اللغة والقوالب الموروثة
كنت ذات يوم أكتب رسالة إلى صديق فجرى القلم بهذه العبارة المألوفة «ومما زاد الطين بلة …» وهممت بأن أمضي في الكتابة ثم رددت نفسي وألقيت القلم ونهضت إلى الشرفة ورحت أدخن وأنظر إلى الناس. ولكن النظر إلى الناس لم يكن همي ولا كان كل شغلاني؟ فقد كنت أحادث نفسي وأحاورها وأقول لها إن عبارة «زاد الطين بلة» ليست هي الوحيدة التي ورثناها في جملة ما ورثنا من لغتنا وقد صارت على الأيام «كليشيهاً» أو قالباً مصبوباً نستعمله في الحديث والكتابة من غير أن نفكر في الصورة التي يرسمها هذا «الكليشية» الموروث الذي يغرينا به أن الجري على العادة أسهل وأقل عناء.
وقد نبتت هذه العبارات الموروثة في زمان كان زمانها — أعني أنها كانت في الزمن الذي أخرجها وثيقة الصلة بمظاهر الحياة، وكانت تحدث في ذهن مستعملها صورة تحصل بلا عناء وترتسم بغير جهد. ولكنها الآن قد امتد بها العمر إلى زمان آخر مختلف جداً ولم تبق لها تلك الصلة القديمة بحياة العصر ولسنا نحس حين نستعملها أنها ترسم لنا صورة ما.
وسألت نفسي: «وهل ثم ضرر من استعمال هذه القوالب الموروثة؟» وهززت كتفي ومططت بوزي — فعل المتردد الذي يحاول أن يهتدي أو أن يتقي التورط في رأي يجزم به. وبدا لي — وأنا أفكر في هذا السؤال — أن الضرر لا يجيء من استعمال هذه القوالب، بل من الاقتصار على استعمالها، أي دون العناية بجعل لغتنا صورة لحياتنا. ولاسيما إذا كانت قد ركدت زمناً ما — تصبح عبارة عن مجموعة من القوالب، ولكن اللغة الحية لا تزال تتسع بما يدخل فيها ويضاف إليها من العصور التي تتعاقب عليها. وحياة اللغة مستفادة من حياة أهلها ولا ذنب إذا جمدت وإنما يكون الذنب لهم؛ فإذا رأيت أناساً من أبناء عصر حديث له مظاهر حياة جديدة يكتبون بلغة قديمة في قوالبها — أي كالتي كان يكتب بها من سبقوهم بعشرة قرون أو عشرين قرناً بلا اختلاف ومن غير أن يحدثوا فيها جديداً يدل على أنهم تأثروا بعصرهم — إذا رأيت ذلك فاعلم أن هؤلاء الناس متخلفون وأنهم أشبه بالآثار الباقية منهم بالأحياء، وأن الأدب واللغة لا يكسبان شيئاً بهم سوى زيادة الجمود إذا كان هذا مكسباً.
وغير منكور أننا لا نستطيع أن نفكر إلا بالألفاظ. وقد يجيء زمان يستغني فيه المرء عن الاستعانة بالألفاظ على التفكير بل أنا أومن بأن هذا الزمان لا محالة آت وان الإنسان سيستغني عن الكتابة والكلام في نقل ما يدور في نفسه من المعاني والخواطر والآراء والإحساسات إلى آخر ذلك — إلى نفس أخرى، ويكتفي بإرسال موجات يتلقفها غيره ويترجمها كما ترسل محطات الإذاعة موجاتها فتتلقفها آلات الراديو. ولكن إلى أن يجيء ذلك الزمان الذي يتيسر فيه الاتصال اللاسلكي بين نفوس الأفراد لا يسعنا إلا أن نفكر بواسطة اللفظ. فاللغة لا تزال أداة التفكير الذي لا نعرف له سواها؛ فإذا ظلت لغة من اللغات جامدة لا تتغير قوالبها ولا تتجدد ولا يدخل عليها جديد ولا يحدث فيها طريف ولا يؤثر فيها كر العصور ولا يترك فيها مر هذه العصور آثاراً من حياتها فإن معنى هذا يكون أن أبناء هذه اللغة يفكرون على نحو ما كان يفكر أبناء زمان متوغل في القدم فهم يعيشون بأجسامهم في عصر ولكنهم بعقولهم يعيشون في عصر مضى وانقضى وانقرض واندثر.
وقد يكون العصر الماضي جميلاً ولعل كل ما فيه كان حميداً ولكنه زال وجاء غيره بمظاهر حياة وأساليب تفكير وآمال ومخاوف وآداب وعادات مختلفة، فكيف لا يظهر هذا في لغة الكتابة والكلام؟.. وكيف يعقل أن تظل القوالب لا تتجدد ولا تتغير ولا تطرأ عليها زيادة من العصر الحاضر المؤثر بوجوده؟؟ أيكون ذلك من الكسل؟ أم هو من ضعف التأثر بهذا العصر؟ أم ترى الأحياء فيه جثث محنطة لها وجود ولكن ليس فيها حياة؟
ورأيتني وأنا أفكر في هذا أسأل نفسي سؤالاً لا يخلو من غرابة «أتراني أشبه أبي؟» وضحكت لما قلت ذلك، وقلت بالطبع أشبه أبي! ما هذه السخافة؟ وكيف أستطيع ألا أشبهه؟ على أني لم أكن أعني المشابه العادية التي تكون بين الآباء والبنين فإن معمل الطبيعة لا يدعي ما تدعيه مصانع السيارات من إخراج طراز جديد في كل عام لا شبه له ولا صلة بطراز العام السابق، وإنما أعني هل أنا أحور شيئاً فشيئاً حتى أصبح صورة طبق الأصل من هذا الأب الفاضل؟؟ وناديت زوجتي وسألتها: «أين صورة الوالد المحترم؟» فقالت: «إيه؟.. الوالد المحترم؟.. أي والد؟»
فقلت وأنا أضحك: «وهل لي غير والد واحد؟ إن كنت تعرفين لي غيره فقولي، ولك الأمان، ورحم الله الوالد والوالدة جميعاً» فقالت: «لا تمزح هذا المزح … عيب … وإنك لتعرف أني أسألك عمن تعني — والدك أم والدي؟» فقلت: «كلا. لا حاجة لي بأبيك.. ولا بأبي أيضاً في الحقيقة، ولكني أريد أن أراجع صورته أو على الأصح أن تراجعيها أنت» فجاءت بالصورة وهي غير فاهمة، فقلت: «تأمليها وتأمليني. إنهما منظران ليس فيهما سرور لأحد، ولكن تجلدي.. فهل ترينني مثله؟: هل لو لبست مثل هذه السترة الاستامبولية؛ وهذا الطربوش الطري، وتركت شاربي ينبتان، ويطولان، ويتهدلان، ودخلت عليك في ضوء خافت، تظنيني أبي، نفض عنه كفنه وخرج من قبره، أو تحسبينني على الأقل عفريته؟»
فقالت: «لا أدري لماذا هذه المقارنة ولكني أقول إن فيك منه مشابهة … كثيرة ولكنك مختلف.. حتى النظرة مختلفة.. نظرته نظرة رجل حليم كريم وديع أما أنت..» فصحت بها: «احترسي!. ليست هذه فرصة لبسط لسانك الطويل في..» فقالت: «لا.. ولكن الحقيقة أن نظرتك مختلفة.. فيها شيء آخر.. الشبه موجود ولاشك، والذي يراكما يعرف، وإن كان لا يعرفكما، أنه لابد أن يكون أخاً أكبر، أو أبا أو جداً، على التحقيق … ولكن هناك اختلافاً لا أدري كيف أصفه» قلت: «لا تتعبي نفسك … يكفي أني مختلف … ولو كان حياً لاستطعت أن أتبين في أي شيء من الحقائق المطوية نختلف، ولكنه تسرع.. عل كل حال أحمد الله.. لقد كنت أخاف.. كيف أقول؟ أخاف أن أظل أرتد وأرتد، حتى أصير مثله تماماً بلا فرق» فسألتني: «ولماذا تخاف هذا؟» قلت: «لو حدث هذا لأصبحت صورة مكررة.. نسخة معادة.. طبعة ثانية لا تختلف عن الأولى إلا في زمن الصدور.. أي زيادة لا داعي لها ولا مزية … ولكان وجودي تكلفاً لا مسوغ له، وإسرافاً غير جائز، وعناء باطلاً لا جدوى منه.. وسبحان ربي عن ذلك وكنت أخاف شيئاً آخر. أن يضطرني ما يحوجني إلى العجلة إلى ترك أسلوبي الكتابي يفسد وينحط بأن يفقد صلته بالحياة، وبأن يصبح عبارة عن قوالب قديمة مرصوصة فأكون كالمقاول الجاهل الذي لا يعرف غير طراز واحد من هندسة البناء.. أتعرفين أن عندنا في مصر «مقاولين» أخصائيين في بناء المقابر؟ لو تركت أسلوبي يفسد بالإهمال والكسل لأصبحت كهذا الذي لا يبني إلا القبور وما إليها.. ولكني تنبهت والحمد لله فسأكون من هذا بعد اليوم على حذر.. ولو اتسع وقتي لراجعت ما كتبت؛ أو كتبته من جديد، ولكن ما فات مات، والعبرة بما هو آت، وعليك يا امرأة أن تجدديني، أو على الأقل أن تحثيني على التجدد، كلما رأيتني أهم بأن أجمد وأركد، وهذا خير ما تستطيعين شيئاً».