الفصل الثاني

السجع والازدواج

بيَّنا في فصل سلف أطوار السجع في النثر الفني، ورأى القارئ كيف كان كُتَّاب القرن الأول والثاني والثالث يتنقلون بين لونين من الصياغة الفنية: هما السجع والازدواج.

فلنذكر الآن أن التزام السجع صار من خصائص النثر الفني في القرن الرابع، وأن كُتَّابه لا يتحررون من السجع إلا إلى فن قريب منه هو الازدواج، ولم يخرج من كُتَّاب هذا العصر إلى الحرية في الصياغة الفنية إلا عدد قليل.

وكُتَّاب هذا العصر ينقسمون إلى ثلاث طوائف: طائفة تلتزم السجع التزامًا مطلقًا ولا تخرج عنه إلا في قليل من الأحيان، ومن أشهر هذه الطائفة: بديع الزمان والخوارزمي والثعالبي١ والصابي والميكالي وابن عباد وابن دريد وابن نباته وابن وشمكير.

وطائفة تؤثر الازدواج وتسجع من حين إلى حين، وعلى رأسهم: ابن العميد والتوحيدي والآمدي والرضي والباقلاني والعسكري والحاتمي وابن شُهيد.

وطائفة تؤثر الحرية في الصياغة الفنية، فلا تسجع ولا تزاوج إلا قليلًا، ومن هؤلاء: ابن مِسكويه والمرزباني وابن فارس والجرجاني والأصفهاني والتنوخي وأحمد بن يوسف المصري.

والطائفة الأولى لا تترك السجع في جد ولا هزل، وقد رأيت أن أفتح رسائل بديع الزمان وأن أنقل منها شيئًا بدون بحث ولا تخير، فلما فتح الكِتَاب على هذه الحال رأيت الكاتب يقول:
عافك الله! مثل الإنسان في الإحسان، مثل الأشجار في الإثمار، سبيلُ من أتى بالحسنة، أن يرفَّه إلى السنة، وأنا كما ذكرت لا أملك عضوين من جسدي، وهما فؤادي ويدي، أما الفؤاد فيعلق بالوفود، وأما اليد فتولع بالجود، ولكن هذا الخلق النفيس، لا يساعده الكيس، وهذا الطبع الكريم، ليس يحمله الغريم، ولا قرابة بين الأدب والذهب … والأدب لا يمكن سرده في قصعة، ولا صرفه في ثمن سلعة، ولي مع الأدب نادرة، جهدت في هذه الأيام بالطباخ، أن يطبخ لونًا من جيمية الشماخ، فلم يفعل، وبالقصاب أن يسمع أدب الكتاب، فلم يقبل، واحتيج في البيت، إلى شيء من الزيت، فأنشدت شيئًا من الشعر الكميت، ألفًا ومائتي بيت، فلم يغنِ، ولو وقعت أرجوزة العجاج، في توابل السكباج، ما عدمتها عندي، ولكن ليست تقع، فما أصنع؟ فإن كنت تحسب اختلافك إليَّ، إفضالًا عليَّ، فراحتي ألَّا تطرق ساحتي، وفرجي ألا تجي، والسلام.٢
ولأفعل مثل هذا مع الخوارزمي، وقد فتحت ديوان رسائله عفوًا فرأيته يقول:
فأما الآن، وقد كان ما كان، فإني أرى للشيخ أن يلبس للدهر ثوبًا من الصبر ثخينًا، ويولي حوادثه ركنًا من التماسك ركينًا، وأن تجده الأيام حرًّا، وأن تصيبه الحوادث إذا ذاقته مرًّا، وأن يداري مع ذلك سلطانه، ويصغر بلسانه إساءته ويكبر إحسانه، ويروض لسانه في الخلوة على شكره، لئلا يجمع به في الجلوة إلى غيره، فإنما أيام المحنة موج من تطاطا له تخطاه، ومن وقف على طريقه أرداه، ومن قابل الأيام الإدبار بوجهه صدمته، ومن قاتل عساكر الإقبال في أيام كرهًا هزمته، ومن طالب السلطان بالنصفة طلب عسيرًا، ومن حاسب على قليل من العنت لقي كثيرًا.٣
ومما يؤيد إيثار هذا الفريق للسجع أن نرى المؤلفين منهم يهتمون بجمع ما يجري من الفقرات المسجوعة مجرى الأمثال، وقد صنع الثعالبي غير مرة في كتابه «يتيمة الدهر» فاختار مثلًا للصاحب بن عباد: «من نبت لحمه على الحرام، لم يحصده غير الحسام – من لم يهزه يسير الإشارة، لم ينفعه كثير العبارة – الشمس قد تغيب ثم تشرق، والروض قد يذبل ثم يورق – الضمائر الصحاح، أبلغ من الألسنة الفصاح – متن السيف لين، ولكن حده خشن، ومتن الحية ألين، ولكن نابها أخشن – عقد المنن في الرقاب، لا يبلغ إلا بركوب الصعاب – بعض الحلم مذلة، وبعض الاستقامة مزلة – إنجاز الوعد، من دلائل المجد – واعتراض المطل، من أمارات البخل – وتأخير الإسعاف، من قرائن الإخلاف – بعض الوعد كنقع الشراب، وبعضه كلمع السراب – قد يبلغ الكلام، حيث تقصر السهام – ربما كان الإمساك عن الإطالة، أبلغ في الإبانة والدلالة – إن نفع القول الجميل، وإلا نفع السيف الصقيل – تلقِّي الإحسان بالجحود، تعريض النعم للشرود – قد يقوى الضعيف، ويصحو التزيف، ويستقيم المائد، ويستيقظ الهاجد – قد يصلى البريء بالسقيم، ويؤخذ البرُّ بالأثيم – ما كل طالب حق يعطاه، ولا كل شائن مزن يسقاه.»٤
وإذا نظرنا في نثر ابن العميد وجدنا الحربة غالبة عليه، ولكنا نراه يلتزم السجع أحيانًا كأن يقول:
أنا أشكو إليك — جعلني الله فداك — دهرًا خئونًا غدورًا، وزمانًا خدوعًا غرورًا، لا يمنح ما يمنح إلا ريث ما ينتزع، ولا يبقي فيما يهب إلا ريث ما يرتجع، يبدو خيره لمعًا ثم ينقطع، ويحلو ماؤه جُرعًا ثم يمتنع، وكانت منه شيمة مألوفة، وسجية معروفة، أن يشفع ما يبرمه بقرب انتقاض، ويهدي لما يبسطه وشك انقباض، وكنا نلبسه على ما شرط، وإن جاف منه وقسط، ونرضى على الرغم بحكمه، ونستئم بقصده وظلمه، ونعقد من أسباب المسرة أن لا يجيء محذوره مصمتًا بلا انفراج، ولا يأتي مكروهه صرافًا بلا مزاج، ونتعلل بما نختلسه من غفلاته، ونسترقه من ساعاته … إلخ.٥
والتوحيدي يمزج بين السجع والمزاوجة — كما كان يفعل الجاحظ الذي ارتضاه إمامًا في حياته العقلية والأدبية — ولنذكر مثالًا من نثره الذي يعد من أبلغ النماذج في اللغة العربية، وليكن ما كتبه في سبب القبض على أبي الفتح بن العميد؛ فإنه من أروع آيات البيان:٦

لما مات ركن الدولة سنة ٣٦٦ اجتمع ذو الكفايتين أبو الفتح وعلي بن كامه أحد أمراء الديلم والأعيان، وتعاهدا وتواثقا وتحالفا وبذل كل واحد منهما الإخلاص لصاحبه في المودة في السر والعلانية، والذب والتوقير، عند الصغير والكبير، واجتهدا في الأيمان الغامسة، والعقود الموثقة، ودبرا أمر الجيش، ووعدا الأولياء وردا النافر، وركبا الخطر الحاضر، وعانقا الخطب العاقر، وباشر كل ذلك أبو الفتح خاصة بجد من نفسه، وصريمة من رأيه، وجودة فكره، وصحة نيته، وتوفيق ربه، فلما ورد مؤيد الدولة الري من أصفهان وصادف الأمر متسقًا، ولحق كل فتق مرتتقًا، بما تقدم من الحزم فيه؛ ونفذ من الرأي الصائب عنده، أنكر الزيادة الموجبة للجند فكرهها، ودمدم بذكرها، فقال له أبو الفتح: بها نظمت لك الملك، وحفظت لك الدولة، وصنت الحريم، فإن خالفت هذه الزيادة هواك فأسقطها؛ فاليد الطولى لك. وكان ابن عباد قد ورد وحطبه رطب، وتنوره بارد، وأمره غير نافذ، هذا في الظاهر.

فأما في الباطن فكان يخلو بصاحبه ويوثبه على أبي الفتح بما يجد السبيل إليه من الطعن والقدح، فأحس بذلك ابن العميد فألَّب الأولياء على ابن عباد حتى كثر الشغْب، وعظم الخطب، وهمَّ بقتله، وقال الأمير: ليس من حق كفايتي في الدولة وقد انتكث حبلها وقويت أطماع المفسدين فيها؛ أن أُسام الخسف، والأحرار لا يصبرون على نظرات الذل، وغمزات الهوان. فقال له في الجواب: كلامك مسموع، ورضاك متبوع، فما الذي يبرد فورتك عنه؟ قال: ينصرف إلى أصفهان موفورًا، فوالله لو طالبته منصفًا يرفع الحساب لما نظر فيه ليعرقن جبينه، ولئن أحس الأولياء الذين أصطنعهم بمالي وأفضالي بكلامه في أمري، وسعيه في فساد حالي ليكونن هلاكه على أيديهم أسرع من البرق إذا خطف، ومن المزن إذا نطف. فقال له: لا مخالف لرأيك، والنظر لك، والزمام بيدك.

وتلطف ابن عباد في خلال ذلك لأبي الفتح وقال له: أنا أتظلم منك إليك، وأتحمل بك عليك، وهذا الاستيحاش سهل الزوال، إذا تألفت الشارد من حلمك، وعطفت على الشائع من كرمك، ولِّني ديوان الإنشاء واستخدمني فيه، ورتبني بين يديك، وأحضرني بين أمرك ونهيك، وسمني برضاك، فإني صنيعة والدك، واتخذني بهذا صنيعة لك، وليس يجمل أن تكر على ما بنى ذلك الرئيس فتهدمه وتنقضه، ومتى أجبتني إلى هذا، وآمنتني، فإني أكون خادمك بحضرتك، وكاتبًا يطلب الزلفة عندك، في صغير أمرك وكبيره، وفي هذا إطفاء النائرة٧ التي قد ثارت بسوء ظنك وتصديقك أعدائي عليَّ. فقال في الجواب: والله لا تجاورني في بلد السرير، وبحضرة التدبير، وخلوة الأمير، ولا يكون لك أذن عليَّ، ولا عين عندي، وليس لك مني رضى إلا بالعود إلى مكانك من أصفهان والسلو عما تحدِّث به نفسك.

فخرج ابن عباد من الري على صورة قبيحة متنكرًا بالليل، وذلك أنه خاف الفتك والغيلة، وبلغ أصفهان وألقى عصاه بها، ونفسه تغلي، وصدره يفور، والخوف شامل والوسواس غالب، وهمَّ أبو الفتح بإنفاذ من يطالبه، ويؤذيه ويهينه، ويعسفه، فأحس هو بالأمر، فحدَّثني أبو النجم قال: عمل على ركوب المفازة إلى نيسابور ما ضاق عطنه، واختلف على نفسه ظنه، وإنه لفي هذا وما أشبهه حتى بلغهم أن خراسان قد أزمعت الدلوف إليها، وتشاورت في الأطلال عليهم، فقال الأمير لأبي الفتح: ما الرأي وقد نما إلينا ما تعلم من طمع خراسان في هذه الدولة، بعد موت ركن الدولة؟ فقال أبو الفتح: ليس الرأي إليَّ ولا إليك، ولا الهم عليَّ ولا عليك، ها هنا من يقول لك أنت خليفتي ويقول لي أنت كاتب خليفتي، يدبر هذا بالمال والرجال، وهو الملك عضد الدولة أخوك. قال: فاكتب إليه وأشعره، وأشع ما قد منينا به وأشهره، وسله يداوي هذا الداء.

فكتب أبو الفرج وتلطف فصدر في الجواب: إن هذا لأمر عجاب، رجل مات وخلف مالًا، وله ابن، فلم يُحمل إليه من إرثه شيء زويًا عنه، واستئثارًا دونه، ثم يخاطب بأن يغرم شيئًا آخر من عنده، قد كسبه بجهده، وجمعه بسعيه وكدحه، هذا والله حديث لم نسمع بمثله! ولئن استُفتي الفقهاء في هذا لم يكن عندهم منه بتة إلا التعجب والاستطراف، ورحمة هذا الوارث المظلوم من وجهين: أحدهما أنه حرم ماله بحق الإرث، والآخر أنه يطالب بإخراج ما ليس عليه، وإن شاء حاكمت كل من سام هذا إلى من يرضى به.

فلما سمع مؤيد الدولة هذا، قال لأبي الفتح: ما ترى؟ قال: قد قلت، وليس لي قول سواه، هذا الرجل هو الملك والمدبر، والمال كله ماله، والبلاد بلاده، والجند جنده، والكل له، والاسم والجلالة عنده، وليس ها هنا إرث قد زُوي عنه، ولا مال استؤثر به دونه، والنادرة لا وجه لها في أمر الجند، وفيما لا تعلق له باللعب، أما خراسان فكانت منذ عشرين سنة تطالبنا بالمال، وتهددنا بالمسير والحرب، ونحن مرة نحارب، ومرة نسالم، وفي خلال ذلك نفرق المال بعد المال، على وجوه مختلفة، فأحسب أن ركن الدولة حي باقٍ، هل كان له إلا أن يدبر بماله ورجاله، وذخائره وكنوزه، أفليس هذا الحكم لازمًا لمن قام مقامه، وجلس مجلسه، وألقى إليه زمام الملك، وأصدر عنه كل رأي؟ وهل علينا إلا الخدمة، والنصرة والمناصحة، وكل ما سهل وصعب ما كان عليه ذلك بالأمس، ومن جهة الماضي.

فقال مؤيد الدولة: إن الخطب في هذا أراه يطول، والكلام يتردد، والمناظرة تربو، والفريضة تعول، والفرصة تفوت، والعدو يستمكن، وأرى في الوقت أن نذكر وجهًا للمال حتى نحتج به، ثم نستمد في الثاني منه، ونرضي الجند في الحال، ونتحزم في الأمر، ونظهر المرارة والشكيمة، بالاهتمام والاستعداد، حتى يطير الخبر إلى خراسان بجدنا واجتهادنا، وحزمنا واعتمادنا، فيكون ذلك مكسرة لقلوبهم، وحسمًا لأطماعهم، وباعثًا على تجديد القول في الصلح ورد الحال إلى العادة المألوفة.

فقال: نسأل الله بركة هذا الأمر، فقد نشأت منه رائحة منكرة، ما أعرف للمال وجهًا، أما أنا فقد خرجت من جميع ما عندي مرة بما خدمت به الماضي تبرعًا حِدْثان٨ موت أبي ومرة طالبني به سرًّا، وأوعدني بالعزل والاستخفاف من أجله، ومرة بما غرمت في المسير إلى العراق، في نصرة الدولة، وهذه وجوه استنفدت قلي وكثري، وأتت على ظاهري وباطني، وقد غرمت إلى هذه الغاية بما إن ذكرته كنت كأني ممتن على أولياء نعمتي، وإن سكتُّ كنت كالمتهم عند من يتوقع عثرتي، فهذا هذا، وأما أموال النواحي، فأحسن أحوالنا فيها أنَّا نرجئها في نواحيها مع النفقة الواسعة في الوظائف والمهمات التي تنوبنا، وأما العامة فلا أحوج الله إليها، ولا كانت دولة لا تثبت إلا بها، وبأوساخ أموالها!

فقال مؤيد الدولة: وكان ملقنا هذا ابن كامه وهو صاحب الذخائر والكنوز والجبال والحصون وبيده بلاد، وقد جمع هذا كله في دولتنا، وحازه من مملكتنا وأيامنا وبدولتنا، وهو مختوم ما فض مذ كان، ما تقول فيه؟ قال: ما لي فيه كلام، فإن بيني وبينه عهدًا ما أخيس به، ولو ذهبت نفسي! فقال: اطلب منه القرض. قال: إنه يستوحش ويراه بابًا من الغضاضة، وقدر القرض لا يبلغ قدر الحاجة، فإن الحاجة ماسة إلى خمسمائة ألف دينار على التقريب، ونفسه أنفع لنا، وأرد علينا، وأحصن لنا، وإلينا من موقع ذلك المال وبعد رأيه وتدبيره واسمه وصيته فوق المطلوب منه. قال: وإذ ليس ها هنا وجه فليس بأس بأن يطالع الملك بهذا الرأي ليكون نتيجته من ثمَّ.

قال: أنا لا أكتب بهذا فإنه غدر. قال: يا هذا، فأنت كاتبي وصاحب سري والزمام في جميع أمري، ولا سبيل إلى إخراج هذا الحديث إلى أحد من خلق الله، فإن أنت لم تتولَّ حارَّه وفارَّه وغثه وثمينه، ومحبوبه ومكروهه؛ فمن؟ قال: يا أيها الأمير، لا تسمني الخيانة! فإني قد أعطيته عهدًا يذر الديار بلاقع، ومع اليوم غد، ولعن الله عاجلة تفسد الآجلة! قال: إني لست أسومك أن تقبض عليه، أو أن تسيء إليه، أشر بهذا المعنى إلى الملك عضد الدولة وخلاك ذم! فإن رأى الصواب فيه تولاه دونك، وإن ضرب عنه أعاضنا رأيًا غير ما رأيناه، وأنت على حالك لا تنزل عنها ولا تبدلها، وإنما الذي يجب عليك في هذا الوقت بين يدي كتب حرفين أنه لا وجه لهذا المال إلا من جهة فلان، ولست أتولى مخاطبته عليه ولا مطالبته به؛ وفاء له بالعهد، وثباتًا على اليمين، وجريًا على الواجب، ولا أقل من أن تجيب إلى هذا القدر، وليس فيه شيء مما يدل على النكث والخلاف والتبديل. وما زال هذا وشبهه يتردد بينهما حتى أخذ خطه بهذا على أن يصدره إلى أخيه عضد الدولة بفارس.

فلما حصل هذا الخط عنده وجنَّ عليه الليل أحضر ابن كامه وقال له: أما عندك حديث هذا المخنت فيما أشار به على الملك في بابك وأورده عليه في حقك وأمرك، وأطماعه في مالك ونفسك وتكثيره عنده ما تحت يدك وناحيتك؟ فقال ابن كامه: هذا الفتى يرتفع عن هذا الحديث، ولعل عدوًّا قد كاده به وبيني وبينه ما لا منفذ للسحر فيه ولا مساغ لظن سيئ به. قال: ما قلت لك إلا بعد أن حققت ما قلت، ودع هذا كله في الريح، هذا كتابه إلى الملك بما عرفتك وخطه بيده فيه. قال علي بن كامه: أنا أعرف الخط ولكن هاتوا كاتبي، فأحضر كاتبه الخثعمي فشهد أن الخط خطه، فحال علي بن كامه عن سجيته وخرج من مسكنه وقال: ما ظننت بعد الأيمان المغلظة التي بيننا أنه يستجيز مثل هذا.

قال الأمير: أيها الرجل إنما أطلعك الملك على سر هذا الغلام فيك لتعرف فساد ضميره لك، وما هو عليه من هنات أخر، وآفات هي أكبر؛ فإنه هو الذي حرك من بخراسان، وكاتب صاحب جرجان، وألقى إلى أخينا بهمذان — يعني: فخر الدولة — أخبارنا، وهو عين لبختيار ها هنا، وقد اعتقد أنه يعمل في تحصيل هذه البلاد ويكون وزيرًا بالعراق، فقد ذاق من بغداد ما لا يخرج من ضرسه، إلا بنزع نفسه.

وكان أبو النصر المجوسي قد قدم من عند الملك عضد الدولة وهو يفتل الحبل ويبرم، ويهاب مرة ويقدم، وكان الحديث قد بيِّت بليل واهتم به قبل وقته بزمان. فقال علي بن كامه: فما الرأي الآن؟ قال: لا أرى أمثل من طاعة الملك في القبض عليه، وقد كنا على ذلك قادرين، ولكن كرهنا أن يظن بنا أن هجمنا على ناصحنا، ومربب نعمتنا، وناشئ دولتنا، فمهدنا عنك العذر، وأوضحنا لك الأمر. قال: فأنا أكفيكموه!

ثم قبض عليه وكان ما كان، واستُدعي ابن عباد من أصفهان، وولي الوزارة ودبرها برأي وثيق، وجد رتيق.

وعند تأمل هذه الرسالة نجد التوحيدي يمضي على الفطرة في الإنشاء، ثم يسجع ويوازن من سطر إلى سطر حين يطيب له ذلك. وإلى القارئ ما ورد في هذه الرسالة من الأسجاع:
«ردَّا النافر، وركبا الخطر الحاضر، وعانقا الخطب العاقر.»
«صادف الأمر متسقًا، لحق كل فتق مرتتقًا.»
«كلامك مسموع، ورضاك متبوع.»
«ليكونن هلاكه على أيديهم أسرع من البرق إذا خطف، ومن المزن إذا نطف.»
«والله لا تجاورني في حضرة السرير، وبحضرة التدبير، وخلوة الأمير.»
«ليس الرأي إليَّ ولا إليك، ولا الهم عليَّ ولا عليك.»
«لست أسومك أن تقبض عليه، أو أن تسيء إليه.»
«ذاق من بغداد ما لا يخرج من ضرسه، إلا بنزع نفسه.»
«وليَ الوزارة ودبرها برأي وثيق وجد رتيق.»

وما وقع في هذه الرسالة من المزاوجة واضح يدركه القارئ بأيسر مراجعة.

والشريف الرضي يسلك هذا المسلك فيسجع قليلًا، ويزاوج كثيرًا، وهو كاتب فحل لم تبقَ لنا من نثره بقايا كافية لتعيين مذهبه في أساليب الإنشاء. وإلى القارئ فقرات من مقدمة «نهج البلاغة» الذي دوَّن فيه خطب الأمام علي رضي الله عنه:
أما بعد حمد الله الذي جعل الحمد ثمنًا لنعمائه، ومعاذًا في بلائه … فإني كنت في عنفوان السن، وغضاضة الغصن، ابتدأت بتأليف كتاب في محاسن الأئمة — عليهم السلام — يشتمل على محاسن أخبارهم، وجواهر كلامهم، حداني عليه غرض ذكرته في صدر الكتاب … وعاق عن إتمام بقية الكتاب محاجزات الزمان، ومماطلات الأيام … ومن عجائبه — عليه السلام — أن كلامه الوارد في الزهد والمواعظ، والتذكير والزواجر، إذا تأمله المتأمل، وفكر فيه المتفكر، وخلع من قلبه أنه كلام مثله ممن عظم قدره، ونفذ أمره، وأحاط بالرقاب ملكه، لم يعترضه الشك في أنه من كلام من لا حظَّ له في غير الزهادة، ولا شغل له بغير العبادة، وقد قبع في كِسر بيت، أو انقطع في سفح جبل، لا يسمع إلا حسه، ولا يرى إلا نفسه، ولا يكاد يوقن بأنه كلام من ينغمس في الحرب مصلتًا سيفه فيقطع الرقاب ويجدل الأبطال ويعود به ينطف دمًا، ويقطر مهجًا، وهو مع تلك الحال زاهد الزهاد، وبدل الأبدال.٩
وأحمد بن عبد ربه لا تظهر آثار قلمه إلا في المقدمات القصيرة التي يمهد بها لأبواب العقد الفريد، وهو في تلك المقدمات لا يلتزم السجع، ولكنه لا يكاد يخل بالازدواج.١٠

أما الطائفة الأخيرة فتكتب في حرية وطلاقة، وإن لم تخلُ آثارها النثرية من السجع والمزاوجة؛ ومن أشهر هولاء: أبو الفرج الأصفهاني الذي يترسل في بعض فقرات «الأغاني» ترسلًا سهلًا مقبولًا لا سجع فيه ولا ازدواج، وابن مسكويه الذي ينطلق إلى غرضه انطلاق السهم إلى رميته، والتنوخي الذي رقَّت على أسلة قلمه لغة القَصَص المسلسل، وأحمد بن يوسف المصري الذي دوَّن مشاهداته في لغة لا تعتمد في جمالها إلا على دقة المعنى وصفاء الأسلوب.

وأهم كُتَّاب هذا الفريق إخوان الصفاء الذين دوَّنوا ما عُرف لعهدهم من الآراء والمذاهب في أسلوب طلق خالٍ في جملته من التصنع والزخرف والغموض.

ويمكن القول بأن كُتَّاب المذاهب والآراء هم أخلص الناس من أوضار الصنعة بين كتَّاب القرن الرابع؛ لأن حرية الفكر تفرض حرية القول، والكاتب المفكر في شغل بفكره العميق عن تلمس أسباب التزويق والتهويل.

وليتبين القارئ الفرق بين كاتب يتأنق كالتوحيدي، وكاتب يترسل كابن مِسكويه نعرض نموذجًا مما قصَّه صاحب تجارب الأمم عن أبي نصر كاتب عضد الدولة إذ قال:
كان بالقصر جماعة من الغلمان تحمل إليه مشاهراتهم من الخزانة بالحضرة، فلما كان في آخر شهر قد بقي منه ثلاثة أيام استدعاني وقال لي: تقدَّم إلى الخازن في بيت المال بأن يزن كذا وكذا ألف درهم ويسلمها إلى أبي عبد الله بن سعدان ليحملها إلى نقيب الغلمان بالقصر. فقلت: السمع والطاعة. فأنسيت ذلك وسألني عنه بعد أربعة أيام، فاعتذرت بالنسيان، فخاطبني بأغلظ خطاب، فقلت: أمس كان استهلال الشهر، والساعة تحمل المادة، وما ها هنا ما يوجب شغل القلب بهذا الأمر، قال: المصيبة بما لا تعلم ما في فعلك من الغلط أكثر منها فيما استعملته من التفريط! ألا تعلم أنَّا إذا أطلقنا لهؤلاء الغلمان ما لهم وقد بقي من الشهر يوم كان الفضل لنا عليهم، وإذا انقضى الشهر واستهل الآخر حضروا عند عارضهم فأذكروه فيعدهم، ثم يحضرونه في اليوم الثاني فيعتذر إليهم، ثم في الثالث فتبسط في اقتضائه ومطالبته ألسنتهم، فتضيع المنة، وتحصل الجرأة، ونكون إلى الخسارة أقرب منا إلى الربح؟١١

والقارئ حين يوازن بين الخبر المطول الذي نقلناه عن التوحيدي وبين هذا الخبر القصير الذي نقلناه عن ابن مِسكويه لا يمتري في أن التوحيدي كان خليقًا بأن يجعل من هذا الخبر القصير قصة طويلة يبدئ فيها ويعيد.

ولكن هذا اليسر في رواية الخبر لم يمنع ابن مسكويه من التأنق في التعليق عليه إذ قال:

ولعل عضد الدولة نظر في هذا الوقت إلى ما وجد في سيرة المعتصم — رضوان الله عليه — وهل ينكر لبني هاشم أن يُقتدى بأقوالهم، أو يُهتدى بأفعالهم، وهم الأصدقون أقوالًا، والأكرمون أفعالًا، والأشرفون أنسابًا، جبال الحلوم، وبحار العلوم، وأعلام الهدى، وساسة الدين والدنيا، وفرسان الحروب والمحاضر، وأملاك الأسرَّة والمنابر، إلى مكارمهم ينتهي الكرم، وبمآثرهم تنجلي الظلم، المعتصم بينهم المعتصم.

ويمكن المضيُّ في استقراء الفصول الجديدة مما كتب ابن مسكويه في التاريخ؛ فهو يسرد الأخبار في يسر ملموس ثم يعقِّب عليها بتأنق مقبول، وانظر قوله في خواص الملوك:
ومن حسن سياسة الملوك أن يجعلوا خاصتهم كل مهذب الأفعال، محمود الخصال، موصوفًا بالخير والفعل، معروفًا بالصلاح والعدل، فإن الملك لا تخالطه العامة ولا أكثر الجند، وإنما يرون خواصه؛ فإن كانت طرائقهم سديدة، وأفعالهم رشيدة، عظمت هيبة الملك في نفس من يبعد عنه، لاستقامة طريقة من يقرب منه … وإذا كان خواص الملك ممن يُقْدَح فيهم، وتذكر مساويهم، قلَّت الهيبة في النفوس، فأظهر الجند استقلالًا لأمره، ثم صار الإضمار نجوى بينهم، ثم زادت الحيرة فصارت النجوى إعلانًا، فعند ذلك تقع المجاهرة، وترتفع المراقبة، ويتحكمون عليه تحكم الآمر لا المأمور، والقاهر لا المقهور.١٢
ومن أحرار الأساليب بين كتَّاب القرن الرابع إخوان الصفاء، وفي رسائلهم فقرات تمتاز بوضوح المعاني وبسطها، من ذلك قول أحدهم في وصف الرسول:
قال النمر للأسد: ما تلك الخصال التي ذكرت أيها الملك، إنما يجب أن تكون في الرسول؟ بيِّنها لنا. قال الملك: نعم. أولها يحتاج أن يكون رجلًا عاقلًا حسن الأخلاق، بليغ الكلام، فصيح اللسان، جيد البيان، حافظًا لما يسمع، محترزًا فيما يجيب ويقول، مؤديًا للأمانة، حسن العهد، مراعيًا للحقوق، كتومًا للسر، قليل الفضول في الكلام، لا يقول من رأيه شيئًا غير ما قيل له، إلا ما يرى فيه صلاح المرسل، ولا يكون شرهًا، ولا يكون حريصًا إذا رأى كرامة عند المرسل إليه مال إلى جهته وخان مرسله واستوطن البلد لطيب عيشه هناك، أو كرامة يجدها أو شهوة ينالها هناك، بل يكون ناصحًا لمرسله ولإخوانه وأهل بلده وأبناء جنسه، ويبلغ الرسالة ويرجع بسرعة إلى مرسله فيعرفه جميع ما جرى من أوله إلى آخره، ولا يخاف في شيء منه في تبليغ رسالته مخافة من مكروه يناله؛ فإنه ليس على الرسول إلا البلاغ.١٣

وهذه القطعة تصور المعنى الذي وضعت له تصويرًا صحيحًا، ولكن النزعة العامية تغلب عليها، وينقصها ما يسميه علماء النقد «قوة الأسر»، وهذا المأخذ تجده أنَّى سرحت بصرك في رسائل إخوان الصفاء، فهم يقدمون إليك الموضوعات الفلسفية والأخلاقية والاجتماعية في أسلوب يغلب عليه الانحلال، ولعل السر في ذلك يرجع إلى انعدام الشخصية؛ فالكاتب يعبر عن روح إخوانه وكأنه يلخص آراءهم، ولو كان يعبر عن نزعاته الذاتية لرجونا أن تكون حماسته أقوى وروحه أظهر، وعند ذلك تستطيع إغواء عقله ووجدانه فيصطبغ أسلوبه بألوان الخيال، وسترى في الجزء الثاني من هذا الكتاب كلامًا كثيرًا عن الأسلوب، وسترى أنه يتكون من عنصرين: المعنى والروح، فإذا وجد المعنى وحده كانت الكتابة علمية، وإذا أضيف إليه الروح كانت الكتابة أدبية؛ وذلك ما نعنيه بالنثر الفني.

ولك أن تنظر فيما كتب الفارابي أو كتب ابن حزم في الفلسفة لترى كيف تكون الكتابة العلمية التي يراد بها تقرير الحقائق، وشرح المذاهب، وعرض البراهين، فهي كتابة خالية من السجع والازدواج إلا في أحوال قليلة، والكاتب مشغول بسرد الحقائق لا تنميق الإنشاء، وهذه الكتابة صالحة كل الصلاحية للموضوعات العلمية والفلسفية، وليس خلوها من الفن إلا دليلًا على توفيق الكاتب، فليس كل موضوع بصالح للزخرف والتهويل.

وقد يكون من الخير أن نذكر الفرق بين كاتبين يشتغلان بالموضوعات الفلسفية ويختلفان في الأسلوب، فيكتب أحدهما كتابة علمية، ويكتب ثانيهما كتابة أدبية، كالفارابي والتوحيدي، والفرق بين مثل هذين الرجلين أن الأول كان مفكرًا قبل أن يكون كاتبًا، والثاني كان كاتبًا قبل أن يكون مفكرًا، فلما كتب الأول عجز عن التلوين والتزيين، ولما كتب الثاني وشَّى الفكرة بفنون من التصاوير والتهاويل، والأول أبقى في عالم الفكر، والثاني أخلد في عالم البيان، وكلا الأسلوبين ضروريٌّ في حياة العلوم والآداب.

هوامش

(١) ومع ذلك رأينا للثعالبي صفحات من كتاب «ثمار القلوب» تمثل النثر المرسل أجمل تمثيل حتى كدنا نحسبه لرجل آخر غير مؤلف اليتيمة وسحر البلاغة، وقد تعذب لغة الثعالبي وتسلس في ذلك الكتاب فتذكرنا بالمطمع الممتنع من أساليب البيان.
(٢) رسائل بديع الزمان ص٢٢١، ٢٢٢، وقد كتبت هذه الرقعة إلى «مستميح عاوده مرارًا».
(٣) رسائل الخوارزمي ص٩٨.
(٤) اليتيمة (٣، ص٨٧، ٨٨).
(٥) (٢ / ٢٤٤) من زهر الآداب.
(٦) آثرنا أن نقدم هذا الشاهد على طوله؛ لأنه مثال للبلاغة القوية التي تمثل ضغائن الرجال وأحقادهم أبشع تمثيل، وفي هذا الشاهد تظهر براعة الكاتب في سرد الحوادث بطريقة أخاذة تبدو طبيعية، على حين يلمس الناقد فيها آثار الصنعة الخفيفة والتكلف المدفون. وفي احتفال التوحيدي بهذه الصورة دليل على أنه كان يجتهد في مكافحة خصومه عن طريق سرد التاريخ، فإن لم يتبين القارئ خطر ما في هذا الشاهد من الدسائس، فليقرأ ما كتبناه عن التوحيدي والصاحب في باب «الرسائل والعهود» بالجزء الثاني من هذا الكتاب.
وأبو الفتح بن العميد هو ابن الكاتب المبدع أبي الفضل بن العميد، وكان شابًّا أديبًا ناصع البيان، ولكنه لم يرزق ما رزق أبوه من أصالة الرأي ورجاحة العقل، وكان طيشه من شر ما قاسى أبوه من هموم الحياة. راجع الجزء الثاني من هذا الكتاب.
(٧) النائرة: العداوة والشحناء.
(٨) حدثان الأمر — بالكسر — أوله وابتداؤه، والمراد هنا: عقب موت أبيه.
(٩) كان الشريف الرضي جديرًا بأن يعقد له فصل في هذا الكتاب، ولكن الشعر غلب عليه، وضاعت جملة نثره، ولسنا من المطمئنين إلى ما قيل من أن أكثر نهج البلاغة من فيض قلمه، بالرغم مِن قِدَم هذه الشبهة ورواجها في أسواق المستشرقين.
(١٠) كلام ابن عبد ربه في النثر قليل، ولهذا لم نعقد لها فصلًا في هذا الكتاب، ولكن تمهيداته لأبواب العقد الفريد جزلة ممتعة، وفيها دلالة على أن قلمه كان حرًّا من قيود المحسنات البديعية، بالرغم من غلبتها على كتَّاب المشرق والمغرب لذلك العهد.
(١١) تجارب الأمم (٣ / ٤٥).
(١٢) تجارب الأمم، ص١٨٨.
(١٣) رسائل إخوان الصفاء (٢ / ٢٠٦).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤