هنالك آخرون!

اختلط في مكتبتي الفقيرة قمحها بشعيرها، ولم أعد أدري أين أمد أصابعي لأتحسس بها كتابًا أريده أو ورقة أبحث عنها، وما أكثر ما تكون الأصابع أيقن إدراكًا من العين، فالعينان — حتى وهما سليمتان — قد تخدعان الرائي فتوهمانه بوجود شيء ليس له وجود، وأما الأصابع فإذا أنبأت صاحبها بأنها لمست شيئًا، فلا بد أن يكون ثمة شيء يُلمَس، انظر إلى «مكبث» (في مسرحية شكسبير) حين أخذه الفزع بعد أن قتل الملك، ليجلس هو على العرش مكانه، فأوهمه فزعه أنه يرى في الهواء خنجره الذي اغتال به ضحيته، فازداد فزعًا على فزع، ونظر إلى يديه وهو يمدهما نحن شبح الخنجر في الهواء، وقال مخاطبًا أصابعه ما معناه: في وسعك أنت أيتها الأصابع أن تقطعي الشك باليقين، فعيناي تريان شبحًا لخنجري الملعون معلقًا في الهواء، ليذكرني بجريمتي المنكرة، فتحسسي أنت يا أصابعي وأنبئيني هل تلمسين خنجرًا، فلمستك هي التي لا تخطئ اليقين … وأعود إلى ذكر مكتبتي التي اختلط غثها بثمينها، لأقول إنه لا العينان تسعفان فيما أريد إخراجه من الرفوف، ولا الأصابع تهدي، فإذا تأزمت نفسي وضاقت، أخذت أجذب من الخزائن مكنونها كيفما اتفق، لعل مصادفة عمياء تهديني إلى الضالة المنشودة.

وذلك ما وقع لي منذ قريب، فقد أرقتني رغبة حامية في أن أعثر على بضعة أسطر كنت كتبتها في دفتر من دفاتر المذكرات، وكانت الفكرة المعروضة في تلك السطور، هي أن العلم يتقدم في عصرنا بسرعة تفوق الخيال أحيانًا، ثم سيق مثل لذلك، العالم ج. ج. تومسن وولده، فقد كان الوالد قد ترك حقيقة علمية معينة وهي على صورة يعلمها ويحفظها، فلما حدث أن التقى بابنه — وهو كذلك عالم في الميدان نفسه الذي كان يعمل فيه أبوه — أقول إنه حين حدث أن التقى الوالد بالولد وورد في حديث بينهما ذكر تلك الحقيقة العلمية المعينة، تبين أن الصورة التي كان الوالد قد عرفها عنها أيام أن كان عاملًا في ميدانه العلمي، قد تغيرت مع الزمن القصير — وهو الفارق بين والد وولده — حتى لأوشكت أن تنقلب رأسًا على عقب.

كان ذلك هو مدى ما حفظته لي الذاكرة من أمر تلك الحقيقة، لكن الرغبة اشتدت بي حتى أرَّقتني، الرغبة في أن أراجع الحادثة في دقة أصلها، فأين أجدها؟ في أي دفتر يا ترى بين دفاتر المذكرات؟ ها هنا دفعني اليأس إلى أن أبقر أكداس الخزائن لأخرج أمعاءها في ضوء النهار. معًى معًى، وكالطفل الذي يبكي على شيء مفقود، فيلهيه عن ضالته وعن بكائه أن يعثر على شيء آخر لم تدر به خواطره، كذلك كنت.

وذلك أن وقعت عيني على كراسة مكتبية (أجندة) لسنة ١٩٦٧، جميلة التغليف إلى درجة تخطف البصر، مُلِئت صفحاتها بفقرات مرقمة، فهمست لنفسي: ماذا تحمل هذه الكراسة في صفحاتها؟ وهنا تركت أكداس الكتب والأوراق مكومة على أرض الغرفة، واستدرت لأستوي إلى مكتبي، وأعددت عدساتي، وأضأت المصباح، وأخذت أقرأ، بادئًا بالفقرة الأولى، فقرأت من أسطرها الأولى ما يلي:

أهداني أحد الأصدقاء هذه الكراسة لتدوين المذكرات، قسَّمت صفحاتها تقسيمًا يسير بها مع أيام سنة ١٩٦٧، فلكل يوم صفحة كاملة، والكراسة مصقولة الورق، جيدة الصناعة، مزخرفة الغلاف، صقلًا وجودةً وزخرفةً تلفت النظر، فلم نألف لفترة طويلة أن تعرض لنا أسواقنا كراسات بهذه الأناقة كلها، فلعلها جاءت إلى صديقي من لبنان؛ إذ وجدت على صفحاتها ما يدل على ذلك … وضعت الكراسة على مكتبي، وتركتها تختفي حينًا وتظهر حينًا بين الكتب والأوراق، فهي آنًا هنا وآنًا هناك، هي على السطح مرة، ومرة في القاع، ولطالما اعترضت طريقي وأنا أبحث عن ورقة أو كتاب، فأنحيها بحركة عنيفة، كأنها هي المسئولة عن اختفاء ما أبحث عنه، وظلت هكذا طوال العام — ١٩٦٧ — الذي خلقت من أجله، ظلت هكذا كراسة خرساء، تضر ولا تنفع، تعوق ولا تعين، لم أخط على صفحاتها حرفًا، ولكني كذلك لم أجرؤ على إتلافها، وهي الكراسة المصقولة أوراقها، المزخرف غلافها، المتقنة في صنعها.

فلما انتهى العام، وتهيأ الناس لاستقبال عام جديد، قلت لأنطقن هذه الصفحات الخرساء، خلال العام الجديد، ولا بأس في أن أتأخر بها عامًا عن موعدها، فهكذا عوَّدتني حياتي في كل مراحل عمري؛ إذ عوَّدتني أن أتأخر عن الركب أعوامًا، ثم أظهر بعد أن تكون الفرصة الملائمة قد لفها الظلام.

عند هذا الموضع من مذكراتي، قلَّبت أربع ورقات أو خمسًا، ثم تابعة القراءة:

لئن كان الإنسان مخلوقًا ساميًا شريفًا، بالنسبة إلى سائر المخلوقات جميعًا، فليس هو كذلك إلا في صفوة من أفراده، وفي لحظات محدودة من حياة هؤلاء الأفراد هي لحظات الإبداع في الفكر والفن، وأما ما دون ذلك من أفراد الناس، ومن لحظات لا إبداع فيها عند الصفوة الممتازة، فالحياة عندئذٍ هي عضل قوي أو ضعيف، ومعدة تهضم الطعام أو لا تهضمه، وقلب يضخ الدم، ورئة تتنفس في صحة أو في مرض، فبينما يعلو الفكر والفن بالمبدعين إلى منزلة تدنو من منازل الملائكة، تهبط الأبدان بأصحابها إلى مرتبة واحدة مع الحيوان … أقول ذلك وفي ذهني صورة مضحكة مبكية لرجل من أصحاب الأبدان، رأيته في سيارة الطريق الصحراوي إلى الإسكندرية، اشترى لنفسه تذكرتين ليريح بدنه الضخم على مقعدين، ثم شاءت الظروف النكدة لمسافر أن يخطئ السيارة التي حجز مكانه فيها، فركب التي تليها، ولكنه لم يجد له مكانًا، فاتجهت الأنظار إلى صاحب المقعدين ليفسح مكانًا للمسافر المخطئ المسكين، غير أنه أصم أذنيه عن أصوات الرجاء.

إن مسلك ذلك الرجل ذي المقعدين، وقد جعل أذنًا من طين وأذنًا من عجين، حتى لا يصل إلى سمعه شيء من أصوات الرجاء، أقول إن ذلك المسلك له اليوم أشباه في مجتمعنا تعد بمئات الألوف، كأنما انقلبنا بين يوم وليلة شعبًا لا يحب فيه أحد أحدًا، إلا أن تكون العلاقة علاقة القربى الوثيقة، فهل تقول إن الروح «الوطنية» لم تتأصل في نفوسنا بعد، ونحن من نحن من أمة ترابط أبناؤها في وطن واحد منذ آلاف السنين؟ وإذا لم تكن هذه هي العلة فماذا عساها أن تكون؟

كان ذلك بعض ما قرأته في كراسة المذكرات التي وقعت عليها «مدشونة» بين أكوام الكتب والأوراق، فقلت لنفسي: سبحان الله، فلقد جاءني خلال اليومين الأخيرين سؤال واحد موضوعًا في صورتين مختلفتين: قالت السائلة الأولى، بعد أن أخذت تقص عليَّ روايات تجاوز حدود الخيال، عن ضروب من الكراهية فيما يتعامل به الناس بعضهم مع بعض، هنالك في بنائنا الاجتماعي الآن خلل، فقل لي أين موضعه؟ وقالت السائلة الثانية بعد شكاة تئن بالألم: إننا اليوم أشبه برجل دب في أوصاله وجع لا يعرف مصدره، فهلا قلت لي أين مكمن الوجع؟ وإذا أضفت إلى هاتين السائلتين عشرات من لقاءات عابرة، راح الملتقون فيها يرسلون أحاديثهم إرسالًا غير مدبر ولا مقصود، لكن تلك الأحاديث المرسلة لم تكن تلبث إلا قليلًا — في كل حالة — حتى تنعقد على محاولات للإجابة عن سؤال مضمر أحيانًا صريح أحيانًا، وهو سؤال يقول: ماذا أصابنا بحيث أصبح أحدنا يأكل لحم أخيه ميتًا فلا نكرهه!

وعندي أن ما أصابنا يمكن تلخيصه في جملة واحدة، وهي أن المصري في هذه المرحلة من تاريخه فقد حسه بوجود «الآخرين»، فالفرد الواحد يتصرف — ما مكنته الظروف — وكأنه وحده في هذا البلد، يريد أن يبتلع من المال أكثر مما يسع جوفه أن يبتلع، وأن يجمع في يده من السلطان أكثر مما يقتضيه وجوده، فكيف حدث ذلك للمصري، وهو الذي عرف الانتماء إلى «أمة» قبل أن يعرف ذلك سواه؟ كيف حدث للمصري أن يجعل من نفسه «فردًا» أكثر جدًّا مما يجعل من نفسه «مواطنًا» «يواطن» آخرين، في بلد واحد، وهو الذي أدرك فكرة «الوطن» قبل أن يدركها سواه؟ كيف حدث للمصري أن يسلك وكأنه لا يحمل في فؤاده «ضميرًا» يضبط له ذلك السلوك ويقيده، وهو الذي على يديه — كما يقول المؤرخ الأمريكي «بريستد» — لمعت الطلائع الأولى من «فجر الضمير»؟

لكن لا، مهلًا، فعن أي مصري نتحدث؟ إن هذا الذي أثار حيرة السائلين، لا يصدق إلا على قلة محدودة ممن قست عليهم ظروف المرحلة التي نجتازها اليوم، ولعلها تنحصر — بصفة عامة — في متعلمين لم يتحقق طموحهم بسبب فجوة واسعة بين ما تعلموه وما كانت تريد لهم الحياة أن يتعلموه؟ ولكن هل تصدق تلك الشكوى على المرأة المصرية من حيث هي أم تفني نفسها في رعاية أطفالها؟ وإذا لم تكن تصدق عليها، فهذا هو نصف الأمة، ثم هل تصدق الشكوى على ملايين الزارعين لأرضهم، كأن تلك الأرض ولد من أولاده، بل ربما ظفرت من عطفه بقسط أكبر، وإذا لم تكن الشكوى تصدق على نسبة ضخمة من الزارعين، فهذه عدة ملايين من الأمة لم يصبها السوء وتستطيع أن تضيف شرائح عريضة أخرى من بنائنا الاجتماعي لا تزال تحمل على كتفيها أمانة الإخلاص.

ومع هذا التحفظ فليس فينا من لا يلحظ تحولًا في وقفة المصري من سائر مواطنيه وقفة فيها استغلال للآخرين، وفيها استغفال للآخرين، بل فيها ما يشبه الإنكار لوجود الآخرين، وها هنا موضع «الخلل» — إذا استخدمنا اللفظة التي أوردتها إحدى السائلتين في سؤالهما — وها هنا كذلك مكمن «الوجع»، إذا استخدمنا اللفظة التي وردت في سؤال السائلة الثانية.

إذا كان هذا هكذا، فسؤالنا الضخم العويص، المعقد، هو الآن: ما الذي حدث في حياة المصري فأفقده شعوره بالآخرين؟! الباحث الفاحص في طبيعة المصري وملامحها الكبرى، يستحيل أن تخطئ عينه صفة التكافل الاجتماعي التي تميز المصري منذ أقدم عصوره، نعم إنه بغير قدر من ذلك التكافل الاجتماعي لما وجدت أمة بأي معنًى من معانيها، في مصر وفي غير مصر على السواء، لكن هنالك الفرق الشاسع بين تكافل يفرضه القانون على المواطنين، وتكافل ينبثق من طبائع الفطرة أو الثقافة الموروثة بغير حاجة إلى قوة القانون، فإذا رأيت ضروبًا من التكافل هنا وهنالك وفي كل مكان، فذلك في حد ذاته لا يجعل الكل سواء، لأن بعضهم يتعاطف مع الآخرين بحكم المحكمة، وبعضهم لا ينتظر من المحكمة حكمًا ليتعاطف مع ذوي قرباه، وجيرانه، وأهل قريته — ثم مع مواطنيه جميعًا — وكانت مصر من هذا الضرب الثاني، إلى أن حدث ما حدث في مرحلتنا الراهنة، فأصبحنا من أصحاب الضرب الأول، في أن تكون رعاية الفرد للآخرين مفروضة بأحكام القانون، مع فرق بيننا وبين سوانا — ربما — وهو أن سوانا فيهم كثيرون يحترمون القانون فينفذونه لا عن خوف، بل لأنه قانون وكفى، وأما نحن — أخشى أن أقول — فمنا كثيرون يجعلون اهتمامهم الأول إزاء القانون، هو البحث عن ثقوب فيه تصلح للفرار بين قيوده دون التعرض للعقاب.

أعود فأقول: إن سؤالنا العويص المعقد الآن، هو ما الذي حدث للمصري ليتحول هذا التحول الغريب؟ قد تختلف في التعليل، وقد تتعدد العوامل التي أدت إلى التحول، لكنني أرى أن أهم ما حدث في هذا الصدد، هو انعدام الصلة السببية (تقريبًا) بين المواطنين وجهودهم وقدراتهم وإنتاجهم من جهة، وما يصيبونه من جزاء من جهة أخرى، فإذا سألت عن مواطن: لماذا وُضِع في خريطة حياتنا هذا الموضع؟ فقلما يجيئك الجواب الذي يقنعك حقًّا بأن جهوده وقدراته وإنتاجه هي التي أدت به إلى ذلك، فهنالك ألف سبب وسبب قد تفعل في ذلك فعلها، قبل أن يكون ﻟ «الأحقية» اعتبارها؟ وحسبنا أن نعيد إلى الذاكرة تلك المفاضلة العجيبة التي شغلت أذهاننا ذات يوم، بين أصحاب الكفاءة وأصحاب الثقة لأيهما يكون الأمر؟ وتنتهي المفاضلة يومئذٍ بتفضيل من يوثق في إخلاصه على الكفء القادر؟ وكأن الكفاءة القادرة تتعارض مع الإخلاص والولاء، والذي نود هنا أن نلفت إليه النظر، هو أن للكفاءة مقاييسها المحددة الواضحة، وأما الثقة فمسألة ذاتية صرف، فإذا حق للسائل أن يسأل ما برهانك على أن فلانًا مهندس بارع، فلا يحق لك أن تسأل الواثق في إخلاص مساعديه: ما برهانك على أنهم جديرون بالثقة؛ لأن الأمر هنا — إلى حد بعيد — يختلط بعوامل نفسية خالصة تؤدي إلى حب أو إلى كراهية.

وضعت القيادات في أيدي المقربين بحكم إخلاصهم، سواء اقترن ذلك بالقدرة أو لم يقترن، ثم ما هو إلا أن بات هدف الطامحين إلى الصعود، هو أن يكون الطامح من هؤلاء المقربين قبل أن يكون من القادرين، فنتج عن ذلك نتيجة حتمية، وهي أن يصعد الصاعدون فوق رءوس القادرين، حتى إذا ما بلغوا ذراهم كانت لهم السيطرة على توجيه الكفاءات إلى حيث يريدون لها أن تتجه، لا إلى ما تقتضيه طبائع الأشياء والمواقف كما تراها المعرفة العلمية والخبرة بتطبيقها.

فإذا تذكرنا بعد هذا كله أن العدل الاجتماعي لا يعني آخر الأمر إلا أن يجد كل مواطن نفسه في الموضع الذي هيأته له فطرته وقدراته، عرفنا أمرين يتصلان بموضوع حديثنا: الأول هو أننا أخلصنا لمبدأ العدالة الاجتماعية أكثر جدًّا مما نجحنا في تحقيق ذلك المبدأ، والثاني — وهو المهم في الموضوع حديثنا هذا — أننا كثيرًا جدًّا ما جعلنا الطريق إلى بلوغ الأهداف التي يطمح إليها الطامحون، يقتضي بالضرورة أن يداس على أعناق «الآخرين»، ومن هنا نشأ «نموذج» اجتماعي جديد، هو الذي أراه مصدر «الخلل» أو مكمن «الوجع» فيما نشكو منه، وعلاج الأمر هنا — لحسن الحظ — بسيط ويسير وهو أن نعود إلى النموذج الاجتماعي الذي لا يعطي مكانًا لمواطن إلا إذا قدم من عمله وقدرته ما يبرر ذلك العطاء، وإذا حدث هذا قلت حدة السعار في أن يأكل أحدنا لحم أخيه ميتًا ثم لا نكرهه!

ومن بواعث حيرتي أن أجد في المرحلة الزمنية نفسها، التي تشهد هذه اللامبالاة القاسية من الفرد نحو «الآخرين» — إذا ظنهم عقبات في طريقه — أقول إن المرحلة الزمنية نفسها التي تشهد هذا، تشهد كذلك ميلًا ملحوظًا إلى التزمت الديني، أو التظاهر به، فكيف حدث لهذين الخطين أن يتوازيا جنبًا إلى جنب في وقت واحد؟ مع أن المسلم إذا ما شدد قبضته على عقيدته الإسلامية، ازداد شعورًا ﺑ «الآخرين» لا من حيث هم وسائل تُستغفَل وتُستغَل، بل من حيث هم غايات في أنفسهم، وانظر نظرة مدققة متعمقة إلى كل ركن من أركان الإسلام الخمسة، تجده منطويًا على ضرورة أن يتصور المسلم نفسه دائمًا، لا على أنه فرد مستقل منعزل، بل على أنه كذلك عضو في جماعة.

فالركن الأول، وهو شهادة ألا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، يتضمن بمنطق «الشهادة» نفسه الاعتراف بثلاث حقائق: الشاهد، والمشهود به، والمشهود أمامه، فأنا موجود بحكم أني «أشهد»، والله سبحانه موجود وحده لا يشاركه في الألوهية إله آخر، بحكم منطوق الشهادة، وثالثًا أن «آخرين» موجودون، هم الأمة التي أنا عضو فيها، والتي أشهد أمامها شهادتي لتكون معلنة، والركن الثاني من أركان الإسلام هو إقامة الصلاة، وفيها يحث الفرد على أن يصلي مع «آخرين» جماعة، فإن تعذر ذلك طيلة أيام الأسبوع، أصبح الأمر فرضًا عليه يوم الجمعة، ليتحقق وقوفه أمام الله مع «الآخرين»، وكأن في ذلك عهدًا مقطوعًا من الفرد أمام ربه، بأنه يقر بألَّا حياة له إلا منتسبًا إلى هؤلاء، ومتآزرًا معهم في صف واحد، يستقبلون قبلة واحدة، والركن الثالث هو إيتاء الزكاة. فإلى من تزكِّي إن لم تكن زكاتك ﻟ «آخر»، وتأمل جيدًا موقف «الزكاة»، فالزكاة تنمية بمعناها اللغوي، فأنت تنمو وتزكو وتسمو حين تعين «الآخرين» على النمو والزكو والسمو، فهي ليست تبعة «اقتصادية» نحو الآخرين فحسب، بل هي في الوقت نفسه تبعة أخلاقية وروحية، وكدت أقول «حضارية» أيضًا.

وأما الركن الرابع فهو صيام رمضان، ولست أعرف فترة زمنية يتكلم المسلمون خلالها لغة حياتية واحدة، أكثر مما يفعلون في رمضان، فالأمة كلها كأنها على صلة هامسة كل فرد بالآخرين، يأكلون معًا ويمسكون معًا، بل وكثيرًا ما يتحدون في ألوان الطعام، فتزول الحواجز كلها بين الفرد و«الآخرين» والركن الخامس وهو حج البيت لمن استطاع إليه سبيلًا، ففكرة «الآخرين» أوضح من أن يشار إليها، على أن «الآخرين» هنا تتسع دائرتهم لتشمل العالم الإسلامي كله.

فهل يكون المصري مصريًّا وهو يغض ناظريه عن «الآخرين» وجودًا وحقوقًا؟ وهل يكون المسلم مسلمًا إذا فعل؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤