الفصل الثامن

الخاتمة

الأفغاني بعد مائة عام

هناك أشياء باقية في الأفغاني بالرغم من مرور مائة عام، أهمها:

  • (١)
    الشجاعة على نقد القدماء، ورفض التقليد والدعوة إلى الاجتهاد. فالتراث القديم ليس مقدسًا بل هو من إبداع أجيال ماضية. هم رجال ونحن رجال، نتعلم منهم ولا نقتدي بهم. والعيب فينا إذا لم نجدِّد ونُبدع وليس فيهم إذا كان اجتهادهم قد تجاوزه الزمان. ويتميز إبداعُ الأفغاني بأنه حرٌّ طليق يتجاوز القياس الفقهي القديم، تعدية الحكم من الأصل إلى الفرع لتشابُهٍ بينهما في العلة على نحوٍ آليٍّ ثابت، إلى التحام مع الواقع وإدراك قوانينه ومرحلته التاريخية بناء على روح الإسلام وقوته في التاريخ. وهي الروح التي بدَت في أول رسالة التوحيد لمحمد عبده لإثبات أن علم الكلام تاريخي خالص خضع للظروف السياسية في عصره وليس علمًا مقدسًا، وقد كان عيب الأجيال اللاحقة عندما خلطت بينه وبين العقيدة. وما زالت مدرسة التجديد عند طه حسين، وأمين الخولي، وخلف الله محمد خلف الله، وسيد قطب، ونصر حامد أبو زيد، ومحمود إسماعيل، وسيد القمني، تعاني من تضييق الخناق على التجديد باسم التقليد.
  • (٢)
    تحويل القرآن إلى تجارب فردية واجتماعية وقوانين للتاريخ بحيث يُمحَى الفرق بين الوحي والواقع؛ فالقرآن خلاصة تجربة البشر كما يرويها في قصص الأنبياء وكما يصوغها في بعض القوانين، مثل إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ، وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ. وبالتالي ساهم الأفغاني في بلورة فلسفة في التاريخ ما زالت ناقصة في تراثنا الفلسفي القديم. وحاول التعرف على سنن الله في الكون ووضع الآية في التاريخ وتحقيب دورانها. وقد جعل الأفغاني هذه القوانين في العقل والتاريخ، في الذات والموضوع، في النفس وفي الآفاق وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ، وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ، سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ. واستعمل الأفغاني الآياتِ استعمالًا حرًّا بحيث تعبر أدبيًّا وفكريًّا عن أحوال العصر. إن عظمة الوحي في أنه يعبر عن خلاصة تجارب البشر، وإعجاز آياته أنها صياغاتٌ ثابتة لقوانين التاريخ. فالوحي واقع يتحرك، وتاريخ يسير، والواقع وحيٌ يتحقق، ويتراكم في التاريخ. إن الوحي علم الله والتاريخ إرادته، وبالتالي أمكن للأفغاني تجاوز تقابل القدماء بين أولوية الإرادة على العلم «الغزالي» وأولوية العلم على الإرادة «ابن رشد»، بين ما ينبغي أن يكون وما هو كائن. كما أمكن للأفغاني تجاوز التقابل الشائع بين التاريخ الإلهي والتاريخ البشري، بين مدينة الله ومدينة الأرض كما يقول أوغسطين إلى تاريخ واحد يكون فيه التاريخ التقاء الإرادة الإلهية والإرادة الإنسانية، تحقيق مدنية الله في الأرض نهضةً أو انحسارها عنها سقوطًا.
  • (٣)
    الدفاع عن أصالة الأمة ودورها في العلم والحضارة من أجل مساعدتها على نبذ التقليد، ودعوتها إلى التعرف على أسباب إبداع القدماء وحتى يقضيَ على الإحساس بالدونية تجاه الآخرين، وتأكيد عزة النفس والكرامة، والقضاء على ثنائية المبدع والناقل التي ميزت علاقتنا بالغرب الحديث. هو يبدع ونحن ننقل حتى تحول الغرب في وعينا إلى معلم أبدي وجعلنا أنفسنا تلميذًا أبديًّا، مع أنها دورات بين الشعوب والحضارات. كنَّا معلمين فأصبحنا تلاميذ، وكان الغرب تلميذًا فأصبح معلمًا، وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ. ومَن لا تاريخ له لا مستقبل له، ومَن لا ماضي له لا حاضر له. وهو أكبرُ ردٍّ عملي على تهمة تخلُّف المسلمين بسبب دينهم. فبهذا الدين أصبح القدماء روادًا للعلم تأكيدًا على وحدة الوحي والعقل والطبيعة، وقدرة الوحي على التوجه بالعقل نحو العلوم الرياضية والطبيعية.
  • (٤)

    إدراكه الخطر الأول على الأمة، الاستعمار في الخارج والقهر في الداخل، وتجميعه قوى الشرق كلِّها باعتبارها قلبَ العالم الإسلامي في مواجهة قوى الغرب، حتى يقابل التحرُّر بالاستعمار، والثورة بالهيمنة دفاعًا عن الأوطان والأقاليم مع بؤر متعددة للوحدة ابتداءً من مصر، جنوبًا مع السودان، وشرقًا مع إيران والهند، وشمالًا مع الشام وتركيا، وغربًا مع المغرب العربي أو ابتداء من وحدة آسيوية، وحدة الفرس مع الأفغان. لا فرق بين الإسلام والوطن، بين الدفاع عن الإسلام والدفاع عن الأوطان قبل أن تظهر القومية بينها لإيقاع تناقض مفتعل بين الإسلام والقومية أو بين القومية والوطنية. فالإسلام في العصر ثورة، وليس مجردَ شعائر أو طقوس أو عقائد أو شرائع. وقد كان المسلمون القدماء ثوارًا على أوضاعهم الطبقية والقبلية، الإسلام يهدف إلى تغيير الأمر الواقع وليس تثبيته. هو جزء من الحراك الاجتماعي وليس الثبات الاجتماعي. هو رفض لأوضاع الاحتلال والقهر والفقر والتجزئة والتبعية والتغريب، واللامبالاة. وإذا كان في الخلق الكوني ليس في الإمكان أبدع مما كان فإنه في الإبداع الإنساني هناك باستمرار في الإمكان أبدع مما كان. الإسلام كما قال سيد قطب فيما بعد حركة إبداعية في الفن والحياة. ولا إبداع بلا تغيير ورفض ومقاومة واعتراض وغضب. وكأن الأفغاني يضع كوجيتو جديدًا ليس «أنا أفكر فأنا إذن موجود»، بل «أنا أثور فأنا إذن موجود».

  • (٥)
    البداية بالواقع المباشر وإعادة بناء التراث القديم طبقًا لمتطلباته، وأخذ موقف من الغرب طبقًا لحاجاته. والواقع في حاجة إلى تنوير ويقظة وحركة. لم يكن الأفغاني نصِّيًّا، يبدأ من النص إلى الواقع بل كان واقعيًّا يبدأ من الواقع إلى النص. لم يقرأ الواقع والنص مرآة فوق عينيه سواء كان نصًّا من القدماء أو نصًّا من الغرب الحديث، بل رأى الواقع مباشرة وحوَّله إلى نصٍّ جديد. ومن ثَم يبدأ الأفغاني باعتباره أصوليًّا ليس من القرآن فالسنة فالإجماع فالقياس كما هو الحال في الترتيب التقليدي القديم لمصادر الشرع الأربعة، بل يبدأ من الاجتهاد فالإجماع فالسنة فالقرآن حتى يشجع المسلمين على الاجتهاد. والواقع هو أساس النص ومصدره كما هو معروف في أسباب النزول. الواقع يسأل والوحي يجيب. والواقع يتغير والشرع يتغير معه طبقًا للقدرة كما هو معروف في الناسخ والمنسوخ. والواقع في النهاية لفظٌ قرآني يصف صدق الوعيد إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ. وهو أحد أسماء يوم القيامة في الواقعة.
  • (٦)
    تفجير الثورة العرابية بفضل تلاميذه، أحمد عرابي وعبد الله النديم، واشتراك محمد عبده فيها أولًا ثم ارتداده عنها، والدعوة إلى إنشاء المدارس الوطنية والجمعيات الأهلية ومؤسسات المجتمع المدني بلغة العصر التي تقاوم التغريب والتعليم الرسمي الخالي من هموم العلم والوطن، ولا يقوم إلا على التقليد والتلقين من ناحية، أو الإعجاب بالغرب من ناحية أخرى. وقد تفجرت ثورة ١٩١٩م بفضل تلميذه سعد زغلول. فالثورة الوطنية جزءٌ من الثورة الإسلامية، وهي الثورة التي توحد فيها المسلمون والأقباط؛ فالدين واحد، يبعث على الخير والصلاح. وهي الثورة التي جمعَت بين وعي النخبة وحركة الجماهير في مواجهة الإنجليز والتي انتهت بالحصول على الاستقلال. كما ارتبطَت ثورة ١٩٥٢م به عن طريق بعض الضباط الأحرار من الإخوان المسلمين تلاميذ حسن البنا، تلميذ رشيد رضا، تلميذ محمد عبده، تلميذ الأفغاني. وقد أشاد الميثاق الوطني في ١٩٦٣م بجذور النضال الوطني لدى رواد الحركة الإصلاحية وفي مقدمتهم الأفغاني رائدها الأول. وما زال الإسلام السياسي يحمل لواءَ المقاومة ضد الاحتلال في جنوب لبنان وفلسطين، وضد القهر في الداخل. واستطاع الانتصار في أفغانستان والشيشان والبوسنة والهرسك وجنوب أفريقيا، وما زال يمثِّل تحديًا كبيرًا للغرب والولايات المتحدة بالإسلام الأبيض والإسلام الأسود.
  • (٧)
    الدعوة إلى الطموح والأمل وطلب المجد ونَيل الأعالي وعدم الاكتفاء بالسفوح، وعدم الرضى إلا بقمم الجبال ضد روح اليأس والإحباط والتشاؤم التي سيطرت على الناس. وهذا هو معنى أداء الرسالة التي أشفقت منها السموات والأرض والجبال وحملها الإنسان. لذلك ركز الأفغاني على ارتباط العمل بالنظر، وأن النظر بلا عمل طبل أجوف. وقد انتشرت روح اليأس والإحباط في هذا الجيل بعد أن بدأ التفريط في الاستقلال الوطني وفي القضية الاجتماعية وفي قضايا الوحدة والهوية، وبعد أن تقلص المشروع القومي إلى مصالح قُطْرية، وتغيَّرت الثوابت التاريخية في المنطقة، مناهضة الاستعمار والصهيونية إلى تحالف معهما. لقد تغيرت مُثُل هذا الجيل عدة مرات، من الليبرالية إلى الاشتراكية والقومية إلى الرأسمالية والقُطْرية، وكلُّ بديل جديد يهدم البديل القديم حتى تحطَّمت المثُلُ كلُّها ولم يَعُد هناك إيمانٌ بشيء ولا حتى بالقضية. فوجد الناس في الدين ملاذًا كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ.١
  • (٨)
    التمييز بين الدين ورجال الدين من أجل تخليص الدين من السلطة الزائفة التي تتحدث باسمه وتسيطر عليه وتحتكر تفسيره، وتتسلط على رقاب المؤمنين. فآفة الدين رجاله. لذلك ثارت البروتستانتية ضد الكنيسة. والأفغاني يوحِّد بينه وبين مارتن لوثر في الهدف والقصد والغاية. فهو لوثر الشرق. وبالتالي استطاع الأفغاني أن يعبر عن روح الإسلام والعلاقة المباشرة بين الإنسان والله، ويبرز تجربة الإسلام في التاريخ التي كانت ردَّ فعل على تأليه الأحبار والرهبان واتخاذهم أربابًا من دون الله، وتسلُّط رجال الدين في الكنيسة والمعبد على رقاب الناس، يحللون ويحرمون طبقًا لأهوائهم أو إرادات الحكام. ففقدوا مصداقيتهم أمام الناس.٢ يُصدرون الفتاوى المتناقضة طبقًا لرغبات الحكام. فإذا ما أراد مقاومة الصهيونية جاء الإسلام متفقًا مع اللاءات الثلاثة، لا صلح ولا اعتراف ولا مفاوضات. وإذا أراد الحاكم الصلح خرجَت فتوى مؤيدة لذلك اعتمادًا على صلح الحديبية وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا.٣

ومع ذلك، فالأفغاني بعد مائة عام في حاجة إلى تطوير على النحو الآتي:

  • (١)
    تقوية الجانب النظري فيه حتى يصبح أكثرَ مطابقة وسندًا للجانب العملي. ربما كان «الرد على الدهريين» صحيحًا في ظروف عصره إذ ارتبطت المادية بأحمد خان المرتبط بالإنجليز والذي روَّج هذا المذهب بدعوى تأسيس العلوم الطبيعية. كما عبر عن روح القرن التاسع عشر وثورة المتدينين ضد المذهب الذي رمز إليه دارون، وكان مقياس النقد إنكار الألوهية والخلق والمعاد والشرائع الثابتة، وبالتالي خطورة نتائجه مثل الإلحاد والإباحية والعدمية. ولا يعتبر فولتير وروسو من الدهريِّين العدميِّين مع الاشتراكيِّين. والطهطاوي يعتبرهما مع مونتسكيو من كبار العقليِّين، ويعتبر مونتسكيو ابن خلدون العرب، وابن خلدون مونتسكيو فرنسا، وأنه يُقيم فهمه للشرائع على قاعدة الحسن والقبح العقليَّين. والمذهب الطبيعي موجود في كل حضارة، عند أصحاب الطبائع من المعتزلة القدماء. ربما ما يحتاجه المسلمون اليوم هو الردُّ على المثاليِّين والرجعيِّين والأصوليِّين والمحافظين والسلفيِّين الذين جعلوا الإسلام مجردَ عقائد وشعائر، مظاهر ورسوم دون الالتفات إلى الجوهر والمضمون. ربما ما نحتاجه اليوم هو دفاعًا عن الدهريين حتى يلتفت الناس إلى الطبيعة ويتوجه العقل نحوها فيُبدع علومًا رياضية وطبيعية كما أبدع القدماء. وعلى هذا النحو يمكن أن يكون الأساس النظري مطابقًا للمشروع العملي. فبالطبيعة تكون القوة وعليها يتأسس العلم. كما أن الاكتفاء بإعادة تأويل عقيدة القضاء والقدر تدفع إلى الشجاعة والإقدام والمجازفة بالمخاطر وارتكاب الصعاب والأهوال لا يكفي في تجاوزها إلى خلق الأفعال وإثبات حرية الإرادة، والتحول من الأشعرية إلى الاعتزال. كما أن محاولة إعادة بناء العقيدة على ثلاث منها، أن الإنسان أشرف ما في الكون، أن الأمة أشرف الأمم، وأن الدنيا ممرٌّ إلى عالم آخر ربما لا تكفي أيضًا؛ لأنها تُسقط الألوهية كلية ولا تُحيلها إلى فاعلية في الأرض والخبز والحرية والأمة والتاريخ. كما أن اعتبار الأمة أشرفَ الأمم بلا شرط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد يوقع في العنصرية. أما اعتبار الدنيا ممرًّا إلى الآخرة فلا يحدد اتجاه الغائية ويتركها إلى ما بعد الموت دون إبراز أهميتها في الدنيا. لم يستطع الأفغاني إعادةَ بناء نسق العقائد كله لاستعماله كأساس نظري للثورة. أبقى على تصورات العقائد القديمة، واندفع نحو الخطابة السياسية. فلم تتغير العقائد ولم تُغنِ الخطابة السياسية عن تأسيس الإسلام كعقيدة ثورية قادرة على أن تكون أساسًا نظريًّا للمشروع الثوري.
  • (٢)
    بالرغم من تأكيد الأفغاني على العلم وأهميته إلا أن الدين له الأولوية القصوى. فهو سبب الصلاح والفلاح، وتركه سبب الانهيار والهلاك. وأوروبا تقدَّمت بالعلم والقوة وإن تركت الدين يأسًا من إصلاح رجاله. الدين هو كل شيء تقريبًا في فكر الأفغاني، مرشد للحياة، ومشرع للقوانين ومكتشف للعلوم، ومنظم للطبيعة، وكأن الدين غاية في ذاته وليس مجردَ وسيلة لغاية أخرى هي سعادة الفرد وكمال المجتمع. بل يبدو الأفغاني أحيانًا معليًا من شأن الدين على حساب العلم في ردِّه على رينان. وقد يَصِل فهمُ الدين إلى حدِّ التصوف بالرغم من نقده التصوف على أساس أنه مصدرُ التواكل والكسل. فقد بدأ الأفغاني صوفيًّا مثل محمد عبده. ويرى أن التصوف موجودٌ في كل دين، وقد يكون هو أساس وحدة الأديان وإن اختلفت الصور والألفاظ، موجود في التوراة متخفيًا، وفي الإنجيل بعد أن أوَّل المسيح الناموس تأويلًا روحيًّا. التصوف مذهب الحكماء والعقلاء ترويضًا لنفوسهم. يعكس كالمرآة نورَ الشمس. وهو ما اتهم بسببه بالقول بالحلول مع أنه انعكاسُ صورةٍ تجلَّت لشفافية المرآة، وهو ما يسمَّى بالشطحات عند ابن عربي والخوَّاص والجنيد والحلاج والجيلي وابن حشيش والسهروردي والبكري. ظاهرها تناقض فيما يتعلق بالحلول الموضوعي أو الذاتي ولكن المعنى واحد.٤
  • (٣)

    لا يكفي المدخل الأخلاقي لبناء الفرد والمجتمع ولإقامة النظم القانونية والسياسية. صحيح أن الأخلاق هي الأساس ولكن الاكتفاء بالفكر الأخلاقي كنظرية اجتماعية وسياسية في حاجة إلى تطوير، والتحول من الفكر الأخلاقي إلى البنية الاجتماعية والأيديولوجية السياسية. لا يكفي أن يقال إن محرك التاريخ ثلاث فضائل: الحياء، والصدق، والأمانة. فلماذا هذه دون غيرها؟ وأين العوامل المادية في تحريك التاريخ؟ ولا يمكن تفسير الظواهر بعامل واحد أخلاقي أو فردي دون باقي العوامل. ليست قائمةُ الفضائل مفتاحًا سحريًّا يحلُّ كلَّ مشاكل المجتمع وهي الرذائل؛ فالمشاكل الاجتماعية أكثر تعقيدًا وتحتاج إلى حلول أكثر تداخلًا وتباينًا. لا يكفي تصور الاستعمار على أنه انحلال يمكن مقاومته بالأخلاق، وأن المادية رذيلة يمكن مقاومتها بالفضيلة، وأنها تجعل الإنسان حيوانًا، وأن الاشتراكية اشتراك في الأموال والأبضاع وإباحية. فهي تصورات شائعة شعبية كانت رائجة في الصحف الدينية المحافظة. ولا تكفي كتحليل علمي وتاريخي دقيق للاستعمار كحركة تاريخية وللمذاهب السياسية كأيديولوجيات علمية.

  • (٤)

    عبَّر الأفغاني عن التيارات الفكرية التي كانت موجودةً في القرن التاسع عشر في الغرب خاصة المادية والداروينية والاستشراق، فكان ضحيته، ولم يستطع تجاوزَه. فالمادية والداروينية إلحادٌ وانحلال. والاستشراق نموذجه رينان الذي يُنكر على العرب وعلى الساميِّين كلِّهم أصالتَهم العلمية طبقًا للنظرية العنصرية. فالمفكر ابنُ عصره، ولكنه أطلق الأحكام على المذاهب والتيارات دون أن يقيدَها بظروف عصرها. وربما كانت الدعوة إلى العلم «الوضعية» والقوة «نيتشه» والتطور «دارون» أخصَّ ما يميز روحَ القرن التاسع عشر. وتكون مهمة الأجيال التالية في الإصلاح نقل الأفغاني من الجو الفكري في القرن الماضي إلى الجو الفكري في هذا القرن بكل ما فيه من تحولات، من الاستعمار البريطاني القديم إلى الاستعمار الأمريكي الجديد، ونشأة الصهيونية وإقامة دولتها في فلسطين، وانهيار النظم الشرقية، وبزوغ أفريقيا وحركة تضامن شعوب آسيا وأفريقيا.

  • (٥)
    بالرغم من نقد الأفغاني الغرب الاستعماري المهيمن والمسيطر على الشرق إلا أن الغرب لديه كما هو الحال لدى رواد عصر النهضة بتياراته الثلاثة: الإصلاح الديني عند الأفغاني، والليبرالية عند الطهطاوي، والعلمية العلمانية عند شبلي شميل، هو نمط التحديث ونموذج التقدم والقدوة في الرقيِّ والعمران، وكأن لسان حاله يقول: فداوني بالتي كانت هي الداء، وقد أدى ذلك الانبهار بالغرب بعد مائة عام إلى مزيد من التغريب حتى نشأ ردُّ الفعل السلفي عليه وشقَّ الصف الوطني بين العلمانية والسلفية إلى حدِّ الاقتتال في الجزائر وتهديد وحدة الدولة في تركيا والتخوين والتكفير المتبادلين في مصر وتونس والعراق وسوريا وشبه الجزيرة العربية. فهل يمكن لجيل جديد أن يحوِّل الموقف من الغرب من نطاق المواقف الانفعالية، الانبهار بالغرب أو رفض الغرب إلى أن يصبح الغرب موضوعًا للعلم بدلًا من أن يكون فقط مصدرًا للعلم؟ ألا يمكن أن يتعود العرب المحدثون دراسةَ الغرب، نشأةً وتطورًا، تكوينًا وبنية كما درس القدماء اليونان والصين، وأن يؤسسوا علمَ الاستغراب في مقابل الاستشراق، وأن يُصبح الوعيُ العربي ذاتًا، والغرب موضوعًا، بدلًا من أن يكون الغرب ذاتًا والعرب هم الموضوع؟ ألَا يمكن التعامل مع الغرب من موقف الندية المعرفية كمقدمة للندية السياسية والاقتصادية والعسكرية؟٥
  • (٦)
    ما زالت أداة التغيير الأثيرة عند الأفغاني هي السلطة السياسية طبقًا للقول المأثور عن عثمان إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن. لذلك يتوجه الأفغاني إلى الحكام، السلطان عبد الحميد، خديوي مصر، شاه إيران، ملك أفغانستان. فقد عمل من خلال السلطان عبد الحميد ومبايعته ثم خلع البيعة، وأمير أفغانستان عبد الرحمن خان، وشاه إيران للتوحيد بين إيران وأفغانستان، وعباس حلمي خدیوي مصر. كما يعمل من خلال النخبة المثقفة والصفوة العالمة من الأزهر والقواد والأمراء أهل العلم والقوة بالرغم من دعوته إلى الجماهير وتثويره للشعوب وندائه على المسلمين الذباب الذي يصمُّ طنينُه آذانَ بريطانيا، أو الجراد الذي يغرق الجزيرة البريطانية بثقله وكثرة عدده. كما لم يحلَّ قضية ازدواجية السلطة السياسية والسلطة الدينية، وهل وظيفة الثانية إرشاد الأولى دون توقُّع الصدام بينهما ورغبة كلٍّ منهما في السيطرة على الأخرى، مما أدى إلى الفصل بينهما في العلمانية الغربية الحديثة، دون التوحيد بينهما كما تبغي الحركة السلفية المعاصرة. صحيح أنه من كبار الداعين للديموقراطية والشوري والدستور إيجابًا مما أدى إلى تعثُّرها. ولم يستطع القضاء سلبًا على الجذور التاريخية والثقافية التي تمنع من الحرية والديموقراطية في وجداننا المعاصر.٦
  • (٧)
    ما زال يغلب على فكر الأفغاني تقنين ما ينبغي أن يكون أكثر من تحليل ما هو كائن، وأسلوب الماينبغيات والواجبات مما يجعل من الصعب التمييز بين العلم والأخلاق، بين الواقع والمثال، بين الممكن والواجب، بين الوصف والمعيار، بين الفرع والأصل. وهي طبيعة الفكر التقليدي الذي يتصور الوحي على أنه نمطٌ مثالي مستقل عن الواقع والتاريخ وليس حركة فاعلة فيه. من السهل صياغة خطاب أخلاقي يعبر عن أشواق الناس وتمنياتهم. ومن الصعب تحليل الواقع الموضوعي ومعرفة مكوناته وفعالياته ومساره. لذلك ندر أن يكون من بين المصلحين علماء اجتماع وليس علماء دين. فعالم الاجتماع هو الذي يبدأ من الواقع الاجتماعي، ويضع له تخطيطًا من أجل التغيير الاجتماعي. الإصلاح الديني بمعنى ما ينبغي أن يكون مفيدًا في مرحلة اليقظة ولكن يصبح مجرد خطابة في مرحلة التغير الاجتماعي. ويجوز في مرحلة الثورة ولكن يعجز عن أن يتحول إلى مرحلة الدولة التي تتطلب التحول من الإصلاح الديني إلى العلم السياسي. إن الوحي ليس فقط مثالًا بل واقع. ولا يصف فقط ما ينبغي أن يكون بل أيضًا ما هو كائن.٧
  • (٨)
    يغلب أسلوب الخطابة والحماسة والنداءات والأوامر. كما حضرت التشبيهات والصور البلاغية والأساطير والرموز، وتشبيهات الصحة والمرض والداء والدواء والجسم الحي. كما امتلأ بالشعر للاستشهاد به. فالشعر في الوجدان العربي ما زال يقوم بدور القرآن والحديث والأمثال. كما غلبت العبارات القصيرة والمواعظ المركزة التي يسهل حفظها ونقلها شفاهًا، وهي من جوامع الكلم. ولا فرق في ذلك بين القرآن النص والقرآن الحر. فالإنسان خُلق جهولًا، خُلق هلوعًا، إذا مسَّه الشرُّ جزوعًا وإذا مسَّه الخيرُ منوعًا.٨ وهي كلُّها أساليبُ بلاغيةٌ في الخطاب الإصلاحي يتفق مع المضمون الفكري والهدف الشعبي. وربما يحتاج الأمر بعد مائة عام إلى التحول من القول الخطابي والقول الجدلي إلى القول البرهاني بمصطلحات ابن رشد من أجل مزيد من الإحكام للخطاب الإصلاحي حتى يتحول إلى خطاب علمي كما هو الحال في العلوم الإنسانية. فالإصلاح والتحديث والتغير الاجتماعي أصبحت الآن من الموضوعات الرئيسية في علم الاجتماع بكافة فروعه خاصة علم الاجتماع السياسي، علم اجتماع الثقافة، علم اجتماع المعرفة.

إن الشعوب الآن تَعِي مصالحها، وانتهَت مرحلةُ اليقظة. ولكنها تبحث الآن عن وسائل التحقيق وطرق العمل، ومناهج للتفكير، ولأنواع جديدة من الخطاب السياسي والثقافي. فهل يستطيع الأفغاني بعد مائة عام أن يُبعث من جديد في أحفاده، وتُعاد صياغته بحيث تعود إلى حركة الإصلاح حيويتها الأولى من أجل تجاوز الاستقطاب الحالي بين الخطابَين السلفي والعلماني، وحشد الجماهير بثقافة جديدة، وتقوية الدولة برؤية جديدة لدورها في الداخل والخارج، وإكمال المشروع الإصلاحي التحرري الوطني المتحد مع المشروع التحرري القومي من أجل النهوض بالإصلاح بعد كبوته وإقالة حركة التحرر الوطني بعد عثرتها، وإدخال هذا الجيلِ كلِّه من جديد داخل حركة التاريخ؟

١  انظر «رسالة إلى الأجيال القادمة» في هموم الفكر والوطن، ج٢، دار قباء، القاهرة، ١٩٩٨م، ص٥٧٥–٥٦٢.
٢  وقد امتلأت الأمثال العامية سخرية بهم، مثل هاتوا من المزابل حطوا على المنابر، ما كل مَن لف العمامة يزينها، ضلالي وعامل إمام والله حرام.
٣  وقد سخرَت الأمثال العامية من ذلك أيضًا، مثل قالوا للقاضي يا سيدنا الحيطة شخ عليها كلب، قال: تنهدم سبع وتنبني سبع. قالوا دي اللي بينا وبينك، قال: أقل الماء يطهرها.
٤  التصوف، الأعمال، ص٢٩٨–٣٠٠، ردُّه على مَن أخذ عليه قوله إن أصول الأديان واحدة، وإنها من المتناقضات وبحث صوفي، خاطرات، ص٢٠٥–٢٠٨.
٥  هذا ما حاولناه في «مقدمة في علم الاستغراب»، الدار الفنية، القاهرة، ١٩٩١م. المؤسسة الجامعية للدراسات، بيروت ١٩٩٤م.
٦  انظر دراستنا «الجذور التاريخية لأزمة الحرية والديموقراطية في وجداننا المعاصر»، في «الدين والثورة في مصر»، ج٢، الدين والتحرر الثقافي، ص٩٩–١١٨.
٧  انظر دراستنا «الوحي والواقع» دراسة في «أسباب النزول»، في «هموم الفكر والوطن»، ج١، التراث والعصر والحداثة، قباء، القاهرة، ۱۹۹۸م، ص١۷–٥٦.
٨  الردُّ على الدهريين، الأعمال، ص١٤٠.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤