مفتاح الشخصية المصرية

كثيرًا ما ألمح الفكرة بسرعة اللمح بالبصر، ألمحها وكأنها لمعة من الضوء، ثم أمعن النظر في تلك الفكرة التي كنت لمحتها بتلك السرعة الخاطفة، أمعن فيها النظر لأستوثق من صدقها، ومن عناصرها وأبعادها، وإذا بها تفلت من قبضتي كلما ازددت فيها إمعانًا، فذلك الوضوح الناصع الذي رأيته فيها عند اللمحة الأولى، يغشاه غموض الضباب شيئًا فشيئًا، بنسبة مطردة مع إمعان النظر، فقد يكون هنالك من الحقائق ما خلق للبداهة وحدها، تدركه بلمعة من البصيرة، حتى إذا ما أردت بعد ذلك تحليله وتوضيحه وتعليله، راوغك واختفى، فأمثال تلك الحقائق ترفع عن وجهها الحجاب لمن أراد رؤيتها بوجدان قلبه، لكنها تتمرد وتعصي وتحتجب لمن يصر على تشريحها لتوضيحها، فكأنما هي الرقائق التي توضع على القنوات لعبورها، فهي تسمح بالمرور لمن يخفف عليها وطء قدميه، ويسير عليها وكأنه ريشة طائرة في الهواء، وأما إذا ما دب عليها عابر بثقله الثقيل كله، انكسرت، فلا هو أتم عبوره، ولا هي احتفظت بوجودها وكيانها.

فلقد سألني سائل منذ عدة أشهر هل تستطيع أن تحدد لي مفتاحًا للشخصية المصرية؟ فما كدت أقرأ السؤال في خطاب السائل، حتى لمع الجواب في ذهني بسرعة الضوء، وهمست به لنفسي قائلًا: المصري صانع مؤمن بالغيب، أو قل إنه صانع عابد. ثم أكملت قراءة الرسالة التي بها ذلك السؤال، ونويت أن أجيب على السؤال ذات يوم، ولست أدعي بأنني خلال الشهور الأربعة أو الخمسة التي انقضت، كنت لا أنقطع عن التفكير في الإجابة، بل هي لحظات كانت تطفو بالفكرة على السطح، ثم تذهب اللحظة وتختفي الفكرة في زحمة الحياة، لكنني مع تلك الوقفات المتقطعة كنت أحاول تركيز النظر على الإجابة الأولى، التي كانت قد لمعت في ذهني فور قراءتي للسؤال، وهي أن مفتاح شخصية المصري، هو أن المصري صانع عابد، فكنت كلما أمعنت في تركيز النظر في تلك الإجابة، أرى فكرتها تفقد نصوعها الأول، عندما أدركتها بالبديهة الفطرية إدراكًا مباشرًا.

وأردت هذا الصباح ألا أترك الأمر للخواطر الخاطفة في اللحظات العابرة، فألقيت السؤال على نفسي من جديد، وكأنه ورد إليَّ في بريد الأمس، وإذا بالجواب ذاته تعيده بديهتي: المصري في صميمه هو صانع عابد، لكنني هذه المرة ألححت على الفكرة بالنظرة والتحليل، فماذا تريد بقولك هذا عن شخصية المصري؟ وكانت الخطوة القصيرة الأولى على طريق التحليل هي أن أستخرج ما هو مكنون في وصف للمصري بأنه «صانع» ووصفي له بأنه «عابد»، فالصفتان مختلفتان إحداهما عن الأخرى، اختلاف رجلين يتجه أحدهما نحو الشمال، ويتجه الآخر نحو الجنوب، وذلك لأن الصانع هو بحكم الضرورة يتعامل مع «الأشياء»، إذ ماذا هو صانع بصناعته إذا لم يكن بين يديه «شيء» يصب عليه الفعل؟ كالأرض يزرعها، وقطعة الحديد يطرقها ويشكلها مفتاحًا للباب، أو رمحًا للقتال، والحجر ينحته ويسويه ليقيم به بناء داره أو معبده، فلكي يكون الصانع صانعًا، لا مندوحة له عن الاتصال الحسي بشيء مادي يجعل منه موضوعًا لصناعته.

ولا كذلك «العابد» لأن جوهر العبادة — كالصلاة مثلًا — هو تركيز الذهن في باطن النفس؛ تركيزه في الحضرة الإلهية التي للعابد أن يستغرق انتباهه كله فيها، فبينما «الصانع» ينظر إلى خارج نفسه، ينظر العابد إلى دخيلة نفسه، وبعبارة أخرى نتناول بها المعنى نفسه من زاوية ثانية، نقول إن الصانع يمارس صناعته في عالم الشهادة، وأما العابد فيتأمل في عبادته عالم الغيب، والإنسان في حالته الأولى — حالة كونه صانعًا — يستخدم حواسه من بصر وسمع ولمس وغير ذلك، كما يستخدم أجزاء بدنه كالذراعين والرجلين، بينما هو في حالته الثانية — حالة كونه عابدًا — يُستحَب منه أن يطمس على حواسه ما استطاع حتى لا ينشغل بالأشياء المرئية بالعين والأصوات المسموعة بالأذن، كما يُستحَب منه كذلك ألا يحرك من بدنه إلا الحد الأدنى الذي تتطلبه ضرورة الأداء، ولم يكن مصادفةً أن يراعى في أماكن العبادة خفوت الضوء والهمس بالصوت، والمشي على أطراف الأصابع من القدمين (ونحن هنا لا نتفق مع من حرموا الذوق المرهف، فأخذوا يضيئون المساجد بمصابيح «النيون» بدلًا من إضاءتها بالشموع الحالمة).

فإذا قلنا عن المصري إن مفتاح شخصيته هو أنه «صانع عابد» كنَّا بمثابة من يقول عنه «بلغة التحليل النفسي الحديث» إنه منبسط الشخصية ومنطويها في حياة واحدة، وفي اتزان يعادل بين الكفتين، فمن حيث هو صانع يتعامل مع الأشياء، لا بد بالضرورة أن يكون من الطراز البشري المنبسط الذي يخرج عن حدود ذاته، ليصل إلى الأشياء التي هي موضوع صناعته، ومن حيث هو مؤمن بالغيب، متعبد لله، لا بد له بالضرورة كذلك، أن ينسحب من دنيا الأشياء وصناعاتها، إلى حيث تقوم الصلة بينه وبين ربه؛ والتاريخ المصري الطويل، يمكن تلخيصه في كلمتين: عبادة وصناعة، وفي كثير جدًّا من الأحيان، كانت الصناعة من أجل العبادة. فبناء المعابد مثلًا وما يلحق بها من صناعات وفنون إنما هي صناعة من أجل العبادة، ولما كانت مصر، من ناحية الأديان، قد مارست عبادتها في العهد الفرعوني، وفي العصر المسيحي، وفي عصرها الإسلامي، فقد اختلفت فيها صورة الشعائر الدينية من مرحلة إلى مرحلة، لكن الذي بقي معها عميقًا وراسخًا، منذ أول تاريخها إلى اليوم، هو الإيمان الديني بجوهر معناه، وأعني الإيمان بالله والغيب واليوم الآخر، وفي خدمة ذلك الإيمان قامت صناعات وفنون. على أن الذي أعنيه بصفة خاصة من التقاء الصناعة بالعبادة في شخصية المصري، هو مجموعة الصفات الخُلقية التي تسري من عقيدته الدينية لتتحكم فيه وهو صانع. إننا لم نخطئ كثيرًا في دعوتنا الأخيرة إلى وجوب العمل على «إعادة» المصري إلى مصريته التي غاب عنها اليوم شيء من جوهرها الأصيل، لا، لم نخطئ كثيرًا في تلك الدعوة؛ لأن مصر اليوم بما قد أصابها من شروخ في جدرانها، لم تعد مصر التي كانت، كلا، ولا هي مصر التي نرجو لها أن تكون بعد حين، مصر اليوم هي مصر بين مصرين: إحداهما كانت وكانت أمجادها وأخلاقها، ومصر التي سوف تكون بإذن الله، بأمجادها وأخلاقها، وأما مرحلتها الراهنة، فهي تشارك فيها الزعزعة الانتقالية التي تسود العالم كله في انتقاله من حضارة ذهبت، وأسدلت عليها الستار حربان عالميتان «١٩١٤–١٩١٨م» و«١٩٣٩–١٩٤٥م»، وفي مصر التي كانت، كان المصري وهو في دنيا الصناعة — أعني دنيا العمل بشتى صوره — يتخلق بالصفات التي تمليها عليه عبادته لربه، وليس هو من القليل النادر، حتى في يومنا هذا بكل ما أصابنا فيه، أن تسمع المصري يقول للمصري إنه إنما يتعامل مع ربه أولًا، قبل أن يتعامل مع المصري المخلوق، وربما يكون هذا القول على لسان المصري اليوم مجرد ألفاظ أُفرغت من معانيها، لكنها كانت مليئة بمعانيها عندما كان المصري فيما مضى يقولها لمواطنيه وغير مواطنيه، إنه حقًّا وصدقًا كان يتعامل مع ربه بما يرضي ربه عنه، وبهذه الصلة الوثيقة بين العمل والعبادة كان المصري يحيا حياته.

لقد شهدت طرفًا من ذلك العهد الذي انقضى، والذي كان فيه العمل والعبادة في حياة المصري يرتبطان بعروة وثقى، فكان المصري العامل — أيًّا ما كان نوع العمل — يجيد العمل لوجه الله، وليكن ما يكون بعد ذلك مقدار أجره، وكلنا يعرف تلك العلاقة الصوفية بين الفلاح وأرضه، إنه «يحب» أرضه كما يحب والديه وإخوته وأبناءه، إنه حين يحاول بجهده كله وفنه كله أن يهيئ لأرضه أن تنتج كذا إردبًا من القمح، أو كذا قنطارًا من القطن، فالروح التي تسري في كيانه عندئذٍ، ليست روح من «يبتز» من خصمه أكبر كسب مستطاع، بل هي روح الوالد الذي تزداد فرحته بنجاح ولده في الدراسة بدرجات التفوق.

خرجت من مسكني ذات يوم منذ سنين، ففوجئت برجل يقف على بعد خطوتين من بابي، متكئًا بمرفقيه على حاجز السلم، ومتجهًا ببصره نحو الباب، فسألته ما الخبر؟ قال: إنني أنا الذي دهنت هذا الباب بطلائه، وكأنني أنظر نحو صناعتي نظرة عاشق لمن يحب، مثل هذه العلاقة الروحية بين الصانع وصناعته كانت مألوفة في الصانع المصري (ومرة أخرى أقول إنني قصدت ﺑ «الصانع» كل عامل أيًّا ما كانت صورة عمله) كان العامل يتقن العمل لذات الإتقان، كثر أجره أو قل؛ وذلك لأن الإتقان من واجبات الدين، إنني أعلم عن بعض الكتب القديمة التي قامت بطبعها مطبعة بولاق منذ أكثر من مائة وخمسين عامًا، أعلم عنها خلوها من الأخطاء المطبعية خلوًّا يكاد يكون تامًّا، فلما أن أعيد طباعة بعضها في أيامنا الراهنة هذه، جاء فيها من الأخطاء المطبعية ما استوجب أن يلحق بها ملحق بقوائم التصحيح، ولا تسلني كم كان يتقاضى مصحح التجارب الذي لم يخطئ في عمله. منذ ما يزيد على مائة وخمسين عامًا، لا، لا تسلني هذا السؤال، لأن الذي أعلمه عنه هو أنه كان «مصريًّا» ومعنى المصرية هو أن يعمل وأن يتقن العمل، بغض النظر عن العائد؛ لأنه مصري مؤمن بالله، والإتقان لذات الإتقان هو جزء من العبادة.

المصري صانع عابد، وعبادته تسري في صناعته — ذلك وهو في حالته السوية — وبالصناعة ترتبط الأواصر بينه وبين دنياه، وبالعبادة تقوم الصلة بينه وبين السماء، إنه أقدم إنسان على وجه الأرض أدرك أن يوم الحساب آتٍ، ولقد رسم على جدران مقابره «ميزان» يوم القيامة، ومن وعيه هذا بالرابطة بين العمل في هذه الدنيا، وبين التبعات التي تترتب عليه أمام الله، ارتبط العمل عنده بأخلاقياته، إن المصري وهو على سجيته وفطرته، يخجله أن تعطيه أجر عمله بطريقة مكشوفة، ولذلك ترى المعطي يضع الأجر في غلاف أو يضمه في قبضة يده ليخفيه، وترى المتلقي يأخذ ما يأخذه مسرعًا به إلى حيث يخفيه، مرجئًا عملية العد والمراجعة إلى مكان يتوارى فيه، والسر وراء ذلك كله هو أن أخلاقيات العمل في ضمير المصري هي أن يكون العمل لذاته، وإتقان العمل من فروض الدين، وأن الأجر الحقيقي هو عند الله، ولا دخل للجنيهات والقروش في هذا كله، وليس حديثي هذا عن مصر كما نحياها اليوم، والتي هي — كما قلت — مصر بين مصرين، مصر كانت، ومصر سوف تكون بعون الله.

إن من رجال الفكر من يفرِّق في الناس بين نوعين: فنوع منهما يكون ذا عقل صلب، ونوع آخر في عقله لين، بمعنى أن أصحاب العقل الصلب هم أولئك الذين يتقيدون بالواقع كما هو واقع، بكل خشونته وغلظته وقسوته وصرامته، ومن هؤلاء يكون أصحاب المزاج العلمي، لأن العلم يأخذ الواقع على علاته — كما نقول — فلا هو يحط من شأنه، قائلًا عنه إنه «مادة» ملعونة خسيسة، ولا هو يزخرفه ويزينه من أوهام الخيال؛ وأما أصحاب العقل «اللين»، فهم أولئك الذين يرفضون الواقع كما يقع، ولذلك تراهم — مثلًا — يجعلونه غير جدير بالعناية كلها؛ إذ هو في حقيقته ليس أكثر من جسر نعبره لنصل به إلى الشاطئ الآخر، أو هو مجرد مجموعة من رموز وعلينا أن نقرأ تلك الرموز على هوانا نحن، لا على هواه، وإلى هذا الفريق ينتمي المتصوفة والشعراء، على أن هذين الضربين من «العقل»: ما هو «صلب» منها وما هو «لين» لا ينفصلان أحدهما عن الآخر انفصالًا تامًّا، بمعنى أن يكون هنالك فريق من الناس لا يملك إلا «صلابة» العقل، وفريق آخر لا يملك إلا ليونة العقل، بل الصفتان تجتمعان في كل فرد من الناس، بنسب متفاوتة، فلكل إنسان لحظاته الواقعية بكل ما في الواقعية من صلابة وعناد، ولحظاته العاطفية، بكل ما في العاطفة من تلوينات وتحسينات أو تعديلات للواقع، حتى يكون في صورة جديرة بأن تعاش، والأمر بعد ذلك هو أمر «نسبة» فأصحاب العقول الصلبة «العلمية» هم من ترجح عندهم كفة الواقعية، وأصحاب العقول اللينة هم كذلك من ترجح عندهم كفة الرؤية العاطفية.

وإذ نقول عن المصري إنه صانع عابد، فإنما نريد بذلك أنه — في مراحله التي يكون فيها مصريًّا سويًّا غير منحرف عن تاريخه — ذو وقفة تتوازن فيها الصلابة واللين عند النظر إلى الواقع، فآنًا هو «الصانع» الذي لا بد أن يعالج الأشياء على واقعيتها، فللأرض عند الزراعة طبيعتها، وللنحاس عند سبكه طبيعته، وهكذا، وآنًا آخر هو المتدين العابد، الذي يستقبل الدنيا بقلبه وعاطفته، لا بلسمة أصابعه.

المصري صانع عابد، يتعامل مع هذه الدنيا وكائناتها بحواسه وجوارحه، ويتعامل مع الغيب بقلبه وإيمانه، هو واقعي في الحالة الأولى، صوفي في الحالة الثانية، هو مادي في أحد جانبيه، روحاني في الجانب الآخر، ولقد ساعده على الجمع بين الجانبين في شخصية واحدة متكاملة أنه نموذج بشري فريد، يجمع في صيغة حضارية واحدة خصائص فلاحة الأرض، وبداوة الصحراء، ومجتمع المدينة، ولذلك جاءت تركيبة القيم الأخلاقية والجمالية في حياته، أبعد ما تكون عن بساطة التكوين، فلو كان زارعًا للأرض وكفى لكانت له خصائص الريف وحدها، ولو كان يحيا حياة البدو وحدها لكانت له خصائص أهل الصحراء بلا شريك، ولو كان ساكن مدينة فقط لكانت له في حياته قيم الحضر، ولكنه تلك الجوانب مجتمعة، وهي جوانب يمكن اختصارها في اثنين؛ لأن الفلاحة والبداوة معًا تلتقيان في الرؤية الرومانسية في بساطتها وعاطفيتها، وأما حياة الحضر في المدينة فتغلب عليها النظرة الكلاسيكية بعقلانيتها وترفها، والمصري صوفي عابد بالجانب الريفي البدوي من تكوينه، وهو عامل صانع فنان بنَّاء، بالجانب المدني من ذلك التكوين. وإذا استعرضت معظم شعوب الأرض، لما رأيت بينها هذا الطراز الذي يضم بين جنبيه في آنٍ واحد، التعامل مع الغيب وكأن الغيب هو وجوده كله، ثم يتعامل مع أشياء الدنيا وكأنه ليس في وجوده إلا الدنيا وأشياؤها، فشعوب الغرب بصفة عامة، يلهيها عالم الشهادة عن عالم الغيب، وفي شعوب الصحراء والسهول والمراعي والجبال، ترجح عندها نظرة الشاعر على نظرة الصانع، وقليلة هي الشعوب التي تميزت — بحكم تكوينها الحضاري نفسه — برومانسية الريف وكلاسيكية الحضر؛ إنه ليصعب علينا أن نباعد بين العناصر المكونة للرؤية المصرية، بحيث نتصور المصري متميزًا بعنصر منها فقط دون سائر العناصر، فالفلاح وهو على أرضه يحرثها ويبذر لها البذور، ويرعاها ويرتقب حصادها، يتصف بكل ما يتصف به الريفي من صفاء وصبر وأمل، حتى إذا ما أمسى عليه المساء، وجدته في القرية مستمعًا إلى حكايات عنترة وأبي زيد الهلالي، التي هي حكايات تصور المثل العليا في حياة البداوة، وهو بين هذه وتلك يطوي بين جوانحه نظرة المتحضر في انخراطه مع سائر مواطنيه، تحت حكومة مركزية موحدة، تظل بأجنحتها شعبًا موحدًا، له صناعته وعمارته وسياسته وحروبه.

وأين تجد ذلك المصري الذي هو صانع وعابد معًا؟ إنك تراه فيما صنعت يداه، تراه في كل مسلة قدت من الصخر العتي بإزميل قوي عبقري جبار، وارتفعت برأسها نحو السماء وكأنها كلمة دعاء في صلاة، إنك تراه في إخناتون يشهد أن الله واحد وراء كثرة الظواهر على الأرض وفي السماء، إنك تراه في راهب الدير يزرع ويعبد الله في حياة واحدة، إنك تراه في المساجد ومآذنها، التي لا تدري وأنت تشخص ببصرك إليها في روعة بنائها، أهي صلاة تجسَّدت في عمارة، أم هي عمارة ذابت في صلاة، إنك تراه في ذلك الشيخ الذي قرأت عنه، من شيوخ القاهرة منذ ثلاثة قرون، كان يؤذن للصلاة في مسجد ببولاق، ويقرأ القرآن بصوته الخاشع الجميل، ويؤمُّ المصلين، ويقضي بعض نهاره وليله في العبادة، وبعضها الآخر في خدمة العاجزين من أهل الحي، وخصوصًا المكفوفين منهم، يحمل عنهم العجين إلى المخبز، ثم يعود إليهم بالخبز، ويشتري لهم حوائجهم من السوق، إنك ترى ذلك المصري الصانع العابد في كل فلاح، في كل نجار وحداد وبنَّاء، إنك تراه في نفسك أنت إذا استبطنتها وعرفت حقيقتها، لكن إذا تلفَّتَّ حولك اليوم فلم تجده، فلا تقل إن المصري ليس كما وصفت، بل قل إننا لا بد أن نكون اليوم في مصر المؤقتة التي جاءت حلقة وصل بين مصرين: مصر التي كانت، ومصر التي سوف تكون بإذن الله.

ولقد تعلم المصري من تركيبة كيانه بجانبيها الصانع والعابد، تعلم منها الشيء الكثير، وحسبي أن يكون قد تعلم الدأب والصبر ورهافة الحس وروح السخرية ممن يتعلقون بالعابر الزائل؛ لأن المصري بأعمق أعماقه متعلق بالخلود.

لرسول الله — عليه الصلاة والسلام — حديث شريف، خلاصة معناه أن الناس أربعة أصناف في موقفهم من الغضب وسرعة إثارته وسرعة زواله، فهنالك نوع سريع الغضب سريع الفيء (أي زوال الغضب)، ونوع ثانٍ سريع الغضب بطيء الفيء، ونوع ثالث بطيء الغضب سريع الفيء، ونوع رابع بطيء الغضب بطيء الفيء، وخير هؤلاء جميعًا هو النوع الثالث، الذي هو بطيء الغضب سريع الفيء. انتهى معنى الحديث الشريف. ولقد نظرت إلى المصري على ضوء هذا التقييم، فوجدت أنه قد تعلم من حياته الصانعة المبدعة العابدة الطامحة إلى الخلود، تعلم من هذا كله أن يملك زمام نفسه فيبطئ في الغضب، ثم تدفعه روح التسامح أن يسرع في الخروج من ثورة غضبه، فهو — إذن — إنما يندرج في الفئة التي قال عنها رسول الله إنهم من خيرة البشر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤