الفصل التاسع عشر

الرجل والمرأة

١

أمر النساء في كل حال عجيب. وإذا كان أحد من الرجال يفهمهن — كما ينبغي أن يفهمهن — فأنا والله بهن جاهل. ولي العذر، فما أراهن يفكرن في شأن على نحو ما أفكر أنا أو يتناولنه من الناحية التي أتناوله منها. وأحسب أن هذا الضرب من الجهل هو الوحيد الذي لا يعيب المرء أو يسقط قيمته أو يزري به. قالت لي مرة فتاة من معارفنا: «ما قولك؟» قلت: «خير إن شاء الله! نعم يا ستي!» قالت: «هل يشغلك شيء غداً؟» قلت: «إذا كنت تعنين بالشيء العمل فإنه لا ينقطع، على أن أمري بيد الله ثم بيدي فأشيري كيف تأمرين، والعوض على الله قالت: «اسمع. نريد..».

فقاطعتها: «نريد؟ هكذا؟ بلفظ الجمع؟»

قالت: «لا تقاطع من فضلك. اسمع.. نعم أختي وبنت عمي وأنا».

قلت: «أهلاً وسهلاً تفضلي..».

قالت: «الجو في هذه الأيام بديع.. تهيئ لنا زورقاً حسناً نظيفاً مريحياً، نركبه في النيل ونقضي يومنا كله على متن الماء، ونتغدى فيه أو في إحدى «المقاتات» التي نمر بها في طريقنا».

قلت: «اقتراح جميل، ولكن.. أنا وحدي أكون معكن؟ وفي خدمتكن؟ ارحمن يتمي يا فتيات!»

فقالت: «تستطيع أن تدعو فلاناً وفلاناً».

فدعوتهما وأعددنا الطعام ومررنا بهن فحملناهن إلى قصر النيل حيث كان الزورق ينتظر، ولم ألق إليهن نظرة حتى نزلن من السيارة وشرعن ينحدرن إلى مكان الزورق، فدهشت، فقد كانت ثيابهن زاهية نظيفة مكوية، بل كانت أفخر وأبرع ما رأيتهن فيه، فتناولت ذقني بيدي وقلت: «هيه.. نهارك أسود يا أبا خليل» ولم أكد أهز رأسي هزتين حتى نادتني إحداهن فنظرت إليها مستفسراً فقالت: «خذ بيدي فإني أخشى أن أزل وأقع على التراب أو تغوص قدمي فيه» فسألتها وأنا أتناول يدها: «أين تحسبين نفسك؟ في سباق الخيل؟ ما هذه الثياب التي لبستها؟»

قالت وهي تحني رأسها لتنظر إلى قدميها: «ما لها؟ ألا تعجبك؟»

قلت: «تعجبني تعجبني. ولكنها لن تعجبك بعد نصف ساعة في الزورق».

ولا أطيل. ركبن، ووثبنا نحن وراءهن فأشرنا إليهن أن يجلسن فنظرن إلى المقاعد — ولم يكن بها سوء والله — متأففات مترددات فنفضنا لهن التراب الموهوم عن الحشايا المطروحة على المقاعد. وصحيح أنها ليست وثيرة جداً، ولا جميلة المنظر، ولكنها نظيفة. غير أن فتياتنا تبادلن نظرات تنبئ بالامتعاض ولا تنبئ بالرضى، ثم انتهين بأن جلسن متلاصقات جداً محاذرات أشد الحذر؛ وكان لابد أن أغضي عن ذلك فليس ذنبي أنهن جئن في ثياب لا تصلح إلا على الأرض اليابسة. وناولت أحد إخواني مجدافاً وأخذت أنا الآخر، وتركنا الدفة لثالثنا. وقام الملاح فدفع الزورق عن الشاطئ بالمردى، ثم بدأنا نجدف وكنت أضرب الماء برفق شديد حتى لا يطير منه شيء، ولكن رشاشاً منه كان يصيبهن على الرغم من ذلك فيصرخن ويتلاغطن ثم يتدانين ويعبسن ويمسكن عن الكلام ولا تبقى لهن عين يدرنها في المناظر التي جئن لينعمن بالنظر إليها.

وأخيراً قال الذي بيده الدفة: «خذ أنت الدفة وأعطني المجداف».

فلم أتردد في القبول فما كان يسرني أن أكون سبب التنغيص. واتخذ صاحبي مقعده وراح يضرب الماء بعنف فيتعالى الصراخ فلا يعني بأن يلتفت إليهن ولا يزيد على أن يقول وهو يضحك: «لا بأس! سينشف الماء ثم يفرك الوحل فلا يبقى شيء..» وقد حرن ما يصنعن لاتقاء هذا المطر. وكنت ربما ضحكت إذ أراهن يخرجن مناديل في سعة الكف وينشرنها على حجورهن كأنما من الممكن أن تستر شيئاً.

وأخيراً بلغنا مكاناً دنونا من شاطئه، وقال الملاح: إن الأحسن أن يجر الزورق بالحبل. وقام فأخرج حبلاً طويلاً شده على الزورق ووثب إلى الشاطئ وراح يجر، وقعد أحدنا عند الدفة ليضبط الزورق فلا يجنح أو يلصق بالأرض. فعاد إلى الفتيات البشر وانطلقت ألسنتهن وإن كن لم ينسين موجدتهن علينا لما أصابهن من البلل. ثم تهامسن ونهضن وجعلن يصحن بالملاح وهو بعيد لا يسمع ونحن نسألهن ماذا يبغين وهن لا يباليننا أو يجبننا. وسمع الملاح فوقف وارتد إلينا، وإذا بهن يردن أن يتولين هن جر الحبل أو «اللبان» كما يسميه النواتية. فنصحنا لهن ألا يفعلن وحذرناهن وأنذرناهن فأبين إلا أن يفعلن، وفي ظنهن أن هذا أسلم لثيابهن، وأشرح لصدروهن وأجلى للصدأ وأجلب للصحة أيضاً، فتركناهن يفعلن وأدنينا لهن الزورق من الشاطئ وحملناهن واحدة واحدة إلى الأرض. فذهبن يجرين إلى أول الحبل حيث تركه الملاح ودفعنا نحن السفينة إلى الماء مرة أخرى وكنا نراهن فإذا باثنتين منهن تتناولان الحبل معاً، وكانت الثالثة تدور حولهما ولا تصنع شيئاً، فمرة تكون أمامهما وتارة تكون خلفهما وهكذا، فانتهى الأمر بأن التف الحبل على سيقانهن جميعاً فصرخن ووقفن يحاولن تخليص أرجلهن مما أحاط بها فخلصت أرجلهن ولكن الحبل صار على صدورهن وأعناقهن، والزورق يضطرب بنا ونحن نحاول أن نضبطه بالمجداف. واستطعن أخيراً وبعد لأي وصراخ فظيع أن يتجنبن شنق أنفسهن، فتهامسنا بأن الأولى بنا أن نسكت وندعي الجهل بما حدث وأن ننظر ماذا يصنعن بعد ذلك. ويظهر أنهن خجلن أن يقلن شيئاً فعدن إلى الحبل واستأنفن جره فحمدنا الله ولكنهن كن يمشين شيئاً، ثم يقفن فجأة وعلى غير انتظار منا، فيضطرب بنا الزورق فناديناهن، فلما تنبهن إلى أننا نريد أن نكلمهن وقفن وأقبلت علينا واحدة منهن وقفت بعيداً وأشارت إلينا تسألنا عما نريد، فصحت بأعلى صوتي: «لا تقفن».

فقالت ويدها على أذنها. «إيه» فقلت لصاحبي: «صوتكما أقوى فكلماها وأفهماها أن الوقوف يضايقنا ويتعبنا، ففعلا. فلما عرفت ما نريد بدأت تسألنا هل نحن مسرورن، وهل هن يحسن جر الحبل؟ فأثنينا على براعتهن، وامتدحنا حذقهن، وأكدنا لهن أن الدولة حين تحتاج إلى ربابنة ونواتية للأسطول فإنهن سيكن خير المرشحات أو خير أساتذة المدرسة البحرية. وكنا نرجو أن تعود إلى زميلتيها فيستأنفن جر «اللبان» ولكنها تذكرت أن بها حاجة إلى منديل مما في حقيبتها فأخرجناه لها وحملناه إليه فذهبت به وإذا بثانية تعود وتصيح بنا أنها هي أيضاً تحتاج إلى منديل فناولناها إياه، وبدا لها أن الثالثة قد تطلب منديلها فيحسن أن تأخذه على سبيل الاحتياط، فأجبناها إلى ما طلبت، فذهبت ثم عادت وقالت إن الثالثة لا تريد المنديل فهي ترده لنضعه حيث كان فأطعنا ومضت، وبعد دقائق أخرى عادت الثالثة تقول: إنها رأت أن الأحسن على كل حال أن تأخذ المنديل، فدعونا الله أن يعيننا على الصبر وأعطيناها المنديل فذهبت وأوعزنا إلى الملاح أن يلحق بها وأن يتولى هو الحبل ولا يدع للفتيات إلا المظهر.

ولما جاء وقت الطعام تخيرنا رقعة من الأرض خضراء ظليلة وتأهبنا للجلوس فنظرت الفتيات إلى الأرض مشفقات من البلل كأنما بقي ما يخشين على ثيابهن التي خططها الحبل بالوحل فنشرنا لهن مناديلهن فإن مناديلهن لا تصلح لشيء إلا للزينة فجلسن عليها كالرماح استقامة، وكنا نشعر أنهن غير مرتاحات وأن الجلسة متعبة لهن، وأن خوفهن البلل ينغص عليهن ولكن ماذا كان يسعنا أن نصنع؟ ولو كان يسعنا أن ننقل لهن بعض أثاث البيت من سجاجيد وحشايا ومتكآت وما على ذلك لفعلنا. ولكنا لم نكن نعلم أنهن سيرتدين هذه الثياب التي تصلح للعرض ولا تصلح لرحلة على النيل.

وانحدرت الشمس قبل أن نعود إلى قصر النيل فكدن يبكين لأنهن تأخرن وكن على موعد مع الخياطة، فعجبنا لاتعادهن معها في يوم يخرجن فيه لمثل هذه الرحلة التي طلبنها وأردن أن تستغرق النهار كله. ولكن المرأة هكذا أبداً. تكون لها عين في الجنة وعين في النار. ولست ألومها أو أعيبها فإنها طبيعتها التي لا حيلة لها فيها، ولكني أرجو ألا ألام — وأن أعذر — إذا كنت أشعر بالحيرة والعجز في كثير من الأحيان عن الفهم الصحيح والتقدير المرضي المريح، وأحسب أن الرجال جميعاً مثلي جهلة مساكين. ولاشك أن المرأة يحيرها كذلك ملا تفهم من طباع الرجل وسلوكه، فالعجب بعد ذلك أن الجنسين يستطيعان أن يقنعا أنفسهما بأنهما متفاهمان، وأن كل شيء بينهما على ما يرام.

٢

يندر أن تجد امرأة تستطيع أن تصادق رجلاً من غير أن تخلط الصداقة بالحب أو ما هو منه بسبيل — أعني حين يكونان في سن — وعلى حال — تسمح بإمكان هذا الخلط أو توقعه. وعسى أن أكون قد تجنيت على المرأة فما أعرف أن الرجل أقدر منها على إبقاء هذا التحول إلا قليلاً.. ومن يدري.. لعل نظام الحياة الذي أقامه الإنسان وكظه بالمواقع والحواجز بين الرجل والمرأة قد زحزح هذه العلاقة عن مكانها الطبيعي وجعل لها عندنا صفة خاصة ومقاماً بمجرده لا تتصل فيها بغيرها من العلاقات الإنسانية العاجية — كأن تلك غير عادية — وأقام للصداقة حدوداً وللحب حدوداً لا تتداخل ولا تتقارب فاضطرب تفكيرنا جداً من جراء هذا الشطط في التعمل والإغراق في التكلف. فنحن نتخير الألفاظ التي نصف بها العلاقات بين الناس وفق ما يوحيه إلينا النظام الذي ألفنا أن تقوم عليه حياة جماعتنا الخاصة فنجعل هذه العلاقات على ضربين — ضرب عادي — كالذي يكون مثلاً بين الرجل والرجل أو الرجل وأمه أو أخته أو بنته الخ وضرب آخر جنسي كالذي يكون مثلاً بين الرجل وزوجته أو غيرها من النساء — في الأغلب والأعم — ولست أرى هذه العلاقة الجنسية إلا عادية جداً بل لعلها هي وحدها العادية وسواها هو الذي نجم منها ونشأ عنها وتفرع عليها ولا أرى أي موجب لأن نجعل لها كل هذا الشأن الخاص الذي يميزها ويفردها ويبرزها ويدير الخواطر عليها إدارة لا تستحقها ولا نحمد أُثرها لأنها تفقد المرء القدرة على الاحتفاظ بالقيم الحقيقية لضروب العلاقات وتمسخ تفكيره وتحول دون استجلاء الحقائق على وجهها وصورتها الصحيحة.

على أن هذا استطراد أغراني به أن الكلام يفتح بعضه بعضاً والذي أردت أن أقوله لما تناولت القلم هو أن لي صديقة متزنة تعجبني منها قدرتها على إبقاء هذا الخلط كائناً ما كانت علته وهي تزورنا ونزورها كلما سنحت لنا ولها الأحوال ونأنس بحديثها فإنها محدثة بارعة ولولا أن الأمر لا يعدو بيننا هذا الحد لصح فيها قول ابن الرومي.

«وحديثها السحر الحلال لو أنه لم يجن قتل المسلم المتحرز» ولكن البيت الثاني يصدق وذلك حيث يقول: «إن طال لم يملل وإن هي أوجزت ود المحدث أنها لم توجز» غير أنا لا نتفق أبداً على رأي ولا تلتقي نظرتانا إلى شيء «في ملتقى منه واحد» وتلك هي المزية فما ثم أي خير في صداقة بين اثنين متماثلين متطابقين حتى ليعد أحدهما نسخة من صاحبه. وبمضي الوقت في الجدل فإذا نحن قد سلخنا نصف نهار أو هزيعاً أو اثنين من ليل ويخشى الذي يرانا ولا يعرفنا أن تقع الجفوة وتحل النبوة وتحدث القطيعة ولكن الواقع أن هذا الجدال الحامي لا يزيد الحال بيننا إلا وثاقة. وأنا لا أزال أقول لها أن المرأة مخلوق غير الرجل وأنه ليس بصحيح أنها خلقت من ضلع في جنبه الأيسر — أي قريب من القلب — وانه لو كتب علي أن تكوني زوجتي لكنت أشقى الناس بك وكنت أنت أشقى الناس بي وليس ذلك لنقص في جمالك — وهو ما تعتزين وتعتز به كل امرأة — بل لأن الحياة معك تكون كالسير بين الوعور والحفر فتقول لي إنك كاذب أو أنت تغالط نفسك فليس أحب إليك من هذا الجدل الذي لا ينتهي إلى اتفاق ولذلك تأنس بمجلسي كما لا تأنس بمجلس سواي وأني لأستطيع أن أحلف إنك تستأنف حوارنا وجدلنا فيما بينك وبين نفسك وتود لو عدت إلي أو عدت أنا إليك لتفضي إلي بما خطر لك أن حجتك تعلو به على حجتي.

وصفحة وجهها كتاب مفتوح فما نظرت إليها إلا عرفت ما يجول في رأسها الصغير — فإنه صغير وإن كان عقلها كبيراً — قلت لها مرة وقد زارتنا في يوم صيفي وساعة لا يطيب فيها للإنسان إلا أن يكون في ثلاجة أو برميل ماء بارد «هذه الزيارة ليست لله» فضحكت وقالت كن ملاكاً واصحبني إلى دكان … فإني أريد أن أشتري بضعة أشياء قلت: «قولي كن مجنوناً.. إن الذي يصحب امرأة حين تريد أن تشتري أشياءها لا يكون إلا مسلوب الرشد قليل العقل.. جنس لطيف.. والله ما أعرف اسمك من جلد المرأة … تذهب إلى الدكان فيخف الرجل المسكين إليها ويحتفي بها ويقدم لها الكرسي ويتلطف ويسألها هل تسمح له أن يطلب لها ليموناً بارداً أو قهوة … ويفرك الأبله يديه ويسألها في أدب جم وبابتسامة عريضة تصل فمه بأذنيه بماذا تأمر.. فتأمر حضرتها بأن يعرض عليها كل ما عنده فوق الرفوف فيحمل الرجل ويضع.. لا تضحكي.. إنما أعني أنه يحمل إليها ما تشير إليه أو تصفه ويضعه أمامها وينشره على عينها فتجسه وتقلبه وتمط بوزها وتشير إلى غيره وتخرج مرآتها من المحفظة وتنظر إلى صورتها فيها برهة ثم تعود إلى التقليب وهكذا والرجل يتصبب عرقاً وبعد ساعة أو اثنتين والمسكين صابر، تبتسم وتقول لا مؤاخذة.. إنما كنت أريد أن أتفرج فقط.. تتفرج.. فقط وتخرج تخطر وتدعه ينفلق ويطق ويلعن الوجه الذي أصبح عليه في يومه وهي مسرورة لا تباليه ولا تدرك ما كلفته ولا ترحمه ولا تشعر أنها خليقة أن تخجل.. لا يا ستي.. خذي زوجتي إذا شئت فإنها امرأة مثلك واعفيني بالله من شرف السير في ركابك العالي فإني لا أريد أن أصاب بالفالج وإذا كنت لا ترحمينني فارحمي أولادي فإنهم مازالوا زغب الحواصل..».

فتضحك ولا ترى في خطبتي الطويلة هذه إلا أنها مثال لأسلوب الرجل في التفكير.

وكانتا — هي وزوجتي — معي مرة خرجنا لنشتري ملاءات مما يفرش على السرير فشرطت عليهما أن تدعاني أتولى أنا أمر الشراء وأن تبقيا في السيارة وإلا فأن مستعف فقبلتا على مضض وبعد جدال طويل ولم يقنعهما الكلام ولكنهما رأتاني وضعت رأسي على كفي وأصررت وأضربت عن ذكر العواقب فرضيتا — على مضض كما قلت — وذهبت بهما إلى محل.. وتركتهما في السيارة ولو وجدت سبيلاً لإيصادها عليهما لفعلت ولكن اليوم كان حاراً وقد خفت أن أتهم بخنقهما. وقصدت إلى حيث توجد هذه الملاءات فانتقيت منها أمتنها وأجودها وأكبرها — وأغلاها أيضاً — وأديت الثمن ولم أغب عنهما إلا دقائق فما كان منهما إلا أنهما صرختا في وجهي.. صرختا لأني رجعت بهذه السرعة.. إذن لابد أن تكون الملاءات أسخف ما يمكن أن تكون نسجاً وثمنها قد رمي في التراب.. ولكن يا ستي أنت.. وأنت أيضاً يا ستي.. جساها شداها.. انظرا متانة نسجها.. تأملا طولها وعرضها.. لا فائدة.. لابد أنه كان هناك ما هو خير من هذه الملاءات وإذا لم يكن ما هو خير فالمحلات الأخرى كثيرة فماذا كان داعي هذه العجلة وإلقاء الفلوس في التراب فلما ضجرت ويئست من إقناعهما بأن المعول في هذا الأمر ليس على ما يضيع من الوقت في الانتقاء قلت لهما أن حل المشكل بسيط.. دعوا لي هذه الملاءات وخصوا بها سريري. أم أنت يا زوجتي الفاضلة فاشتري لنفسك ولولديك ملاءات أخرى متى رزقني الله بثمنها وعوضي على الله.

أترى الوقت لا قيمة له عند المرأة.. تقول الصديقة الفاضلة إن هذا كلام فارغ وأن المرأة تعرف قيمة الوقت كما يعرفها الرجل فأقول ولكني أرى المرأة تقضي ساعة وساعات في زينتها ومن الممكن أن تتزين في دقائق فترد علي بأن من الرجال من يضيع وقتاً طويلاً في لبس ثيابه. فأقول إن هؤلاء كالنساء فارغون أو أنهم لا يدركون قيمة الوقت إدراكاً صحيحاً. وليس كل الرجال كذلك ولكن كل النساء كذلك وينقصني أن أعرف المرأة التي تستطيع أن تثب من سريرها وتتجهز للخروج في دقائق معدودات كما يفعل معظم الرجال ولست أنحي على المرأة من أجل ذلك فإنها معنية بجمالها — ولو كانت أقبح من قرد — والرجل معني بعمله وسعيه في الحياة فليست الزينة مطلبه لأنه ليس ثم ما يبغيه بها ولكنها مطلب المرأة لأنها عندها أداة لتأكيد جمالها وإبرازه ولفت النظر إليه ولإرضاء إحساسها هي بما تتوهمه من جمالها. وأقول ما تتوهمه لأنه ليس كل امرأة جميلة ولكنه ما من واحدة تشك في أنها كذلك مهما بلغ من دمامتها في نظر الرجال ولا رد لصديقتي على هذا وأمثاله إلا أننا معشر الرجال مغرورون مستبدون وأننا نرى الرأي في المرأة فنظن أنه كل الصواب ونحاول أن نفرضه عليها.

فأقول إن هذا ذنبكن.. لماذا لا تبين لنا ماذا أنتن وكيف تفكرون ومن أية ناحية تنظرن إلى الأمور إذا كنتن تعتقدن أننا مخطئون فيما نرى فيكن؟ افعلن ذلك وأرحن واسترحن. فتقول إنما قصرنا في ذلك لأنكم معشر الرجال استعبدتم النساء وألزمتموهن حالة لا يقبلنها وقد شرعنا نتحرر من ربقتكم فانتظروا. فأقول أنا مع المنتظرين وخيراً إن شاء الله.

٣

سأحاول أن أصف للقارئ يوماً سعيداً قضيته ي الهواء الطلق مع الصديقة التي حدثته عنها وزوجتي الفاضلة وإحدى القريبات العزيزات وكلبها. وقد ذكرت الكلب في الآخر وأن كان حقه التقديم لأني أخشى إذا أن أنصفته أن أظلم أنا وكان الاتفاق أن تمر بنا القريبة العزيزة فنحملها إلى الصديقة التي تعهدت لنا من قبل أن تكون قد تهيأت للخروج ووقفت رشيقة أنيقة تطل من الشرفة فلا تكاد ترانا مقبلين حتى تهبط إلينا ولو بمظلة فلا تحوجنا إلى الصعود وإضاعة الوقت.

وبكرت في النوم في تلك الليلة وتركت لزوجتي الفاضلة إعداد القليل الذي عسى أن نحتاج إليه في نهارنا وكان المتفق عليه أن يتحرك الركب من منزلنا العامر في الساعة السابعة صباحاً ولكن الزوجة بارك الله فيها تحسب لكل احتمال حسابه فقد تتعطل السيارة مثلاً وتأبى أن (تسير) فيحتاج إصلاحها ساعة أو بعض ساعة وقد يورثني هذا نوبة عصبية تتطلب إفاقتي منها ساعة أخرى وهكذا فما لهذه الاحتمالات آخر كما ترى ومن أجل ذلك أيقظتني في الساعة الرابعة — أي الثالثة بحساب التوقيت في الشتاء — فقمت مذعوراً وفي ظني أن الشمس قد ارتفعت وفركت عيني وأنا أتمتم بما حضرني من ألفاظ الاعتذار فابتسمت وقالت: «لا يزال في الوقت متسع» فمددت يدي إلى الساعة ونظرت فيها وصرخت. ألست معذوراً يا ناس … فنهرتني عن الصياح وقالت: «لا تصح هكذا لئلا تقلق الجيران» فهززت رأسي يائساً وقلت: «صحيح.. لا يجوز إقلاق الجيران.. الشهادة لله يا امرأة أنت أرفق الناس بالجيران وأحرص خلق الله على راحتهم.. ليتني كنت جاراً لك» ولم تبق لي حيلة لأن النوم لا يواتيني بعد أن أستيقظ. ولكن ماذا بالله أصنع في ثلاث ساعات طويلات. واستبشرت خيراً بهذه البداية الحسنة والفاتحة السعيدة. ورحت أتباطأ وأتلكأ حتى مضى ربع قرن فيما أحس وإذا بالساعة لا تزال منتصف الخامسة … نهايته من يدري بما كانت السيارة قد خرجت فلنخرج إليها ولنر ماذا أصابها. وذهبت إلى مكانها وبي خجل أن أزعجها في مثل هذه الساعة وأدرتها فدارت واستجابت لي كالجواد الأصيل وأعترف أنها خيبت أملي وغن كانت قد أفرحتني وخطر لي خاطر فصرفت خادم «الجراج» الذي كان قد أقبل عليها يمسحها وأسكت المحرك ودخلت في السيارة وقلت لنفسي اضطجع هنا وأحاول أن أنام إذا استطعت والبقاء هنا على كل حال خير من البيت وضجيجه.

ولكن الزوجة فاضلة ورقيقة القلب أيضاً وقد أقلقها غيابي فجعلت تبعث إلي بالخادمة الصغيرة كل ربع ساعة لتطمئن على صحتي وصحة السيارة وكنت أقول للخادمة الصغيرة كلما جاءت أن بالسيارة خللاً هيناً وقد بعثنا في طلب رجل يصلحه. وكان إقلاق الخادمة لي أهون على كل حال مما قدرت أن يكون حظي في البيت. وأزفت الساعة أخيراً بعد أن كادت روحي تزهق فمضيت بالسيارة إلى رصيف البيت وما كدت غاصاً بالحقائب، والسلال، والكراسي الصغيرة التي تطوى وما إلى ذلك من أدوات فما يستطيع السائر أن يجتزه ألا بدبابة. وأقبلت الزوجة والقريبة ومعها كلبها فقلت (انظرا … هذا جار فقدناه فكن عساه يكون يا ترى) فقالت الزوجة — غفر الله لها — جار أي جار … هذه أشياؤنا.. قلت أشياؤنا.. شيء جميل.. وماذا بقي في البيت.. ألا ترين أن الأصوب أن نأتي بالقليل الباقي ونضع الجملة في لوري يتبعنا.. قالت: كلام فارغ. في السيارة متسع وزيادة. فملت إلى السيارة وقلت لها (قواك الله وزادك صبراً اوسعة فإن بك اليوم حاجة إلى السعة لقد كنت أحسبك مجعولة للركوب بس. فإذا بك تصلحين أيضاً أن تكوني (مخزن فراشة) للأفراح والليالي الملاح.

ولا أطيل ولا أقول كيف اجتمع الناس ووقفوا ينظرون ونسوا ما كانوا خارجين إليه من عمل أو غيره فإني أنا أيضاً أحب أن أنسى ذلك الصباح الجميل ومضينا إلى الصديقة — بارك الله فيها أيضاً — ووقفنا على رصيف بيتها وصعدنا بعيوننا إلى الشرفة فألفيناها عاطلة — أعني فارغة — فنفخنا في البوق مرة وأخرى وثالثة — عبثاً كما لا أحتاج أن أقول — فاقترحت زوجتي أن أصعد إليها وأستعجلها فهززت رأسي غير موافق وقلت «تذكري يا امرأة أنه الدور الرابع وإن الدرجات أكثر من ستين واعتبري أني جار وترفقي بي وارحميني» قالت: «كلام فارغ.. مالك.. إنك كالحصان» قلت: «إذا جئتك بشهادة من طبيب بأن قلبي مسكين ضعيف وأن هذه السلالم تؤذيه وقد تودي به فهل تقتنعين..».

قالت «كلا..! ولا بألف شهادة». قلت «عن الجيران يحزنون جداً إذ أصابني مكروه فهل يرضيك أن ينزعج الجيران المساكين ويحزنوا ويلطموا ويندبوا وتقوم في بيوتهم القيامة» قالت: (لا فائدة. إذا لم تصعد أنت فمن يصعد؟ عيب يا شيخ) قلت «أصحيح.. إذن فلنصعد جميعاً فالظلم الشامل ضرب من العدل» وقد أغراني بهذا الاقتراح أني أيقنت أننا سنصعد جميعاً على كل حال. وقوبل الاقتراح بالموافقة وتوكلت على الله ورحت أصعد خلفهما — أو خلفهن إذا حسبنا الكلبة — فألفينا الصديقة العزيزة جالسة إلى مرآتها وشعرها يقطر ماء وفي يدها مشط تسرحه به وهي تبتسم لنا أو لصورتها لا أدري.

ووقفت في مدخل الباب أنظر إلى هؤلاء النسوة وهن يثرثرن ويلغطن — جميعاً في وقت واحد حتى ليشق عليم أن تعرف أيهن التي تتكلم وأيهن التي تصغي ولم أسمع كلمة واحدة من كلمات العتاب على إخلاف الموعد، وكدت أطق حين سمعت الصديقة تقول أن النوم كان حلو جداً وتتساءل لماذا يكون النوم حلواً حين يكون على الإنسان أن يبكر في القيام، ولم تقتصر الزوجة في إسماعي عفواً لا عمداً بالطبع — ما يجعل انفلاقي أسرع وأتم فقد جعلت تشكو من أنها استيقظت قبل الفجر بساعة أو اثنتين وحياة صديقتها — بلهجة توقع في روع السامع أني أنا المسئول عن هذا التبكير.

وفكرت برهة وأنا واقف كالتمثال — وليتني كنت تمثالاً.. إذن لما سمعت ولا انفلقت — فبدا لي أن خير ما يمكن أن أصنع هو أن أذهب إلى المطبخ لعلي أجد فيه ما يؤكل فما كنت ذقت شيئاً في نهاري الأبيض. وكانت أدوات المطبخ من الطراز الحديث — كهرباء وغاز وما إلى ذلك فتذكرت «لوريل وهاردي» وكيف أن أحدهما — لوريل إذا لم تخني الذاكرة — ترك الغاز مفتوحاً وذهب ليجيء بعود كبريت فلما عاد وأشعله حدث انفجار عظيم قذف به إلى غرفة مجاورة. وقلت لنفسي قد يكون هذا مبالغة ولكن الذي أعرفه أني في حياتي ما لمست كهرباء أو نقطة غاز خوفاً من سوء العاقبة فيحسن أن أكتفي بقطعة من الجبن الطري وبيضة أو اثنتين كما باضتهما الدجاجة أو كسرة من الخبز ولو ناشفة فإن هذا أسلم ولكني لم أستطع العثور على شيء — حتى ولا كسرة من الخبز — في هذا المطبخ فتعجبت للصديقة ومطبخها أهو منظر يا ترى ليس إلا، وهل تعيش على الهواء، وبينما أنا أبحث ولا أجد نادتني الصديقة فذهبت إليها فقالت لي بابتسامة حلوة «مادمت لا تصنع شيئاً فهل تصنع معروفاً وتبشر لي هذه الصابونة لأرقد بها شعري» وهممت بالخروج لأفعل ما أمرت به فقالت الزوجة «وبعد أن تفرغ من هذا أرجو أن تنزل وتجيئني بقطرات من البنزين لأن بياض حذائي اتسخ ولابد من تنظيفه فما أستطيع أن أخرج به هكذا» وأرادت القريبة ألا تكون متخلفة فأدركتني قبل أن أخرج وقالت «ما دمت ستنزل على كل حال — تأمل — فاذهب إلى أقرب صيدلية وهات لي حق «كريم» فإني لم أجد وقتاً لذلك في البيت والكريم الذي هنا لا أحبه.. أنت تعرف الصنف الذي أستعمله.. هيه».

وعدت بعد ساعة. وما داعي للعجلة إن النهار كله أمامي على ما أرى فألفيتهن جالسات إلى مائدة حافلة بألوان مغرية فوقفت أتعجب من أين جاء هذا كله. وجلست معهن في صمت وبعد أن تناولت قدراً يسراً من الطعام حمدت الله الذي لا يحمد على المكروه سواه وفركت كفي وقلت لهن ألا ترين أن الأوفق أن نبقى ونقضي النهار هنا بدلاً من قضائه في الحر الذي بدأ يلفح؟ فصحن بي صيحة واحدة وقلن إن الجو بديع وأنهن قد رتبن كل شيء. سيقضين أولاً بعض الحاجات البسيطة.. البسيطة جداً. وأمامهن بعد ذلك بقية النهار الطويل للفسحة والنزهة والسرور.

فخطر لي وأنا أرشف القهوة أني سأكون تعيساً معهن — وحدثت نفسي أن الهرب هذا أوانه. فاستأذنتهن في بضع دقائق وعدت بالسيارة إلى البيت ونمت.

وهكذا قضيت يوماً سعيداً في الهواء الطلق فقد تركت الشباك مفتوحاً له وللحر.. والذباب أيضاً.. أي نعم!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤