ليالي القرية ومواسمها

أشرنا إلى تعب القروي وكدِّه في نهاره، ولا بدَّ لنا من الإشارة إلى لياليه التي يحييها ليُرفِّه عن نفسه. وهي تكون دائمًا صارخة حافلة بالأغاني؛ لأن كل ما في هذا الجبل يغنِّي، العامل يشتغل ويغنِّي، والحارث يغنِّي خلف فدَّانه، والمكاري يغنِّي وراء بغله وحماره، والراعي يغنِّي ويترنَّم وينفخ في مزماره وشبابته، فيُفرِح قطيعه وسامعيه. ولا عُرس ولا عيد ولا مولد بدون غناء وشعر، حتى يصح أنْ نسمِّي لبنان: جبل الزجل، فقلَّما عجز عن قول الشعر العامي أحد. وهذا الشعر يتناول جميع أغراض الشعر من غزل، ومدح، ورثاء، وحكمة، وحماسة، ومسرحيات، وملاحم، وفكاهة، وهجاء، ولعلهم يمتازون بالارتجال كما سيأتيك الخبر.

•••

ليس للقرية مسارح ومقاهٍ، فمسرح القرية ومقهاها بيت وجيه الضيعة، ولذلك قال مَثَلُها: «الذي يعمل جمَّالًا يعلِّي باب بيته»، ففي ليالي الشتاء السوداء، يلتفُّون حلقات حوْل نيران مَوقِده، ويشربون القهوة ويأكلون النقل البلدي، من تين مجفَّف، وجوز، ولوز، وزبيب، وغير ذلك من الفواكه المحفوظة، ويغنِّيهم صاحب الصوت الرخيم منهم العتابا والميجانا والمواليا وغيرها، وقد تُشارِك المرأةُ في هذه الأغاني رجالَ الضيعة وشبابها، كما تشاركهم في تلك الأهازيج المحليَّة اللون.

ويطيب للقرويين أنْ يسمعوا أغاني الفروسية وأقاصيصها، فيصرفون قسمًا من السهرة في سماع إنشاد قصة «الزير أبو ليلى المهلهل»، فتعجبهم أخباره وحوادث فروسيته، ويطربون لأفعاله العجيبة، وعندما يترنَّم المنشِد هاتفًا بقوله:

وأول قولنا: نستغفر الله
إله العرش لا رب سواه

تطرب النفوس وتخشع لذكر الله حتى في مجال الهزل.

وتمشي القصة حتى تبلغ قتل الزير للسبع:

فرد السبع نحوي يا ابن خيِّي
فتح تمه ومد لي يداه
فضربته بسكيني قتلته
وقع مطروح من فوق الوطاه

فتتعالى الأصوات، وقد أعجبتها هذه البطولة الرائعة، ثم يمرون بالحكمة المنثورة في ديوان الزير، فيعجبهم قول المهلهل:

جبال الكحل تفنيها المراود
وكثر المال تفنيه العداه
وأما الكذب هو راس المعاصي
والكذاب لا تقعد حداه

وفي بيت وجيه آخر ينشد المغنِّي شيئًا من قصة عنترة، وفي ليلة أخرى يَسمعون فصلًا أو فصولًا من تغريبة بني هلال، فيتمثَّلون الزناتي خليفة، ودياب ابن غانم، وأبو زيد الهلالي، وهكذا دواليك.

وتتعالى الأصوات بالهتاف حين يقول أبو سعدى:

يا سعدى أنا أكره دياب وذكره
كما تكره الخالة ولاد رجالها

وإذا كان هناك من تزوَّج أبوه غير أمه، كان الرمز والإيماء. وقد تنتهي السَّهرة إلى شجار، ولكن خارج بيت الوجيه أو الزعيم؛ لأن لبيته حرمة لا تنتهك.

وفي ليالٍ أخر، قد يتسلَّون بحكايات أحبها إلى نفوسهم ما كانت حافلة بالغريب العجيب، كحكايات ألف ليلة وليلة. والحكواتي يمثِّل لهم الحكاية وحده، فهو يتقمَّص كل شخص ويحاكيه. وقد ينتقلون إلى الحزازير؛ وهي ألغاز وأحاجٍ يُعمِلون أفكارهم في حلِّها.

وقد يقومون بألعاب مضحكة مثل «زي عروستي»، و«اجعل مخزنك عبَّك»، وغيرها من المضحِكات الساذجة المسلية حقًّا.

هذا في السهرات العادية، أمَّا سهرات المناسبات الكبرى كالولادة والأعراس، فتُعد من ليالي العمر. فإذا وُلد لرجل مولود، حملوا إليه الهدايا من سكَّر، ورز، وبُنٍّ وصابون، ودجاج. وأبو المولود يقوم بواجبهم، فيقدِّم لهم الخمور الجيدة، والعرق اللبناني المشهور، ثم يُعِدُّ المآدب فيأكلون، ويشربون، ويسْمرون، ويغنُّون داعين للمحروس بطول العمر.

أمَّا في الأعراس فتظل الاجتماعات تعقد في بيت العريس أسبوعًا بل أكثر، إذا كان الذي تزوج من أصحاب اليسار.

في تلك الساعة يشرب الناس ويغنُّون العتابا، والميجانا، والمعنَّى، والقرَّادي، والأغاني المختلفة. ويرقصون رجالًا ونساء رقصة الدبكة على نَقْر الدفوف، وعزف المزمار، وقد ينتهي بهم السُّكْر إلى المشاجرة، بل إلى سفْك الدماء والقتل.

وللأعياد عندهم أهمية كبرى، فهي سوق مَفاخر، وخصوصًا عيد قديس الضيعة، حيث تستحيل القرية إلى مطعمٍ عامٍّ، فكل واحد من القرويين يستعد لذلك اليوم، ويَدخر له خير محصولاته ليقدمها إلى ضيوفه. فاللبناني القروي كريم مضياف، والقرية لا مطاعم ولا مقاهي فيها؛ ولذلك ترى القروي مستعدًّا دائمًا لاستقبال الضَّيف الطارق، وخصوصًا يوم عيد القرية. ويرى كلُّ واحد أنه من الغبن أن يقصِّر عن جاره، فتراهم يتنافسون في هذا، ثم يتفاخرون بعد ذلك بكثرة ضيوفهم، فمن كان أكثر ضيوفًا يَكْبُر في عين القرية. وعيد قدِّيس الضيعة سوق عكاظ، بل يفوق سوق عكاظ بالشعر المرتجَل الذي يتبارى فيه الشعراء المقبلون من كل ناحية لإحياء هذه الليلة، فيبنون شعرهم على وزن واحد وقافية واحدة، ويكون خطاب وجواب، يبدءون عادة بمجادلة بعضهم، وينتهون أخيرًا إلى التهاجي الذي يسمِّيه شعراء القرية قول جفا، وفي مثل هذا الموقف كثيرًا ما تَجري أقوالهم على أفواه الناس مجرى الأمثال، كقول أحدهم لمناظره:

لا البطيخ بيكسر سيخ
ولا الملفوف بيلوي سيوف

وقد تطول الجلسة ويضيق الحرف، أي القافية، فيلجئون إلى قافية جديدة.

والقرية، كما تغنِّي وترقص في مواسم الأفراح، كذلك تفعل في المآتم والمناحات. وقد يستحيل المأتم إلى عُرْسٍ صارخ حافل بالغناء المحزن إذا كان الميت شابًّا أو زعيمًا كبيرًا أو أميرًا، فتأتي كل قرية حاملة بيرقًا ولكل قرية بيرقٌ خاصٌّ، وتسرج الخيول، ويتبارى شعراء القرية في تعداد مآثر الميت وتمجيد أعماله، ولو كان غير مستحقٍّ، وتُطلَق العيارات النارية، فتخالك في فتنة صارخة أو في ساحة حربٍ. وكثيرًا ما يُثقل الدَّينُ البيتَ إذا ما مات منه أحد؛ لأنَّ المبالغة في أبَّهة المناحة كثيرة التكاليف.

إنَّ الغناء هو الهيكل العظمي في جسم القرية، وقلَّما يخلو مجتمع منه، ففي كل مناسبة يرفع القروي عقيرته مترنِّما. طبعًا إنَّ أغاني الفرح هي غير أغاني الترح، وكي نعرِّف القارئ بها سننقل نموذجًا من هذا الشعر الشجيِّ الباكي.

إنَّ أغاني المآتم نوعان: نوع تقوم به الرجال — وهو ضرب من الحداء بلحن كئيب — ونوع تقوم به النوائح؛ أي النساء النادبات، وله إيقاع غير ندب الرجال.

فمن ندب الرجال قولهم في وجيه، عالم بالشريعة؛ أي محامٍ:

انهزت أقطار العوالي
وانكسف قطب الشمالي

•••

يا جبل عالي وراسي
يا مطفطف عالكراسي
كيف حالو بعد منك
رسم قانون الأساسي

•••

خزَّقوا روب المحامي
وسكَّروا باب الشريعه

أما نُواح النساء فمن نوع آخر ولحن آخر، وهذا نموذج منه:

بو شاهين يا بعدي
ويا بو شارب الجعدي
وعدت شاهين بالرجعه
ورحت وطابت القعدي

والقرية لا تخلو من المهازل أيضًا، فهم يلجئون إليها في أيامٍ خاصة، نذكر منها مثلًا: «إثنين الراهب» وهو أول يوم من الصيام، فتخرج القرية بعد الظهر لاستقبال الراهب. كانوا فيما مضى يخرجون إكبارًا له وإجلالًا، وصاروا اليوم يمثِّلونه مهزلة، فيركِّبون شخصًا مرتديًا ثوب الرُّهبان، وله لحية عارمة على الدابة بالمقلوب؛ أي وجهه لجهة ذنَبِها، فيقودها أحدهم والجماهير تتْبعه، فيطوفون به في الأزِقَّة والدروب هازئين ساخرين.

وهناك أيضًا يوم البربارة، فهو أشبه سخرية بيوم إثنين الراهب، ولا بدَّ في الحفلتين، بل في كل حفلة قروية من الغناء. وهكذا يغنُّون في يوم البربارة طائفين على أبواب الأجاويد، فمن أعطتهم وجادت، غنمت المدح، ومن بخلت كان حظها الشتم.

هيلجي برباره
والقمح بالكوَّاره
هيلجي هيلجينا
أيش ما كان عندك اعطينا

•••

شيحه فوق شيحه
صاحبة البيت مليحه

•••

خليه فوق خليه
صاحبة البيت نوريه

وقد لا تنتهي هذه المواسم على خير.

أمَّا المرفع فهو موسم سُكْرٍ وأكْلِ لحم، وزواج. يَعلف القروي كبشًا، أو قرقورًا، أو جديًا، أو تيسًا، يسمُّونه مرفعيَّة، ويأكلونه خلال أسبوع تنتهي مدته ببدء الصوم. وإذا فَضَلَ عنهم شيء قدَّدوه وحفظوه ليوم عيد الفصح وما بعده. إنَّ هذه العادة قد أذنت بالزوال، وأراحت القرية من حوادثها الدامية.

أما الأعراس فتكثر في هذه الفترة، لأنَّ الكنائس الشرقية لا تُرخِّص بالزواج زمن الصوم.

وأخيرًا، إنَّ عادات القرية وتقاليدها وثقافتها التي تُعرِب عنها أمثالها وأغانيها، تضيق عنها المجلدات، وما دامت القرية الواحدة تعرف ما لا يقل عن خمسة آلاف مَثَل، والألوف المؤلفة من الأغاني، فكيف يمكن أنْ توصَفَ في كتاب واحد؟

فسبحان من عَدَّد مظاهر الثقافة، وشكرًا له!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤