الفصل الأول

النثر الجاهلي

هل كان للعرب نثر فنيٌّ في عصر الجاهلية؟ وهل كانوا يفصحون عن أغراضهم بغير الشعر والخطب والأمثال؟

لقد اتفق مؤرخو اللغة العربية وآدابها كما اتفق مؤرخو الإسلام على أن العرب لم يكن لهم وجود أدبيٌّ ولا سياسيٌّ قبل عصر النبوة، وأن الإسلام هو الذي أحياهم بعد موت، ونبَّههم بعد خمول.

وهذا الاتفاق يرجع إلى أصلين: فهو عند مؤرخي الإسلام من المسلمين تأييد لنزعة دينية يراد بها إثبات أن الإسلام هو الذي خلق العرب خلقًا وأنشأهم إنشاء؛ فنقلهم من الظلمات إلى النور، ومن العدم إلى الوجود، وهو عند مؤرخي اللغة العربية وآدابها يرجع إلى الشك في كثير من النصوص الأدبية التي أُثِرت عن العرب قبل الإسلام من خطب وأسجاع وأمثال.

وقد وقع للأستاذ خليل مطران وهو يحاور الدكتور محمد هيكل في الجامعة المصرية سنة ١٩٢٨ أن أشار إلى أن مجموعة الأدب التي أُثِرت عن الجاهليين لم تكن تزيد عن كراس، وأنها على ضآلتها كانت مغنية في تثقيف الأدباء لذلك العهد، أمثال: علي بن أبي طالب وعمر بن الخطاب. وهذا خطأ من الأستاذ مطران، فإن الثقافة التي ظهر أثرها في خطباء العرب لعهد النبوة كانت تشهد بوجود مجموعات كثيرة جيدة من الشعر والنثر والخطب والأمثال.

وهناك رأي مثقل بأوزار الخطأ والضلال، وهو رأي المسيو مرسيه ومن شايعه كالدكتور طه حسين، وذلك الرأي يقضي بأن العرب في الجاهلية كانوا يعيشون (Primitif) عيشة أولية، والحياة الأولية لا توجب النثر الفني؛ لأنه لغة العقل، وقد تسمح بالشعر؛ لأنه لغة العواطف والخيال، وهذا الرأى أعلنه المسيو مرسيه في المحاضرة التي افتتح بها دروسه في مدرسة اللغات الشرقية في باريس منذ أعوام، ثم أذاعه مطبوعًا في كراس خاص،١ وقد اختطف الدكتور طه حسين هذا الرأي وأذاعه في دروسه بالجامعة المصرية، ثم أثبته في كتاب «المجمل» الذي اشترك في وضعه للمدارس الثانوية.٢

وكان ينتظر أن يتنبه المسيو مرسيه ومشايعه الدكتور طه حسين إلى أن العصر الذي وسموه بالأولية عند العرب هو القرن الخامس للميلاد، وفي ذلك العصر كان النثر الفني موجودًا عند أكثر الأمم التي جاورت العرب أو عرفوها؛ كالفرس والهنود والمصريين واليونانين، وليس بمعقول أن يكون لتلك الأمم نثر فني قبل الميلاد بأكثر من خمسة قرون ثم لا يكون للعرب نثر فني بعد الميلاد بخمسة قرون، كأن العرب انفردوا في التاريخ القديم بالتخلف في ميادين العقل والمنطق والخيال.

والمسيو مرسيه يؤمن بوجود الخطب في العصر الجاهلي، وينكر إنكارًا مطلقًا أن يكون هناك نثر فني كالذي يلجأ إليه الرجل لإذاعة فكرة، أو دفع شبهة، أو إيضاح مشكلة، وفاتَه وفاتَ أشياعَه أن القرآن يشير إلى أنه كانت هناك كتب دينية وأدبية لم يطلع عليها النبي — عليه السلام — حتى يُتَّهم بأنه لفَّق القرآن مما نُقِل إليه من علوم الأولين وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ۖ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (سورة العنكبوت: ٤٨).

وكانت حجة المسيو مرسيه التي واجهني بها في صيف سنة ١٩٢٨ أنه لو كانت هناك مؤلفات نثرية لدوِّنت وحفظت ونقلت إلينا كلها أو بعضها كما هو الشأن في آثار الهند والفرس والروم، وقد أجبته يومذاك بأن فقدان تلك الآثار لا يكفي لإنكار أنه كان لها نصيب من الوجود، على أن في القرآن الكفاية، وهو أثر جاهليٌ كما سنبينه بعد قليل.

وخلاصة ما أراه أنه كان للعرب قبل الإسلام نثر فني يتناسب مع صفاء أذهانهم، وسلامة طباعهم، ولكنه ضاع لأسباب أهمها شيوع الأمية، وقلة التدوين، وبُعدُ ذلك النثر عن الحياة الجديدة التي جاء بها الإسلام ودوَّنها القرآن.

وما نقله الرواة من النصوص لا يكفي لتعيين أساليب النثر في العصر الجاهلي، وبيان الاتجاهات العقلية التي كان يرمي إليها الكاتبون إذ ذاك، وهو على قلته مما وضع في العصر الأموي وصدر العصر العباسي لأغراض دينية وسياسية، وهو لهذا لا يعيِّن مدرسة نثرية، ولا مذهبًا اجتماعيًّا، ولا رأيًا عامًّا، وإنما يعيِّن أذواق واضعيه، ومذاهبهم السياسية واتجاهاتهم الدينية.

ومن أمثلة ذلك حديث خنافر الحميري، وهو منقول عن ابن الكلبي، ومثبت في الجزء الأول من الأمالي،٣ وهو حديث مختلَق وُضع بعد الإسلام، وقد أضفته إلى النثر المنسوب إلى العصر الجاهلي مع أنه قيل — على فرض صحته — في عصر النبوة؛ لأنني أدخل تلك الفترة في الجاهلية؛ إذ لم يكن الإسلام استطاع أن يمحو الآثار التي سبقته في الشعر والكتابة، وأن يبدع مناهج جديدة للإنشاء والتفكير تغاير مذاهب الجاهليين.

والذي وضع هذا الحديث أراد أن يثبت رسالة النبي إلى الجنِّ، وهي رسالة لا نعرض لها برفض أو قبول، وإنما نقرر أن واضعها قصد إلى هذه الغاية مستعينًا في سبيل الوصول إليها بمحاكاة اللغة اليمنية، فذكر «الزخيخ»، و«الهوب» بدل النار، و«الواهر» بدل الساكن، و«الجحمتين» بدل العينين، ليوقع في روع القارئ صحة الرواية، مع أنه يبعد أن تكون اللغة اليمنية في ذلك الحين شديدة القرب من اللغة العدنانية بحيث لا تخالفها إلا في بعض الألفاظ.

وكل ما يمكن استخلاصه من مثل هذا الحديث هو اطمئنان الرواة إلى أن لغة الكهان كانت مسجوعة، وأنه كان من المألوف أن يتبع النثر بشيء من الشعر، ولهذا قيمته في تصوُّر حالة النثر الفني في العصر الجاهلي، وإن لم يصل بنا إلى تحديد ما كان عليه من قوة أو ضعف، ووضوح أو غموض.

والحكم الذي أجريناه على حديث خنافر هو الحكم الذي نقضي به في تقدير خطبة قس بن ساعدة الإيادي، وهي الخطبة التي زعم الرواة أنه تنبَّأ فيها بظهور الرسول، وهي بلا شك خطبة وضعت لإيهام الجمهور أن نبوة محمد كانت مما يجري علي ألسنة الخطباء الموفقين من أصحاب الحكمة في عهد الجاهلية، وهي كذلك خطبة مسجوعة ختمت بقطعة من النثر على نمط الحديث المنسوب إلى خنافر بن التوءم الحميري.

ومن أهم ما نُسب إلى العصر الجاهلي من آيات النثر الفني خطب وفود العرب عند كسرى، وهي خطب طويلة فصيحة مثبتة في الجزء الأول من العقد الفريد،٤ وأنا أرى أن هذه الخُطب منحولة وضعها الرواة بعد الإسلام لأغراض سياسية، حين أرادوا أن يثبتوا فضل العرب في الجاهلية، وأنهم كانوا قادرين على مقاومة الفرس بالسيف واللسان، وأكبر الظن أنها وُضعت في العصر الإسلامي، فإن لغتها تشابه تام المشابهة للُّغة التي كتبت بها مشاورة المهدي لأهل بيته في بغداد سنة ١٧٠، ٥ ويكفي أن يرجع الباحث إلى نصوص تلك الخطب وهاته المشاورة ليقتنع بأن التشابه بين الأثرين بَيِّنٌ واضح من حيث الألفاظ والتعابير والأسلوب.

وتدلنا خطب الوافدين على كسرى على تصور العرب بعد الإسلام لما كان عليه أسلافهم من المنعة وقوة الجانب، وما أحبوا أن يصفوهم به من الثورة على كسرى والتأهب لمقاومته والخروج على سلطانه، وهي في جملتها صورةٌ لشمائل العرب وعاداتهم وأخلاقهم وطباعهم، وتفسيرٌ لما أُخِذ عليهم من الشذوذ في بعض الأوضاع الاجتماعية.

ويؤيد ما ذهبت إليه من أنها كتبت بعد الإسلام أننا نجد الكلام الذي فاه به كسرى موضوعًا في لغة تماثل تمام المماثلة لغة أولئك الخطباء، مما يدل على أن يدًا تعمدت تحرير ما جرى في تلك الوفادة، ولسنا نستطيع إثبات أن ذلك كان في الجاهلية؛ فليس لدينا ما نعرف به كيف كان النعمان ينظم ديوان التحرير في قصره،٦ ولكننا نعرف أن العرب بعد الإسلام نظموا دواوين الرسائل، وأعدوا لكل فن من فنون الكتابة رجالًا أخصائيين، ولذلك تجد مشاورة المهدي لأهل بيته مثلًا ختمت بهذه العبارة:

وكتب في شهر ربيع الآخر سنة سبعين ومائة ببغداد.

والذي قلناه في خطب الوفود يمكن أن نقوله في أكثر القصص والمحاورات التي نسبت إلى أهل الجاهلية، وتكلف واضعوها أن ينشئوا لها من الشعر، وأن يضيفوا إليها من الأمثال ما يتناسب مع الغرض الذي وضعت له والظَّرف الذي قيلت فيه.

والنتيجة أننا لا نستطيع أن نعطي النثر الفني في العصر الجاهلي لونًا نطمئن إليه؛ لأن أكثر ما نُسب إلى الجاهليين غير صحيح، ومؤرخو الآداب مطمئنون إلى أن الشعر بقي منه أضعاف ما بقي من النثر؛ لأن الشعر موزونٌ مقفَّى يسهل حفظه، ولأن أكثره قيل في حوادث مشهودة ساعدت على ترديده، ولأن التدوين كان قليلًا جدًّا فلم يحفظ به من النثر إلا اليسير،٧ على أن في القدماء من ارتاب في صحة أكثر الشعر الجاهلي؛ مثل محمد بن سلام، وفي المحدَثين من يكاد يرفضه كله؛ كالدكتور طه حسين.

وإذا كان الشعر الجاهلي مهددًا بمثل هذا الرفض مع اتفاق الباحثين على أنه كان وحده موضع عناية الرواة والحُفَّاظ والناسخين، فكيف يمكن الاطمئنان إلى صحة ما نُسب إلى الجاهليين من النثر مع أن عناية الراوة به كانت قليلة، ومع أن من خطباء الإسلام نفسه من ضاعت آثارهم لقلة التدوين، وكانت لهم شهرة مستفيضة جدًّا مثل سحبان وغيره من الخطباء الذين حدَّثنا عنهم الجاحظ وغيره ممن عُنوا بتدوين أصول الآداب.

قلنا: إنه كان للعرب نثر فني في الجاهلية، ثم عدنا فأثبتنا أن شواهد ذلك النثر ليست صحيحة؛ لأنها في جملتها من صنع الرواة، فكيف يستقيم مع ذلك ما نراه من أنه كان للعرب نثر فني قبل الإسلام؟

فليعلم القارئ أن لدينا شاهدًا من شواهد النثر الجاهلي يصح الاعتماد عليه وهو القرآن.

ولا ينبغي الاندهاش من عدِّ القرآن أثرًا جاهليًّا، فإنه من صور العصر الجاهلي؛ إذ جاء بلغته وتصوُّراته وتقاليده وتعابيره، وهو — بالرغم مما أجمع عليه المسلمون من تفرده بصفات أدبية لم تكن معروفة في ظنهم عند العرب — يعطينا صورة للنثر الجاهلي، وإن لم يمكن الحكم بأن هذه الصورة كانت مماثلة تمام المماثلة للصور النثرية عند غير النبي من الكتَّاب والخطباء.

وقد قدَّمت هذا الشاهد للمسيو مرسيه الذي يرى أن النثر الفني يبتدئ بابن المقفع، فأخذ يبحث عن مخرج ولكنه لم يهتدِ إلى الآن، أما الدكتور طه حسين فقد اهتدى إلى مخرج لطيف، وذلك إعلانه أخيرًا في دروسه بالجامعة المصرية أن القرآن لا هو شعر ولا نثر، وإنما هو قرآن.٨
وقد بلغني عنه هذه الكلمة وأنا في باريس، فحسبته يمزح، والمزاح مما يُباح! فلما عدت راجعته فوجدته يصرُّ على أن الكلام ينقسم إلى ثلاثة أقسام: شعر ونثر وقرآن. وقد حسب الدكتور طه أنه ينجو بهذا التأويل! وكان الظن به أن يؤيدنا فيما رأيناه من قدم النثر الفني عند العرب، وأن لا يستكثر علينا أن ننقض بعض ما يرى المستشرقون، وهم يرون بلا حق أن العرب لم تكن لهم ذاتية أدبية، وإنما أخذوا طرائق النثر الفني عن الفرس واليونان.٩

القرآن شاهد من شواهد النثر الفني، ولو كره المكابرون، فأين نضعه من عهود النثر في اللغة العربية؟ أنضعه في العهد الإسلامي؟ وكيف والإسلام لم يكن موجودًا قبل القرآن حتى يغير أوضاع التعابير والأساليب!

فلا مفرَّ إذن من الاعتراف بأن القرآن يعطي صورة صحيحة من النثر الفني لعهد الجاهلية؛ لأنه نزل لهداية أولئك الجاهليين، وهم لا يخاطبون بغير ما يفهمون، والنبي جاء لإرشاد قومه وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر في الحدود التي رسمها الدين الحنيف، ولم يكن القرآن إلا أداة لنشر الرسالة الكريمة التي أعزت العرب بعد ذل، وهدتهم بعد ضلال.

وفي القرآن نص صريح على أن الرسول لا يرسل إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ (إبراهيم: ٤)، وتلك إشارة نلوح بها لمن لا يكفيهم المنطق، وإلا فكيف يعقل أن يحدِّث النبي قومه بما ينبو عن أذواقهم وأفهامهم، وهو رجل مسئول لا يستطيع أن يقصد إلى الإغراب في الألفاظ والتعابير، أو قهر اللغة على الالتواء عما ألف العرب من طرائق البيان.

إنه لواضح أن اللغات يتميز بعضها عن بعض بشيئين اثنين: اللفظ والتعبير، وقد تتحد طائفة من الألفاظ في بعض اللغات كما يقع ذلك في العربية والتركية والفارسية والعبرية والهندية، ثم لا يقال: إن وحدة الألفاظ تقتضي وحدة اللغات؛ لأن سر اللغة هو في طريقة الأداء لا أعيان الألفاظ، ومن هنا صح لك أن تنظر في صفحة من كتاب تركي فتجد ثلاثة أخماسها مفردات عربية ثم لا يغنيك ذلك في فهم ما أفصح عنه الكاتب من المعاني والأغراض.

وقد نزل القرآن بلغة العرب ففهموه أصدق فهم، ووصل إلى قرارة نفوس المؤمنين فملأها روحًا ويقينًا، واستثار الدفائن من صدور المشركين فأعلنوا ما في قلوبهم من غيظ وما في رءوسهم من عناد، أفكان شيء من ذلك يقع لو نزل القرآن بأساليب لا يفقهها أهل الجاهلية؟

القرآن ليس بشعر؛ لأنه خالٍ من القوافي والأوزان، وهذا موضع اتفاق.

ولكن أيمكن القول بأنه ليس بنثر أيضًا كما يتوهم الدكتور طه حسين؟ وليت شعري! لمن يقال هذا الكلام؟! أيقال لرجال الدين؟ وكيف وهذه مسألة لغوية لا دينية، وليس في أصول الدين ما يقهرنا عن القول بما لم يقل به أحد من علماء اللغات! أيقال لمؤرخي اللغة العربية؟ وكيف وهم متفقون على أن القرآن كلام منثور، وإن تفرد ببعض الخصائص والمميزات!

أيقال: إن الكتاب العزيز لا هو شعر ولا هو نثر، وإنما هو قرآن لتصدَّق أوهام من يقولون بأن العرب لم يكن لهم نثر فني قبل الإسلام؛ لأن النثر الفني لغة العقل، وأولئك قوم كانوا يحيون حياة أوَّلية لا تبيح لأمثالهم غير التغني بعواطف الأطفال؟!

إذا كانت ميزة النثر الفني أنه أداة لشرح الحقائق التي توحي بها العقول، فمن ذا الذي يستطيع أن ينكر أن القرآن عرض لكثير من المعضلات العقلية والاجتماعية والروحية التي كانت تغزو أفئدة العرب في الجاهلية؟ أو من ذا الذي يرتاب في أنه خاطب العرب باسم العقل لا باسم الخيال؟

ومن موجبات الغلط عند الدكتور طه حسين أنه يرجع كلمة قرآن إلى أصلها في اللغة السريانية، فهي هناك معناها الجهر، وهو يؤكد أنه لذلك كان المسلمون في الصدر الأول يجهرون بتلاوة القرآن.

وهذا منطق لا قيمة له، وكان يصح لو أن القرآن كان مجموعة أناشيد ومزامير يرتلها المسلمون في أعقاب الصلوات، وكيف والقرآن لم يكن مما أُنشئ للتسبيحات والتهليلات كما هو العهد بكثير من الكتب الدينية، وإنما نزل لدفع عادية المشركين ونقض أوهام النصارى واليهود، وإن كان هذا لا يمنع أنه اشتمل على سور قصيرة مسجوعة صالحة للتلاوة في سبيل الدعاء والابتهال.

وأنا مع هذا أقرر أن القرآن — بالرغم من وضوح لغته وقربها أشد القرب من الآثار العربية لعهد الإسلام — يُعدُّ أثرًا أدبيًّا يختلف بعض الاختلاف عن الآثار التي جاءت بعده، ويتفرد بالصفات الآتية:
  • أولًا: خُلُوه من الشعر الموزون خلوًّا تامًّا، بخلاف ما كان قبله وبعده من النثر؛ فقد كان يمزج غالبًا بأبيات من الشعر تأتي في أثناء الرسائل، وقد تكون فاتحة أو خاتمة.
  • ثانيًا: نظام الآيات الذي يسمح في الغالب بوقف كامل يستريح عنده نفَس القارئ، وهو نظام يخالف نظام النثر المرسل ونظام السجع الذي أُثِر عن الجاهليين وشاع بعد الإسلام.
  • ثالثًا: ضرب الأمثال وسَوق القصص، وهي طريقة لم تعرف إلا قليلًا في الآثار الأدبية لتلك العصور، والقرآن يستبيح تكرار القصة الواحدة كلما دعت مناسبة في تصرف قد يكون قليلًا في كثير من الأحيان.
  • رابعًا: الابتداء بألفاظ غير مفهومة مثل: (الم، حم، طسم، الر، ص، ن، ق) إلى آخر تلك الفواتح التي اختلف في تأويلها المفسرون، والتي لم يهتدِ أحد إلى المراد منها بالتحديد، وهذا النمط من الابتداء لم نجده في النصوص الأدبية الجاهلية، ولا الإسلامية.١٠
  • خامسًا: يظهر أن القرآن نُظِم نظمًا غنائيًّا، وأن ترتيله كان ملحوظًا في أوضاعه النثرية، بدليل أن كثيرًا من الآيات تنتهي قبل أن ينتهي المعنى المطلوب، وترتيل القرآن والتغني به كان معروفًا في صدر الإسلام، ولكننا لا نعرف كيف كانت قوانين التغني به من الوجهة الموسيقية، لذلك ندهش حين نرى في سورة المدثر — مثلًا — أن الآية الحادية والثلاثين تزيد عن الآية الثلاثين والثانية والثلاثين أكثر من عشرين مرة، ولا حلَّ لهذا الإشكال إلا ما نلمحه في الآيات الطوال من الإشارات التي تبيح الوقف القصير، على أن في هذا نفسه دلالة على أن المعنى هو الأساس في نظم القرآن، وأن الغناء لا يقع إلا نافلة في صياغة الآيات.
  • سادسًا: لا يلتزم القرآنُ السجعَ، فقد نجد سورًا قصيرة مسجوعة، وقد نجد صحفًا مسجوعة من السور الكبار، ولكن ذلك لا يطَّرد فيه، وكثيرًا ما ينتقل من السجع إلى الكلام المرسل، وأكثر ما يكون ذلك حين يُعنى بالمشاكل الدينية والاجتماعية التي لا يراد بها مخاطبة القلوب حتى توضع وضعًا موسيقيًّا، وإنما يراد بها مخاطبة العقول ودعوتها إلى ترك ما درجت عليه من بعض أوضاع الاجتماع.
  • سابعًا: يبتدئ القرآن السور بالبسملة، وهي سمة إسلامية أريدَ بها مخالفة ما كان عليه المشركون، وقد أراد فريق من الفقهاء أن يتخذوها فاتحة للرسائل والمؤلفات، فوجدوا لذلك حديثًا يقول: «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه باسم الله فهو أبتر.»

وهذه الخصائص ليست كلَّ شيء في متن القرآن، فهناك مميزات تختلف بها بعض السور عن بعض، وهناك فروق دقيقة تتميز بها أساليب السور المدنية من السور المكية، ولكنه لا يمكن الفصل فيما تميز به أسلوب القرآن في جملته تميزًا جوهريًّا إلا إذا ظفرنا بنصوص كافية من نصوص النثر الذي عاصر القرآن أو سبقه بنحو جيل.

وهناك ميزة خطيرة للقرآن من الوجهة المعنوية: تلك تصويره للحقائق الأدبية والاجتماعية والدينية التي كان يعرفها العرب قُبيل الإسلام، وتصويره لبعض ما كان يعرف العرب عن أسلافهم الأوَّلين، وبعض ما سمعوا به من أخبار الأمم الأجنبية التي سامها ملوكها الخسف وسوء العذاب.

والخلاصة أن القرآن نثر، وأنه دليل على أن العرب كان عندهم نثر فني قبل الإسلام، فكان لهم بذلك وجود أدبي متين قبل أن يتصلوا بالفرس واليونان.

وفي هذا قضاء على أوهام من زعموا أن أوَّل كاتب في اللغة العربية هو ابن المقفع الفارسي الأصل،١١ وأن العرب لم يكونوا يعرفون من النثر غير الخطب والأسجاع والأمثال.

هوامش

(١) يمكن الرجوع إلى نص المحاضرة في: Revue Africaine-Nos 330 & 331 (1er & 2e trimesters 1927).
(٢) المجمل، ص١٥، ١٦.
(٣) (١ / ١٣٣) طبع بولاق.
(٤) (١ / ١٠١–١٠٦).
(٥) تجد نص هذه المشاورة في العقد (١ / ٥٧–٦٤).
(٦) هذا لا يمنع أنه كان في قصر النعمان ديوان للإنشاء؛ فإن أبهة الملك توجب ذلك، وكان أولئك الناس حريصين على مجاراة من يتصلون بهم من الفرس والروم في التحلي بالمظاهر الرسمية، وأخصها تنظيم دواوين الملوك.
(٧) في حديث لعبد الصمد بن الفضل الرقاشي: «ما تكلمت العرب من جيد المنثور أكثر مما تكلمت به من جيد الموزون، فلم يحفظ من المنثور عشره، ولا ضاع من الموزون عشره.» راجع: البيان والتبيين (١ / ١٥٨).
(٨) وهي متابعة غير موفقة للمسيو مرسيه الذي يرى أن القرآن ليس خليقًا بأن يسمى نثرًا ويقول:
On est done fondé à refuser à la langue du Coran le nom de prose au sens plein et strict du mot.
وذنب القرآن عند المسيو مرسيه أنه في الأغلب مسجوع وموزون rimé et calencé ولا يتحرر من قيد إلا ليقع في قيد، ولو صح رأي المسيو مرسيه لأنكرنا أن يكون في آثار كُتَّاب القرن الرابع والخامس ما هو خليق بأن يسمى نثرًا؛ لأن أغلب كلام أولئك مسجوع وموزون.
(٩) الدكتور طه لا يقف عند العصر الجاهلي في نفي النثر الفني، فقد صرح في إحدى محاضراته بالجامعة الأمريكية (مارس سنة ١٩٣٣) أن القرن الأول بعد الهجرة لم يكن فيه نثر يُعتد به، ولم تكن للكُتَّاب أهمية اجتماعية، وإنما كان الشأن للشعر والشعراء، وسيرى القارئ أن هذا الرأي قليل الحظ من الصواب.
(١٠) كنت أتحدث عن فواتح السور مع صديقي وأستاذي المسيو (Blanchot) بلانشو فعرض عليَّ تأويلًا جديرًا بالدرس والتحقيق، وفي رأيه أن الحروف (الم، الر، حم، طسم) هي كالحروف (AOI) التي توجد في بعض المواطن من (Chansons de geste) فهي ليست إلا (Neûmes)؛ أي إشارات وبيانات موسيقية يتبعها المرتلون.
وقد كانت الموسيقا القديمة بسيطة يشار إلى ألحانها بحرف أو حرفين أو ثلاثة، وكان ذلك كافيًا لتوجيه المغني أو المرتل إلى الصوت المقصود.
وفي الكنائس المسيحية بأوربا، حيث لا تزال تحفظ تقاليد (Le chant grègorien) الغناء الجريجوري وفي أثيوبيا — مثلًا — يوجد اصطلاح موسيقي مشابه لذلك؛ فإن رئيس المرتلين يبدأ الصوت بالحروف التي تذكر ﺑ (الم) في القرآن أو (AOI) في نشيد رولان.
ويؤيد رأي المسيو بلانشو أن (الم) تنطق هكذا عند الترتيل: (ألف. لام. ميم) فهي ليست رمزًا كتابيًّا، ولكنها رموز صوتية.
ومن المحتمل أن تكون تقاليد الترتيل في القرآن سارت في طريق كان معروفًا عند أهل الجاهلية، ومن الواضح أن القرآن لم يكن من همِّه أن يخالف الجاهليين في كل شيء حتي في الأصوات الموسيقية، فليس بمستبعد أن تكون فواتح السور إشارات صوتية لتوجيه الترتيل، وأن تكون متابعة لبعض ترانيم الجاهليين.
ونحن مع اعتقادنا بقيمة هذا الرأي نرى من أسباب ضعفه أن المفسرين لم يعطوه ما يستحق من العناية، مع تطوعهم بعرض كثير من الفروض، ولو أنه كان معروفًا في الصدر الأول لما تعرض لمثل هذا الإغفال.
ومن يدري فلعل دراسة أصول الموسيقا في الكنائس الحبشية والشامية في العهد الذي سبق الإسلام تعود على هذا الرأي بشيء من التوضيح والتحديد، وإلى أن تظهر هذه الدراسة نقف أمام هذا الرأي بين الشك واليقين.
(١١) هو رأي المسيو مرسيه، وتابعه الدكتور طه حسين في بحث نشره في المقتطف، ثم أعاد نشره في كتابه عن (شوقي وحافظ).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤