الفصل الثاني

نشأة النثر الفني

بيَّنا أن النثر الفني وُجد عند العرب في الجاهلية، وهو يفرض نوعًا من الزخرف يهتم به علماء البلاغة، فلننظر أكان ذلك الزخرف في طبيعة اللغة العربية، أم وصل إلينا من الخارج حين اتصل العرب بالفرس واليونان؟

يرى المسيو مرسيه أن الزخرف الفني وصل إلى العرب من الفرس، وكان الدكتور طه حسين يشايعه في ذلك، ثم تغير فجأة فزعم أنه وصل إلى العرب من اليونان،١ وكانت حجته وحجة المسيو مرسيه أن المولعين بالزخرف من كُتَّاب اللغة العربية أكثرهم من الفرس المستعربين.
وهذه مدرسة قديمة يرجع عهدها إلى (Renan) رينان وهي ترمي إلى الحكم بأن المدنية العربية غريبة عن العرب، وأن العرب مدينون في علومهم وفلسفتهم وفنونهم وآدابهم إلى الفرس واليونان، والدكتور طه حسين متأثر بهذه المدرسة إلى حد بعيد، فهو يقول بأن البلاغة العربية أُخِذَتْ حرفيًّا من البلاغة اليونانية حتى في الشواهد والصور والتعابير،٢ وأذكر أنه أوصاني بالرجوع إلى تاريخ الآداب الفارسية لأعرف بالضبط مَن هم الكُتَّاب الفرس الذين أوحوا إلى كُتَّاب العرب فنون البديع؛ كالسجع والتورية والطباق والجناس.

وأنا لا أنكر أن العرب تأثروا بالفرس في حياتهم الأدبية، فإن من الطبيعي أن تدخل في اللغة والعقول عناصر جديدة بسبب المعاشرة والاغتراب والاطلاع على آداب الناس في مختلف الأقطار، فكل أمة في الأرض تتأثر حضارتها وآدابها وفنونها بالنماذج الجديدة التي تصل إليها عن طريق المعارض الدولية، وعن طريق السياحات وتبادل الآراء والأفكار في العلوم والفنون والآداب.

ولكني — مع هذا — أقرر أن الزخرف عنصر أصيل في اللغة العربية، وعندي لذلك شاهد لا يُجحد وهو القرآن.

أليس القرآن آية فنية؟ بلى، فلننظر إذن أهو كتاب طبيعي أم هو كتاب مملوء بالزخرف والصنعة المحكمة التي تدل على أنه أنزل على قوم يعرفون ما هو الكلام الجيد وما هو الأسلوب المتين.

وإننا لنرى المؤلفين في علوم البلاغة من رجال القرن الثالث والرابع والخامس يرجعون إلى القرآن فيأخذون منه الشواهد المتنوعة التي يعذر وجودها أحيانًا في الشعر والنثر عند الكُتَّاب المتأخرين.

وأنا لا أعرف حتى الآن باحثًا رجع في تدوين الصور الفنية للنثر إلى القرآن، واهتم ببيان الجدة والروعة التي يحتويها ذلك الكتاب الفذ، فمن الواجب أن يترك الباحثون ذلك الميدان الذي أولعوا بالجري فيه وهو عصر الدولة العباسية، وأن يجعلوا ميدان النضال هو عصر النبوة نفسه، وأن يحدِّثونا ما هي الصلات الأدبية والاجتماعية التي وصلت إلى العرب من الخارج فأعطت نثرهم تلك القوة وذلك الزخرف اللذين نراهما مجسمين في القرآن، هنالك نعرف بالبحث أكان القرآن صورة عبقرية أم تقليدية.

ولكن مثل هذا العمل — في رأيي — خطر على الباحثين المسلمين في الوقت الحاضر؛ لأن الرأي العام في مصر والشرق الإسلامي لا يسمح بدرس القرآن درسًا تحليليًّا يبين ما فيه من العناصر العربية الصميمة والعناصر الدخيلة، والمستشرقون أيضًا لا يهتمون بمثل هذا البحث؛ لأن أكثرهم مقتنع بأن العرب لم يكن لهم وجود أدبيٌّ قبل الإسلام، والعرب بعد الإسلام — في رأيهم — متأثرون بالفرس والروم، كأن العرب لم يكن لهم من طبيعتهم الصافية، وعقولهم القويَّة، وأذواقهم السياسية؛ ما يكفي لأن تكون لهم اتجاهات فلسفية وأدبية وفنية تغلب عليها صبغة العبقرية أكثر مما تغلب نزعة المحاكاة.

ولنفرض جدلًا أن المسلمين المعاصرين يسمحون لكاتب مثلي بمعالجة هذا البحث، وأن المستشرقين كذلك اهتموا به، فستظل المسألة في رأيي معقدة صعبة الحل؛ لأنه لا يمكن الوصول إلى يقين في تحديد العناصر الأدبية التي يحتويها القرآن إلا إذا أمكن الوصول إلى مجموعة كبيرة من النثر الفني عند العرب قبل الإسلام تمثل من ماضيه نحو ثلاثة قرون، فإنه يمكن حينذاك أن يقال بالتحديد ما هي الصفات الأصيلة في النثر العربي، وهل القرآن يحاكيها محاكاة تامة، أم هو فنٌ من الكلام جديد.

ومفهوم أنه من المستحيل في الوقت الحاضر الوصول إلى نماذج أدبية تمثل من الأدب العربي ثلاثة قرون أو قرنين قبل الإسلام، وإذن بقي القرآن وحده يتقدم إلينا كل يوم على أنه صورة فنية مفردة لا نعرف لها شبيهًا موثوقًا به قبل الإسلام كما يعتقد المسلمون، والخطب والوصايا والرسائل التي نقلت إلينا على أنها جاهلية هي موضوع شك، وهي على فرض صحتها منسوبة إلى القرن الذي يباشر الإسلام، ولا يمكن معرفة طبيعة لغة من اللغات بعدد قليل من النصوص وُجد في مدة قليلة لا تزيد على نصف قرن من الزمان.

ونحن مع هذه الحيرة لا نستطيع الفرار من الاقتناع بأن القرآن أثر عربيٌّ صِرف؛ لأن الرسول الذي تلقاه وبلَّغه عربيٌّ، ولأنه نشأ في بيئة عربية، وبلسان عربيٍّ مبين، وليس أمامنا أي دليل على أنه متأثر تأثرًا محسوسًا بآداب أخرى أجنبية، وإن كان هذا ممكنًا؛ لأن العرب قبل الإسلام كانوا على اتصال قليل أو كثير بمن جاورهم من الأمم، وكانت لهم مع جيرانهم الأقربين والأبعدين علاقات تجارية، وهذا كله لا يفيد غير الظن، وهو لا يغني عن اليقين.

أفأستطيع بعد هذا البيان أن أقول من جديد: إن صور النثر العربي لا ينبغي البحث عن أصولها في القرن الثاني والثالث، وإنما ينبغي الرجوع إليها في القرآن، وإذن لا يصح الحكم بأن الزخرف الفني في النثر العربي جاء عن طريق الفرس، وإنما هو طابع أصيل في اللغة العربية تطور مع الزمن وأخذ لونًا بعد لون، وانتقل من حال إلى حال، وإن كان هذا لا يمنع أن تكون صلات العرب بالفرس زادت في قوة هذا التطور، وأضافت إليه قُوى جديدة خيَّلت إلى الباحثين أن النثر العربي مدين للفرس في تطوره ونموه، وهذا يفسر جانبًا من أسباب التطور، ولكنه لا يرجعها إلى سبب واحد هو العلة الأولى كما ظن كثير من المستشرقين.

والخواص الفنية الموجودة في القرآن توجد كذلك في الآثار الأدبية التي عاصرته؛ كالأحاديث النبوية وخطب الخلفاء والولاة والقوَّاد الذين شهدوا عصر النبوة أو جاءوا بعده بقليل؛ ففي خطبة الوداع للنبي — عليه السلام — وكُتب عمر بن الخطاب وخطب عليٍّ وزياد والحجاج روح أدبية تقارب الروح السائد في القرآن.

ويمكن الحكم بأن اللغة الأدبية التي سبقت الإسلام لم تكن تخالف كثيرًا لغة القرآن؛ لأن التطور الكبير الذي ينقل اللغة من أسلوب إلى أسلوب، ومن روح إلى روح لا يتم في خمسين سنة مثلًا، وإنما يتطلب مدة طويلة؛ خصوصًا في أمة بدوية محافظة قليلة الاختراع والتبديل في لغتها وأسلوبها، ولكن هذا محض افتراض إلى أن توجد نصوص كافية موثوق بها تعيِّن أن لغة القرآن كانت موجودة بروحها وأسلوبها ووضعها قبل الإسلام بقرن أو قرنين.

بعد هذا ينبغي أن ننظر في نشأة العلوم العربية؛ كالنحو والبلاغة والعروض، وهي أيضًا في رأيي قديمة لا يصح الحكم بأنها نشأت كلها بعد الإسلام في القرن الأول والثاني كما يظن مؤرخو الآداب العربية؛ لأنه لا يعقل أن يظهر كتاب كالقرآن في أهميته وبلاغته بين قوم لم يفكروا في الفصاحة والعروض والنقد وطرائق التعبير، وظهور كتاب كالقرآن في أي لغة يدل على أنها تعدت طور الطفولة منذ أزمان، واللغة حين تصل إلى عهد القوة والفتوة لا تخلو من باحثين يهتمون بتقييد ما يعرض للأساليب من القوة والضعف والوضوح والغموض.٣

والدكتور طه حسين يرى أن البلاغة نشأت في عهد متأخر حين اشتدت الخصومة بين علماء الكلام، والجاحظ في رأيه أول من اهتم بالبلاغة اهتمامًا جدِّيًّا، وأنا أرى أن نشأة البلاغة قديمة سبقت القرآن وتطورت من بعده، ولكن ذلك كان يجري ببساطة وسهولة لا توقع في الزخرف، ومن أجل ذلك لاحظ مؤرخو الآداب أن بشارًا هو أول من كلف بالبديع في شعره، وتبعه في ذلك مسلم بن الوليد وأبو نواس، وأن أبا تمام تأثر بمسلم، وأولئك من شعراء القرن الثاني، فهل نشأ البديع في يوم وليلة، أم كان موجودًا وتطور على ألسنة أولئك الشعراء؟

ولنقيد هنا أن القرآن في بلاغته إنما كان يخاطب قومًا يفهمونه ويتذوقونه، وفهم القرآن وتذوقه لا يمكن أن يقع اتفاقًا وبلا استعداد، بل لا بدَّ من أن تكون عند الجماهير التي سمعته وتأثرت به واعتنقت دينه ثقافة أدبية خاصة، وأنا لا أفترض أن هذه الثقافة كانت كالثقافة التي ظفر بها العرب بعد الإسلام، ولكنها على كل حال كانت تتناسب قليلًا أو كثيرًا مع ما في القرآن من فصاحة وعمق، وهذا الذي أقوله يحملنا على الشك في التقاليد التي جرى عليها الباحثون من أن العرب كانوا أميين بدرجة خطيرة، وأنهم بذلك لم يحفظوا عن طريق الكتابة شيئًا يستحق الذكر من قصائدهم وخطبهم ورسائلهم.

بل أنا أذهب أبعد من ذلك فأقرر أن الإسلام كان تاجًا لنهضة علمية وأدبية وسياسية وأخلاقية واجتماعية وفلسفية في الحدود التي كان يستطيعها العرب؛ لأنه لا يمكن رجلًا فردًا مثل النبي محمد — عليه السلام — أن ينقل أمة كاملة من العدم إلى الوجود، ومن الظلمات إلى النور، ومن العبودية إلى السيادة القاهرة، كل هذا لا يمكن أن يقع من دون أن تكون تلك الأمة قد استعدت في أعماقها وفي ضمائرها وفي عقولها؛ بحيث استطاع رجل واحد أن يكوِّن منها أمة متحدة وكانت قبائل متفرِّقة، وأن ينظم علومها وآدابها بحيث تستطيع أن تفرض سيادتها وتجاربها وعلومها على أجزاء مهمة من آسيا وأفريقيا وأوربا في زمن وجيز، ولو كان يكفي أن يكون الإنسان نبيًّا ليفعل ما فعله النبي محمد لما رأينا أنبياء أخفقوا ولم يصلوا؛ لأن أممهم لم تكن صالحة للبعث والنهوض.

بل إني لأذهب لأبعد من ذلك فأقرر أن الحركة الأدبية والسياسية والاجتماعية في عهد النبي لم تصوَّر إلى الآن بصورتها الحقيقية، فهذا رجل غيَّر أمة كاملة في عشرين عامًا ولقيت دعوته آلاف المصاعب، أفيمكن حقًّا الاقتناع بأنه لم يقل أكثر من عشر خطب، وأن أنصاره لم يقولوا من الخطب والرسائل إلا ما نقله عنهم الطبري وغيره من المؤرخين؟

وأين إذن آثار المعارضة الشديدة التي قامت في وجهه واضطرته إلى الهجرة؟

وأين ألسنة اليهود والعرب والأشراف من قريش؟

أفيعقل أن تمر حركة كهذه من دون أن تهب في وجه صاحبها ألسنة الخطباء وأقلام الكُتَّاب وشياطين الشعراء؟

وهل تسمح طبيعة الوجود بأن رجلًا كمحمد يقضي أسماره بين خواصه، وأيامه في ميادين الحروب، من غير أن تكون له ولرجاله مساجلات قوية يتناولون فيها حجج خصومهم نقدًا وتحليلًا، ويعرضون فيها للسياسة العامة بآراء لها من القيمة ما شهدنا آثاره في الرسالة الإسلامية؟

وهل يعقل كذلك أن يصبر رجال الوثنية والنصارى واليهود على التهم المختلفة يلقيها عليهم النبي وأصحابه من دون أن يقابلوا الشر بالشر والعدوان بالعدوان فيطيلوا القول في النفح عن دياناتهم والقدح في الديانة الجديدة التي تهاجمهم في عقر دارهم، وتدعوهم إلى تحطيم أصنامهم وترك أحبارهم ورهبانهم؟ هل يعقل أن يمر ذلك كله من دون أن يكون لهؤلاء ألف خطبة، وألف رسالة، وألف قصيدة؟

أضيف إلى ذلك أن الحركة الإسلامية لم يعرف فيها من الخطباء والشعراء إلا عدد قليل لا يتناسب مع خطورة ذلك الموقف، أفكان حقًّا أن الإسلام لم يقم إلا على أكتاف ذلك العدد القليل؟

إن الحياة العقلية في عهد النبي لم تُنقل إلينا بصورتها الحقيقية، ويرجع ضياع صورتها في رأيي إلى سببين:
  • أولًا: ضياع آثار حزب المعارضة معقول؛ لأنه انهزم ولم يعد في الإمكان تدوين الرسائل الجارحة والخطب المقذعة والرسائل اللذاعة التي هوجم بها النبي وأنصاره، خصوصًا إذا لاحظنا أن الذين نقلوا آثار ذلك العصر كلهم من المسلمين الذين يرون من الإثم والحرج أن يعيدوا الشتائم والقذائف التي رُميَ بها النبي وجُرِّح بها الإسلام، ولو بقيت آثار حزب المعارضة لاستطعنا أن نفهم إلى أي حد كان خصوم النبي يفهمون آراءه الاجتماعية والمنزلية، ولرأينا كذلك صورة من الأدب الذي كان يستبيح مهاجمة النبي ورسالته في عنف وإقذاع.
  • ثانيًا: ضياع آثار النبي وأصحابه معقول أيضًا، فقد شعر المسلمون بأن واقعة اليمامة أضاعت جمهور الحفاظ؛ بحيث أصبح القرآن نفسه مهددًا بالضياع، ولولا ما فعله أبو بكر وعمر لتبدد القرآن وعدنا لا نجد منه إلا شذرات مختلفة لا تطمئن إليها النفس كما هو الحال في الأحاديث التي دوِّنت أخيرًا، بعد إذ مات الحفاظ الأولون.

وإذا كانت الظروف المختلفة لم تسمح للعرب بأن يدونوا آثار ذلك العصر بطريقة منظمة، فإنه لا يصح لنا أن نستنتج أنه لم تكن لهم حياة أدبية قوية تصور ميولهم وأذواقهم وعواطفهم ومشاعرهم، وكفرهم وإيمانهم، ووفاءهم وغدرهم، إلى آخر الألوان النفسية التي يقتضيها عصر التحول والانتقال في جميع الأمم بلا استثناء.

وإنما ينبغي أن نعتقد أنه كان له أدب قوي متين يقرب في روحه وأسلوبه من روح القرآن وأسلوبه؛ فإن البيئة واحدة والعصر واحد، ولم يكن محمد إلا بشرًا أُلهم هداية قومه كما صرح القرآن غير مرة، لا سيما إذا تذكرنا أن القرآن وصف العرب في عدة مواطن بأنهم أهل فصاحة وجدل، وخصومة وعناد، ولم تكن فصاحتهم صمتًا، ولا جدلهم سكوتًا، ولا خصومتهم فرارًا، ولا عنادهم انهزامًا، ولكنهم بالفعل قابلوا القول بالقول، والسيف بالسيف نحو ثلث قرن إلى أن انتصر الإسلام، ولم تبقَ من آثار خصومه غير ذكريات الجدل والحرب.

والواقع أن تسمية ذلك العصر الجاهلي تسمية دينية صرفة، فإن العرب لم يصفوا ذلك العصر بالجاهل إلا فيما يختص بالمعتقدات الدينية، ولكنهم فيما يرجع إلى الأدب كانوا يرونه في أرقى العصور، وكانوا يتأثرون شعراءه وخطباءه وحكماءه في كثير من أبواب القول.٤

وقد استمسك العرب المسلمون بأهداب الأدب الجاهلي، وعدُّوه وحده المرجع في ضبط أساليب اللغة العربية، ولم يتخذوا شواهد من الشعر الإسلامي إلا في الحدود التي حسبوها قريبة أشد القرب من النزعة الجاهلية، فكان الشعراء لذلك يجتهدون في تذوق الأدب الجاهلي، وفي رياضة أنفسهم على محاكاته والصدور عن وحيه وأخيلته وتعابيره وألفاظه، وقد نَفَقَ ذلك الأدب نفاقًا عظيمًا حتى رأينا من الرواة من يصنع القصائد والخطب والأمثال في لغة جاهلية ليبيعها في الأسواق وفي قصور الأمراء والوزراء والخلفاء، فكان مَثَل ذلك الشعر الجاهلي مَثَل الآثار المصرية التي يخلقها التجار خلقًا ليبيعوها للأغنياء من عشاق العاديات. وقد نشأ عن هذا فنٌّ من النقد برع فيه الأقدمون، فكان منهم من يهتم بتمييز الأدب الجاهلي الصحيح من الأدب الجاهلي المصنوع، نكاية بالرواة الملفقين، أو حبًّا في تصفية الأدب الجاهلي من الزيف المدخول.

وفي ذلك مَقنَع لمن يحب أن يطمئن إلى أن العصر الجاهلي لم يوصم بالجهل إلا فيما يختص بالدين، أما في الأدب فكان عصر نور وعلم وعرفان، كما تشهد آثار القدماء.

هناك ناس يعتقدون أن الشعر الجاهلي منحول، وهناك أفراد ينكرون أن يكون العرب الجاهليون عرفوا من الأدب شيئًا آخر غير الشعر والأمثال، وأحب أن أبيِّن أنه لا تعارض بين القول بنفي ذلك الأدب والقول بإثباته، فأنا من الذين يرون أنه كان هناك أدب جاهلي واسع النطاق، وأنه كان للعرب الجاهليين ألسنة فصيحة وعقول ناضجة، وآراء حكيمة قادرة على قيادة تلك الجماهير الحية التي تفرقت في الحواضر العربية.

يقولون: وأين آثار ذلك في الأدب الجاهلي؟

وأجيب بأن ذلك الأدب قد ضاع أكثره، حتى ليصعب أن تتخذ منه أداة لوصف ما كان عليه الجاهليون من أنظمة أدبية وسياسية واجتماعية ودينية.

وهنا يبتسم المنكرون قائلين: ومن يدرينا أنه كان هناك أدب ضاع!

وعند هذه المفاجأة نجد الجواب؛ لأن الأدب الجاهلي لم يضع إلا عند المتأخرين، أما المتقدمون من رجال القرن الأول والثاني والثالث فقد عرفوه وتدارسوه، فمن ذا الذي يستطيع أن ينكر أن المجموعة الشعرية التي جمعها المفضَّل الضبي في القرن الثاني مجموعة صحيحة؟ ومن ذا الذي يستطيع أن ينكر أن تلك المجموعة تدل على أنه كان هناك شعر جاهلي كثير جدًّا اختيرت منه المفضليات؟

أضيف إلى هذا أن رجال الأدب الموثوق بهم مَن جَمَع كتبًا كثيرة من آثار العصر الجاهلي، وأن تلك الكتب قد ضاعت أصولها ضياعًا تامًّا، وفي ذلك ما يشعرنا بأن المتأخرين فقدوا ذخائر كثيرة من أصول الأدب القديم.

إننا نعرف أن أبا تمام جمع كتاب الحماسة من مكتبة أحد الأمراء، والجمع هنا معناه التخير، ونعرف كذلك أن ديوان الحماسة يشتمل على مختارات نفيسة من الأدب الجاهلي، فهل نجد ما يدلنا على مصادر أخرى لأكثر ما اختاره أبو تمام غير ديوان الحماسة؟

فإن لم توجد تلك المصادر فلن يكون معنى هذا أن أبا تمام خلق ديوان الحماسة خلقًا، ولكن معناه أن الحياة كتبتْ لذلك الديوان، وليس أبو تمام وحده هو الذي عُني باختيار الشعر القديم، فهناك مؤلفون عديدون اهتموا بذلك النوع من الاختيار، ثم ضاعت مختاراتهم ولم يبقَ إلا ذكراها في كتب التراجم، ومع هذا فمن الغرور أن نحكم على قيمة الأدب الجاهلي بما قرأناه منه، فمن ذلك الأدب مجموعات قيمة جدًّا لم يُكتب عليها الفناء وغفل عن استغلالها أكثر الباحثين.

وفي دار الكتب المصرية مخطوطات لم يفكر أحد في الانتفاع بها، مع أن دار الكتب المصرية من المكاتب الفقيرة التي جمعت ذخائرها اتفاقًا ومصادفة بدون أن يكون عند مؤسسيها فكرة الاستقصاء. وفي مكاتب إسبانيا والمغرب آثار جليلة للأدب الجاهلي لم يستغلها أحد، ولعلها لو فُهرستْ ونظِّمت ودُرست لكشفت لنا نواحي مجهولة من الأدب القديم … ولكن أين من ينتظر نتيجة البحث؟ إن المتأدبين عندما يحكمون على الغائب بلا بينة ولا شهود!

أنا أقول بأن الأدب الجاهلي لم يضِع إلا عند المتأخرين، أما المتقدمون فكانوا يعرفونه ويروونه، ويتجرون به في الأسواق الأدبية وعلى أبواب الملوك.

ولكني مع هذا أقرر أن هناك شطرًا من الأدب الجاهلي قبره المسلمون عمدًا في القرن الأول، وإلى القارئ البيان:

كانت الحياة الجاهلية تختلف عن الحياة الإسلامية اختلافًا شديدًا، ففي الأعوام التي سبقت الإسلام كانت في الجزيرة عادات وتقاليد وأوضاع لها ألوان وثنية أو نصرانية أو يهودية، فلما جاء الإسلام تبدلت تلك التقاليد وصار من اللائق تناسي ما يمسها من الأدب الجاهلي وصفًا أو شرحًا أو تعليلًا، ورأى العرب المسلمون أن في ذلك الأدب جوانب خطرة يجب إسقاطها والقضاء عليها صونًا للوحدة الإسلامية، وليس في هذا شيء منكر؛ لأن الأدب يتصل أكثره بحياة الناس وسيرهم وأخبارهم وأخلاقهم من شمائل مرضية أو طباع ذميمة، وفي حياته حياة لما وصف أو شرح أو علل من الأخلاق والسجايا والمعتقدات.

وقد يتفق أن يكون في العرب والمسلمين من تناوله شعراء الجاهلية وكتَّابهم وخطباؤهم بالقدح والثلب والتحقير، وقد يتفق كذلك أن تكون هناك قبائل تهاجت وتحاربت في الجاهلية ثم ألَّف بينها الإسلام، أفيكون من الحزم أن يعود الرواة إلى ذلك الأدب فيرووه ويحيوه وفيه إثارةٌ لما سكن وهدأَ من قديم الأحقاد؟

إن العرب في الصدر الأول من الإسلام تناسوا عامدين أبوابًا كثيرة من الأدب الذي كان محفوظًا قُبيل الإسلام؛ صيانة للوحدة الإسلامية من عبث الأهواء، وليس هذا الذي نقوله مجرد افتراض؛ ففي التاريخ الإسلامي شواهد كثيرة تقنعنا بأن الخلفاء الراشدين كانوا يتشاءمون من رواية الأدب الجاهلي، وهم بالطبع لا يتشاءمون إلا من الأدب الذي يصور ما كان عند الجاهليين من تِرَاتٍ وعداوات وحزازات، وهم فيما عدا ذلك كانوا يدعون إلى رواية الشعر وحفظه؛ لأنه — كما قال عمر بن الخطاب — ديوان العرب.

والذي نقضي به في الشعر هو نفس ما نقضي به في الرسائل والخطب والأسجاع، فمن عسى أن يكون ذلك المسلم الذي يستبيح رواية خطب الكهان ورسائلهم وأسجاعهم وهي تفيض بالروح الوثنية؟ ومن عسى أن يكون ذلك المسلم الذي يروي ما أُثِر عن النصارى واليهود قُبيل الإسلام، في حين أن الدين الجديد كان يروضهم على تناسي جميع الآداب التي تنافي أدب القرآن.٥

من أجل هذا كله أستبعد أن يكون العرب ظلوا خالي الذهن من العلوم الأدبية إلى أن اتصلوا بالفرس والروم، وإذا كان المستشرقون ومن لفَّ لَفَّهم من أدباء مصر يستكثرون أن يكون أبو الأسود الدؤلي هو أول من فكَّر في النحو، ويرجحون أن يكون النحو أثرًا من اتصال العرب بالسريان والروم، فأنا أستقل أن يكون أبو الأسود الدؤلي أول من فكر في النحو، وأرى من المضحك أن يُظَنَّ أن العرب لم يتنبهوا إلى وقوع اللحن في لغتهم إلا بعد الإسلام، وأن اتصال العرب بالأعاجم هو الذي رماهم باللحن، كأن لغة العرب بدعٌ من اللغات لا يلحقها تغير ولا تبدل، وذلك رأي واضح البطلان.

وإنما أرجِّح أن يكون العرب في جاهليتهم عرفوا النحو وعرفوا غيره من العلوم الأدبية، ألسنا نرى القرآن يجري على نمط واحد في أوضاعه النحوية لا يختلف في ذلك إلا باختلاف رواته من القبائل المختلفة؟٦ ولغة القرآن هي لغة قريش، وهي التي تهمنا، فإذا كنا نجهل إلى الآن كيف تطورت وكيف نشأت علومها وفنونها، فمن الأمانة العلمية أن نقف على الأقل محايدين، وأن لا نجزم برأي ستنقضه الأيام.

وهذا الذي أقوله أنا مستعد لتحمل تبعته والدفاع عنه، وأرجو أن يكون له أثر في فهم البيئة القديمة التي نزل فيها القرآن، والتي تستحق أن تدرس من جديد درسًا علميًّا يكشف اللثام عن ذلك العصر الذي سموه خطأ عصر الجهل، وهو في رأيي أهل لأن يسمى عهد معرفة ونور.

على أنني وقفت على نص مهم يدل على أن من نقاد العرب من ارتاب في نشأة العلوم اللغوية؛ إذ رأيت ابن فارس يلاحظ في قصيدة الحطيئة التي أولها:

شاقتك أضغان لليـ
ـلى دون ناظره بواكر
أن قوافيها كلها عند الترنيم والإعراب تجيء مرفوعة، ولولا علم الحطيئة بالرفع لاختلف إعرابها؛ لأن تساويها في حركة واحدة اتفاقًا من غير قصد لا يكون، وهذا برهان على فهم الحطيئة لقواعد النحو والعروض.٧
وكذلك يرى ابن فارس أن معرفة القدماء من الصحابة بكتابة المصحف على النحو الذي يعلله النحويون في ذوات الواو والياء والهمزة والمد والقصر تدل على فهمهم لأصول اللغة وقواعد الكتابة،٨ وهو على الجملة يرى أن العلوم العربية كانت معروفة قبل الإسلام.

والذي قضى به ابن فارس في نشأة النحو والعروض هو الذي نقضي به نحن في نشأة البديع، بل نشأة البديع أظهر وأوضح، فإن القرآن سجل مظهرًا من مظاهر الزخرف والسجع، فهو إذن كان موجودًا قبل الإسلام، وليس السجع فقط هو الذي قيده القرآن، بل أكثر الفنون البديعية أخذت شواهدها من آيات القرآن.

ونتيجة ما قد سلف أن العرب في جاهليتهم اهتموا بالنثر الفني اهتمامًا ظهر أثره وعرفت خواصه في خطب الخطباء ورسائل الكُتَّاب، ولكن ما عُرف عن العرب من إهمال التقييد والتدوين لشيوع الأمية فيهم أضاع علينا معرفة من اهتموا اهتمامًا جديًّا بتدوين البديع، فكان من ذلك أن شاع الاعتقاد بأن ابن المعتز هو أول الكاتبين في هذا الفن الجميل.٩

هوامش

(١) إشارة إلى آراء متناقضة أعلنها الدكتور طه في سنة ١٩٢٨، ١٩٢٩.
(٢) قال ذلك في محاضرة ألقاها في مسرح حديقة الأزبكية في ربيع سنة ١٩٢٩، ثم أثبته في البحث الذي نشر مع كتاب «نقد النثر» لقدامة بن جعفر (راجع: نقد النثر ص١٤).
(٣) يذكر أبو هلال في كتاب الصناعتين (ص٣٥١) أن أكثم بن صيفي كان إذا كاتب ملوك الجاهلية يقول لكُتَّابه: «افصلوا بين كل منقضى معنى، وصلوا إذا كان الكلام معجونًا بعضه ببعض.» وأن الحارث بن شمر الغساني كان يقول لكاتبه المرقش: «إذا نزع بك الكلام إلى الابتداء بغير ما أنت فيه فافْصل بينه وبين تبيعته من الألفاظ، فإنك إن مذقت ألفاظك بغير ما يحسن أن تمذق نفرت القلوب عن وعيها، وملتها الأسماع، واستثقلتها الرواة.»
وفي أمثال هذه الكلمات دليل على أن الرواة نقلوا عن الجاهليين أحكامًا في صناعة الكلام، وفي ذلك ما يصلح للاستئناس به في هذا الموضوع، وليشك من شاء في صحة هذه النصوص، فهي على كل حال صورة لفهم نقاد العرب لبعض ما كان عليه أهل الجاهلية.
(٤) ومن الخير أن ننبِّه القارئ إلى أن العصر الجاهلي لا يتمثل أمامنا في بواديه، فإن البوادي العربية كانت ولا تزال بعيدة من الفنون الأدبية التي تعتمد على العقل والمنطق، وإنما نقصد الحواضر العربية لعهد الجاهلية، وتلك الحواضر كان فيها شعر ونثر وقصص؛ لأن هذه الفنون توجد حيث توجد الحضارة، والمدائن الكبيرة في العصر الجاهلي كانت فيها حضارة تتمثل في مظاهر مادية من المنازل والقصور، ومظاهر معنوية من الملك والجاه والمال، وهذه وتلك توجب ثروة من الترف العقلي والوجداني، والنثر الفني مظهر من ترف العقل والوجدان.
(٥) نستطيع فهم ذلك بصورة أوضح إذا تذكرنا الأدب المصري قبل الحرب العالمية التي ثارت سنة ١٩١٤، فإن رسائل الشيخ عبد العزيز شاويش ضد الأقباط ورسائله في مهاجمة سعد باشا زغلول، وقصائد حافظ في حادثة دنشواي، والمثالب التي طوق بها عنق إبراهيم بك الهلباوي، كل ذلك لا تمكن روايته اليوم؛ لأن فيه إثارة للعداوة التي كانت بين المسلمين والأقباط، وفيه تحقير لناس رضي عنهم الجمهور. وقد كتبت مرة رسالة عن الأدب المصري قبل الحرب فأبت أن تنشرها جريدة (البلاغ)، فزادني ذلك إقناعًا بصحة هذا المثال، ومن هذا الباب ما وقع بعد وفاة سعد باشا؛ فقد جمع كاتبه الخاص محمد إبراهيم الجزيري خطبه السياسية ونشرها كاملة، فكتب رئيس تحرير جريدة السياسة مقالًا بيَّن فيه أن نشر خطب سعد باشا كاملة خطر على ائتلاف الأحزاب؛ لأن في المجموعة التي نشرها الجزيري خطبًا جارحة في مهاجمة ثروت باشا، وكان من أصدقاء حزب الأحرار الدستوريين، ولا ينسى القارئ أننا اليوم أشد تسامحًا مما كان عليه العرب في صدر الإسلام، فما نكرهه نحن كان عندهم إثمًا وفسوقًا.
(٦) عدم اختلاف الأوضاع النحوية لا يدل على أن العرب لذلك العهد كانوا عرفوا النحو، ولكنه دليل على أن اللغة كانت موحدة في طرائق التعيين، وهذا كافٍ للإقناع بأنهم كانوا فكروا في ربطها بقواعد النحو وأصول البيان.
(٧) الصاحبي، ص٩.
(٨) الصاحبي، ص١١.
(٩) جاء في زهر الآداب (٤ / ١١٤) من نصه: «قال أبو بكر الصولي: اجتمعتُ مع جماعة من الشعراء عند أبي العباس عبد الله بن المعتز، وكان يتحقق بعلم البديع تحققًا ينصر دعواه فيه لسان مذاكراته، فلم يبقَ مسلك من مسالك الشعراء إلا سلك بنا شعبًا من شعابه، وأرانا أحسن ما قيل في بابه.»
فالمسألة إذن هي أن ابن المعتز كان يدعي التفوق في علم البديع، فعلم البديع كان معروفًا، ومن الصعب أن نقبل سكوت كتَّاب العرب وأدبائهم نحو قرنين عن هذا الفن حتى يجيء هذا الأمير المترف فيؤلف فيه.
وما قلناه في ابن المعتز نقوله في قدامة بن جعفر الذي عدوه من أوائل المؤلفين في البديع، وفي حديث خنافر الحميري — المثبت في الأمالي (١ / ١٣٣) — وصف القرآن بأنه «ليس بالشعر المؤلف، ولا السجع المتكلف»، وهذا الحديث موضوع بلا شك، ولكن فيه إشارة إلى أنه كان مفهومًا عند الرواة أن الناس لعهد النبوة كانوا يميزون بين السجع المطبوع، والسجع المصنوع، والسجع من فنون البديع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤