الفصل السابع

لمدة سبع سنوات كنَّا نتحدث عن انتقال ووكر إلى مكان لرعاية المعاقين، أو إذا أردنا الدقة: لمدة سبع سنوات كنتُ أثير بحذر موضوعَ انتقال ووكر إلى مكان لرعاية المعاقين، ولكن لم يستطع أيٌّ منَّا أن يواجه هذا الاحتمال. لقد كان علينا أن نقوم بذلك، ولكننا لم نستطع فعله.

يذكرني هذا المأزق بتجربة قرأت عنها قبل ذلك. وُضِعت فئران في صندوق سكينر، ثم تمَّتْ كهربة أرضية الصندوق، والطريقة الوحيدة التي يتمكَّن بها الفأر من الهرب من الصدمة الكهربائية هي القفز إلى منصة عالية، لكن للأسف، أي فأر يستخدم المنصة كان يُعاقَب بتوجيه تيار حادٍّ من الهواء البارد جدًّا مباشَرةً إلى فتحة شرجه؛ وهو شيء لا يحبه الفئران على ما يبدو، وبدأ يظهر سريعًا على الفئران التي تعرَّضت لهذا المأزق الذي لا مفرَّ منه سلوك فصامي تقليدي. أدرك جيدًا شعور الفئران.

قبل أن يبلغ ووكر سن التاسعة، كان وزنه يقترب من ٦٥ رطلًا، وكان يزداد حجمًا، بينما نتقدم نحن في العمر. كنت أبلغ من العمر ٥٠ عامًا، وجوانا ٤١ عامًا، وفجأة أصبحت هايلي مراهقة. إن حمل ووكر إلى الطابق العلوي مثل سَحْب حقيبة مصنوعة من القماش بها كرات حديدية، ويتمركز كلُّ الثِّقَل في القاع. بدأ النوم لثلاث ساعات كل ليلة ولمدة أربع ليالٍ متصلة يؤثِّر على صحتي، وأصبح الصداع النصفي العيني مظهرًا جديدًا في حياتي. إلى متى يمكن أن يستمر هذا الوضع؟ ويبدو أن اليأس يحلُّ علينا من وقتٍ لآخَر، خاصةً عندما تتدهور حالة ووكر.

ظللتُ أتابع أخبار دور الرعاية المعروفة ومراكز المساعدة الموثوق بها المخصَّصَة للمعاقين عقليًّا؛ لكن في كل مرة أتواصل مع أحدها، تفشل المحاولة بحجج مختلفة؛ كعدم وجود مكان شاغر، أو عدم وجود تمويل، أو كون المكان غير مناسب للأولاد الصغار. ولإحدى المؤسسات المشهورة الخاصة بالمعاقين عقليًّا التي تقع في شمال المدينة؛ قائمةُ انتظارٍ لعشرين عامًا ولا تقبل الأطفال. انضممتُ إلى الرابطة المحلية المَعنية برعاية المعاقين عقليًّا وذويهم، على أمل أن أتودَّد بنفسي إلى المنظِّمين وأجد مكانًا لووكر في وقتٍ مبكرٍ. بدلًا من ذلك، أبلغني المنظمون أن متوسط سن المتقدم لأماكن الرعاية في شبكة المدينة ٤٠ عامًا للشخص المصاب بمتلازمة داون وأن يكون والداه من كبار السن وبحاجة كبيرة إلى أماكن بدور رعاية. انصرفتُ من هذا الحوار مُدرِكًا أنه لا يزال أمامنا طريق طويل لنخوضه في المستقبل. لا عجب أننا أردنا أن نبقي ووكر معنا؛ فالمشهد خارج جدران بيتنا، في عالم أماكن الرعاية العامة للمعاقين أشد الإعاقة، يبدو مثل رواية لزولا.

عشنا في هذه الحالة اليائسة لسنوات. حينما كان ووكر عمره سنتان — خلال الأيام البائسة التي بدأ يَلْكُم فيها نفسه — عرَّفني صديقٌ له ابنةٌ معاقة برجل قيل لي: إنه يمكن أن يحل مشاكلي، كان يعمل محاميًا للمعاقين. لقد سمعت عن هؤلاء الناس: فهم أشبه بالمخلوقات الأسطورية التي يتحدَّث الناس عنهم كثيرًا ولكن نادرًا ما يراهم أحد. كان المحامي أشبه بالمدير والوكيل الخاص؛ شخص يتولَّى قضايا محددة (ولكن ليس أي قضية)، ويتدخل نيابةً عن الشخص الذي يوكله في بيروقراطية الإجراءات المعقدة والكبيرة المتعلقة بذوي الاحتياجات الخاصة. كان هذا المحامي يساعد الأُسر في تحديد ما يحتاجون، ووضع الخطة المناسبة لهم للهجوم على المنظومة البيروقراطية، ثم يضغط من أجل الحصول على الرعاية والدعم والمال. وفي الغالب يعمل المحامون مقابل مرتب من جمعيات الخدمة الاجتماعية، والتي هي في العادة مؤسسات لا تهدف إلى الربح وتموِّلها جمعيات خيرية ومِنَح حكومية.

قبل أن أقابل المحامي، تصوَّرْتُ أن هناك نظامًا حكوميًّا عامًّا تسير من خلاله كل قضية من قضايا الإعاقة. كنت مخطئًا؛ إذ قال لي المحامي: «كل واحد يتصرف بما يناسبه.» كان هذا المحامي في الثلاثينيات من عمره، ويرتدي بذلة ورابطة عنق، وأضاف: «ما تحصل عليه، يمكن ألا يحصل عليه غيرك.» وأخبرني عن أطفال التحقوا بعد عناء بدور رعاية لذوي الاحتياجات الخاصة، وآخَرين لديهم شققهم ويدفعون مليون دولار سنويًّا لفريق الدعم؛ فالأمر يعتمد على: كيف يطلب الفرد وممَّن يطلب وكيف يساوم؟ ثم أضاف: «لكن لِوُوكر احتياجات كثيرة، وهذا جيد.»

والحكمة أن تنتظر حتى تحصل على ما تريد؛ لأنك إذا حصلت على القليل من الحكومة، فمن الصعب أن تحصل على المزيد. على الجانب الآخَر، إذا حصل طفلك على مكان ما في دار محترمة ورفضت ذلك، فستعود إلى ذيل قائمة الانتظار. إن محصلة هذا التفاوض أشبه بلعبة غير عادلة، يصعب التنبؤ بنتائجها؛ مما يجعل والدَيِ الطفل المعاق قَلِقين وطمَّاعَيْن في الوقت نفسه، وممتنَّين أشد الامتنان لأي شيء يحصلان عليه في النهاية. وبدأت أشكال جديدة وأكثر غرابة للشعور بالذنب تهاجمني. فإذا عاش ووكر طوال الوقت في مكان رعاية جيد، فستصل التكلفة إلى ٢٠٠ ألف دولار أمريكي على الأقل سنويًّا، ولو عاش إلى سن الخمسين، فسيكون إجمالي التكلفة ٨ ملايين دولار أمريكي. ليس معي ٨ ملايين دولار، ولكن كان يعيش ٨ ملايين نسمة في تورونتو، المقاطعة الكندية التي أعيش فيها. هل هذا يعني أن ووكر يستحق أن يحصل من كل شخص منهم على دولار؟ كانت هذه الحسابات تشغل ذهني بالليل.

كان المحامي على دراية بكل تفاصيل عالم الخدمات الاجتماعية، وبنهاية الساعة والنصف التي قضيناها معًا، اقتنعت أنه عبقري، وقلت له ذلك. قلت له وأنا أرفع ناصية شعري: «أريد منك أن تمثِّل ووكر، إذا كان بإمكانك هذا، وأردتَ هذا، وكان لديك متسع لعميل آخَر.»

قال: «يشرفني ذلك … هو بحاجة إلى محامٍ، لكن هناك أمر واحد فقط: سأترك مجال المحاماة، وسأعمل لدى الوزارة.» بَدَا الأمر كما لو أن جدران الحجرة تتساقط فجأةً. فقد تولَّتِ السلطةَ حكومةٌ جديدة من حزب المحافظين، وقدرت وكالات الخدمة الاجتماعية بالمقاطعة أنها بحاجة إلى أحد موظفيها المتمرسين في جهاز التمويل. ومرت عشر سنوات تقريبًا حتى قابلت شخصًا مثله.

•••

فيما يلي جزء من دفتر ملاحظاتي:

٢٥ نوفمبر عام ٢٠٠٣

مكالمة من مدرسة ووكر. تقول آلانا جروسمن المديرة: «تواجهنا مشكلة كبيرة.» فقد تحوَّلَ من عض نفسه إلى لكم رأسه، إضافة إلى حركاته وسلوكياته الغريبة.

نتقابل في المدرسة الساعة التاسعة صباحًا، والحضور هم: جروسمن، ومعلمَا ووكر الشابان؛ توماس ودين، واختصاصية نفسية من مجلس إدارة المدرسة، وهي امرأة حازمة حريصة على الشكليات ترتدي فستانًا جزؤه العلوي مصنوع من قماش صوفي مربع النقش، واثنان من المساعدين التربويين، وأنا وجوانا، والتي ما زال عليها أثر معركة الصباح الخاصة بإيقاظ ووكر وتنظيفه وجعله يرتدي ملابسه وإطعامه وتهدئته، وهكذا لم يكن لديها وقت لاستبدال بيجامتها والتي كانت ترتديها تحت معطفها. جيش كامل للاعتناء بولدٍ واحدٍ. قالت الاختصاصية النفسية: «يحتاج إلى تحفيز»؛ وذلك توضيحًا لسبب لكمه لرأسه. لا أدري كيف عرفت ذلك. «نريد أن يتحول لكمه لرأسه إلى مسألة اختيار.»

يتقابل كل هؤلاء الناس بشأن ووكر مرة كل أسبوع. وهو يعرِّض حياته للخطر كلَّ ثمانية أيام من عشرة أيام. يقول دين: «يمكنه اتباع روتين، ولكنه يتضايق إذا فُرِض عليه … وأحيانًا يفيد الحزم معه.»

تقاطع الاختصاصية النفسية قائلةً: «لكن في الوقت نفسه نريد له أن يختار.»

أريد لها أن تختار مهنة أخرى!

تقول جوانا: «أرفض هذا الوصف لشخصيته، ولهذا السبب أصابني الإحباط من عدم قدرتي على توفير أي نظامِ تواصُلٍ معه.»

تقول صاحبة الفستان ذي الجزء العلوي المصنوع من قماش صوف مربع النقش: «هل يعتمد اعتمادًا كليًّا على مسك الأشياء؟»

هذا الذي أراه يحدث: يريد ووكر أن يطمئن أنه إنسان، ويكره اعتباره غريبًا ومختلفًا. والآن تريد الاختصاصية النفسية أن تحرمني من الطريقة الوحيدة التي أستطيع بها أن أخبره أنه ليس كذلك.

***

من دون محامٍ، ونحن بانتظار حدوث شيء ما يساعدنا على الخروج من كابوس رعاية ولد حاجاته في تزايدٍ بينما قدراتنا في تناقص، نجد أنفسنا نعود إلى الخدمات الخاصة التي تقدِّمها الحكومة كبديلٍ مؤقَّتٍ لحلٍّ أكثر ديمومةً. هناك خدمات الرعاية المؤقتة — والتي ترسل بأشخاص لرعاية الطفل المعاق لمدة نصف يوم مرتين كل أسبوع — ولكنها أيضًا تحتاج إلى السعي وراءها، وأن نتقدم إليها، وأن تتم الموافقة على حالتنا. كان كل شيء نحتاجه يتطلب ملء استمارة: أي استمارة؟ ومن أين نحصل عليها؟ ومَن لديه الوقت للحصول عليها؟ وإلى أين نرسلها؟ وبمجرد إرسالها، علينا أن ننتظر.

مر عدد من الطلاب الجامعيين البارعين بحياة ووكر بهذه الطريقة؛ يتذكر ذهني المشحون من السيدات منهم فقط جوين وإليزابيث وديل. جوين متخصصة في دراسة فترة العصور الوسطى وهي من تكساس، وهي امرأة بارعة ومبدعة وتتمتع بنظرة أمينة المكتبة الجذابة، وكان لها رفيق ضخم ولطيف. أما إليزابيث فهي أول امرأة أقابلها متحمسة للمسلسل التليفزيوني «بافي قاتلة مصاصي الدماء»: تستطيع التحدث بذكاء ودون ملل عن بطلتها، وعلَّمتني أن آخذ هذا الاهتمام من جانب الناس بمواد الثقافة الشعبية بجدية. أما ديل فهي الأجمل، وهي طالبة جامعية مخلصة، شعرها أسود وهادئة، تدرس تعليم الأطفال، وهي أخت لولد معاق. وتعشقهن هايلي كلهن كأنهن أخواتها الكبار، ولم يَعُدْ ووكر يزعجهن أكثر مما يزعجهن أحد الشوارع المزدحمة. فهن صغيرات جدًّا في السن، ولديهن أمل وحيوية كبيرين، وأشعر بامتنان كبير لهن. ويشبه شعوري بالامتنان لهن الحشائشَ التي تنمو بكثرة في المروج.

لكن لكلٍّ منهن حياتها الخاصة، ولم تمكث أي منهن معنا طويلًا. هناك بعض التخفيضات الضريبية المتاحة، ولكنني وجوانا نعمل؛ لذا فدخلنا عالٍ جدًّا بصفة عامة بما لا يجعلنا مؤهلين لتلك التخفيضات، وقد اكتشفنا ذلك بعد مَلء استمارات التقدم. وهناك برامج لتغطية تكلفة الأجهزة المساعدة، ولكنها تتطلب كمًّا كبيرًا من الأوراق، بالإضافة إلى المراجعات الشاملة: يبدو أن الحكومة ترى أني يمكن أن أتحايل من أجل الحصول على سرير بناموسية وحامل لأكياس التغذية، وهذا ما أردته دائمًا بالفعل! على أي حال، كان على أحدنا أن يملأ هذه الاستمارات؛ ولكن كلينا كان يعمل ويرعى ووكر كل الوقت. وعندما بدأنا نعمل بشكل حر، لكي تكون لدينا مرونة أكثر في الوقت، ملأت جوانا الاستمارات — كانت تقضي أربع ساعات كل أسبوع للقيام بهذا — ولكننا كنَّا نكسب مالًا أقل، ومن ثَمَّ كان بإمكاننا أن نتقدم للحصول على التخفيضات الضريبية هذه. ويشبه النظام بالكامل آلة روب جولدبرج الكرتونية التي تقوم بالمهام اليسيرة بشكل معقَّد جدًّا.

وتلك فقط البيروقراطية الموجهة للمعاقين، أما بيروقراطية غير المعاقين، فهي شيء آخَر مختلف كليةً. في سن الخامسة، بدأ ووكر في الذهاب إلى مدرسة بيفرلي العامة للأطفال المعاقين عقليًّا، وهي مؤسسة محلية مشهورة مخصَّصَة بالكامل للأطفال الذين لديهم إعاقة عقلية، حيث معدل الطلاب إلى المعلمين ثلاثة إلى واحد فقط، وللمدرسة مساحة جيدة التهوية وجميلة مصممة للأطفال الذين لا يستطيعون النظر من النوافذ العادية أو المشي بسهولة عبر الباب المعتاد. كان تأثيرها في ثقة ووكر بنفسه فوريًّا؛ ففي خلال شهر تقدَّمَت حالته من الحاجة إلى أن يُحمَل من حجرةٍ إلى أخرى في المدرسة إلى المشي بنفسه. لكن في خلال عام، أعلنت الحكومة المحلية عن نيتها إغلاق المدرسة؛ فالمدرسة مخصَّصَة فقط للمعاقين — أي مكان «تمييزي»، في مصطلحات مجال تعليم المعاقين — ولا تتوافق مع سياسة المقاطعة في دعم المدارس «الشاملة» (الأقل كثيرًا في النفقات)، حيث يتعلم الطفل المعاق من الناحية النظرية جنبًا إلى جنب مع الطفل العادي، ويألف كلٌّ منهما الآخَر. المدارس الشاملة تكون ممتازة في الغالب، ويفضِّلها جيل معين وطبقة سياسية معينة من التربويين، ولكن حتى هؤلاء التربويون يعترفون أن الدمج لا يناسب الجميع، وأن المؤسسات المخصَّصة للمعاقين يمكن أن تكون أكثر إفادةً للأطفال المتأخرين مثل ووكر.

لكن الحكومة المحلية ضد مدرسة بيفرلي لأسباب أخرى أكبر من ذلك، منها أن المدرسة لا تتوافق مع القواعد الغامضة لوزارة التعليم الخاصة باستيعاب الطلاب. ولكي يبرر وزير التعليم التخفيضات في ميزانية التعليم بالمقاطعة، قرَّرَ أنه على المدارس أنْ تستوعب عددًا معينًا من الطلاب لكلِّ قدم مربع من مساحة الأرضية، ويسمح هذا لحكومة حزب المحافظين ببناء مدارس أحدث و«أكفأ» في الضواحي، حيث يوجد دعم سياسي لهم، وإغلاق المدارس في وسط المدن الكبرى، حيث يعيش الليبراليون الذين يُعدُّون مصدر إزعاج لهم. ولا تتوافق مدرسة بيفرلي مع قواعد الاستيعاب هذه؛ لأن طلابها المعاقين يحتاجون إلى مساحة أكبر، لأنهم يستخدمون كراسيَ متحرِّكةً وبُسُطًا رغوية ووحداتِ تهوية وغرفَ لعب وحواملَ لأكياس التغذية والأدوية وعرباتٍ؛ لذا فالمؤسسة مرشَّحَة للإغلاق. وفي النهاية أجبر الغضب الشعبي الحكومةَ على عدم إغلاق المدرسة، ولكن أولويات الحكومة واضحة: المعاقون لا يصوِّتون؛ لذا لا يستحقون اهتمامًا فرديًّا كبيرًا، ولا تناسبهم الخطة الحكومية؛ أية خطة.

حاولنا جميعًا تلبية احتياجات ووكر مهما كانت الصعاب، وبمساعدة أولجا، وما نقوم به نحن، وأماكن الرعاية المؤقتة، وطلاب الجامعة، والبرامج المتخصصة، والوكالة الغريبة، والمدرسة، والحظ؛ تمكَّنَّا من تسيير الأمور لمدة عشرة أعوام، وأصبح الروتين الخاص بووكر مألوفًا أكثر، ولكن الضغوط نادرًا ما تتوقف، ولا يمكننا توفير أي قدرٍ من المال، ولا نستطيع وضع خطط واقعية، ولا يمكننا السفر أبعد مما يمكن أن تأخذنا إليه السيارة أو عربة الأطفال (الآن ووكر أكبر، وأصبح التعامُل مع ووكر في الطائرات أكثر صعوبةً)، أو أي مكان لا يوجد به مستشفًى جيد قريب. نحن نحاول أن نعيش كما لو أن الأمور كلها طبيعية، ولكنَّ الروتين معيق مثل المكان الذي عليَّ أن أنام فيه مع ووكر، ويبدو المستقبل كئيبًا وغير محدَّد الملامح. والأموال التي ننفقها على أولجا، والاثنا عشر ألف دولار التي ننفقها كل عام على الألبان الصناعية وحدها، والأموال التي ننفقها على الحفاضات؛ يمكن إنفاقها كلها على تعليم هايلي في الجامعة. تقول هايلي بشجاعة إنها ستحاول جاهدة الحصول على منحة دراسية لتوفير النفقات، ولكنها طفلة قَلِقة فعلًا، وهذا من تداعيات العيش في منزلٍ من المتوقع فيه دائمًا حدوث انفجار. أحلم باستمرارٍ بالمال، وبأني قد أسأت التصرُّفَ في ممتلكاتي، وبأن الشرطة تلاحقني وتطلق عليَّ النار في النهاية.

***

ثم فجأةً، يظهر بصيص من الضوء في أفق المستقبل المظلم؛ ففي خريف عام ٢٠٠٣، دُعينا مرة أخرى لقضاء عطلة نهاية الأسبوع احتفالًا بعيد الشكر في كوخ أصدقائنا الطيبين جون وكاثرين، ودُعِي أيضًا ضيوف آخَرون، وهم: صاحبانا الدائمان آلان كلينج وتيكا كروسبي، وزوجان آخَران وهما صديقانا القديمان لوري هاجينز وكولين ماكينزي. لكننا لم نستطع التحدُّث إليهم كثيرًا؛ لأن ووكر كان في حالة سيئة، فهو لم يتوقف عن الصراخ، ولم يتوقف عن ضرب نفسه، ولم يتوقف عن طلب اهتمام فرد واحد، بل فردين (وأحيانًا أربعة من خمسة أفراد موجودين)، ولمدة ثلاثة أيام في خريف كندا الصعب.

اتصلت بي لوري بعد أسبوعين، وبعد ضغوط كبيرة من تيكا وكاثرين؛ اتصلت بي أنا وليس جوانا. فلوري تعلم مَن منا ذو القلب الأكثر تعقلًا وتفتحًا. وقالت لي: «هناك شخص ما أريدك أن تقابله، وهو امرأة تعمل محامية في مركز «سَري بليس» — مشيرة إلى معهد محلي متخصص في دراسة التوحد وعلاجه — أرى أنها قد تتمكن من مساعدتك؛ لأنك بحاجة إلى ذلك.» فحياتنا في نظر لوري تُعَدُّ كابوسًا حقيقيًّا.

محامية، مرة أخرى! ستأتي المرأة إلى المنزل، وتستكشف حالة ووكر، وترى ما نحن فيه، وترصد حياتنا، وإذا كانت «حاجاتنا» — هذه الكلمة موضوعة دائمًا بين علامتَي اقتباس في ذهني — كبيرة بما يكفي، فستحاول مساعدتنا في إيجاد مكان في العالم الخاص بذوي الاحتياجات الخاصة، حيث يمكن لووكر أن يعيش وتتحسَّن حالته، ولكني لا أعلِّق آمالًا كبيرة على ذلك.

***

٤ أبريل عام ٢٠٠٤

الآن عندنا محامية لقضية ووكر، اسمها مارجي نيدجفيتسكي، وقالت في أول مرة نتقابل فيها، وذلك قبل الكريسماس في العام الماضي: «سنبدأ في التقدُّم بطلبات من أجل تقديم رعاية طويلة الأمد لووكر.» لا بد أنه قد بَدَا عليَّ أنني صُدِمْتُ، لذا أضافت بسرعة: «ليس عليك أن تتخذ هذا القرار الآن، بل فكِّرْ فيه بتروٍّ.»

على أي حال يستغرق أي طلب مثل هذا سنوات حتى يُقبَل. ولدهشتي، فمجرد حقيقة أن ووكر يستطيع الحركة ويعتمد على الآخَرين في قضاء احتياجاته يجعل منه حالة معقدة. هناك دُور لرعاية الأطفال الذين يعانون من ضعف بدني شديد، ولكن قد يتحرك ووكر هنا وهناك ويغلق أجهزة تنفُّسهم، وذلك من باب المرح الذي يشعر به بالضغط على الأزرار. ثم هناك دُور أخرى للأطفال ذوي الإعاقة العقلية الشديدة، ولكنهم لا يمكنهم التعامُل مع حالة الضعف البدني التي يعاني منها ووكر، ومرحلته العمرية.

أصبحت قلة الأماكن لأيٍّ من النوعين السابقين أمرًا شائعًا؛ ففي كل شهر في تورونتو وحدها، يبحث ٢٤٠٠ معاق عن مكان يعيشون فيه في ٧٦ دارًا لرعاية ذوي الاحتياجات الخاصة، وينتظر بعضهم ثماني سنوات، ونادرًا ما يتغيَّر هذا الرقم.

تقول مارجي: إن رهاننا الرابح هو الحصول على مساعدة من فرع جديد لمؤسسة عريقة تقدِّم خدمة اجتماعية متخصِّصة في التعامل مع «أطفال غير عاديين وتصعب خدمتهم».

لا تروق لي فكرة عيش ووكر في أي مكان آخَر غير البيت، ولكن شعوري بالذنب الآن يُعَدُّ ترفًا. علينا التصرُّف؛ فهو لا يستطيع أن يكون وحده حتى لمدة دقيقة، فهو يحتاج لمساعدةٍ ٢٤ ساعة في اليوم، وفي النهاية عليه أن يخرج من المنزل. تقول مارجي: إنها فكرة جيدة أن نُبكِّر بنقله؛ إذ في سن الثامنة عشرة سيصبح الأمر غايةً في الصعوبة.

الزيارة الأولى لها لبيتنا كانت في حجرة المعيشة. مارجي أكبر منَّا في السن، ربما تكون في أوائل الستينيات من عمرها، وهي طويلة وشعرها رمادي ينسدل حتى كتفيها، وهي هادئة تمامًا، وتستمع عشرة أضعاف ما تتحدث، ولا تستخدم مصطلحات الخدمات الاجتماعية؛ مما جعلني أُعجَب بها على الفور. وحتى جوانا وافقت على الجلوس معها والتحدُّث إليها عن إلحاق ووكر بدار للرعاية طويلة الأمد؛ إنها حقًّا مفاجأة.

تقول جوانا لمارجي: «يستجيب ووكر بالحب … ونريد أن يذهب إلى مكان حيث يحبونه كله، وليس بعضه.»

لكنها لا تقصد ذلك، وهي مثلي لا تريده أن يذهب إلى أي مكان على الإطلاق.

يتشارك ووكر ووالدي في شيء ما، شيء لا نستطيع تحديده. فوالدي في التسعينيات من العمر، وما زال يذهب إلى العمل، وما زال يمارس تدريبات رياضية لمدة خمسَ عشرةَ دقيقة كلَّ صباح، ولكنه يشعر بضعفه ويكره ذلك، وقد توقَّفَ عن قيادة سيارته في سن الثالثة والتسعين، بعد إصابته في رقبته، وما زال يرى أنه سيعود إلى قيادة سيارته مرة أخرى. لن يحدث هذا، ولكن السيارة تخفِّف الضغوط عليه بدرجة كبيرة؛ فلا يمكنه المشي سريعًا مثل بعض الناس، ولكن بالسيارة يمكنه أن يصبح الرجل الذي كان في ماضيه. اسمه بيتر، واسمه الأوسط هنري، وهو ما ألقِّب به ووكر.

أذهب بالسيارة في عطلات نهاية الأسبوع لمساعدة والِدَاي، فهما يعيشان في منزل صغير وحدهما بجوار نهر، آخِر ما تبقى من الريف في أطراف ضاحية ذات أنشطة متنوعة. يحتاج أبي إليَّ ويحتاج سيارتي من أجل قضاء بعض المهام، كأنْ يذهب إلى الحلاق، أو متجر الخمور، أو الأماكن المختلفة الخاصة بإعادة تدوير الأشياء، أو متجر البقالة، أو الزيارات الأسبوعية للمستشفى لعلاج توسُّع الأوردة، أو إدخال السعادة على أمي؛ كل ما سبق يمثِّل مُتَعَهُ الآن، فهو يستميت حتى يصبح قادرًا على الحركة، ومن هنا تأتي الحركات الثلاث للخروج من السيارة: يفتح الباب، ثم يميل برجليه إلى الجانب — «هل تستطيع ذلك؟ نعم، نعم» — ثم يبسط ذراعيه إلى جانبَيْ إطار الباب، كما لو أنه على وشك الهبوط بالمظلة إلى منطقة بعيدة من إحدى طائرات شركة سيسنا. الصخرة للوراء، والمنجنيق جاهز و… استعداد! انطلاق! ثِقَل معادل لمنع الرمية للأمام! هل تمكَّنَ فعلًا من الخروج؟ نعم، مرحى! المقلاع البشري، يُستخدَم فقط لجلب اللبن أو دفع الفواتير في المصرف؛ وهو أحد مصرفين يستخدمهما هو وأمي البالغة من العمر ٩٤ عامًا، حتى لا يخاطرا بوضعِ كلِّ أموالهما في مكان واحد.

جلد والدي ضعيف مثل الورق البصلي المستخدَم في إحدى نُسَخ الكتاب المقدس. اعتدتُ أن أضع ذراعي حول كتفَيْه حين نتقابل، وهو يجفل إذا نسيتُ وحاولتُ القيام بهذا بعد ذلك. كنتُ أخشى أن أخلع شيئًا ما من مكانه، ويجب عليَّ تجنُّبُ هذا الخلع بأي ثمن، وبكل أشكاله. لا يتغير الروتين — المصرف، ثم أماكن إعادة تدوير الأشياء، ثم متجر البقالة، بهذا الترتيب — ولا المسار. يسأل وهو في السيارة: «لماذا تسير في هذا الطريق؟» كما لو أنني شكَّكت في وجود جزيئات الكربون نفسها. وهو يصل مبكرًا عن المواعيد المحدَّدة بخمسٍ وأربعين دقيقة، ويحمل منديلًا يمسح به لعابه من الجانب الأيسر لفمه حين يعتقد أني لا أراه، فالشيخوخة ليست فقط شيئًا يكرهه، بل هي تزعجه شخصيًّا؛ فمزاجه متقلب، وهو حاد الطبع قليلًا. وبينما تخور قواه، يقل تحفُّظه المعروف عنه؛ فهو سيئ المزاج الآن، إلا عندما يكون مع ووكر؛ فيبدو أنهما يدركان ضعفَ بعضهما بعض؛ ولذلك يصبر كلٌّ منهما على الآخَر.

كل مرة يتقابلان فيها يحدث الشيء نفسه: يقف الولد أمام الرجل العجوز، ويمسك والدي بيديه وينظر في عينيه ويقول: «أهلًا بك.» ثم يبتسمان. ويعرف والدي ما يفعله دون أن يخبره أحد. «أهلًا بك، يا سنودجراس.» كما اعتاد أن يقول لي ولأخي، ثم يتسلل ووكر إلى حجره ولا يتحرك لمدة عشرين دقيقة. ووكر يعرفه، ولا أدري كيف لأنه لا يرى جده كثيرًا. ليس صحيحًا أن السبب في ذلك هو أن والديَّ لا يحبانه؛ فهما ببساطة لا يتحمَّلان القلق الذي يمكن أن يتسبَّبَ فيه، وهما يرسلان بطاقات تهنئة له في عيد ميلاده، ويطلبان منَّا أن نشتري له هدايا مناسبة في الكريسماس، ويسألان عن حالته كلما زرتهما، ولكن الفوضى التي يمكن أن يتسبَّب فيها ووكر عندما يأتي لبيتهما واستهدافه المباشِر لزَهْريَّة بها زهور كالسيلاريا موجودة على طاولة الألعاب العتيقة الخاصة بأمي؛ لا، هذا ليس أمرًا مريحًا، ويمكن لأنفه فقط أن يُغضِب بشدة أمي المحارِبة للجراثيم.

هي تحبه، لا شك في ذلك؛ فهي — اسمها سيسي — تحبه كأي شيء في الطبيعة، مثل نبات الياسمين البري الخاص بها أو ورودها أو النهر في سفح حديقتها، كما لو أنه يجري في عروقها مثل راسب طبيعي سميك. إنها البنت الريفية التي توجد بداخلها، العامل الكادح الذي يتعامل مع الطبيعة كما هي. ولكن البنت الريفية هذه — السمينة والقوية والشجاعة وحتى الشرسة — يزعجها احتياجاته العلمية؛ أنابيبه وجرعات دوائه، وتخشى أن تؤذيه أكثر. وفي اليوم الذي أخبرتها فيه بدرجة الإعاقة التي سيكون عليها — وكان هذا بعد رحلتنا إلى مستشفى الأطفال في فيلادلفيا، بعدما علمنا أن قدرته على القراءة وعلى أمور أخرى كثيرة لن تتجاوز قدرات طفل بلغ من العمر سنتين أو ثلاثًا — كانت تجلس على أريكة صغيرة في حجرة التليفزيون في بيتها الرائع، ونظرت إليَّ ويداها في حجرها، دون أن تُبدِي أيَّ رد فعل، ثم تقدَّمت إلى طرف الأريكة، وقالت:

«حسنًا، ما علينا حينها إلا أن نحبه كما هو.»

لم ترَ في ووكر هبةً مثلما رأت فيَّ حين كنت أشبُّ عن الطوق: فلربما جعلها ووكر أكثر رفقًا (وإذا كان الأمر كذلك، فهو ولد معجزة)، لم يكن هذا ردًّا بالمعنى الحرفي — «ما علينا حينها إلا أن نحبه كما هو.» — ولكنه الرد الوحيد المتاح دائمًا، في الانتظار. وتتمتع أمي بموهبة إصابة كبد الحقيقة.

من ناحية أخرى، يُعَدُّ والدي صديق حفيده، ويجلسان كلاهما يمسك بيد الآخر. وإذا تذمَّر ووكر، سيسمع عبارة سريعة وبَحْرِيَّة «توقَّف، الآن!» وكأن والدي الذي عمل رائدًا بحريًّا لسنوات في سلاح البحرية الملكي يعود إلى الخدمة. وغالبًا ما ينجح هذا، ويشعر الجد والحفيد بالسعادة للانتظار معًا، وربما ينتظران الشيء نفسه؛ ولكن ما هذا الشيء؟ هذا ما قد يجول ببالك حين تراهما. هذا الرجل الذي أصبح أنا وأنا الذي أصبحت ووكر. ذلك التعثُّر، وذلك التردُّد، وتلك الحيرة؛ للرجل العجوز، وللولد، ولي.

ليس والدي رجلًا عاطفيًّا؛ إذ أُرسِل إلى مدرسةٍ داخليةٍ عام ١٩١٨ وهو في سن الرابعة، ومات أخوه العزيز هارولد، على متن سفينة في معركةٍ عسكريةٍ ما. وترَكَ أخٌ آخَر البيت، ولم يُسمَع عنه مرة أخرى، ولم تأتِ سيرة أيٍّ منهما بعد ذلك. ولكن ووكر يحسِّن من طباعه، وكلما كبر والدي في العمر، يتضح هذا أكثر؛ فهو يرى الطفل المحطَّم، ويبدأ في إدراك أن القوة ليست مهمة كما كان يعتقد.

والآن أستعدُّ لأن أضع حفيده في دارٍ لرعاية ذوي الاحتياجات الخاصة.

***

منتصف شهر أبريل عام ٢٠٠٤

اجتماع آخَر في مركز سَري بليس، وهو عبارة عن مؤسسة في تورونتو متخصصة في علاج التوحُّد، حيث تُشرِف على حالة ووكر معالِجةٌ سلوكيةٌ.

هذه الاجتماعات دائمًا كما هي: حجرة ألعاب، وموكيت، وجدران فاتحة اللون، وست نساء أنيقات يحملن لوحات ملاحظات، عمرهن بين الثلاثين والخمسين، ويلبسن كلهن أردية فضفاضة من قماش الدنيم أو جينزًا فضفاضًا يبدو باليًا ومرنًا من عند الخصر؛ وهي ملابس تناسب العمل على الأرضية مع أطفال يسيل لعابهم.

اجتماع اليوم بشأن لَكْمِ ووكر لرأسه، ودائمًا هناك مصطلحات جديدة نتعلمها.

«إذن الأمر داخلي؟»

«يدفعه لذلك شيء داخلي، من الواضح أنه يحصل على شيء من هذا الفعل.»

«مهاراته الحركية ليست بارعة بما يكفي كي يتعلَّم لغة الإشارة.»

«قد تكون الإشارة مفيدة لذوي الأداء الضعيف.»

كي يتواصَل ووكر بالإشارة، يحتاج إلى عشر جلسات من «تعليم الإشارة»؛ فهي «أداة» جديدة تتطلب «مدخلات» جديدة، ومن ثَمَّ أشكالًا جديدة.

أخبرتني إحدى المعالجات أنها تقضي نصف وقتها في إنهاء الإجراءات البيروقراطية، ولكن لولا هؤلاء النساء اللاتي يُضِئْنَ الطريق، لَكنتُ فقدتُ الأملَ منذ سنوات.

لا تعطينا المعالجة السلوكية أي أمل. تقول: «السبيل لمنع الطفل من ضرب نفسه يكون عن طريق الطعام والألعاب، ولكن ووكر لا يهتم بتلك الأمور.»

في البيت، جوانا في حالة سيئة: «الآن، أدركتُ أنهم لا يعرفون أي شيء. الأمر واضح الآن، لا أحد يساعدنا؛ لأنه ليس باستطاعة أحد ذلك.»

***

٢٨ أبريل عام ٢٠٠٤

مرَّتْ ستة أشهر. تُعرِّفنا المحامية الخاصة بنا، مارجي، على ليزا بينروبي وميندا لاتوسكي، العنصرين الأساسيين في الفريق الجديد المعنيِّ بقضية ووكر. تعمل مارجي في قضية ووكر منذ ستة أشهر، وليزا هي رئيسة الفريق.

حضر الثلاث إلى البيت وجلسن في غرفة معيشتنا، واستمعن إلى قصة ووكر. حتى الآن، نعرف كيف نحكيها. وبعكس الأطباء، تتمتع ليزا وميندا ومارجي بالقدرة على التواصل بالعين، ويبدو أنهن يستمعن إلينا أيضًا. تسأل ميندا؛ باهتمام بالغ على ما يبدو: «كيف قمتم بهذا لمدة عشر سنوات؟» تبكي جوانا، ولا تستطيع الاستكمال. أبدأ في البكاء وأشعر أن عليَّ أن أتمخط، وبعد ذلك أعتذر إلى مارجي؛ فتقول: «لا، من المفيد أنك بكيت.»

ستكون ميندا المسئولة عن قضيتنا، وحتى يتم تطبيق هذا البرنامج الجديد في أونتاريو، يجب أن يكون الطفل المتأخر في النمو تحت وصاية الدولة — يتنازل عنه والداه قانونيًّا لجمعية مساعدة الأطفال — حتى يمكنه الالتحاق بإحدى دور رعاية ذوي الاحتياجات الخاصة، ووفقًا للبرنامج الجديد سنظل نحن أولياء أمر ووكر؛ وهو ما يُعَدُّ مصدرَ ارتياحٍ ومطلبًا لنا. إن أي شيء عكس ذلك قد يصدمني، ويجعلني أرى حجم خطأ ما نفعله. سنتخذ كل القرارات، ولكن رعايته ستتوزع على الجميع. ترفض ميندا، مخلصتي الجديدة، الإشارة إلى أي دار رعاية محتملة لووكر بأنها «بيت ووكر» وتقول: «سيكون بيتكم أيضًا.»

المشكلة الحقيقية هيكلية؛ فحتى فترة وجيزة، لم يكن أحد — بالتأكيد من جانب جهاز التمويل الحكومي — مستعدًّا للاعتراف بأن الطفل يمكن أن يكون محبوبًا من جانب والديه وأن والديه يجدان صعوبة بالغة في رعايته؛ لأنه حتى عشرين عامًا مضَتْ، لم يكن هناك هذا التقدم الطبي الكبير، ولم يكن يُكتَب للأطفال البقاء، وقد أتاح الطب الحديث وجود سلالة جديدة من البشر تحتاج إلى رعاية فوق طاقة البشر. وعلى المجتمع الاعتراف بهذه الحقيقة، خاصةً على المستوى العملي.

ويُعَدُّ ووكر مثالًا شديدَ الحاجة للرعاية من السلالة البشرية الجديدة تلك. هناك أماكن عالية الجودة لرعاية الفئات الخاصة، ولكنها في العادة تستوعب من ١٠ إلى ١٢ شخصًا فقط. فبتكلفة ٢٥٠ دولارًا في اليوم — في ظلِّ رعايةٍ على مدار الساعة، وتوفير مأوًى وغذاء ووسائل تنقل — يظل التمويل محدودًا ويعتمد على الحاجة، والأدوات الغريبة الخاصة بالرعاية وحدها مكلِّفة جدًّا: فمقعد التغذية الخاص بذوي الاحتياجات الخاصة ثمنه ٧٢٩ دولارًا، وخوذة بريزلايت ثمنها ١٢٩ دولارًا، والسرير المغطى (للأمان) ثمنه ١٠ آلاف دولار. استغرق الأمر منا ثلاث سنوات تقريبًا لتوفير المال اللازم لشراء هذا السرير لووكر في البيت، وتمكَّنَّا من ذلك فقط في النهاية بمساعدة مارجي. في الوقت ذاته، أستطيع أن أتقدَّم للحصول على رهنٍ بقيمة ٥٠٠ ألف دولار خلال عشرين دقيقة. قالت جوانا بعدما غادرن: «ما أريده فعلًا أن يعطونا المال، حتى نتمكَّن من توفير كل الرعاية التي يحتاجها على مدار الساعة، لكن في بيتنا.»

لا أوافق على هذا، فلستُ متأكدًا من أن عمل مستشفًى مصغَّر له في بيتنا سيحل المشكلة.

لكن جوانا تدَّعي أن لديها إلهامًا تكشَّفَ لها من حالة ووكر، فتقول: «أحيانًا لا يكون الأمر اختيارًا بين الصواب والخطأ، لكنه أحيانًا اختيار بين السيئ والأقل سوءًا. وكان هذا يلهمني أن بعض الأمور لا يمكن إصلاحها.»

قد تُغيِّر رأيها.

ماذا كان يحدث لزواجنا؟ في كثير من الأيام بَدَا الأمر كما لو أنني رجل مصاب بمرض مزمن لا يعلم به، يزداد ضعفًا ووهنًا، ولكنه مع ذلك يذهب إلى العمل كل يوم.

ذات صباح، قالت لي جوانا موضِّحةً الحالة المزاجية السيئة المتبادَلة بيننا: «نطلب من أنفسنا الكثير جدًّا فيما يخصُّ رعاية ووكر، أما حين يتعلَّق الأمر برعاية كلٍّ منَّا الآخَرَ، فلم يَعُدْ يتبقَّى لنا شيء.»

تتراوح تقديرات عدد الزيجات التي تفشل بسبب رعاية طفل معاق من ٦٠ إلى ٨٠ في المائة، والزيجات التي نجحت في الاستمرار، وفقًا لدراسات أخرى، هي تلك التي كانت الأقوى في مواجهة التحدي. ليس لديَّ فكرة بشأن دلالة أيٍّ من النتيجتين السابقتين. في حالتنا توجد مشاعر الاستياء مثل الغبار الدقيق فوق كل شيء، ولكنَّ فكرة تخلي بعضنا عن بعض غير واردة على الإطلاق؛ فلا سبيل لرعاية ووكر إلا إذا قمنا بذلك معًا.

مع تقسيم الليالي بيننا، أصبحنا مثل زملاء السكن أكثر منَّا زوجًا وزوجة. كنت أرى جوانا في المنزل في الصباح، تحمل الحفاضات وأكياس التغذية وتتجه خارجة من الباب إلى المواعيد المحددة، وتحمل بين ذراعيها الولد نائمًا، وبالليل مرة أخرى بينما هي تهدهده على ركبتيها أو تبعده عن واجب هايلي المنزلي أو اللبن الصناعي الموضوع في أنبوب التغذية، أو أراها (في اللحظات الممتعة حين يكون نائمًا) تجلس إلى الطاولة المصنوعة من خشب الصنوبر في المطبخ، وكوب الشاي بجانبها، وتختلس الوقت لقراءة الصحيفة (لا أحبذ ذلك بالطبع؛ لأني ليس لديَّ الوقت لقراءة الصحيفة، كما هي لا تحبذ ذلك حين نتبادل الأدوار). كوب الشاي الذي بجانبها: فكرت في هذا كثيرًا حين كنَّا محطَّمَين لدرجة أننا لا نستطيع التحدُّث، وكيف أنها تعيد تسخينه أكثر من مرة خلال اليوم، وتضعه بجوارها دائمًا، مثل المرهم أو الدواء المنشط الذي يعينها على القيام بواجباتها. أصبحتُ أعرف جيدًا الأرواب التي ترتديها: الكيمونو الطويل الذي اشتريته لها من معرض المصنوعات، والروب الياباني القصير فيروزي اللون، والروب الحريري القصير الذي كانت ترتديه في الصيف، والروب القطني الأسود متعدد الأغراض الذي كانت ترتديه حين يهب الشتاء على المنزل. «زوجتي»، تلك الكلمة القديمة؛ أم طفلاي، أم ووكر. (حلَّتِ المرارة مرةً أخرى، أرادَتْ طفلًا آخَر. أدرك أني كنتُ جزءًا من هذا الحمل، ولكن هذا لم يمنعني من إلقاء اللوم على الجسم الذي أدَّى إلى قدوم ووكر للحياة.) كانت جوانا تراني من نفس الزاوية المشتتة والمبتلاة، كانت تعمل في البيت، أما أنا فلا. كانت لديَّ فرصة الخروج كل يوم، ولكنها لم تتهرب قطُّ من الأعباء الملقاة على عاتقها. وسمعت أحد الأصدقاء مرة في حفلة كوكتيل بعدما سألني كيف نتصرف في هذا الوضع، يقول: «هي تفعل كل شيء.» امتعضتُ من هذه الفكرة؛ لأني كنت أعرف أنها غير صحيحة: كانت جوانا دائمًا وإلى حدٍّ كبير هناك، ولكن لأنها كانت تأخذ كل شيء على أعصابها، فالنوبة الحادة من الألم أو المرض أو التعاسة لووكر تصيبها بحزن شديد، ويمكن لحزنها هذا أن يشل حركتها تمامًا. وفي أوقات مثل هذه كنا نعتمد على قوتي الداخلية وثباتي الانفعالي.

أحيانًا أكون مُرهَقًا لدرجة أنني لا أستطيع أن أحييها في الصباح، وأكون سيئ المزاج غالبًا؛ وهي مثل شخص ما من العمل تراه في الشارع، تومئ برأسك إليه ثم تحييه وتبتسم له، ثم يذهب كل منكما إلى حاله. (كانت تقول: «صباح الخير.» بينما أتعثر في دخولي المطبخ، وأنخر ردًّا على التحية. وتقول هي مرة أخرى: «صباح الخير».) كنت أحبها، ولكن من الصعب سداد اعتبارات القيمة المضافة، والانزلاق في هذا الجَميل أو اللطف غير المتوقَّع العرضي الذي يحافظ على تماسُك أي زواج يدوم. كنت أراها، وأرانا، يبتعد كلٌّ منَّا عن الآخَر، من بعيد: هناك أشياء أسوأ، ولكن هذا لا يتغير أبدًا على ما يبدو.

كانت، ولا تزال، المفاوضات حول ووكر مستمرة، لا تنتهي. تسأل زوجتي: «هل يمكن أن تأخذ ووكر إلى موعده مع اختصاصي الوراثة/ الأسنان/التغذية/العلاج الطبيعي/أو أيًّا ما كان يوم الأربعاء؟» فهي منظمة ومباشِرة، ولكني أفضِّل أسلوبًا أكثر «حيادية» وأقول لها: «لووكر موعد مع اختصاصي الوراثة/الأسنان/التغذية/العلاج الطبيعي/أو أيًّا ما كان غدًا!» تاركًا طلبي يُفهَم ضمنيًّا.

نتجادل فيمَن سيأخذه، ومَن أخذه المرة السابقة، ومَن يعمل أكثر أو أقل، ومَن لديه موعد نهائي لعمل ما، ومَن يسهم أكثر. والحديث عن المال مثير للجدل جدًّا، ويبدو من المستحيل أن تسهم جوانا أكثر مما تفعل، ولكني لا أدري أين أجد الطاقة الزائدة في نفسي لأساعد بها. لدينا لحظاتنا الخاصة، لحظاتنا الحميمية، ولكنها نادرة وعاجلة جدًّا مثل الهلاوس. لا يمكن لأحد أن يقول إننا لسنا زوجين حقيقيين.

من الناحية النظرية، قد يجمع وجود طفل معاق الأسرة معًا؛ مشروع مشترك، تحدٍّ مشترك، رابطة واحدة. أما من الناحية العملية، يحرمنا ووكر من أية خلوة كنَّا نتمتع بها من قبلُ؛ إذ كنا نتمتع بالخصوصية وكنَّا انطوائيين ومحبين للقراءة والتأمل، وبدلًا من أن يجمعنا ووكر، فهو يفرقنا، ويقلِّل من خصوصيتنا ويزيد من انعزالنا في الوقت نفسه؛ مما يجعلنا نلهث من أجل الحصول على ملاذ لا يوجد فيه إزعاج، ولا مفاجآت. كثيرًا ما أخشى أني لن أقرأ كتابًا كاملًا مرة أخرى؛ فبَدَا تركيزي مشتتًا باستمرار، وتخلَّيْتُ عن خططي منذ فترة كبيرة في امتلاك كوخ أو منزل لقضاء الإجازات فيه؛ فكلُّ همنا هو أن يذهب ووكر لمواعيده الطبية.

تمرُّ الأسابيع دون تواصُل حقيقي بيننا؛ ثم نتشاجر، ربما نضطر للتواصل. لا تتغير أبدًا علامات الوجود المرهق لووكر، آثار وجود ولد معاق بالمنزل: ستائر النوافذ المشوهة، التي يلعب بأصابعه في أجزائها باستمرار، والأكوام التي لا تنتهي من الغسيل التي تنتشر في كل مكان مثل نباتات الغابات، وفرشاة أسنانه في درج المطبخ، وجرعات الدواء والمراهم والسرنجات والزجاجات المحشورة خلف باب إحدى الخزانات. ومع هذه الفوضى التي تحيط بنا من كل اتجاه، هل من الصعب عليها (أو عليَّ) وضع اللبن في مكانه؟

قد يكون الأمر متعلقًا بنا، وليس به، غالبًا ما كنتُ أعتقد ذلك. هناك عائلات أخرى — أعرف أنها موجودة؛ لأني قرأت عنها في مواقع الإنترنت — تمكَّنوا على ما يبدو من التكيُّف الجيد مع الأمر. لقد كنَّا بارعين في السابق، قبل ظهور الولد في حياتنا، وهذا ما كان يجعلني أفتقد تلك الأيام.

لكني ما زلتُ أحب زوجتي، ما زلتُ معجبًا بجسمها، وبشرتها القمحية؛ ما زلت أريد أن أحميها. هي لا تزال تُدخِل السرور عليَّ، وتحكي لي قصصًا بطريقة بارعة، وتتذكر كلمات أي أغنية سمعتها من قبلُ، وتستطيع أن تروي مشاهد الأفلام السينمائية مشهدًا مشهدًا، وتتمتع بعاطفة عميقة ودائمة، وما زالت أمًّا راعية لهايلي، ولا يزال بإمكاني أن أُدخِل السرور عليها بطريقةٍ لا يستطيعها أحد آخَر، وما زال يمكنني أن أصل إلى المناطق الغريبة والخاصة التي يعرفها فقط الزوج والزوجة، ونرقد في الفراش معًا حين نستطيع ذلك، نتلاعب بالألفاظ تلاعبًا جنونيًّا. أستطيع سماع عقلها وهو يحاول بقوةٍ الانتصارَ عليَّ، أحسدها على وقتها الذي تقضيه في قراءة الصحف، ولكن ليس لحبها للآخَرين؛ أغفر لها خوفها الأسود الذي تشعر به في مناسبات كثيرة، وجهادها في حبها لابنها المحطم. كنتُ دائمًا على استعداد لمساعدتها للتغلُّب على تلك الكراهية السوداء للذات، وبهذه الطريقة جعلنا الولدُ أحيانًا كُرَماءَ أيضًا. ولا يخطر ببالك مقدار السعادة التي يقدِّمها أحدنا للآخَر عندما يقول له الكلمات التالية: «لا مشكلة، سآخذه إلى الطبيب.»

مثال: في إحدى الليالي، كنا في حفلة، كان وقت أعياد الكريسماس وكنا في حانة مظلمة في منطقة بعيدة بالمدينة. لا يزال ووكر صغيرًا، لم يتعدَّ سنَّ الثالثة. أستندُ إلى حائط في أحد جوانب المكان، وأستمع دون إنصات إلى زوجين أعرفهما وهما يتحدثان عن الأصولية الدينية، الأمر الذي يثير الدهشة. ولكن ما أفعله حقًّا هو مشاهدة زوجتي؛ وهي الهواية السرية لكثيرٍ من الأزواج، أتذكر هذه اللحظة لأني أشاهد زوجتي تخرج قليلًا من شرنقة الْتِزاماتها اللانهائية، من حياتها الرتيبة في البيت مع طفل معاق. وهي مشهورة وسط أصدقائها بروحها العالية التي تُظهِرها في مواجهة الصعاب، ولكني أعلم تكلفة ذلك عليها. وهي وسط حشد في الحانة وبجانبها رجل أعرفه، وهو صديق قديم لنا، وهي تضحك بصوت عالٍ، ولا أستطيع أن أتذكر آخِر مرة حدث فيها هذا، على الأقل في وجودي. ويبدوان في صورة حميمية: كتفاهما تتلامسان، ويشربان المشروب نفسه، فودكا مع ماء تونيك. أعلم أنه مُغرَم جدًّا بها، لدرجة أني سألته ذات مرة — أعترف أني حينها شربتُ كأسًا من الخمر — هل كان واقعًا في غرام زوجتي؟

قال: «نعم، أنا كذلك.»

قلتُ: «هذه مشكلة.»

قال: «لا، ليسَتْ مشكلة.»

قلتُ: «حسنًا، توقَّفْ عن هذا.»

هذا كل ما في الأمر، لا أمانع فعلًا. بدايةً، هناك مساحة في خصوصيتها لخصوصيتي الممزقة. كيف لي أن أحسدها على هذه اللحظة من الصداقة والحرية وحتى المغازلة، تلك الحميمية الرقيقة، بعد كلِّ ما مرَّ بها؟ وكيف لي أن أحسدها على بعض الاهتمام من جانب شخص آخَر، نظرة العشق الواضحة لشخص ما جديد ومفعم بالنشاط، شخص ليس عليها أن تتفاوض معه بشأن كل لحظة من لحظات الراحة؟ هي لا تتوقَّف عن الابتسامة في صحبته، وأندهش حين أجدني سعيدًا لرؤية هذا. أنا متأكِّد أن لها أسرارها، ولا مانع لديَّ في ألا تُفصح عنها، وأن تظل تحتفظ بها، هي فقط. ذات مرة عثرتُ على مدوَّنة على شبكة الإنترنت لوالد طفل معاق، يناقش فيها مثل هذه الأمور، وكتب يقول: «يعلِّمك الطفل المعاق أن تضع قواعد خاصة بك.» أعد مشروبًا، وأتساءل: ماذا تفعل حين لا أكون موجودًا؟ أعلم أنها تتساءل أيضًا عمَّا أتساءل عنه.

في الغالب، يغفر كلٌّ منَّا للآخَر، وقد علَّمنا ووكر كيف نفعل ذلك.

***

٢٥ يناير عام ٢٠٠٥

أول زيارة لي لمؤسسة ستيوارت هومز، وهي مؤسسة ربحية مستقلة لرعاية المعاقين، قد يكون لديها — بتدخُّلٍ من جمعية رعاية ذوي الاحتياجات الخاصة — مكان شاغر يقيم فيه ووكر.

أسَّس هذه المؤسسة آلان ستيوارت منذ ٣٠ عامًا، وكان هو نفسه يتبنى بعض الأطفال.

أصابني الرعب عند الدخول من الباب. أعرف شعور الدخول إلى غرفة خاصة بالأطفال المعاقين، دائمًا ما كانت تدهشني سيمفونية الصياح والعواء التي كانت تلاحقني حين أزور ووكر في المدرسة، ولكن هذا أمر مختلف؛ هذا مكانهم، وأنا الذي عليه أن يحسب خطواته. شاهدت خمسة أطفال في حجرة واحدة، ولكنهم منعزلون بعضهم عن بعض انعزالًا تامًّا، كما لو أنهم في مجرات منفصلة، ويبدو عليهم حُزن شديد.

هناك ثمانية أطفال في كل بيت داخل المؤسسة، وهو عبارة عن بيت من طابق واحد، يتسع بصورة كافية للمضخات الطبية والكراسي المتحركة وحاملات التغذية والأدوية والألعاب، والأرضيات فيه مستوية تمامًا، دون سجاد، لتناسب الكراسي المتحركة. والأطفال يبدون كأنهم قد صغر حجمهم، ولكنهم متزنون؛ فهذا مكانهم، الملاذ الذي لم يعودوا فيه مخلوقات شاذة. تبعد المدرسة مسافةً تستغرق عشرين دقيقة بالحافلة، ويقوم الطبيب المَحلي بمتابعة حالة الأطفال، وهناك مستشفًى جيد، وممرضة ضمن فريق العمل وطبيب نفسي يتم استدعاؤه عند الحاجة. ومن الأشياء التي لا تحبها جوانا رائحته؛ رائحة مسك غريبة تمتزج فيها رائحة الإنسانية برائحة المرحاض.

بالطبع لا يوجد مكان. تقول لنا دايان دوسيت، المديرة: «أحيانًا تتاح أماكن بصورة غير متوقَّعة.»

أرى أنها تعني عندما يموت الأطفال. أنا مستعد للانتظار.

***

٨ أبريل عام ٢٠٠٥

مكتب مشروع رعاية ذوي الاحتياجات الخاصة. بعد سبع سنوات من بداية التفكير في البحث عن مساعدين من الخارج لمعاونتنا في تربية ووكر، وجدَتْ ميندا لاتوسكي مكانًا له، وهو يقع في أطراف تورونتو، في بيكرينج، والتي تبعد عنَّا ٤٠ دقيقة بالسيارة.

ثمَّة طفلان قادران على الحركة هناك بالفعل: كيني الذي يبلغ من العمر ١٣ عامًا، وهو فتًى طويل ونحيل، يعاني من تلف في المخ بسبب حادثة كاد أن يغرق بسببها، ولكن يمكنه فهم ما يقوله الآخَرون والتعبير عن نفسه بالإشارة بذراعيه وإصدار بعض الأصوات. وشانتال وهي صغيرة الحجم بالنسبة إلى سن الثامنة، وهي تتحدث وتفهم، وسيكون كيني رفيق ووكر في الغرفة؛ منحنا ذلك إحساسًا بأن ولدنا صبي حقيقي، وهو أمر مثير للغاية. والبداية المعتادة هي من زيارتين إلى أربع من باب التجربة، مع بقاء أولجا معه بالليل في البيت الجديد لتوضِّح للعاملين هناك طُرُقَ التعامُل معه، بينما أنا وجوانا نكون في العمل. وتقول ميندا: «ثم تتم عملية الانتقال.» ثم أسبوعان من دون زيارات، لتستقر الأمور.

تطمئنني ميندا قائلةً: «ستمر عدة أَشْهُرٍ قبل أن تدرك أنه بإمكانك وضع فنجان قهوتك، دون أن تخاف أن يوقعه ووكر. ولكن بحلول ذلك الوقت سيعود كثيرًا لزيارتك هنا.» ويبدو أن جوانا مستسلمة، أو على الأقل مخدَّرَة فيما يخص قرارنا الذي طال انتظاره، ولكني محطَّم نفسيًّا.

أشعر كما لو أن الشكل الذي أعطاه لحياتي، هذا المصير الغامض الذي وجَّهَني إليه، يتلاشى. من أجل ماذا؟ من أجل راحتي الشخصية؟ ألأنه لا يوجد ما يسمى بالحل المثالي؟ وحين أفكِّر في هذا المنزل من دونه، يصبح جسدي كالكهف.

***

بينما يقترب يوم انتقال ووكر إلى بيته الآخَر — في يوم ٢٥ يونيو عام ٢٠٠٥، في نهاية العام الدراسي — كنت أغرق فيما أدرك الآن أنه بحر من الأسى. ذهبت إلى الطبيب أشتكي من آلام في البطن، لكن التحاليل التي أجراها لي لم تظهر أي شيء. الأسى — «ستارة الصمت» كما يسمِّيه سي إس لويس — كان الستار الذي يحجبني عن البشر الأحياء الآخَرين، وقد بَدَا مستحيلًا لي أن يفهم أحدٌ المأزقَ الذي نعيشه: إذا لم يروا أننا وَحْشَيْن، فعليهم أن يعتبرونا أحمقين. وأحيانًا في الليالي التي لم يكن الدور عليَّ في مساعدة ووكر على النوم، كنتُ أذهب إلى الحانات في المنطقة التي أقطن بها، ولكن كان كل ما أفعله هو أن أحتسي الخمر، وأجلس في مكان واحد وأبقى مع نفسي وأستمع إلى الحوارات، محاوِلًا أن أسترق السمع إلى جزء من الحوارات الطبيعية. كنت أتمنى أن يتحدَّث أحد إليَّ — لحسن حظي، لم يفعل أحد ذلك قطُّ — ولكن أردتُ استعادة جزء من حياتي القديمة البسيطة.

حتى أني أحيانًا كنتُ أذهب إلى نوادي التعرِّي. كنت أفعل هذا بالليل، في طريق عودتي إلى البيت بعد توصيل المربية أولجا بالسيارة إلى شقتها. أعتقد أنني كنت أحتاج إلى الشعور بشيء ما، أي شيء بخلاف فقدان ووكر، مهما تكن درجة غرابته ووضاعته، وشهوتي في أبسط صورها كانت هذا الشيء. وفي حانة التعرِّي يمكنك أن تكون قريبًا من رغباتك لفترة من الوقت، يمكنك فيها الوثوق بها وبالمفاجآت، وتُذكِّر نفسك بالعادات القديمة لهذا الشخص الغريب الذي تحوَّلْتَ إليه.

أكثر شيء افتقدتُه هو غرابته. فقبل ووكر، تصورتُ أن آباء الأطفال المعاقين والمشوَّهين يخشون الظهور أمام الناس مع أطفالهم: إن احتمال أن ينظر الآخَرون إليهم ويحملقون فيهم وحتى يسخرون منهم يمثِّل عذابًا بالنسبة إليهم، ولكن الحقيقة هي أن ووكر كان يحب أن يركب في عربة الأطفال، وكنت أحب أن أكون معه في الشارع أيضًا؛ أتمشَّى في الشارع العريض الذي تكتنفه الأشجار، وأتحاور معه حول المناظر التي نمر بها، وكان يستجيب إلى نبرات صوتي. «انظر هنا يا صغيري! هذا كلب كبير، وبنت صاحبته. انظر إلى القبعة الفرو التي ترتديها!» وأشياء من هذا القبيل. كان هذا يجعله يضحك، وكان عادةً ما يبدو محبًّا للاستطلاع في الغالب؛ كان هذا أفضل تعبيراته بالنسبة إليَّ. كان الناس ينظرون إلينا، وعادةً لا يستطيعون منع أنفسهم من التحديق في وجه ووكر المكتَّل، وملامحه الغريبة، وجسمه المشدود المتشنِّج. ولهم عدد من «الطرق» في النظر إليه؛ فهناك طريقة النظرة الخاطفة ثم النظر بعيدًا، وكانت هذه الأكثر شيوعًا، وهناك النظرة ثم الابتسامة، لتطمئننا بأن المجتمع يتقبَّلنا، وأن هذا ليس وصمة عار، وهناك بعض الناس الذين كان يصيبهم الرعب بصورة واضحة، وكان الأطفال يحملقون بصورة مباشِرة، وبعض الآباء لم يزجروهم حتى عن فعل ذلك، وعليَّ أن أعترف أني كنتُ أنظر إليهم كحيوانات، أوغاد يسيرون في الشارع.

وأحيانًا النساء الحوامل، أو النساء الصغيرات بعض الشيء اللاتي أظنُّ أنه بَدَأت تتكون لديهن رغبة في الإنجاب، كنَّ يأتين نحونا وهن يثرثرن في الشارع، وكأننا أحدب نوتردام كوازيمودو الغريب وحارسه الذي يتمتم، وقد مرت سحب من الذعر على وجوههن الجميلة، ثم كنَّ يتفحصن وجهي، لينظرن إلى أية علامة فيَّ قد توحي بأني والد لطفلٍ مثل ووكر، ويعتقدن أن بإمكانهن تحديد مثل هذا الأب. ولكني أبدو طبيعيًّا، فكانت سحب الذعر تعود وتبقى. تجذبنا حالات الشذوذ؛ لأنها تظهر على نحوٍ عشوائيٍّ.

كانت الحملقة تضايقني، وأسوأ مَن كان يقوم بذلك الفتيات المراهقات، اللاتي لا يمكنهن التوقُّف عن الأمل والخوف من أن العالم بأسره يحملق فيهن بإعجاب، فتيات يردن الظهور والقبول من جانب المجتمع في الوقت نفسه، وهو أمر مخادع لا يسمح به ووكر لنا نحن الاثنين. في ربيع إحدى السنوات، في افتتاح موسم البيسبول، أخذتُه لمشاهدة مباراة لفريق تورونتو بلو جايز، وأتت مدرسته كلها في ذلك الوقت، تلك المخصَّصَة فقط للأطفال المعاقين: ثلاثون جسمًا محنيًّا ومحطَّمًا، يصفرون ويهتفون ويصرخون من أماكنهم على كراسيهم المتحركة وعرباتهم، ويسيرون في صفٍّ فردي بطول الرصيف لمسافة عشرين مجمعًا سكنيًّا عبر وسط المدينة. شاهَدَ الجميع هذا المشهد. تفرقنا عندما وصلنا إلى الاستاد، وسرتُ بالكرسي المتحرك لابني خلال هذا الحشد.

كان يومًا دراسيًّا أو يوم المضارب المجانية، أو مزيجًا ما فريدًا من الاثنين، وكان الاستاد يعج بالمراهقين، وتكرَّرَ ثانيةً الطقسُ المماثل نفسه: بنت طويلة بالغة من العمر حوالي ١٣ عامًا تلبس قميصًا قصيرًا لونه قرنفلي أو أزرق وتنورة قصيرة بيضاء وحذاءً خفيفًا، وهي قائدة مجموعة صغيرة من ثلاث فتيات يكنَّ دائمًا أقصر منها، واللائي يلبسن نفس الملابس تمامًا، تلاحظ أن ووكر وأنا قادمين نحوها، فتميل وتهمس إلى مجموعتها. ثم يحملقن كلهن فينا، وأحيانًا تضحك واحدة منهن، وغالبًا ما كنَّ يخفين أفواههن بأيديهن ويتظاهرن بأنهن يخفين صدمتهن. أفضِّل الضحكَ الصريح على أدبهنَّ المتكلَّف.

الفكرة أنني أعرف الشعور الذي يحس به الشخص عندما يحملق فيه أحد، بكونه شيئًا يستحق الخوف منه والشفقة عليه وحتى كرهه. أتمنى ألا يستطيع ووكر إدراك ذلك؛ وفعلًا يبدو أنه يتجاهله، وبالتدريج علَّمني أن أتجاهله أيضًا. في هذه الأيام كنا نسير في الشوارع وكأنها ملكنا، وقد جعلني ووكر أدرك أن كثيرًا من القواعد في حياتنا مجرد قواعد مصطنعة.

أتذكر اليوم الفعلي لرحيله على نحو غائم، وكأنني لم أكن في كامل وعيي. كان توصيله هناك — نقلت جوانا ملابسه وألعابه في عربة صغيرة على مرات عديدة في أيام سابقة — هادئًا، بعد ظُهْر يوم إثنين مشمس. تكدسنا كلنا في دار الرعاية، ورحَّبَت به النساء الست العاملات هناك، وأخذته الطفلة شانتال البالغة من العمر ثماني سنوات معها مباشَرةً. وذهبنا في جولة في حجرة النوم وبقية الدار، والحديقة والتفاصيل الخاصة بأدويته وتغذيته وتعليمات تشغيل المضخة، كل هذا من أجل طمأنتنا. مكثنا هناك لمدة ساعة، ثم احتضنَّاه وقبَّلناه واحتضناه مرة أخرى، أنا وأولجا وجوانا وهايلي، ثم فعلنا ذلك مرة أخرى، ثم أجبرنا أنفسنا على الرحيل، مودعين الجميع بصوتٍ عالٍ، ومحاولين أن نستمر في التحرك، وألَّا نتوقَّف حتى لا نتأثَّر بشدةٍ بما كنَّا نفعله. وفي طريق العودة إلى وسط المدينة من دونه، لم نكن نشعر بالحزن أو الغضب وإنما كنا متيقظين للغاية، كما لو كنا نسير بالسيارة وسط أمطار غزيرة.

بالطبع كانت دار رعاية جيدة، بل ممتازة. أكدنا ذلك لبعضنا، ولم نخرج في تلك الليلة، ولكن بدلًا من ذلك بقينا في المنزل وشاهدنا التليفزيون، متعجِّبين من الهدوء، والوقت الخالي الكثير الذي أصبح متاحًا لنا فجأةً. فترات كبيرة من الزمن وكأنها ستائر في الهواء. يمكننا مشاهدة التليفزيون! أي شيء نريده! والولد، الذي كنَّا نتطلَّع لمساعدته في النوم، كنتُ أظن أنه في حجرة اللعب السفلية مع أولجا، حيث يلعبان غالبًا، ثم تذكَّرْتُ أن القبو أصبح فارغًا، لم يَعُدْ هناك شيء إلا الحوائط البيضاء والأرضية الرمادية، ولم يَعُدْ هناك ولد مغامر غريب يستكشف أركانه ورفوفه وخزائنه مرات ومرات ثانيةً، كما لو أنه يعرف أنه يحتوي على كنز، مهما تكن صعوبة العثور عليه. الولد القرصان، في أعماق منزلنا الصغير، لم يَعُدْ موجودًا. وحتى اليوم لا أستطيع أن أتذكر تلك الليلة دون حالة صمتٍ غريبةٍ تتملكني، دون الرغبة في وضع أصابعي في أذني، حتى لا أستطيع سماع ضحكه، وصراخه، وثرثرته.

***

اعتدنا على الروتين الجديد. كان ووكر يعيش في بيته الجديد: كان يأتي لمنزلنا كل عشرة أيام في زيارةٍ لمدة ثلاثة أيام، إضافةً إلى عطلات نهاية الأسبوع والإجازات الطويلة. كانت ميندا تتصل بنا كثيرًا لتطمئن على سير الأمور بالنسبة إلينا، وكنت على حذرٍ من أي إشارة تدل على رفضها لما قمنا به. ففي النهاية، ميندا نفسها أُم، ولا أستطيع أن أتصوَّر أنها لا تزدري بعض الشيء — في نفسها — الآباءَ الذين لا يمكنهم رعاية أبنائهم؛ لأن هذا التفكير كان يوجد بداخلي، ولكني كنت مخطئًا: فبعد ظُهْر أحد الأيام بعد سنتين تقريبًا من انتقال ووكر، ذكرَتْ ميندا ما قد شاهدته في منزلنا في ذلك اليوم الذي زارتنا فيه للمرة الأولى. كنَّا نشرب القهوة في إحدى ضواحي المدينة، في طريق عودتنا من أحد اجتماعات تخطيط الرعاية لووكر.

قالت: «من الناحية البدنية، كنتَ أنت وجوانا مجرد شبحين، كان هناك أب وأم يحبان طفلهما، حاوَلَا رعايته بقدر المستطاع، وكانا يعملان أيضًا، ولديهما طفلة أخرى أيضًا. كنتما تفكِّران في الأمر بنظرة مستقبلية: أيجب أن تعاني هايلي أيضًا؟ كانت العاطفة واضحة، والكفاح الذي كنتُ أراه فيكما والألم الذي كنتما تتحملانه؛ لقد وصلتما إلى الحد الأقصى من المعاناة.»

توقَّفَتْ عن الحديث، وملأت كوب القهوة مرة أخرى.

ثم واصلت ميندا كلامها قائلةً: «لم تكن شكواكما خيالية؛ فكل أسرة لها حالتها الخاصة، فالأمر مجرد مستويات، ويتعلَّق بقدرة الأسرة على التكيُّف مع الأمر واستجابتها له، وعليكما أن تطلبا المساعدة؛ لأن الحاجة إليها شيء وطلبها شيء آخَر تمامًا، إذ يعني هذا أنكما لا تستطيعان النهوض بالأمر بمفردكما أكثر من ذلك. مَن يقول بعد ذلك: إن لديكما طفلًا لم تستطيعا تربيته؟!»

***

٢٦ فبراير عام ٢٠٠٦

ذهبت لآخذ ووكر، يبدو أنه ليس لديه صديقة واحدة بل صديقتان: شانتال، التي ترتدي الآن حزامَ ظهرٍ بسبب مرض الانحناء الجانبي للعمود الفقري الذي تعاني منه، وكريستا لي، وهي بنت جميلة في الرابعة عشرة من عمرها تجلس على كرسيٍّ متحرِّك، وووكر معجَب بها بشدة. شانتال أكثر تسلُّطًا وتدفع بنفسها في المنطقة التي يكون بها ووكر، بينما تنتظر كريستا لي؛ لذا كان يذهب إليها.

ابتكرَتْ كاتي — وهي أحد أفراد كتيبة الرجال والنساء الذين يعملون في دار الرعاية — طريقةً لمنع ووكر من ضرب نفسه، دون اللجوء إلى الخوذة المصنوعة من الفوم التي يكرهها؛ وذلك باستخدام علب برينجلز فارغة، مدعومة بأدوات خفض اللسان الطبية والشريط اللاصق الذي يستعمله الكهربائي، ومغطَّاة بقماش زاهي اللون، والأطراف الداخلية محشوَّة ببعض المطاط، وتوضع العلب على ذراعيه، حتى كتفيه؛ فيمنعه هذا من ثني ذراعيه ورفع قبضتيه للَكْم رأسه. وبعد سنوات من العذاب، يأتي الحل في ابتكارٍ لا يكلِّف سوى بضعة سنتات.

ما زلتُ أشعر بالخجل من نفسي حين يسأل الناس لماذا لم يعودوا يرون ووكر كثيرًا، ولا يمكنني أن أقول لهم إنه يعيش هنا معظم الوقت، ولكن جوانا أكثر ثباتًا مني؛ فقد قاومت مغادرته، ولكنها وافَقَتِ الآن على هذا الترتيب وتؤيِّده. وفي أحد الأيام، بينما كنَّا نجلس أمام طاولة المطبخ وهي تستمتع بقراءة الصحيفة قالت لي: «أشعر كما لو أنه يخص الآخَرين الآن، كما يخصنا.» (وما زلتُ أشعر بأن امتلاك الوقت للقيام بمثل هذا النشاط يُعَدُّ أمرًا غريبًا مثل زيارة لاس فيجاس.) وهو بالتأكيد قد بدأ يتعوَّد على المكان هناك. منذ فترة ليست طويلة ذهبَتْ أولجا وجوانا لتوصيل ووكر بالسيارة إلى «هناك»، كما أُطلِق على هذا المكان، بعد قضاء عطلة نهاية الأسبوع هنا في البيت. دخل ووكر دخول الزاهدين، وتعثَّرَ في سلة المهملات وألقى برأسه في صدر تريش، المسئولة الليلية، ثم أخذ جوانا وأولجا كُلًّا من يدها، وبرفق ولكن بحزم اصطحبهما إلى الباب الأمامي، وأراد منهما أن يغادرا. نوبة غريبة من التحرُّر!

يأخذ الآن جرعة جديدة من الريسبيريدون وعقَّارًا جديدًا لعلاج الارتجاع، ومزاجه في حالة أفضل. بَيْدَ أن هناك زيادة كبيرة في ثقته الانفعالية؛ فالعيش فقط في عالمنا كان يجعله يرى عيوبه في كل مكان، لكن في منزل قضاء العطلات الجديد الذي يعيش فيه، كان محاطًا بأقرانه، وأصبح صلبًا مثل غيره. وأتمنى أن يكون ترْكه في دار الرعاية هو الهدية التي قدمناها له.

***

في أدنى معنوياتنا، كنَّا نجرب أي شيء يمكن أن يحسِّن من حالنا. أتذكر العودة إلى البيت في أحد الأيام لأجد زوجتي تشرب النبيذ، وتحكي حكاية مطولة إلى تيكا وكاثرين؛ الصديقتين اللتين عاصرتا كل مرحلة من مأساة ووكر.

قالت جوانا: «كنتُ عند المعالجة اليدوية الخاصة بي، وتُدعَى أنيتا، وفي نهاية الجلسة، قالت لي: «لديَّ فكرة بشأن ووكر. هي فكرة مجنونة جدًّا — هذه هي عبارة أنيتا، مجنونة جدًّا — لماذا لا تأخذينه إلى عرَّاف؟ عرَّاف محلي؟» كنتُ حينها يائسة جدًّا من حالة ووكر لدرجة أنني قلت لها: «بالتأكيد.» ولذا بعد أسبوعين ذهبنا للقاء العرَّاف.»

قالت كاثرين: «ماذا دهاكم أنتم الثلاثة؟»

«نعم، ذهبنا إلى مركز علاج محلي في مبنًى غريب لا يمكن وصفه، كان يشبه حجرة الترفيه؛ سجادة صناعية، وجدران مغطاة بألواح مصنوعة من الخشب الصناعي الشبيه بخشب الصنوبر. خشيت أن ووكر قد يحطِّم قدرات العرَّاف بأفعاله غير الطبيعية، ولكن حين دخلت العرَّافة، أصبح هادئًا تمامًا، وهذا أمر شديد الغرابة، كان يبدو أنه وجد بعض السلام الداخلي.

كانت هناك بطانية في وسط أرضية هذا المكان. كانت العرَّافة تجلس على تلك البطانية، وكان هناك مترجم، شاب يوضِّح ما تقوله العرَّافة، وعليك أن تعطيها بعض المال وبعض السجائر في المقابل؛ لذا أعطيتها خمسين دولارًا ووضعت علبة سجائر على البطانية.»

«ماذا كان ووكر يفعل؟»

«كان ووكر يجري بين العرَّافة وبيني وأنيتا والمترجم. كنت متوترة، ولكنهم لم يبالوا بذلك؛ لذا بدأت لا أبالي بالأمر.

أشعلَتِ العرافة البايب، وأشعلت بعض أعشاب المريمية، وبدأت في تلاوة تعويذة تمهيدية مطوَّلة، وذكرت اسم ووكر بالكامل: «ووكر هنري شنيلر براون» ونادت على الرياح الشرقية، ثم كل الرياح الأخرى، ثم ووكر. في ذلك الوقت، أصبح هناك دخان كثيف في الحجرة، وأُصِبت بصداع فظيع، ثم قالت العرافة: «تظهر البوابة.» ثم قال المترجم: «نعم، تبدأ في الظهور.»

قالت العرَّافة: «أرى شجرة، وهي قديمة وجديدة، أجزاء منها ميتة، وأخرى حية، وهناك مصباح على الشجرة، وكانت الشجرة مليئة بالطيور المغردة. وفي الناحية الأخرى من البوابة، بئر أو حفرة.» كانت العرافة تغني كل هذا، ويترجم المترجم ما تقول، وأنا ألخصه، ثم قالت: «أرى بئرًا عميقة جدًّا بحيث ترى الماء فيها بصعوبة، وأرى كثيرًا من كبار السن.»

كنت لا أزال في المكان مرتدية السترة، أنصت لما يحدث.

قالت العرافة: «إن كبار السن قد جاءوا ليروا ووكر. هناك عدد أكبر من المعتاد، لعلهم يعرفونه، ولعل ووكر واحد منهم، لعل ووكر كبير في السن. لا تستطيع أن تحدد. إلا أنهم يعرفونه على ما يبدو، على أي حال».»

تعجبت تيكا قائلةً: «هل العرافة قالت: إن ووكر كبير في السن؟»

«لم تكن متأكدة. وبعد الطقوس، قال المترجم: إن الشجرة هي حياة ووكر، والطيور المغردة فيها هي كلنا جميعًا. وكانت البئر هي ضالة ووكر، وضالة ووكر غايته في الحياة، هو محاولة معرفة إن كان يستطيع رؤية انعكاسه في الماء في قاع البئر.»

قلت: «لا يعقل.»

«هذا ما قالته: «هذا هو الطريق الذي اختاره لنفسه، ليرى إن كان بإمكانه رؤية انعكاسه. قد يرى أو لا يرى، ولكن هذا هو ضالته.» ثم سألني المترجم إن كان لديَّ أسئلة معينة للعرافة، فقلت: نعم، وماذا عن دار الرعاية الجديدة التي التحقَ بها، هل هي مفيدة له؟ هل يتعيَّن عليَّ السماح له بأن يذهب هناك؟

قالت العرافة: «ستغيِّر مساره، ولكن مساره محدد. وعليه أن يسير فيه.» ثم سألتها: لماذا يؤذي نفسه، لماذا يضرب نفسه؟ فردت العرافة بأنه يحاول أن يجد شكلَ انعكاسه في البئر.»

أردت أن أرقد على أرضية المكان.

قالت جوانا: «كان الأمر يُمثِّل مصدر راحة كبيرة لي؛ لأنه لأول مرة، المرة الوحيدة، لا يحاول أحد علاجه، فهم فقط كانوا يحاولون وصفه، ولا يوجد حكم عليه أو خوف، وهذا أمر مقبول جدًّا، وأرى أن هذا كان يُعَدُّ نقطة تحوُّلٍ بالنسبة إليَّ؛ فبدلًا من محاولة علاج ووكر أو تحسين حالته أو تشخيصها أو البحث عن أسبابها، كان الأمر يقتصر فقط على تحديد مَن هو وما هدفه في الحياة، وهذا هو ما يفعله. لم يكن الأمر نصرًا أو مأساة، لقد كان كما كان.»

عمَّ الصمت. قالت كاثرين: «حسنًا، إذا كنتُ قد علمت أنه كبير السن، فما كنت قد سمحت له بالنظر في فتحة بلوزتي كل هذه المرات التي كان يتسلل فيها إلى حجري. لقد اتضح أنه رجل عجوز سافل.»

تردُّ عليها تيكا: «بل عرَّافة عجوز سافلة.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤