فاتحة الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم

١

هذا كتاب «النثر الفني في القرن الرابع»، وهو كتاب شغلتُ به نفسي سبع سنين، فإن رآه المنصفون خليقًا بأن يغمر قلب مؤلفه بشعاع من نشوة الاعتزاز فهو عصارةٌ لجهود عشرين عامًا قضاها المؤلف في دراسة الأدب العربي والأدب الفرنسي، وإن رأوه أصغر من أن يورث المؤلف شيئًا من الزهو فيتذكروا أني ألَّفته في أعوامٍ سُودٍ، لقيت فيها من عَنَت الأيام ما يقصم الظهر، ويقصف العمر؛ فقد كنت أشطر العام شطرين، أقضي شطره الأول في القاهرة؛ حيث أؤدي عملي، وأجني رزقي، وأقضي شطره الثاني في باريس كالطير الغريب، أحادث العلماء، وأستلهم المؤلفين، إلى أن ينفد ما ادَّخرته أو يكاد، ثم صممت على أن أنقطع إلى الدرس في جامعة باريس حتى أنتصر أو أموت، وكانت العاقبة أن أنعم عليَّ الله — عزَّ شأنه — بالنصر المبين.

ولكني أحب أن أكون في طليعة المنصفين لمؤلف هذا الكتاب، وهل من العدل أن أظلم نفسي وأنصف الناس؟

إن هذا الكتاب أول كتاب من نوعه في اللغة العربية، أو هو — على الأقل — أولُ كتاب صُنِّف عن النثر الفني في القرن الرابع، فهو بذلك أول منارة أقيمت لهداية السارين فى غيابات ذلك العهد السحيق.

ولن يستطيع أي مؤلف آخر — مهما اعتزَّ بقوته، وتعامى عن جهود من سبقوه — أن ينسى أني رفعت من طريقه ألوفًا من العقبات والأشواك.

وهل يمكن الارتياب في أن مؤلف هذا الكتاب هو أول من كشف النقاب عن نشأة النثر الفني في اللغة العربية، وقهر المستشرقين ومن لفَّ لَفَّهم من أهل الشرق على الاعتراف بأن القرآن صورة من صور النثر الجاهلي، وأنه دليلٌ على أن العرب كان لهم نثرٌ فنيٌّ قبل عصر النبوة بأجيال؟

وهل يمكن الشك في أن مؤلف هذا الكتاب هو أول من رَجع الصور الفنية في نثر كُتَّاب الصنعة والزخرف إلى أصول عربية صميمة، وكان الباحثون يظنونها أثرًا من اتصال العرب بالفرس واليونان؟

وهل يمتري منصف في أن ما كتبته عن أطوار السجع والنسيب في النثر الفني بابٌ من البحث جديد؟

وهل يتردد أريب في الاعتراف بأن الفصول التي كتبتها عن نشأة المقامات وعن الأخبار والأقاصيص فصولٌ مبتكرةٌ كُتبتْ لأول مرة في اللغة العربية؟

والفصول التي أنشأتها عن كُتَّاب النقد الأدبي؟ لقد جلوت في تلك الفصول طوائف من الحقائق الأدبية لم يهبها أحدٌ ما تستحق من العناية قبل اليوم.

والمؤلفون المنسيون الذين بعثهم هذا الكتاب؟

لقد مرت أجيال طوال نُسي فيها أبو المغيرة بن حزم نسيانًا تامًّا حتى كاد يطوى من صفحة التاريخ، إلى أن كشف عنه مؤلف هذا الكتاب.

وكان أساتذة الأدب العربي في الشرق والغرب يعتقدون أن «رسالة الغفران» أول مَسلاة فى اللغة العربية، ويظنون أن ابن شهيد حاكاه حين ألَّف رسالة «التوابع والزوابع»، فجاء مؤلف هذا الكتاب وأثبت أن رسالة ابن شهيد أُلِّفت قبل رسالة المعري بنحو عشرين عامًا، وأن المعري هو الذي حاكى ابن الشهيد.

وكان كِتاب أبي محمد بن حزم في «فن الحب» مجهولًا في الشرق، فلما جاء مؤلف هذا الكتاب وأظهره عدَّه المصريون أعجوبة، وتألفت لجنة من علماء الأزهر برياسة الشيخ محمد عرفة وكيل كلية الشريعة لتبرئة ابن حزم مما نُسب إليه! ثم انفضت اللجنة وانزوى أعضاؤها الفضلاء! أليس ذلك دليلًا على أن هذا الكتاب فاجأ الشرقيين بنبأ عظيم؟

وما كتبته عن ابن دريد، هل كان ينتظر أحد أن يكون هذا الرجل هو واضع الأقصوصة في اللغة العربية، والملهم الأول لبطل المقامات بديع الزمان؟

تلك ملامح من شمائل هذا الكتاب، أقف عندها ولا أزيد، ومعاذ الأدب أن أمُنَّ على لغة العرب التي أعزني بها الله، وإنما هي ثورة نفسية أنطقني بها ما أراه في زماني من غدر وعقوق، والله المستعان على إفك هذا الزمان.

٢

وأنا بعد ذلك مسئول عن عرض المؤاخذات التي وُجِّهت إلى هذا الكتاب.
  • وأذكر أولًا: أن في هذا الكتاب عيبًا سجله الأساتذة في جامعة باريس؛ وهو النزعة الوجدانية، وقد اعتذر عني المسيو ماسينيون يوم أداء الامتحان في السوربون، فذكر أني شاعر، والشعراء لا يستطيعون الفرار من نزوات الوجدان.
  • وأذكر ثانيًا: أني قصرت تقصيرًا ملموسًا في عرض الشواهد، ولم أذكر شاهدًا كاملًا غير مناظرة الخوارزمي والهمذاني، واكتفيت بالإشارة في الهوامش إلى مراجع الشواهد، وعذري في ذلك أن هذا الكتاب لم يؤلف إلا للخواص، ومن السهل عليهم أن يرجعوا إلى الشواهد في مصادرها حين يشاءون، يضاف إلى هذا أن الشواهد لو ذُكرتْ كاملة لوصل حجم الكتاب إلى أكثر من أربعة مجلدات، وأين الناشر الذي ينفق على نحو ألفي صفحة من هذه الصفحات الطوال العراض؟!
  • وأذكر ثالثًا: أن منهج العرض والتأليف يختلف في هذا الكتاب بعض الاختلاف، والسبب في هذا أن الكتاب لم يؤلف في عام واحد، وإنما كتبت فصوله — كما أسلفت — في خلال سبع سنين، وهي مدة طويلة يتحول فيها العقل والذوق من حال إلى حال.
  • وأذكر رابعًا: غلبة الاستطراد في صلب الكتاب، وهو عيب لامني عليه الأساتذة في باريس، وعذري في ذلك أني أميل إلى هذا النحو الموروث في التأليف؛ لأن مؤلفاتنا القديمة كان أكثرها كذلك، والقارئ هو الغانم على أي حال، والفهرس المفصل١ الذي ألحقته بالجزء الأول والجزء الثاني سيمكِّن القارئ من تعقب ما في الكتاب من شتيت الفوائد الأدبية والتاريخية.

٣

عُنينا في هذا الكتاب بدرس النثر الفني، أما الزمان فهو القرن الرابع، وأما المكان فهو الأمصار الإسلامية لذلك العهد، فهل كان يمكن أن يتفق العرب والمستعربون في القرن الرابع على اصطناع أسلوب واحد أو مقارب في التعبير عن مختلف المعاني والأغراض؟

ذلك سؤال وجهه إلينا المسيو ديمومبين، وأجبنا عنه في النص الفرنسي،٢ ونعرض له في هذه المقدمة بشيء من البيان.

لا جدال في أن الموضوعات كانت تختلف كثيرًا أو قليلًا، فالمشاكل العقلية والوجدانية التي كانت تعرض لكُتَّاب الأندلس تغاير بعض المغايرة ما كان يعرض لأمثالهم في مصر والشام وفارس والعراق.

أما اللغة والأسلوب فالاختلاف فيهما قليل؛ لأن العرب الذين هاجروا فاتحين إلى مصر والمغرب والأندلس نقلوا تقاليدهم الأدبية إلى تلك البلاد، وكان من همِّ المؤلفين فى المغرب والأندلس أن ينقلوا إلى مواطنيهم أدب أهل المشرق، والتاريخ يحدثنا «أن الصاحب بن عباد سمع بكتاب العقد فحرص حتى حصل عنده، فلما تأمله قال: هذه بضاعتنا رُدَّت إلينا، ظننت أن هذا الكتاب يشتمل على شيء من أخبار بلادهم، وإنما هو مشتمل على أخبار بلادنا، ولا حاجة لنا فيه».٣

ولهذا الخبر الصغير وجهان على جانب من الأهمية: فالصاحب كان يتشوَّف إلى أدب أهل الأندلس؛ لأنه لم يكن منشورًا في المشرق، وكان يرى أن أول ما ينبغي أن يشغل به رجل كأحمد بن عبد ربه هو تدوين أدب أهل الأندلس، أما ابن عبد ربه فكان أعرف بحاجة بلاده من الصاحب، فاجتهد في أن ينقل إليهم أدب أهل المشرق، وكانوا يرونهم أساتذةً في الشعر والبيان، واهتمام أمثال ابن عبد ربه بجمع الآداب المشرقية يؤيد ما نراه من محافظة أهل الأندلس على الأساليب العربية التي كان يصطنعها كُتَّاب الشام وكُتَّاب العراق.

وما وقع في الأندلس وقع مثله في المغرب؛ فإن مؤلف زهر الآداب يحدثنا في مقدمة كتابه أن العباس بن سليمان ارتحل إلى المشرق في طلب الكتب «باذلًا في ذلك ماله، مستعذبًا فيه تعبه، إلى أن أورد من كلام بلغاء عصره وفصحاء دهره طرائف طريفة، وغرائب غريبة»، وسأله أن يجمع له «من مختارها كتابًا يكتفي به عن جملتها»، فألف كتاب زهر الآداب.

وكما خلا العقد الفريد من أدب أهل الأندلس خلا زهر الآداب من أدب أهل المغرب: أيكون معنى ذلك أن الأندلسيين والمغاربة كانوا يستخفون بآثارهم الأدبية؟

لا، ولكن معناه أنهم كانوا يرون المثل الأعلى عند أهل المشرق، فكانوا يجدُّون في نقل ما أُثر عن أهل الشرق من القصائد والرسائل والحكم والأمثال.

وكذلك كان زهر الآداب المرجع الأول الذي اعتمدتُ عليه في أكثر الشواهد المشرقية مع أنه لرجل تونسي من أهل القيروان.

٤

ويمكن الحكم بأن حظ بغداد في الأيام الخالية كان شبيهًا بحظ القاهرة في هذه الأيام، ألسنا نرى العرب والمستعربين في مختلف الأقطار الإسلامية يتأثرون بما يجدُّ في القاهرة من ضروب الآداب والفنون؟ ألسنا نرى مناهج النشر والتأليف التي يبدعها أهل القاهرة تنتشر في أكثر الأمصار الإسلامية بشيء من التغيير القليل؟

والمسيو ديمومبين يحدثنا أن زرياب حين رحل إلى الأندلس استطاع أن يؤثر في الأغاني الأندلسية ويصبغها بصبغة شرقية، أفيرتاب أحد في أن أغاني محمد عبد الوهاب تعطر الأغاني الشرقية بنفحة مصرية، وتنقل إلى أكثر البلاد العربية أسرار الغناء في وادي النيل؟

يضاف إلى هذا نظام الرحلة في طلب العلم، وكان أهل الأندلس معروفين بذلك، وكان الأخذ عن علماء المشرق مما يرفع رأس الرجل حين يعود إلى بلاده موفور العلم والعقل، وكان يتفق لأهل الأندلس أن يقيموا زمنًا بمصر في طريقهم إلى المشرق؛ ليأخذوا عن علماء مصر ما يرون في أخذه فضلًا وعائدة.

وقصة المنذر بن سعيد البلوطي معروفة، وهي لا تخلو من فكاهة، فقد حضر مجلس ابن النحاس في مصر وهو يملي هذه الأبيات:

خليليَّ هل بالشام عينٌ حزينة
تُبكِّي على ليلى لعلي أعينها
قد أسلمها الباكون إلا حمامة
مطوَّقةً باتت وبات قرينها
تجاوبها أخرى على خيزرانة
يكاد يدنِّيها من الأرض لينها

فقال ابن سعيد: يا أبا جعفر، ماذا — أعزك الله — باتا يصنعان؟

فقال ابن النحاس: وكيف تقوله أنت يا أندلسي؟ فقال: بانت وبان قرينها.

وبالطبع ما كان يتفق لجميع من وفد على مصر من أهل الأندلس ما اتفق لابن سعيد مع ابن نحاس، ولكن المهم أن نشير إلى أن ابن النحاس استثقل ابن سعيد بعد ذلك حتى منعه كتاب العين وكان يذهب فينتسخ من نسخته، فانصرف عنه إلى الاستنساخ من نسخة ابن العباس بن ولاد.٤

وفي أمثال هذا الخبر ما يدل على أن الأندلسيين والمغاربة في رحلتهم إلى المشرق كانوا يجمعون بين فائدتين: الاستماع إلى الرجال، وانتساخ ما يظفرون به من نادر المصنفات، حتى إذا عادوا إلى بلادهم اشتغلوا بالوراقة والتدريس؛ أما الوراقة فلكسب الرزق، وأما التدريس فلطلب المجد.

وبعض هذا كافٍ لصبغ أذواقهم بالصبغة المشرقية في الشعر والبيان.

أيكون عجيبًا بعد هذه الأدلة أن نحكم بأن أساليب الكُتَّاب في القرن الرابع كانت متقاربة في السمات والخصائص وإن افترقت مساكنهم بين المغرب والمشرق؟

٥

مرت المناقشات هادئة في هذا الكتاب، ولم يستعرْ ضريمها إلا حين اتصلتُ برجلين من كرام الرجال؛ هما المسيو مرسيه، والدكتور طه حسين.

أما المسيو مرسيه فعالم واسع الاطلاع، وهو رأس المستشرقين الفرنسيين لهذا العهد، وكانت له آراء مدونة عن نشأة النثر الفني عند العرب، وما كدت أصل إلى باريس حتى هممت بمهاجمته، فنصحني المسيو ماسينيون وأفهمني أنه رجلٌ صعب المِراس، وأن منزلته في المعهد العلمي عظيمة، وأن المستشرقين جميعًا يجلونه أعظم الإجلال، ولكن كتب الله أن لا أنتصح برأي المسيو ماسينيون، فابتدأت رسالتي التي قدمتها للسوربون بفصلين في نقض آرائه من الأساس، فغضب الرجل وثار وصمم على حذف الفصلين بحجة أنهما لونٌ من الاستطراد لا يوائم الروح الفرنسي في البحث، وصممت على إبقاء الفصلين بحجة أنهما العماد الذي تنهض عليه نظريتي في نشأة النثر الفني.

وكأنما عزَّ على الرجل أن أهاجمه في عُقر داره فمضى يعاديني عداءً خفيًّا كانت له آثار بشعة لا أتذكرها إلا انتفضت رُعبًا من عجز الرجال عن ضبط النفس وقدرتهم على تقويض دعائم الإنصاف.

وقد قابلت خصومته بلدَدٍ أقسى وأعنف، ورأيت الحرص على آرائي أفضل من الحرص على رضاه، فأبقيت الفصلين اللذين أغضباه، وأضفت إلى البحث الذي قدمته إلى مدرسة اللغات الشرقية فصلًا كان أشار بحذفه لأني هاجمته فيه، وانتهينا إلى عاقبة أفصح عنها المسيو ماسينيون كل الإفصاح؛ إذ قال حين لقيته أخيرًا في باريس:

إن المسيو مرسيه لا يحبك، ولكنه لا يستطيع أن ينساك.

أما أنا فأحب هذا الرجل وأذكره بالجميل؛ لأنه من خيرة الأساتذة الذين تلقيت عنهم في باريس، ولأنه كان رئيس لجنة الامتحان الذي ظفرت فيه بدبلوم الدراسات العليا في الآداب من مدرسة اللغات الشرقية، والله سبحانه هو القادر على أن ينسيني ما لقيت على يديه من ظلم وإجحاف!

أما الدكتور طه حسين فما أدري والله ما ذنبه حتى يهاجَم أعنف الهجوم في هذا الكتاب!

إن هذا الرجل تربطني به ألوف من الذكريات، يرجع بعضها إلى العهد الذي كنت فيه طالبًا بالجامعة المصرية القديمة، يوم كان يصطنع العدل الذي يلبس ثوب الظلم في امتحان الطلاب، فقد ساعد مرة على إسقاطي في امتحان الجغرافيا ووصف الشعوب، وأسقطني مرة ثانية في امتحان تاريخ الشرق القديم، والسقوط في الامتحان مما يحفظه الطالب المخلص لأستاذه المنصف.

ويرجع بعض الذكريات إلى العهد الذي كنت فيه مدرسًا بالجامعة المصرية الجديدة، حين كنت أحمل إليه على أكتافي أحجار الأساس لنرفع القواعد من كلية الآداب.

وأدق ما يصل بيننا من الذكريات ما وقع في ربيع سنة ١٩٢٦ يوم ظهر كتاب الشعر الجاهلي، وثارت الأمة والحكومة والبرلمان، وكان أصدقاؤه بين خائف يترقب، وحاسد يتربص، وكنت وحدي صديقه الذي لا يهاب، وزميله الذي لا يخون.

ولكن حماستي للفكرة التي أدافع عنها، وغرام الدكتور طه بنقضها في رسائله وأحاديثه ومحاضراته، كان مما حملني على مقاومته بعنف وقوة، حتى ليحسب القارئ أن بيننا عداوة سقيت لأجلها القلم قطرات من السم الزعاف حين عرضت لدحض آرائه في فصول هذا الكتاب.

أكتب هذا وقد شرَّق الدكتور طه وغرَّبتُ، ولم يبقَ بيننا إلا أطيافٌ من كرائم الذكريات، قلبي بها ضنين.

٦

يشتمل هذا الكتاب على مقدمة وستة أبواب، أما المقدمة فتبحث عن نصيب النثر الفني من عناية النقاد، وتبين الغرض من تأليف هذا الكتاب، وفي الباب الأول يتكلم المؤلف عن النثر الجاهلي والنثر الإسلامي وأطوار السجع والازدواج، وكان من الضروري في نظر المؤلف أن ينشيء هذا الباب، وهو أصل الخصومة بينه وبين أستاذه المسيو مرسيه، وحجة المؤلف أنه من الواجب تعرُّف مذاهب النثر من عصر النبوة إلى القرن الرابع لتظهر خصائص النثر في العصر الذي أُلِّف عنه الكتاب، وفي الباب الثاني يدرس المؤلف خصائص النثر في القرن الرابع، فيبين ما فيه من الظواهر الفنية والعقلية، ثم يمضي فيتكلم في الباب الثالث عن كُتَّاب الأخبار والأقاصيص، ويتحدث في الباب الرابع عن كُتَّاب النقد الأدبي، ويشرح في الباب الخامس بعض الجوانب المهمة من كُتَّاب الآراء والمذاهب، ويختم الكتاب بالباب السادس عن كُتَّاب الرسائل والعهود.

والمؤلف مطمئن إلى صحة هذا التقسيم، ويعترف بأنه لم يتكلم عن البلاغة الدينية إلا قليلًا، فقد حملته الأثَرَة على أن يستبقي هذا الجانب لكتابه «أثر التصوف في الأدب والأخلاق» الذي يرجو أن يوفق إلى إتمامه بعد قليل.

٧

راعينا روح العصر في تأليف هذا الكتاب؛ فتجنبنا ألفاظًا وتعابير كانت تستساغ في القرن الرابع ولا تستساغ اليوم، ولكنَّا في الوقت نفسه لم نهمل واجب الدقة في التأليف، فأشرنا إلى نوازع اللهو والمجون، ودللنا القارئ على مصادرها إن كان يهمه استقصاء الظواهر الاجتماعية التي حفظها التاريخ. والأدب في رأينا أصدق مصدر للدراسات الفلسفية والتاريخية، ومثل هذا الكتاب يُقدَّم للخواص الذين يُعدُّ التحفظ في مخاطبتهم ضربًا من الجمود.

٨

بين الأصل الفرنسي وبين هذا الكتاب اختلاف قليل، ففي النسخة الفرنسية أشياء تكتب لأهل الغرب ولا يحتاج إليها أهل الشرق، وفي النسخة العربية تفاصيل لا يحتاج إليها أهل الغرب وتنفع أهل الشرق، ويمكن القول بأن في النسخة العربية حرية لم تكن في النسخة الفرنسية؛ لأن الأصل الفرنسي كُتب لأداء امتحان الدكتوراه في جامعة باريس، تحت إشراف أستاذين فيهما صرامة وقسوة؛ وهما المسيو مرسيه والمسيو ديمومبين، فالأصل الفرنسي وُجِّه وجهة العلم الصرف، أما هذا الكتاب فوضع لغرض التعليم والتثقيف.

٩

أيراني القارئ أحسنت التمهيد لهذا الكتاب؟

قد يكون ذلك وقد لا يكون، ولكن مما لا ريب فيه أني رفعت عن كاهلي عبئًا ثقيلًا بإخراجه إلى الناس، فقد كان من الواجب أن يُنشر بالعربية بعد نشره بالفرنسية، وقد قضيت عامًا في طبعه بمطبعة دار الكتب المصرية، واستوجب تحقيقه وتصحيحه جهودًا لم تكن تخطر بالبال، وصبر ناشره الحاج مصطفى محمد صبرًا جميلًا، واحتمل عُمَّال المطبعة ضجر الإفراط في المراجعة والتصحيح.

وأرى من الواجب أن أشكر صاحب العزة الأستاذ برادة بك على التسهيلات التي اختصني بها في تيسير طبع هذا الكتاب على الطريقة الفنية التي استطعت بها ربط أصول الكتاب بعضها ببعض، وأن أسدي الثناء إلى صديقي المفضال محمد أفندي نديم على معونته في إنجاز الطبع على أحسن حال.

واللهَ أسأل أن يَقِيَني شر الفتنة؛ فتنة النفس والقلب والعقل، وأن يهديني الصراط المستقيم، وأن يمنح هذا الكتاب من القبول ما يكافئ ما أضعت في تأليفه من العمر والعافية؛ إنه قريبٌ مجيب.

محمد زكي عبد السلام مبارك
مصر الجديدة ٦ شوال سنة ١٣٥٢ / ٢٢ يناير سنة ١٩٣٤

هوامش

(١) الفهرس المفصل هو الترجمة المقبولة لعبارة Table analytique.
(٢) ص٤١، ٢٣١–٢٣٣.
(٣) معجم الأدباء (١ / ٦٧).
(٤) انظر: معجم الأدباء (٢ / ٧٢–٧٣).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤