الفصل السادس

لكن دعني أسألك هذا السؤال: هل ما نمر به يختلف عمَّا يمر به أي والد؟ حتى لو كان طفلك طبيعيًّا كأي طفل، هل حياتنا تختلف حتى الآن عن تجربتك؟ ربما أكثر مشقةً؛ نعم، أكثر حدةً في أغلب الأحيان، ولكن هل تختلف فعلًا في النوع؟

لم نكن ممَّن يتلذذون بالإعاقة. قابلت هؤلاء الناس أيضًا، آباءَ الأطفال المعاقين الذين يستمتعون بالمعاناة التي هم فيها، وجعْل الآخرين يشعرون بالذنب والأفضلية. أكره هؤلاء الناس، وأكره شعورهم بأحقيتهم في الغضب وتظاهُرهم بأن إشفاقهم على ذواتهم الذي لا يملُّ شجاعةٌ وشفقة، وعدم قدرتهم على تحقيق أي تقدُّم، أو طلب مساعدة، فهم يريدون أن يتكيف العالم مع ظروفهم، في حين — بقدر ما أستطيع أن أصوغ ذلك في كلمات — لا أريد إلا طلبًا يسيرًا؛ أن يعترف العالم بأن حياتنا؛ حياة ووكر وهايلي وزوجتي وأنا، لا تختلف عن حياة أي شخص آخَر، فيما عدا درجة التركيز والانشغال. أدرك أني كنتُ واهمًا. يسأل الناس في الغالب: «كيف تتمكن من فعل ذلك؟ كيف لا تزال قادرًا على الضحك، وعندك ابن مثل هذا؟» والإجابة بسيطة: الأمر أصعب مما يتصوره أي إنسان، ولكنه مُرْضٍ ومُجزٍ أكثر أيضًا، وما لم يقولوه: لماذا تبقون عليه في البيت معكم؟ ألم يكن هناك مكانٌ ما يمكن لطفل مثل ووكر أن يجد فيه الرعاية؟ حيث لا يتحمل الوالدان العبءَ كله، ويتيسر لهم بعض الوقت ليتفرَّغَا فيه للعمل والعيش ومراعاة حالهما الآن وفي المستقبل؟

سألت نفسي هذين السؤالين أيضًا. كنت أدرك أنه يتعيَّن أن يعيش ووكر في مكان خاص برعاية المعاقين في نهاية الأمر، ولكن هذا بالتأكيد بعد عدة سنوات، وكنت أتناول هذا الموضوع عرضًا، حتى في البيت. قلت بشكل عفوي ذات مرة على الإفطار: «علينا أن نضعه في قائمة انتظار طويلة الأجل لمكان رعاية.» غالبًا ما كنتُ أفكِّر في المشكلة وأنا في الفراش بالليل.

ودائمًا ما كانت ترد جوانا: «أوه، لست مستعدة لذلك.»

وأقول لها: «لا، لا، ليس الآن، فيما بعدُ.»

بمجرد بلوغ ووكر سن الثانية، بدأ يؤذي أذنيه ويعض نفسه، ولم يتوقَّف عن هذا لمدة عام ونصف العام. ظننا أنه يعاني من ألمٍ في الأسنان والأذن، واتضح عكس ذلك. ظهر مصطلح «تشويه الذات» لأول مرة في السجل الطبي لووكر في شهر مارس عام ١٩٩٩، قبل عيد ميلاده الثالث بوقت قليل. وبسرعة بدأ يتحول إلى ضرب نفسه في الرأس. كان يلكم نفسه، كما يفعل الملاكم البارع، وأطلقت هايلي على ذلك «اللكم الشديد» وتبعناها في ذلك.

المفارقة أنه كان يحرز تقدُّمًا إلى حدٍّ ما: دقة أكبر في مسك الأشياء بأصابعه، وقيامه بالأكل بنفسه قليلًا. (كان يحب الأيس كريم. إذا استطعت أن تجعله يبلعه، فالأيس كريم كان يجعله يبتسم ويعبس — من البرودة — في الوقت نفسه.) وأصبح بإمكانه تتبع الأشياء والإشارة بيده عند توديع شخص، والغمغمة كثيرًا مثل المجنون.

ثم توقَّفَ عن التواصل معنا.

هل السبب كراهية للذات؟! تعجَّبْتُ من ذلك. أخذناه لعيادة إعادة تأهيل مشهورة، تُسمَّى «مركز رعاية الأطفال بلورفيو ماكميلان» (وهي تُسمَّى الآن «مركز بلورفيو لإعادة تأهيل الأطفال») في شمال تورونتو، حيث اطلع على حالته معالج سلوكي. في الأماكن الأخرى حين يرى الناس عليه الكدمات يتساءلون عما كنا نفعل بطفلنا. ولاحظ دكتور ساوندرز أنه «لا يستطيع التواصل.»

أحيانًا يتألم ووكر ألمًا شديدًا حين يضرب نفسه بعنف ويصرخ من الألم، وفي أحيان أخرى بَدَا أن هذا يحدث بصورة أشد، كطريقة يريح بها رأسه، أو لكي يعرفنا أنه كان يمكن أن يقول شيئًا إذا كان باستطاعته الحديث. أحيانًا — وهذا أمر محزن لا نطيقه — كان يضحك بعد ذلك مباشَرةً. لا يستطيع قول أي شيء لنا، وكان علينا أن نخمن. وازدحمت حياتنا بكثير من المتخصصين. تَمَّ تشخيص حالة ووكر بأنها توحُّد وظيفي — ليس توحُّدًا إكلينيكيًّا، ولكنه كان يتصرف كما لو أنه مصاب بذلك — إضافةً إلى إصابته بمتلازمة القلب والوجه والجلد. وعالجه دكتور ساوندرز بأدوية البروزاك والسليكسا، والريسبيريدون (وهو دواء مضاد للاختلالات النفسية، يُستخدَم في علاج مرض الفصام؛ إذ إنه يخفِّف سلوك الوسواس القهري عند الأطفال)، ولكن لم تُجْدِ نفعًا هذه الأدوية. وذات مرة وبينما نحن في بنسلفانيا، ضرب يده ضربًا مبرحًا، وبعد ساعة من إجراء جراحة ليده لعلاج الإصابة، قضى ليلةً في المستشفى (ودفعنا فاتورة بقيمة ١٤ ألف دولار أمريكي).

بدأت ملاحظات الدكتور ساوندرز تسجل جوانب مرعبة أكثر فأكثر. على سبيل المثال: ««اللكم الشديد» للأذنين لمدة ٢-٣ أيام.» أتذكر ذلك الصباح، وبخاصة نظرة الحزن الشديدة التي حلَّتْ على وجه ووكر حين ضرب نفسه بعنفٍ. كان ينظر إليَّ مباشَرةً، وأدرك أن هذا أمر سيئ وخاطئ، وعلم أنه يؤذي نفسه، وأراد أن يوقف ذلك ولكنه لم يستطع، فلماذا لا أستطيع أنا؟ وأصبح نحيبه البسيط مخيفًا وعاليًا. ومنذ شهر يونيو عام ٢٠٠١ إلى ربيع عام ٢٠٠٣، ذكر كل إدخال في سجله الطبي تعاسته وسرعة انفعاله.

هل علم أن فرصته في التعلم توشك على الانتهاء؟ هل تنخفض قدرته على الرؤية؟ «٧٢ ساعة من السلوك العدواني، وصياح بائس لمدة ٥ أيام.» حتى خط الدكتور ساوندرز أصبح غير دقيق وغير واضح، وأذهله فوضى تلك الزيارات الصاخبة. «صراخ طوال النهار، مطلوب إيقافه.»

أخاف من حجرة الانتظار عند الطبيب، بما فيها من أمهات يرتدين ملابس أنيقة وأطفال يتصرفون بشكل جيد. كانوا دائمًا أناسًا طيبين، ولكن عند الدخول مع ووكر وهو يصرخ ويلكم رأسه بعنف، كنت أشعر وكأني أقتحم إحدى الكنائس كفرقة مكوَّنة من رجل واحد عارٍ وإحدى الألعاب النارية موجودة في مؤخرتي وأنا أغني: «نعم! ليس لدينا موز.»

«أم باكية.» يدوِّن دكتور ساوندرز ذلك في يوم ٢٩ من شهر ديسمبر من ذلك العام المخيف. «دخول عاجل للرعاية.»

أتذكر ذلك اليوم أيضًا. ركبنا السيارة متجهين إلى المنزل عائدين من عند الطبيب ومعنا ووكر، ثم أطعمناه، وحمَّمناه، ولاعبناه حتى نام. سمعت صياحه وهو ينخفض تدريجيًّا. عادةً ما تشعر جوانا بالراحة حين ينام ووكر، ولكن في تلك الليلة جاءت من حجرة نومه إلى الدور السفلي باكيةً، وتلف ذراعيها حول جسمها.

وقالت: «لقد ذهب … لقد ذهب ولدي الصغير، أين ذهب؟» ولم نستطع تهدئتها.

لذا، ولعلك قد تفهم السبب، بدأت في صباح اليوم التالي أبحث جديًّا عن مخرج مما نحن فيه. لم أخبر جوانا، ولكن كان عليَّ أن أجد مكانًا يعيش فيه ووكر، مكانًا ما خارج بيتنا، لم أكن أدرك أن الأمر سيستغرق سبع سنوات، إنه أكثر الأشياء التي فعلتها في حياتي إيلامًا، والألم لم يفارقني نهائيًّا.

***

figure

على مكتبي في العمل صورة لهايلي تقرأ لووكر، كان هذا في الجزيرة الهادئة التي توجد في الشمال. في الصورة، يرقدان جنبًا إلى جنب على السرير، وينظر ووكر في الكتاب الذي في يدي هايلي، وكأنه مأسور بكل كلمة فيه. ولا أدري إن كان يفهم أي مقطع تقوله أم لا، ولكن يمكنه سماع صوتها، ويشعر بسعادة غامرة لكونه معها، ويستحوذ عليه بوضوح حب أخته الكبيرة الذكية. لقد أصبح هو اللحظة، وأصبحت اللحظة ووكر؛ لأنه لا يوجد شيء آخَر يكونه. فووكر تجربة في الحياة الإنسانية عاشت في البيئة النادرة للحاضر الحالي، وقليلون جدًّا مَن يستمرون على قيد الحياة في تلك البيئة.

تذكِّرني الصورة بقصيدة ماري جو سولتر التي قرأتها ذات مرة في مجلة:

لا يتذكر أحد منَّا تلك الأيام
حين كان يعجب بنا الغرباء المارون من أول نظرة
فقط من أجل الحياة، أو من أجل المشي في الشارع.
يثنون على كل أسمائنا، ويستجدون منَّا الابتسامة.
أنت أيضًا بعد قليل يا حبيبي
ستفقد كل هذا،
عندما تطلب قبلة، أمنحك إياها،
وتتعلم كيف يحكم الحب على الإنسان بأن يتكسب الحب
بمجرد أن نتحدث عنه.

ليس لدى ولدي ووكر ما يقلقه هناك، إنه لا يطلب أي شيء، ومع ذلك يحبه الكثيرون. ولكني أشك أن يكون الأمر هينًا عليه بهذه الصورة.

قالت جوانا في إحدى الليالي، وكنَّا نرقد على الفراش، نتحاور قبل استغراقنا في النوم: «أسمع آباء الأطفال المعاقين الآخَرين يقولون طوال الوقت: «لا يمكن أن أفرط في طفلي …» ويقولون: «لا يمكن أن أفرط فيه مقابل أي شيء.» ولكني سأفعل، سأفرط في ووكر إذا كان بإمكاني الحصول على طفل عادي جدًّا يحصل على تقديرات متوسطة في المدرسة، سأفرط فيه على الفور. أنا لا أفرط فيه من أجلي، أو من أجلنا، ولكني أفرط فيه من أجله هو. أعتقد أن حياة ووكر صعبة جدًّا، جدًّا.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤