أطراف الأندلس. ثم ظهر جنكيز خان وأولاده وتيمورلنك وأحفاده. وواجب العلماء الآن إحياء الرابطة الدينية والترابط بينهم.١٣ واضح أن الأفغاني هنا ينوع على نفس القانون. فالنهضة بالدين والعمل، والسقوط بالدين دون العمل. كما أن التقدم بالترابط والتخلُّف بالتفكك. ويكون القانون هو: ترك ما كان سببًا للصعود يؤدي إلى الهبوط والسقوط.
والجهاد أيضًا قانونٌ تاريخي. الجهاد سبيل النهوض، والنكوص يؤدي إلى الانهيار. ويعتمد الأفغاني هنا على استنباط هذا القانون من الآيات القرآنية، مثل ألم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ. الجهاد امتحانٌ واختبار للنفس. وجهادٌ للعدو ضد الخوالف المثاقلين إلى الأرض. الجهاد سبيل النهوض والنكوص، والقعود الطريق إلى السقوط. ويذكر أيضًا لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ. فالإيمان بالله يؤدي إلى الجهاد، أي إلى العمل مثل القانون السابق. فإن تخلَّت الأمة عن الجهاد فإنها لا ترث الأرض بل ترثها أمةٌ غيرُها وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ. والتولِّي هو خيانة البلاد، والجهاد هو الدفاع عن الأوطان. ملعونٌ مَن يخون البلاد لمرض في قلبه. ملعون مَن يبيع أهل ملته بحطام يلتذُّ به. ملعون من يمكِّن الأجانب من دياره، محروم من شرف الملة الحنيفية، مَن يعظِّم الصغير ويصغِّر العظيم، ويمهِّد الطريق لخفض كلمته وإعلاء كلمة الأغراب. ملعون مَن يختلج في صدره أن يلحق عارًا بأمته ليتمم ناقصًا من لذته. هنا يتوجه الأفغاني بالخطاب السياسي إلى الأمة، ويوحِّد بين النكوص والخيانة. إن المولعين بحبِّ الحياة يقضونها في الذل من خوف الذل، ويعيشون من خوف العبودية في العبودية، ويجرعون مراراتِ سكراتِ الموت في كل لحظة خوفًا من الموت. فلا الدين يسوقهم إلى مرضاة الله، ولا الحمية الوطنية تدفعهم إلى ما به فخارُ بني الإنسان.١٤ ويصوغ الأفغاني بعضَ الأقوال المأثورة لبيان أهمية الجهاد، وإيثار الموت الكريم على حياة الذل. وأحقر الناس مَن يطلب موتَ الناس ليحيا، وأعظمهم مَن يستميت ليحيَا ولو واحدًا من الناس. وطالب الموت في سبيل حياة الوطن إما أن يموت بطلًا شهيدًا وإما أن يعيش سيدًا عزيزًا. وأمة ثبتت في جهادها لأخذ الحق ساعة خيرٌ لها من الحياة في الذل إلى قيام الساعة. وخيرُ لونٍ لرايةِ الاستقلال دماءُ المجاهدين والأبطال.١٥
والإصلاح الديني أيضًا قانونٌ للنهوض وأحد وسائل الانتقال من التخلف إلى التقدم، ومن السقوط إلى النهضة. ولا يمكن التخلص من الانحطاط والتأخر إلا بتأسيس النهوض والتمدن على قواعد الدين وليس عن طريق تقليد الغرب الذي يؤدي إلى الانبهار بالأجانب والاستكانة لهم والرضا بسلطانهم. فيتحول الإسلام من تحرر وإبداع إلى خمول واستئناس لحكم الأجنبي، والسبيل إلى ذلك حركة دينية تُقلع ما رسخ في عقول العوام وبعض الخواص من فهمٍ خاطئ للعقائد والشرائع، ونشرِ تعاليم القرآن الصحيحة بين الجمهور وشرحها بحيث تؤدي إلى السعادة في الدارين. ومن هنا تأتى ضرورة تهذيب العلوم وتنقيح المكتبات، ووضع مصنفات سهلة. وكان هذا طريق إصلاح الغرب، وانتقاله من الهمجية إلى المدنية. وهي الحركة الدينية التي قام بها لوثر بعد أن رأى خضوعَ أوروبا لرجال الدين ولتقاليد خارجة عن العقل والدين، فأصلح الأخلاق، وقوَّم الاعوجاج، وطهَّر العقل، ونبَّه إلى الحرية الطبيعية ضد الاستعباد والطغيان. ثم نشأت حركةُ عداوة ثم منافسة بين البروتستانتية والكاثوليكية على القوة والعزة والغلبة والارتقاء في المدنية للتفوق على الآخر. ومن هذه المنافسة تولَّدَت المدنية الحديثة التي ينبهر الناسُ بها. مع أن لدى المسلمين فرقتَين كبيرتَين، سُنَّة وشيعة، ولم ينشأ تحدٍّ بينهما نحو المدنية. تبدو الشيعة أحيانًا كالكاثوليكية نظرًا لأهمية رجال الدين والتراث والتاريخ، والسنة كالبروتستانتية نظرًا للعقل والفردية والحرية. وأحيانًا تبدو الشيعة كالبروتستانتية نظرًا لما فيها من معارضة واعتراض، والسنة كالكاثوليكية نظرًا لما فيها من خضوع. ومع ذلك يرى الأفغاني نفسَه كمارتن لوثر، وحركة مثل البروتستانتية. وسجن الظالمين للمصلح رياضة، ونفيهم له سياحة، وقتلهم له شهادة، وهي أسمى المراتب.١٦
والحروب أقبحُ ما اخترعه الإنسان في الأرض. وهي وحدها أحقُّ الأعمال بالكتمان لفظاعتها. بينما العلم أفضل ما اخترعه الإنسان الذي أدى إلى التقدم والعمران عند الإنجليز والفرنسيِّين والألمان والأمريكيِّين. ولكن في مقابل ذلك ترجح كفة ويلات الحروب على العلم عندما يتحول العلم والمدنية والرقي إلى جهل ووحشية وهمجية، ويتحول الإنسان إلى حيوان بل أحط منه لعدم استفادته من حقيقة العلم. الحروب أكبرُ دليل على ذلك فلم تقف الحيوانات بعضها أمام بعض كما يقف الإنسان أمام أخيه الإنسان، والدول أمام بعضها البعض بالقتل والدمار. وقد نبَّه القرآن على ذلك بقوله وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَة. فاعترضَت الملائكة بأن الإنسان يسفك الدماء أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ، والملائكة يريدون فهمَ السرِّ دون عصيان الله لَا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ. لذلك أخبرهم الله إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ. وفضل آدم بالعلم وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وجاء في القرآن تعظيمُ العلم الصحيح. هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ، وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ. العلم الصحيح يؤدي إلى السلام والمدنية والعمران وليس إلى الحروب والدمار، مرة باسم الوطن والوطن بقعة من الأرض. ولو أنصف الناس لوسعتهم الأرض وهم لها تاركون وفي جوفها داخلون. فالأولى أن يعيش الإنسان مع أخيه الإنسان فوقها، ولا يحتاج لتوقف الحروب إلا توقف الأمة عن الاستجابة لها وتحكيم العقل والعدل. السبيل إذن إلى إبطال الحروب الارتقاء في العلم وتحويل عساكر بريطانيا إلى نيوتن ودارون وعساكر فرنسا إلى باستير. فهل يقف الجنود صفوفًا للحروب والتدمير أم يقف العلماء صفوفًا للبناء والتعمير؟١٧ ويبدو الأفغاني هنا مثل فولتير ناقدًا للحرب بالرغم من نقده له باعتباره دهريًّا. كما يضع تقابلًا بين الحرب والعلم مع أن العلم أحد وسائل الحروب والدوافع عليه. فالعلم والحروب في يد السياسيين، ولا يوجد علم مجرد ليس في يد أحد مهما كثرت الدعوات على العلم في سبيل السلام، والتمييز بين العلم وتطبيقاته أو بين العلم والسياسة. فهذه نظرة مثالية أخلاقية لم تمنع من وقوع الحروب. وإدراكًا منه لفظاعة الحروب في القتل والدمار فإنه يفضل استعمال تعبير تنازع الفناء على تنازع البقاء؛ لأن البقاء صفة لله، ولأن قانون التنازع يُبقي الأقوى ولكنه يُفني الأضعف. الحرب إذن استثناء في التاريخ والسلام هو القاعدة.
ومع ذلك يفرق الأفغاني بين الحروب العادلة والحرب غير العادلة على ما هو معروف في الفكر الديني والسياسي منذ العصر الوسيط في اصطلاح Just War. الحرب غير العادلة هي حرب العدوان، والحرب العادلة هي حرب الدفاع لردع العدوان. الأول مثل الحروب الغربية لتوسيع البلاد استعمارًا واستعبادًا. والجهاد من النوع الثاني، الحرب العادلة لردع العدوان وإرجاع الخلق للحق. لقد جاء الإسلام لتصحيح الأوضاع في شبه الجزيرة العربية كما جاءت المسيحية لتصحيح الأوضاع في اليهودية، وجاءت اليهودية لانتشال اليهود من سلطة فرعون. جاء الإسلام تصديقًا للديانات السابقة لتحرير البشر قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا، هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ، اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ. ومن ثَم فاحتمالات الحرب بين الأديان قليلة نظرًا لاعتراف الإسلام بالديانات الثلاث في حين أن احتمالات حروب الأديان في اليهودية والمسيحية أكبر لعدم اعتراف اليهودية بالمسيحية والإسلام وعدم اعتراف المسيحية بالإسلام. فالإسلام مرفوض مرتين، من اليهودية والمسيحية، وهما مقبولان منه. وقد يفسر ذلك أحيانًا تكاتف وتضامن اليهودية الغربية «الصهيونية» والمسيحية الغربية في العداوة ضد الإسلام منذ الحروب الصليبية حتى احتلال فلسطين ومذابح البوسنة والهرسك وحرب الشيشان. وإذا كانت آية السيف قد نسخت ثلث القرآن من أجل رفع القهر عن الناس والإيمان بالله وحده فإن القتال قد يقع اضطرارًا كما لاقى الرسول من أذى الكفار فاضطر للقتال، وكُتب على الناس وهو كره لهم. وقد خير الإسلام الناس بين الإسلام أو الجزية من أجل صون النفوس. أما القتال فهو من أجل تحرير الأرض من الشرك والطغيان والعدوان على الناس معنويًّا وماديًّا. لذلك خيَّم العدل المطلق على فتوحات الإسلام بمبادئه وليس بالقهر والسيف كما يدعي الغرب. وعم الإسلام جزيرة العرب، ولم تَقُم إلا غزوات محدودة اتقاءً لطغيان قريش حتى عام الفتح. وانتشر في اليمين بدون قتال. ولم تتجاوز جيوش أبي بكر وعمر أربعين ألف مقاتل. ودخل الإسلام الشام وفلسطين وحلب والعراق ومصر وفارس حتى الصين دون أن تكون الحرب في كل الحالات وسيلة لنشره. أما الآيات التي تُقرأ في القرآن التي تحثُّ على الاستعداد للقتال، مثل وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ. فلا يعني سفك الدماء بل مجرد التخويف والردع كما يقال في الأسلحة النووية حاليًّا وكما نص القرآن تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ. وكما قال مولتكه أبطال الحرب لإبطال الحرب. ولكن عمَّ الجهل، وكثرَت التفسيرات للباء والصاد حتى جهل المسلمون الحقائق العلمية مثل كروية الأرض ودورانها حول الشمس ودون أخذ المخترعات الحديثة كالبرق والسكك الحديدية منه حتى لا يكذبَه الناس. إنما أشار إلى ما هو حادث وما يمكن حدوثه في المستقبل مع مراعاة العقول والتقريب إلى الأذهان. إذن العنف ليس هو الأصل في التاريخ بل التسامح. والحرب ليست أداةً لتحريك التاريخ إلا دفاعًا. قوانين التاريخ هي الفضائل والرذائل، للنهضة والسقوط.١٨

(٣) قوانين التاريخ

وتبلغ ذروة فكر الأفغاني في فلسفته للتاريخ وكيف أنه ميدان للاعتبار ومرآة تكشف صدقَ النص، وأن الآية القرآنية حصيلة استقراء طويل؛ فالنص والواقع شيء واحد داخل التجربة الإنسانية الفردية والاجتماعية ومقاييس صدقها. وهذا هو معنى الوعد الإلهي ووراثة الأرض ونصر المؤمنين وإظهار الدين. وقوانين التاريخ مثل قوانين الطبيعة حتمية ضرورية؛ لأن العقل أي الروح هو محرك التاريخ وهي الإرادة الإلهية في التاريخ ومساره. وهي سنن الكون، وسنن الله في الأمم. والتاريخ دورات طبقًا للتصور الحيوي، بين الماضي والحاضر، بين النهضة والسقوط ثم النهضة من جديد بفضل الإصلاح والرقي والتمدن ووسائله. وللتاريخ فعالياته، العقل والدين والعلم والجهاد. وهو ميدان السياسة والصراع السياسي بين الاستعمار والتحرر، وبين الغرب والشرق.

فالتاريخ مرآة للأفراد والشعوب، يقرءون فيها تاريخ البشرية وخبراتها السابقة، ويستفيدون منه العظات والعبرات. ومَن تولَّى زمامَ أمورِ الجمهور لا غنًى له عن مرآة وكتاب وتاريخ صحيح. فكما أن المرآة تُريه شخْصَه على علاته هكذا يفعل التاريخ أيضًا، ينقل أعماله في حياته وحياته في قوانين التاريخ. وقد نبَّه القرآن على ذلك في آيات العبرة؛ مثل أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُور، قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ. فالتاريخ للعظة والاعتبار والتذكير والذكرى وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَة لِأُولِي الْأَبْصَار.

قانون التاريخ إذن هو تجربة نفسية واجتماعية قبل أن تتحول إلى قانون. فالقانون ما هو إلا تراكم الخبرات الفردية والاجتماعية عبر التاريخ. يتحول من خلالها الوعي الفردي الاجتماعي إلى وعي تاريخي. ومقاييس الصدق لهذا القانون متعددة. فمنها العقل والبرهان والقياس والتأمل والتفكير والنظر والتدبر. لذلك طالب القرآن بالبرهان كمقياس للصدق. ومنها أيضًا الإحساس الفطري والوجدان والشعور والبداهة الطبيعية. وهو ما سماه القرآن الصِّبغةوَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً، والفطرة، فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا. ومنها التعليم الشرعي واكتساب العلوم والمعارف. لذلك فضل الله العلماء على غيرهم، وجعل العلماء ورثة الأنبياء. ومنها أخيرًا الإلهام الإلهي الذي يهبه الله خاصته، اليقين الداخلي الموضوعي، الحدس الرباني وهو يقين الأنبياء.١٩
وبهذا المعنى يستشهد الأفغاني بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية باعتبارها صياغات إلهية لقوانين التاريخ بناءً على رصيد طويل من تجارب البشر. فالنص صورة للواقع، والواقع مادة النص، وبتفاعل الصورة والمادة تنشأ حركة التاريخ. الوحي يتحقق في التاريخ، والتاريخ ميدان لتحقق الوحي. وبالتالي يمكن معرفة قوانين التاريخ استنباطًا من النص واعتمادًا على العقل والبداهة والفطرة. ويمكن معرفته استقراء من حوادث التاريخ. الطريق الأول سماه القدماء التنزيل، والثاني التأويل. وتطابق الطريقين تصديق للوحي. ويمكن صياغة قوانين التاريخ بالمنقول والمعقول حول العدل في التاريخ ووراثة الأرض للمؤمنين، وتحقيق الوعد الإلهي، والنصر للمؤمنين، وإظهار الحق على الباطل، وتحقيق العزة للمؤمنين، وعدم تغيير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. وذلك مثل وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ. هذا قانون تاريخي يمكن للعقل استنباطه بعد رؤية حوادث التاريخ. فالعقل يستدل على سيطرة الإنجليز على ممالك الهند بالقوة والحيلة وكذلك روسيا. كما يستدل على وحدة النضال ضد الاستعمار، الثورة المهدية، والثورة العرابية، ونضال الهند ومقاومة الاستعمار وأيضًا مثل وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ. ويستطيع العقل أن يستدل على أن التفرق ضعف، وتستطيع التجربة أن تُثبت أن الوحدة قوة، ومن هنا لزمت وحدة الأفغان والفرس والهند ومصر والسودان وسوريا. وأيضًا إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ، فالتغيُّر من الداخل إلى الخارج وليس من الخارج إلى الداخل، من الفرد إلى الجماعة وليس من الجماعة إلى الفرد طبقًا للنظرة المثالية للعالم.٢٠
ويمكن الاستدلال على قانون التاريخ بالعقل الصريح؛ مثل لا يُجتنى الشهد من الحنظل. فالنتائج من نوع المقدمات، الأعمى مَن يظن الناس بدون أبصار. فالإنسان يقيس الآخرين بمقياس نفسه، مَن ثابر وكابر على تجربة الضار أولى أن يتخذ عبرة. فالعبرة من الضرر أقوى من العبرة من النفع، القبة الجوفاء لا ترجع الصدى. تعبر عن عدم التطابق بين الداخل والخارج وبالتالي الكذب والنفاق والازدواجية والمداهنة والتزلف. فلا فرق بين مستويات القانون، في الطبيعة وفي النفس وفي التاريخ.
والله لا يتدخل في التاريخ مباشرة ولكن علمه وإرادته وصفاته هي قوانين التاريخ. فالعدل ليس صفة لله فقط أو اسمًا من أسمائه الحسنى بل هو قانون للتاريخ. وكذلك صفات الحكمة والسلام والعزة كلها قوانين للتاريخ؛ فالتاريخ ليس مجردَ مادة صماء بل يسري فيه الروحُ والعقل. الروح والعقل في التاريخ. تهبط في بخارى وتُحرِّك الشعوب. والقوانين الطبيعية والشرائع السياسية والاعتقادات الدينية والصراعات السياسية وانتصار الأقوياء على الضعفاء كلُّ ذلك من قوانين التاريخ. الصفات والأسماء الإلهية التي هي جماع الفضائل قوانين للتاريخ ومقومات نهضته. وهو ما يسمَّى في الإلهيات العناية الإلهية.٢١
قوانين التاريخ هي سنن الله في الكون سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا. ولكنه لا يتحقق من نفسه بل من خلال إرادات البشر. لا يتحرك التاريخ إلا بتقابل قانونَين، القانون الموضوعي للتاريخ والقانون الذاتي لإرادات البشر، نخبة وجماهير، قلة وكثرة. ضرورة التاريخ وفطرة البشر. الموضوعية والذاتية شرطان لحركة التاريخ؛ فقد نشأت الأمة الإسلامية بفضله، جماعة مؤمنة، جيل قرآني فريد كما يقول سيد قطب. لذلك كانت فعاليات التاريخ بالإضافة إلى القانون الطبيعي الموضوعي العقل والدين والجهاد وما تتضمنه من قيم وفضائل أخلاقية وسياسية مثل الوحدة والعلم والإخلاص.٢٢

والصراع السياسي أتون التاريخ وميدان تحققاته. والسياسة هي ميدان المصالح المتصارعة. لذلك ارتبطت السياسة بالتاريخ. فالنظام السياسي الصالح شرط البقاء في التاريخ للأمة. وهو النظام الشوري والذي يقوم على إسناد الأمر إلى أهله، والاشتراكي الذي لا يترك المال دُولَةً بين الأغنياء. والثورة قانون اجتماعي عندما يَصِل المجتمع إلى حالة اليأس مثل الحالة التي وصل إليها المجتمع المصري والتي لم يَعُد من الممكن تحملها حتى انفجرت الثورة العرابية. كما أن أحوال الشرق كله أدَّت إلى استعماره من الغرب ثم ظهور روح التحرر في الشرق للنهضة والثورة ضد الإجحاف بالشرقيين. فالإحساس بالظلم يُولد الثورة. والاستعداد للنضال قانون طبیعي فطري يؤكده القرآن في ندائه وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وإن سيادة أمة على أخرى وإذلالها مخالفٌ للطباع والعوائد، والمقاومة لهذا التسلط والذل أمر طبيعي. السيادة الأولى تريد الإفناء والمقاومة، والثانية تريد البقاء. الوعد الإلهي هو قانون التاريخ. ولما كان الوحي لا يخلف؛ فالقانون الإلهي ضروري، نشأت الأمة من لا شيء ونالَت كلَّ شيء ثم فقدَت كلَّ شيء. وهو قانونٌ للتاريخ، لنهضة الأمم وسقوطها، والأمة الإسلامية مترامية الأطراف حوالي مائتين وثمانين مليونًا وهي الآن بليون نسمة من الأطلنطي إلى الصين، ثروات وأراضٍ ولكنها منهوبة ومسلوبة ومجزَّأة ولا قوة لها. وقيامة الأمة بالفضائل والتمسك بالحق. وانهيارها بالرذائل والابتعاد عنه. يغتصب الأجانب الديار، ويستذلون الأهل، ويسفكون دماء الأبرياء من الإخوان، ولا يتحرك أحد. عدوٌّ وفيرٌ ومذلة وهوان. فهي أمة أصحاب الملك المسلوب والمال المنهوب.

والأمة في التاريخ، والتاريخ هو الزمان، حركته نحو الماضي ونحو المستقبل. الحركة نحو الماضي تُنشئ الحركة السلفية وتقليد الأسلاف، والحركة نحو المستقبل تُنشئ الحركة التقدمية والرغبة في التجديد. فالمسلم الآن يعجب بماضيه، ويغفل عن حاضره ومستقبله، في حين أن الغربي يهتمُّ بحاضره وبمستقبله أكثر مما يعكف على ماضيه.٢٣ ويقارن الأفغاني بين السلف والخلف في الخطبة، ويجد أن خطبة السلف خيرٌ من خطبة الخلف مما يُقوي الموقف السلفي. ففي مقاله عن سنن الله في الأمم بالرغم من أن العنوان يُوحي بقوانين التاريخ إلا أن المضمون في حسن البلاغة والخطاب والإيجاز في البيان للخلفاء الراشدين، مثل خطبة أبي بكر في سقيفة بني ساعدة عن العقد بين الحاكم والمحكوم، وموعظته لأسامة بن زيد أمير الجيوش عن تحريم التدمير والقتل للزرع والنساء والأطفال والشيوخ في الحرب، ووصية عمر بن الخطاب لأبي موسى الأشعري في كيفية القضاء وضرورة الاعتماد على القياس، الأشباه بالأشباه والنظائر بالنظائر، ووصيته إلى أمير الجيوش سعد بن مالك بن وهب إلى العراق، ووصيته لعتبة بن مروان إلى البصرة وللمغيرة بن شعبة ثم لعزله، وقوله لعمرو بن العاص عن خلق الناس أحرارًا. ويقارن الأفغاني بين الماضي والحاضر، خطبة القدماء وخطبة جامع البصرة مكتوبة دون قواعد ودون مضمون.٢٤ ولما كانت اللغة عنوانًا للفكر وكاشفة لمضمونه فإن اختيار الأفغاني لبنية الخطاب القديم المركز الدال وبنية الخطاب الجديد المسهب الذي لا يُحيل إلى شيء له دلالته على أدبيات اللسان ونهضة الأقوام. وكيفية الكلام تكشف عن كيفية الفكر ومدى الالتزام بالواقع أو الخروج عنه. وقلة الكلام قد تَعْني التوجهَ نحو الفعل. وكثرة الكلام قد تعني العجز عن الفعل. والتركيز في الكلام قد يعني صدْقَ الفكر، والإسهاب فيه قد يعني النفاق والكذب والإلهام. لذلك نهض القدماء وسقط المحدثون.
وإذا كان حاضر الأمة ليس فقط موزعًا بين شدٍّ نحو الماضي وانجذابٍ نحو المستقبل، فإن تاريخ الأمة أيضًا موزَّعٌ بين حركتَي النهضة والسقوط. ويحاول الأفغاني معرفةَ الأسباب التي حوَّلها تلميذه شكيب أرسلان إلى سؤاله الشهير: لماذا تخلَّف المسلمون وتقدَّم غيرُهم؟ لقد نهضَت الأمة بفضل الإسلام ثم انهارَت بعد أن تركَته. وهي الآن تعود إلى النهضة من جديد بفضل حركة الإصلاح. فهناك ثلاث مراحل: النهضة في القرون السبعة الأولى، والسقوط في القرون السبعة الثانية، ثم الإصلاح بداية من القرون السبعة الثالثة طبقًا للتصور الحيوي للتاريخ ودورانه بين الحياة والموت. لذلك يُشبه الأمة بالبدن كما فعل الفارابي وإخوان الصفا من قبل في حالتَي الصحة والمرض والعودة إلى الصحة من جديد. فالإصلاح يمثِّل فترة ثالثة للأمة في التاريخ يريد اللحاق بفترة نهضتها الأولى وتجاوز فترة سقوطها الثانية. وهو سعيٌ نحو الكمال الإنساني. ويضع الأفغاني تقابلًا بين مرحلتَي النهضة والسقوط على النحو الآتي مبينًا أسبابهما: الوحدة في مقابل افتراق الكلمة، المستقبل في مقابل الغفلة من العاقبة، الجهاد بدلًا من الركون إلى الراحة، الإحساس بالرسالة بدلًا من الافتتان بنعيم الدنيا، التحرُّر بدلًا من الاستعمار والخضوع للأجنبي. وللانتقال إلى النهضة الأولى عن طريق الإصلاح، هناك عدة وسائل: إلهام النخبة، والسعي نحو الكمال من الجميع، والرجوع إلى أصول الدين. فلا يصلح هذه الأمة إلا ما صلح به أولها كما هو الحال في الحركة السلفية، والجمع بين الحضارة والملك كما كان المسلمون في سيرتهم الأولى دون الاكتفاء بالحضارة ويكون الملك للأجنبي يستنزف ثروات البلاد كما هو حادث في تجربتَي تركيا ومصر. فلا بد من سلطان قاهر يقود الناس إلى الثورة أو يأخذهم بالتدريج. هذا بالإضافة إلى الأدوات العلمية مثل الجرائد الوطنية والمدارس الحديثة دون تقليد للغرب بلا فهمٍ والتشدُّق بألفاظ غريبة، وتقديم علم بلا وطن، ونسيان الأصول الدينية، وبالتالي فإن ترك ما كان سببًا للصعود يؤدي إلى الهبوط والسقوط.٢٥ وهكذا تنتهي ملحمة التاريخ عند الأفغاني تشدُّها الخطابة أحيانًا نحو السلفية في الماضي ويرجعها العقل أحيانًا أخرى نحو الإصلاح في المستقبل.
١  التعصب الأعمال، ص٣٠٢–٣١٠، خاطرات، ص٣٥٤–٣٦٥ / ۳۸۹.
٢  عصبة الجنس وعصبة الدين، الأعمال، ص٣١٢–٣١٤ رأيه مختصرًا في الدولة الإسلامية ومحاكمته لما أتوه من الخطأ والصواب، وأسباب ما نراه في الأشياع والأتباع من التقهقر والانحطاط، خاطرات، ص۲۳۷–٢٤۰.
٣  الجنسية والديانة الإسلامية، الأعمال، ص٣٤٨–٣٥١، التعصب الجنسي والتعصب الديني، خاطرات، ص۳۸۲–٣٨٦، العروة، ج١، ص١١٣–١٢١.
٤  الوحدة الإسلامية، الأعمال، ص٣٤١–٣٤٦، بين الأجداد والأحفاد، الأعمال، ص٢٠٤–٢٠٦.
٥  خاطرات، ص٢٦٨–۲۷۱، ص٣۹۸ / ٣٩٣، وحدة الأديان وانقسامات تجارها، الأعمال، ص٣٩٦ / ٣١٨، سنن الله في الأمم، الأعمال، ٣٩٩.
٦  دعوة الفرس للاتحاد مع الأفغان، الأعمال، ص٣٢٠–٣٢٦.
٧  أمة واحدة لا سنة ولا شيعة، الأعمال، ص٣٢٤-٣٢٥، نفور الأفغاني من قول سني وشيعي، وأن لا موجبَ لهذه التفرقة التي أحدثَتها مطامعُ الملوك وجهل الأمة، خاطرات، ص١١ / ١٦٨–١٧٠.
٨  انظر دراستنا وترجمتنا للسنح: تربية الجنس البشري، دار الثقافة الجديدة، القاهرة، ١٩٧٧م.
٩  وحدة الأديان وانقسامات تجارها، الأعمال، ص۲۹۰–٢٩٦، السلطتان الزمنية والروحية، ص٣٢٤ / ٣٢٢ / ٢٩٣.
١٠  الوحدة والسيادة، الأعمال، ص٣٥٣–٣٥٧.
١١  الإنسانية والقومية والديموقراطية، الأعمال، ص٤٢٧–٤٢٩، خاطرات، ص٨١–٨٣.
١٢  الماسونية، الأعمال، ص٥٢١-٥٢٢.
١٣  أسباب تخلُّف المسلمين، الأعمال، ص٣٥٩–٣٦٣، خاطرات، ص٣٨٩-٢٩٠ / ٢٩٢–٢٩٨. النظرية العامة في الإسلام والمسلمين، وأسباب ما ألمَّ يهم من الانحطاط مع توفُّر ما في الدين من النهوض وأسباب الرقي على عكس من نهض من الأمم وليس في دينهم ما يحملهم على ما هم عليه من أخذ العدة وأسباب النهضة المشهودة فيهم وفلسفته في ذلك، خاطرات، ص١٣.
١٤  العروة، ج٢، ص١١٠–١٩٠ / ١١٣–١١٧ / ١٤٢–١٤٥، خاطرات، ص۱۷۲.
١٥  خاطرات ۳۸۸–۳۹۲.
١٦  الإصلاح الديني، الأعمال، ص٣٢٧-٣٢٨، الأنا، ص٤٠٧.
١٧  الحروب من أقبح ما عمله ويعمله الإنسان في الأرض، وهي وحدها أحقُّ الأعمال بالكتمان لفظاعتها، خاطرات ص٦٧، إنكار جمال الدين ما نراه من المدنية ومغالطته باستبداله لفظة الفناء في التنازع عوضًا عن البقاء، وأن العلم الصحيح إذا وصل إليه العالم فأعظم أثر له إنما يكون بمنع الحروب التي هي من أكبر الأدلة وأسطعها على توحش الإنسان وبراهينه وإفاضته في ذلك وقوله في دعوة الإسلام وكيفية انتشاره، خاطرات ص١١ / ١٣٨–١٤٤، الحرب والسلام، الأعمال، ص٤٣١–٤٣٥.
١٨  الحرب العادلة والحرب غير العادلة، الأعمال، ص٤٣٧–٤٤١.
١٩  خاطرات، ص۳۹۲، العروة، ج٢، ص١٦٠–١٦٧ / ١٤–١٧، العروة، ج١، ص١٩٠–٢٠١.
٢٠  العروة، ص٢، ص١٦٨–١٧٥، الأعمال، ص٥٠٦ / ١٨٨–١٩٦.
٢١  الأعمال ص٥٠٦.
٢٢  العروة، ج١، ص٦–٩ / ٦١–٦٤، الأعمال، ص٣٣٩.
٢٣  في أن المسلم سواء العربي والأعجمي إنما يُعجب بماضيه وهو في أشد الغفلة عن حاضره ومستقبله، وكيف أنه يجب أن يكون مع ما هو عليه من دواعي ومستلزمات التقهقر مثل سلفه الساهر اليقظ والصالح المصلح والحاكم العادل، خاطرات ص۱۲، سنن الله في الأمم، الأعمال ص٣٣٢–٣٣٩.
٢٤  استغرابه ميل الشرقيين في هذا العصر إلى حبِّ التطويل في المقال والمماطلة بالأفعال على عكس ما كان عليه السلف، والأمثلة على ذلك، خاطرات، ص٢۷۲–٢٨٤.
٢٥  رأيه في الدولة الإسلامية ومحاكمته لما أتوه من الخطأ والصواب، وأسباب ما نراه في الأشياع والأتباع، من التقهقر والانحطاط، خاطرات ص۱۲، الأعمال، ص٥٣٩.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤