ردة في عالم المرأة «١»

ما أبعد الفرق — في حياة المرأة المصرية — بين الليلة والبارحة! وليلتها التي أخذ يتغشاها الغسق بظلامه، هي هذه المرحلة الراهنة من حياتها، وأما بارحتها التي تنفس فيها صبح جديد، حسبناه يومئذٍ بشيرًا لها بإشراقة الضحى، فهي تلك الأعوام الخمسون التي امتدت من أول هذا القرن إلى منتصفه، كانت المرأة المصرية في بارحتها تتوثب طموحًا وكأنها أرادت أن تبلغ الأفق البعيد بقفزة واحدة، إنك لو رأيت المرأة المصرية في الأعوام الأولى من بارحتها تلك، إذن لرأيت ما يشبه القوس المشدودة إلى صدر راميها، وقد سنحت بالتحفز، حتى إذا ما ارتخت عنها قبضة الرامي، طارت حتى نافست نسور السماء وصقورها، وبضربات منها سريعة متلاحقة، حطمت قيود الحريم، واستردت كرامتها المفقودة وإنسانيتها الضائعة، أو قل إنها أوشكت أن تسترد كرامتها المفقودة وإنسانيتها الضائعة، أو قل إنها أوشكت أن تسترد تلك المفقودة وهذه الضائعة، ثم ما هي إلا أن رأيناها مجاهدة في كل ميدان، يعطونها القليل فلا يرضيها إلا ما يتكافأ مع قدراتها، وقدراتها كانت في طليعة القدرات.

كانت تلك الوثبات الطموح سمة واضحة في بارحتها، وأما في ليلتها فقد فترت العزيمة وما حسبناها تفتر بهذه السرعة الخاطفة، فلقد ضحك عليها من ضحك، وخدعها من خدع، وكانت مأساتها أن جازت عليها الحيلة فصدقت أن دنياها ليست هي دنيا الناس، من علم وعمل، وفن وأدب وفكر ورأي، وريادة وهداية وجهاد، صدقت أن «المرء» و«المرأة» بينهما من التباين ما بين الروح والجسد، أو ما بين الطيران الطامح في صعوده، والقعود المكبل بأغلال الكسيح، ضحك عليها من ضحك، وخدعها من خدع، فصدقت البريئة أنها حلية يتملكها من يقتنيها، ومن حق هذا المقتني أن يلف حليته باللفائف، وأن يحفظها في الخزائن، ونسيت أنها فرع من فرعين يتألف منهما «الإنسان»، ولقد تعمدت منذ أسطر قليلة أن أستعمل كلمتي «مرء» و«مرأة»، بدل كلمتي رجل وامرأة، لعل البريئة تدرك كم يتشابه الفرعان، حتى بعد أن يتفرعا من الأساس «الإنساني» المشترك، لكن البريئة صدقت، وراحت تلف نفسها قبل أن يلفها مقتنيها، ولم نعد نسمع منها إلا حنينًا إلى العودة لتنخرط مرة أخرى في معتقل الحريم.

تعالوا نناقش الأمر فيما هو أهدأ من الهدوء، تعالوا نناقشه بأعصاب محكومة، لعلنا نميز الحق من الباطل، وبعدئذٍ يكون لكل منا — مرءًا ومرأة — أن يختار لنفسه طريق حياته وهو أو هي على بصيرة ووعي بما يختار أو تختار، وسأكون في هذه الخطوة من خطوات الحديث محدد الكلمات واضح المعاني، فليس يعنيني إلا أن نصل إلى حقيقة نستريح إليها، وسأطرح هذه الخطوة من خطوات حديثي، على مرحلتين:
  • (١)
    المرحلة الأولى عن تعليم المرأة وعملها:
    • (أ)

      من حق كل مواطن بحكم الدستور أن يتعلم إلى آخر حد تمكنه مواهبه (أو مواهبها) أن يصل إليه.

    • (ب)

      من شأن التعليم الصحيح، أن يخرج المتعلم معدًّا لعمل معين على أساس ما تعلمه.

    «النتيجة»: من حق المواطن (أو المواطنة) أن يحصل على أكبر قدر مستطاع من التعليم، وأن يشارك في دنيا العمل بما تعلمه.

  • (٢)

    المرحلة الثانية عن المرأة زوجة وأمًّا لأطفال، وها هنا تنشأ المشكلة المحيرة حقًّا، فكيف توفق المرأة بين واجباتها في العمل، وواجبات الرعاية لأطفالها الصغار، وهذه هي المشكلة التي يحتج بها من يريدون للمرأة أن تنسحب من ميادين العمل التي من أجلها تعلمت لتنحصر في دارها، والرأي عندي هو أن يُترَك لكل امرأة على حدة حق الاختيار لنفسها في ضوء ظروفها، فإذا اختارت أن تبقى في بيتها لتربية الطفل، كانت حرة في اختيارها، وإذا اختارت ميدان العمل فواجب الدولة أن تيسر لها السبل التي تكفل الرعاية للطفل؛ إذ لا يجوز لنا أن ننسى أن الطفل «مواطن» له على الدولة ما لسائر المواطنين من حق الرعاية، فتُنظَّم دور للحضانة في كل مراكز العمل أو في مواطن السكنى.

الأساس عندي هو — إذن — ذو شعبتين: الأولى أن للمرأة كل الحق في أن تتعلم إلى آخر قطرة تطيقها قدراتها الفطرية، وإذا قلنا إنها «تعلمت» فكأننا قلنا بالتالي إن لها مكانًا في دنيا «العمل» بمقدار ما تعلمت وبنوع ما تعلمت؛ لأن التعلم بكل صنوفه ودرجاته، ليس كلامًا يلقى به في الهواء على سبيل التسلية وإزجاء الفراغ، بل التعلم في حقيقته تدريب على عمل يؤديه المتعلم، وأما الشعبة الثانية فهي أن المرأة إذا ما تجاذبتها واجبات العمل من ناحية وواجبات أسرتها من ناحية أخرى، فلها هي وحدها حق الاختيار لما تفعله حلًّا لإشكالها، وذلك في ضوء ظروفها الخاصة، مستعينة بكل ما يجب على الدولة أن تعينها به من تيسيرات.

وليست المأساة التي جعلت الفرق بعيدًا بين مرأة هذا الجيل ومرأة الجيل الماضي، هي في أن أحدًا يتدخل في شئون حياتها، فيحد من حقها في التعلم وحقها في العمل، أو يحد من حرية اختيارها لميدان نشاطها: أيكون في دنيا العمل العام، أم يكون في أسرتها الخاصة؟ بل المأساة أنها هي التي أخذت ترتاب في جدوى التعلم بالنسبة إليها — والتعلم المهني بصفة خاصة — ثم زادت طينها بلة بأن أخذت تشك كذلك في مشروعية حقوقها الإنسانية من حيث هي مواطنة كأنما يوسوس لها شيطان بأنها إنما خلقت — لا لتكون حرة مسئولة أمام ربها وضميرها — بل لتكون تابعة لهذا، خاضعة لذاك، تتحجب إذا شاء لها سيدها أن تتحجب، وتسفر إذا أمرها مولاها أن تسفر، فأين هي — إذن — من سالفتها في جيلنا السابق، حين أخذت رائدات الحركة النسوية تشق جلاميد الصخر لتفسح للمرأة طريقها إلى ضوء النهار، لكن ماذا نقول؟ فلعلها الموجة الرجعية العاتية التي تغرق حياتنا الفكرية كلها اليوم، هي التي نثرت رذاذها في كل اتجاه حتى أصاب المرأة ما أصابها، فلم تعد تذكر إلا أنها امرأة تتبع، ونسيت أنها كذلك إنسانة ترود.

إن من الأباطيل التي كثيرًا جدًّا ما يزل فيها الإنسان بفكره، كلما كان الحديث حديثًا عن الرجل والمرأة في اقتسامهما للحياة، أن تذكر أوجه الاختلاف بين الجنسين ثم ترتب على وجود اختلاف بينهما نتيجة تزعم بأن للرجل الحق في أن يملي، وعلى المرأة واجب أن تطيع مع أن الاختلاف بين شيئين لا يدل بذاته على تفاوت في الدرجة بينهما، فالتفاح والكمثرى مختلفان، لكن اختلافهما وحده لا يدل على أيهما أفضل من الآخر، والأغلب في حالات كهذه أن يكون لكل من الطرفين ظروف بعينها يتفوق فيها على الآخر.

نعم، بين الرجل والمرأة أوجه كثيرة من الاختلاف، لا نستند في ذكرها — لسوء الحظ — على نتائج بحوث علمية إلا في القليل النادر، وأما في أكثرها فإنما نكتفي بالملاحظات العابرة وبالانطباعات الذاتية، التي قد نصيب فيها وقد نخطئ، وربما يفيدنا في موضوعنا هذا أن نذكر أمثلة واضحة لما بين الجنسين من ضروب الاختلاف؛ لأنه قد يتبين لنا أن بعض تلك الاختلافات في صالح المرأة وبعضها في صالح الرجل، وإذا كان الأمر كذلك وجب علينا بعد ذلك ألا نحكم بالتفوق لأحد الجنسين على الآخر حكمًا مطلقًا، بل نقيد حكمنا بما بين أيدينا من شواهد، في كل حالة على حدة، ولعله مما يسهِّل علينا النظر والمقارنة أن نجمع الفروق الظاهرة بين الجنسين تحت رءوس ثلاثة:

أولها فروق في شخصيات الأفراد من حيث هم أفراد، وثانيها فروق في أساليب التعامل في المجتمع، أي أن ننظر إلى الفرد الواحد، لا من حيث هو كائن قائم برأسه، بل من حيث هو مواطن يتعامل مع آخرين هم سائر المواطنين، وثالثها فرق في موقف كل من الجنسين، لا بالنسبة إليهما في الحياة الفردية، ولا بالنسبة إلى تبادل الأفعال وردود الأفعال في حياة اجتماعية قائمة، بل فيما يجاوز ذلك كله إلى العمل على استمرارية الحياة الإنسانية ذاتها.

وإذا نحن بدأنا المقارنة بين الجنسين من النقطة الثالثة، الخاصة باستمرارية الحياة الإنسانية، وقعنا على اختلاف بينهما قد يكون هو المصدر الرئيسي — أو أحد المصادر الرئيسية — التي منها يتفرع سائر ما قد نراه بين الرجل والمرأة من أوجه التباين، وذلك لأن للمرأة دورًا في جانب تلك الاستمرارية لا يقاس إليه دور الرجل، وذلك واضح منذ أن يكون الجيل القادم أجنة في بطون أمهاتهم من بنات هذا الجيل، فمن هذه النقطة الأولية تنبثق أهم خصائص المرأة فردًا، وعضوًا في مجتمع لأنها نقطة تحتم عليها أن تميل إلى الحياة الآمنة، لتوفر للأبناء مناخًا صالحًا يتربون في أمنه حتى يبلغوا النضج، ولا كذلك الرجل لأنه بحكم ضرورة أن يهيئ مقومات الحياة لهؤلاء الأبناء قد يضطر إلى المغامرة، بل وإلى القتال، مما ينتهي بالمرأة والرجل إلى مزاجين مختلفين في الأساس: المرأة تبسط جناحيها في هدوء على ما هو موجود ليظل موجودًا، والرجل يصفق بجناحيه ليطير. إن استقرار الحياة هو أساسًا من صنع المرأة، والثورة على الحياة لتغييرها هي أساسًا من صنع الرجل، ومن هنا تولدت فروق فرعية كثيرة في حياة كل منهما، من حيث هما فردان، ومن حيث هما عضوان في حياة اجتماعية، فالمرأة في الحب أصدق وأعقل وأذكى، والرجل في الكفاح أقوى وأشجع وأكثر اندفاعًا، وتطول بنا قائمة المقارنات لو استطردنا، لكن ما يهمنا هنا هو أن الفروق بين الرجل والمرأة موجودة غير أنها فروق لا تستلزم بالضرورة أن يتفوق منهما أحد على أحد، وتبقى الحياة العقلية، التي بها يكون التعلم ويكون العمل، مشتركة ومتعادلة بينهما، فيتفوق فيها فرد على فرد، لكن لا يتفوق فيها نوع على نوع، وحتى إذا نحن سلمنا بأن أحدهما يتميز عن الآخر بقدرات معينة، كالذي كثيرًا ما يقال عن الرجل من أنه أقدر من المرأة على «الإبداع» في العلم والفن والأدب وغيرها، فإننا لا بد واجدون في النوع الآخر امتيازًا في ناحية أخرى تحدث التوازن، فإذا كان الرجل أقدر على إبداع الجديد، فإن المرأة بدورها أقدر على المحافظة التي لولاها لما أمكن للحياة أن تدوم للناس يومين متتاليين، إذا كان اليوم التالي سيجيء ليهدم ما بناه اليوم السابق باسم الإبداع، فالخير هو أن يتقاسم شئون الجماعة عاملان متكاملان، أحدهما يسد نقص الآخر، أحدهما هو عامل التجديد، الذي ما ينفك مسايرًا للزمان في جريانه، وأما الآخر فيصون ثبات الهوية الواحدة ودوامها حتى لا تنجرف مع تيار التغير، وذلكما هما الرجل والمرأة، تمامًا كما يحدث لحياة الفرد الواحد، فهو في كل يوم، في كل ساعة، في كل دقيقة، يستبدل في كيانه العضوي جديدًا بقديم، إذ هو يلفظ الهواء الفاسد في شهيقه ويحل محله بالزفير هواءً جديدًا، وإذ هو يفعل شيئًا كهذا حين ترد الأوردة دمًا فاسدًا لتجيء الشرايين بدم جديد، وهكذا في كل مناشط البدن، صحو يهدم ونوم يبني، دون أن يفرط الفرد خلال تلك التغيرات المتلاحقة في هويته، فهو يظل دائمًا فلانًا الفلاني بشخصيته الواحدة.

الحديث عن الرجل والمرأة وهما يتعاونان مرة ويتصارعان أخرى، يتفقان يومًا ويختلفان يومًا، لم ينقطع منذ هبط آدم وحواء إلى هذه الأرض ليسعيا، ولا بأس في كل ما قيل عنهما وما يقال، لا بأس في أن يفاخر الرجل بدوره وتفاخر المرأة بدورها، طالما جاء هذا كله على سبيل المزاح، أما أن ينقلب المزاح إلى جد الحياة بحيث يصبح الرجل آمرًا والمرأة طائعة، ويجعل الرجل من نفسه سيدًا وتجعل المرأة من نفسها تابعة، فذلك هو «الوأد» بعينه، لولا أن الموءودة هنا ليست واحدة، بل هي الجنس بجميع أفراده، وإذا كان عجبًا أن يدعي الرجل لنفسه ما يدعيه، فأعجب منه أن تستجيب المرأة بقولها آمين! وهذا هو ما نرى المرأة اليوم في سبيلها إليه، بعد كل ما صنعته أخوات لها من بنات الجيل الماضي لترفع عنها نير الهوان.

المرأة اليوم تتبرع سلفًا بحجاب نفسها، قبل أن يأمرها بالحجاب والد أو زوج، فكأنها بذلك الحجاب الطوعي تقف على مئذنة لتصيح في الناس: ها هي ذي سلعة من عهود الحريم لمن يشتري! وهل هي تدري — يا ترى — بأية سرعة سريعة يتحول حجاب الوجه ليصبح حجابًا للفكر كذلك؟ إنها إذا لم تكن تعلم ذلك، فهي إذن لا تعلم شيئًا عن تأثير الظاهر في الباطن، فالأمر في هذا الصدد لا يقتصر على أن يستتبع حجاب الوجه حجابًا للروح، كما يستتبع سفور الوجه سفورًا للروح، بل يجاوز ذلك إلى كل ظاهر وباطن، فالحركات الجسدية الظاهرة في الصلاة ركوعًا وسجودًا، سرعان ما تشيع في قلب العابد ضراعة وخشوعًا، ولعل هذا بعض ما تعنيه الآية الكريمة من أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، فهي — بداهة — لا تفعل ذلك لمجرد حركات الجسد الظاهرة، بل نتيجة لما يتولد عن تلك الحركات الظاهرة من شعور قلبي باطني فيه خشوع العابدين.

ولتغفر لي مواطناتي اللائي أخذتهن ردة إلى عهود الحريم، وامتلأت نفوسهن بوساوس الشك في صلاحية المرأة لمشاركة الرجل مشاركة الأنداد في كل شيء: في العلم والعمل، في الفكر والفن والأدب، في السياسة والحكم، في التجارة والصناعة، في المغامرة والكفاح، نعم، لتغفر لي أولئك المواطنات — وهنالك منهن اليوم عشرات الألوف — إذا قلت إنني كلما رأيت منهن واحدة انزلقت بضعفها — تطوعًا — إلى هوة الماضي، تذكرت ما كتبه شوبنهاور عن المرأة، سائلًا نفسي: أيكون ذلك الفيلسوف الألماني قد أصاب الرأي فيما وصف به المرأة؟ وسأعرض الآن مقتبسات مما كتبه في ذلك، راجيًا من كل قارئة أن تتلمس في نفسها رد الفعل، فإن وجدت نفسها غاضبة مما يدعيه شوبنهاور عنها وعن بنات جنسها، كان الأمل كبيرًا في أن تنفض عن عقلها ما غشاه لتعود إلى استئناف طريقها إلى الحرية التي كانت سالفتها قد رفعت لها لواءها.

يبدأ شوبنهاور ما كتبه عن المرأة بقوله (ولنتذكر أن موقفه من المرأة كان رد فعل للخصومة الغريبة التي نشأت بينه وبين أمه، فقد كانت أمه أديبة ذائعة الصيت، ولعلها أحست شيئًا من الغيرة حين وجدت نجم ابنها يزداد سطوعًا كل يوم، فنشب بينهما خلاف ذات يوم، أدى بالألم إلى أن تطرد الابن من دارها، فخرج الابن وهو يقول لها: إن التاريخ لن يذكرك إلا من حيث كنت لي أمًّا) وهاك بعض ما كتبه عن المرأة:

إن المرأة بحكم تكوينها لا تستطيع أن تضطلع بالمنجزات الكبرى، الجسمي منها والعقلي على حد سواء، فرسالتها في الحياة منحصرة في الإنسال ورعاية الأطفال، مع وجوب طاعتها للرجل وخضوعها له، فلقد أرغمتها طبيعتها على أن تسلك في حياتها سبيلًا مطمئنة وادعة، لا تصادف فيها ما يصادفه الرجل في حياته من التطرف في اللذة وفي الألم كليهما، وإذا كانت الحياة قد ركنت إلى المرأة في أن تكون أداة تتعهد الصغار في طفولتهم الباكرة، فمعنى ذلك أنها قد أعدتها إعدادًا عقليًّا يلائم الغرض من وجودها، فجاءت ضعيفة العقل، قصيرة النظر، حتى لكأنها طفل كبير لكي يتم بينها وبين أطفالها شيء من التناسق، أو إن شئت فقل إنها مرحلة عقلية بين الطفولة والرجولة؛ فالرجل هو الكائن البشري الحق، الذي قصدت إليه الحياة.

ومعلوم أنه كلما ارتفع الكائن الحي في درجات الكمال، كان أبطأ وصولًا إلى مرحلة النضج، فبينما المرأة يكتمل نضجها في الثامنة عشرة ترى الرجل لا يتم له النضج إلا في الثامنة والعشرين، على أن نضج المرأة بعد أن يكتمل، لا يجعلها تحقق من القدرة العقلية إلا قدرًا محدودًا، لا يمكنها من أن تنفذ إلى حقائق الأشياء؛ ولذلك كان من السهل انخداعها بالظواهر، وتراها منشغلة بتوافه الأمور، دون الهام منها والخطير، وكذلك تتميز المرأة بأنها تعيش في حاضرها فقط؛ لأنها تعجز عن الامتداد بفكرها إلى الماضي وإلى المستقبل، فبالقوة العقلية وحدها يستطيع الرجل أن يحطم حدود الزمن التي تقيد المرأة كما تقيد الحيوان.

ولعل هذه الخاصة في الرجل، وأعني قدرته على مجاوزة اللحظة الحاضرة إلى الماضي وإلى المستقبل، حتى يضم الزمان من الأزل إلى الأبد بنظرة واحدة، هي التي كثيرًا ما تصيبه بانقباضة المهموم، وهي انقباضة لا تعرفها المرأة وهي تنعم بلحظتها الحاضرة، غير حافلة بما قد يأتي به غد من ويلات وكروب، والمرأة في ذلك تشبه الحيوان الأجهر (ضعيف البصر) الذي يرى ما هو قريب منه في دقة ووضوح، ولكن بصره لا يمتد إلى بعيد، أي إن المرأة قد تستطيع أن ترى الحوادث الجارية حولها أدق مما يراها الرجل، لكنها عاجزة كل العجز عن اجتياز الحاضر إلى وراء وإلى أمام، ولعل في ذلك يكمن السر في إسرافها الذي قد يبلغ بها حد الحماقة والسفه.

كان هذا بعض ما أفاض القول فيه الفيلسوف الألماني في أواسط القرن الماضي، ولو كانت المرأة على حقيقتها — وحقيقتها هي أنها «إنسان»— تتمثل في المرأة المصرية التي أصابتها في أيامنا هذا نكسة ارتدت بها إلى ما قبل وثبتها التي شهدناها في امرأة الجيل الماضي، لاستحقت ما قاله عنها ذلك الفيلسوف، فالذي نلاحظه في هذه المرأة المرتدة هو أنها قد تتعلم، لكنها تتعلم غير مؤمنة بما تتعلمه، وقد تشارك في ميادين العمل، لكنها غير مؤمنة بجدوى العمل. فهي آخذة في الضمور العقلي والوجداني إلى مصير لا يعلمه إلا رب العالمين.

ثم تكتمل فصول المأساة، حين نرى الرجال يصفقون لها إعجابًا بضمورها وذبولها وعودتها إلى حياة الحريم، فإذا أراد الله بإحداهن خيرًا، وجعلها تصمد على الكرامة، وعلى حقها في الطموح من أجل نفسها ووطنها، ضاقت صدور الرجال وبكوا على خراب البيوت وضياع الأطفال، فلقد جاءتني رسالة من قارئ يعاتبني على ما قلته في حوار إذاعي سمعه، وهو أن للمرأة حقًّا مساويًا لحق الرجل في التعليم وفي العمل، فأخذ القارئ الكريم عليَّ هذا الرأي، محتجًّا بما قد يصيب الزوج والأطفال من إهمال، ولكني لم أقل — ولن أقول أبدًا — إن هذه المشكلات الأسرية تترك بغير حل، بل لا بد من حلها بمشاركة المرأة نفسها في ذلك الحل، على أن تجيء الحلول في إطار حق المرأة في العلم والعمل وسائر ما نطالب به ﻟ «الإنسان» من حقوق، على أن أبشع جوانب الردة في حياة المرأة المصرية اليوم، ليس هو أنها تريد أن تتعلم إلى آخر المدى، فيمنعها أحد، لأن أحدًا لا يمنعها من ذلك، وليس هو أنها تريد أن تعمل بما تعلمته فيمنعها أحد؛ لأن أحدًا لا يقفل في وجهها أبواب العمل، وإنما الجانب البشع من تلك الردة، هو أن المرأة اليوم تريد أن تجعل من نفسها وبمحض اختيارها، حريمًا يتحجب وراء الجدران، أو يتستر وراء حُجُب وبراقع، وكأنها الفريسة السهلة تخشى أن تتخطفها الصقور، أما أن تحصن نفسها بقوة الروح، وبالشعور بكرامتها إنسانة مستنيرة واعية، فذلك زمن أوشك على الذهاب مع ذهاب رائدات الجيل الماضي.

ألا ما أبعد الفرق في حياة المرأة المصرية بين الليلة والبارحة، ففي بارحتها ألقت بحجابها في مياه البحر عند شواطئ الإسكندرية، إيذانًا بدخولها عصر النور، وأما في ليلتها هذه فباختيارها تطلب من شياطين الظلام أن ينسجوا لها حجابًا يرد عنها ضوء النهار.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤