مِن قَلبي

لأسْعَد سَابا

إنَّ زجل أسعد سابا ابن عم الشعر لحًّا، وقد يكون ما يقوله هو الشعر العالي لا ما ينظمه الوزَّانون. فزجل أسعد سابا طافح بالألوان، يتأجَّج عاطفة، وهو في صوره أقرب إلى الشعراء الكبار منه إلى الزجَّالين. وفي استطاعتنا أنْ نقول: إنَّ زجل أسعد سابا مدرسة شعرية جديدة، وهو توءمٌ زجليٌّ يناوح توءمًا آخر، هو شعر الشباب الحديث الذي يسمُّونه رمزيًّا.

إذا قرأت هذا الديوان رأيت أنَّ شعر أسعد ليس من قلبه فقط، بل هو من قلبه وكبده المقروحة، صور ساذجة طريفة، وألوان زاهية، وألفاظ كالشحنات الكهربائية تولِّد نورًا ونارًا، فمدرسة طراد وسابا تسير مع مدرسة الشعر الحديث جنبًا لجنب، فكأنها تقول لها: شدِّي حيلك لنرى من يسبق إلى ما يسمُّونه اليوم رمزًا.

ولا أحسبني أُسيء إلى شاعرنا سعيد عقل إذا قلت: إنَّ في ديوانه «رندلى» لَفتات كريمة إلى ديوان طراد، وإذا اتَّقينا غضبه قلنا: إنَّ في ديوانيهما ملامح كثيرة من رندلى سعيد، وهذا ما يثبته من يعنيهم التحقيق فيما بعد.

إنَّ زجل هذين الشاعرين يُنحت نحتًا ويُسبك سبكًا، وكان العهد بالزجل أنْ يُرتجل ارتجالًا، ولهذا أقول: إنَّ «القول» بدأ مع رشيد نخلة أنْ يكون فنًّا كالشعر الفصيح، ومن مدرسة أبي أمين اشتُقَّت هذه المدرسة الزاهرة فحفلت بألوان لم يكن للزجل عهد بها.

إنَّ ديوان أسعد سابا مقسَّم بين لبنان وحلوات لبنان. فأسعد كرج تحت سنديانة غوسطا، وتفتَّحت عيناه على تلك الظلال والأَلوان، فانطبعت صورها فيهما، وهناك بين شماريخ تلك الجبال العاصية التي تقول للبحر: إنْ كنت بطَّاشًا — كما قالوا عنك — تفضَّل شرِّف.

وأبو العين الزرقاء يحتدُّ ويشتد، وهكذا ترتسم الصور الشعرية في مخ أسعد سابا، فيقول في قصيدته الأولى «بلادي وأهلي وأنا».

هالصخرة اللي متنحري حدِّ الفضا
ولفتاتها ع مد عينك والنظر
للعواصف والبحور معرضا
بتقول أنا للورد بالو اللي خطر

وإذا قرأت قصيدته التي عنوانها «بيتي» اتضح لك تمسُّك اللبناني ببيته وضيعته وحنينه إليهما:

بيتي السكران القمر حدُّو
مشتاق ارجع ليه
ونفض غبار العتم عن عينيه
ولو نهَدَّ عمر الدهر ما بهدُّو
بيتي الدني وحدو
ربي يرد العز تا ردو

وفي قصيدة ثالثة من لبنانياته يصف سماء الضيعة فيقول:

عنا سما نجمات مزروعا
وكل هالي معلقا بهالي
بقلَّا: تخبي، بتطلع قبالي
بتنزت عا أرزاتنا العالي
وبتغل بضلوعا

ومن قصيدة «أول حرف» يقول:

من هون، من لبنان حاكينا السما
قبل كل الأنبيا وكل العصور
ندهنا الشمس ردت علينا بالوما
فرشنا الدني من وهجها تريَّات نور

ويتخطى الشاعر إلى وصف يسوع ومريم العدرا، وإنْ لم تعجبني كتابتها بالدال بدل الضاد كما نلفظها في كسروان منطقة الشاعر.

ويخص الشاعر بعض كتَّابنا وشعرائنا بقصائد، ولكنها لا تنزل أبدًا إلى دركة المدح المبتذل … ويجيء دور «الحب» فيذوب أسعد سابا، ويصبح شعره إكسيرًا يعلُّ القلوب، ويذكرنا بعهود نسيناها.

شعر أنعم من غزل البنات، فيه من الالتفاتات المدهشة ما يثبت النظرية القائلة: إنَّ الشعر لا يحتاج إلى منطق وفلسفة، كما قال البحتري في ذلك الزمان.

ومن يقرأ قصيدة «طقمي» في هذا الديوان يدرك أنَّ في هذا الشعر العامي خاصة قوية بارزة، هي خاصة التجسيد، فإعجابي بهذه القصيدة لا يقل عن إعجابي بقصيدة ابن الرومي في وصف طيلسان ابن حرب ذلك الوصف البارع.

وأما وصف هؤلاء الشعراء، فعذب طريف، كما تقرأ:

حد البحر شفتك عارملو مشلقحا
بتحلمي أحلام بيضا مفرفحا
والليل عمبيشلحك فسطان نور
ويقول: وين الكون؟ والكون انمحا

وعندما يسأل الشاعر شبَّاك المحبوبة الأخضر، نتذكَّر قصيدة عمرو عندما جاء يسأل المنزل هل فيه خبر:

لوين يا شباكها الأخضر
راحت لوين بتقدر تقلي؟
هالتاركي فسطانها الأحمر
منشور وحدو بالهوا مدردر
مدهده وباصر شي بمنامو
لمين عمبيلولحو كمامو
لمين يا شباكها الأخضر؟
قولك: بترجع بعد؟
بتطل ع مهلا؟
وعيني بعينا تغيب، تندهلا
وتفيقا ع العهد
وتاخذ منا شي وعد
شو قولتك بعدا بتتذكر
شي بعد، ياشباكها الأخضر؟

وبعد، فأرى أنَّ الشاعر العامي يوسِّع على نفسه ولا يضيِّق، فهو يقول: شبَّاكها وفسطانها بدلًا من شبَّاكا وفسطانا، هو بالسليقة يقول هذا ولا يحسُّ؛ لأَن فريقًا من العوام يقولون ذلك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤