الفصل الثاني عشر

عبد الله بن عبد الكريم

عبد الله بن عبد الكريم هذا من الشخصيات الخاملة التي لا نعرف عنها أكثر مما جاء في مجموعة التحفة البهية من أنه كان مطلعًا على أحوال أحمد بن طولون، ومن المرجح أنه أدرك القرن الرابع، وقد روى حكاية مسجوعة تمثل عواقب الغدر والوفاء، رأينا أن نثبتها هنا بنصها، وإن كنا لا نستبعد أن يكون دخل عليها شيء من التحوير، وأهميتها ترجع إلى تصويرها لبعض الحوادث في القصور المصرية في عهد ضاع أكثر ما وضع عنه من الروايات والأقاصيص …

حدَّث عبد الله بن عبد الكريم قال: كان أحمد بن طولون وجد عند سقاية طفلًا مطروحًا، فالتقطه وربَّاه وسماه أحمد وشُهر باليتيم، فلما كبر ونشأ كان أكثر الناس ذكاء وفطنة، وأحسنهم زيًّا وصورة، فصار يرعاه ويعلمه حتى تهذب وتمرَّس، فلما حضرت أحمد بن طولون الوفاة أوصى ولده الأمير أبا الجيش خمارويه به فأخذه إليه، فلما مات أحمد بن طولون أحضره الأمير إليه وقال له: أنت عندي بمكانة أرعاك بها، ولكن عادتي أن آخذ العهد على كل من أصرِّفه في شيء أنه لا يخونني. فعاهده، ثم حكمه في أمواله، وقدَّمه في أشغاله، فصار أحمد اليتيم مستحوذًا على المقام، حاكمًا على جميع الحاشية الخاص والعام، والأمير أبو الجيش يحسن إليه كلما رأى خدمته متصفة بالنصح، ومساعيه متسمة بالنجح، فركن إليه، واعتمد في أسباب بيوته عليه.

فقال له يومًا: يا أحمد، امض إلى الحجرة الفلانية، ففي المجلس بحيث أجلس سبحة جوهر، فجئني بها، فمضى أحمد، فلما دخل الحجرة وجد جارية من مغنيات الأمير وحظاياه مع شاب من الفراشين ممن هو من الأمير بمحل قريب، فلما رأياه خرج الفتى فجاءت الجارية إلى أحمد، وعرضت نفسها عليه، ودعته إلى قضاء وطره، فقال لها: معاذ الله أن أخون الأمير، وقد أحسن إليَّ، وأخذ العهد عليَّ، ثم تركها وأخذ السبحة، وانصرف إلى الأمير وسلم إليه السبحة، وبقيت الجارية شديدة الخوف من أحمد لئلا يذكر حالها للأمير، فقامت أيامًا لم تجد من الأمير ما غيَّره عليها.

ثم اتفق أن الأمير اشترى جارية وقدمها على حظاياه، وغمرها بعطاياه، واشتغل بها عمن سواها، وأعرض لشغفه بها عن كل من عنده حتى كاد لا يذكر جارية غيرها، ولا يراها، وكان أولًا مشغوفًا بتلك الجارية الجائرة، الخائنة الغادرة، العانية القاهرة، الفاسقة الفاجرة، فلما أعرض عنها اشتغالًا بالجديدة المجيدة، المسعدة السعيدة، الحامدة المحمودة، الوصيفة الموصوفة، الأليفة المألوفة، الرشيقة المرشوقة، العارفة المعروفة، وصرفت لبهجة محاسنها وآدابها وجهه من ملاعبة أترابها، وشغلته بعذوبة رضابها عن ارتشاف ضرب١ أضرابها، وكانت تلك الأولى لحسنها متأمرة على تأميره، لا تخاف من وليه ولا نصيره، فكبر عليها إعراضها عنها، ونسبت ذلك إلى أحمد اليتيم، واطلاعه على ما كان منها.

فدخلت على الأمير وقد ارتدت من الكآبة بجلباب مكرهًا، وأعلنت بالبكاء بين يديه لإتمام كيدها ومكرها، وقالت: إن أحمد اليتيم قد راودني عن نفسي، فلما سمع الأمير ذلك استشاط غيظًا وغضبًا، وهمَّ في الحال بقتله، ثم عاوده حاكم عقله، فتأنى في فعله، واستحضر خادمًا يعتمد عليه، وقال له: إذا أرسلت إليك إنسانًا ومعه طبق ذهب، وقلت لك على لسانه: املأ هذا الطبق مسكًا، فاقتل ذلك الإنسان واحمل رأسه في الطبق، وأحضِره مغطى، ثم إن الأمير أبا الجيش جلس لشربه، وأحضر عنده ندماءه الخواص، وأدناهم لمجلس قربه، وأحمد اليتيم واقف بين يديه، آمن في سربه، لم يخطر بخاطره شيء، ولا هجس في قلبه، فلما ثمل الأمير وأخذ منه الشراب، قال: يا أحمد، خذ هذا الطبق، وامض به إلى فلان الخادم، وقل له يملؤه مسكًا، فأخذه ومضى، واجتاز في طريقه بالمغنين وبقية الندماء الخوص، فقاموا إليه وسألوه الجلوس معهم، فقال: أنا ماضٍ في حاجة للأمير أمرني بإحضارها في هذا الطبق. فقالوا: أرسل من ينوب عنك في إحضارها، وخذها أنت وأدخل بها إلى الأمير، فأدار عينيه فرأى الفتى الفراش الذي كان مع الجارية، فأعطاه الطبق وقال: امض إلى فلان الخادم، وقل له: يقول لك الأمير املأ هذا مسكًا. فمضى ذلك الفراش إلى الخادم، وذكر له ذلك، فقتله وقطع رأسه وغسله، وجعله في الطبق وغطاه، وأقبل به فناوله لأحمد اليتيم، وليس عنده علم من باطن الأمر.

فلما دخل به على الأمير، كشفه وتأمله وقال: ما هذا؟ فقص عليه خبره وقعوده مع المغنين وبقية الندماء وسؤالهم له الجلوس معهم، وما كان من إنقاذه الطبق، والرسالة مع الفراش، وأنه لا علم عنده غير ما ذكره. قال: أفتعرف لهذا الفراش خبرًا يستوجب ما جرى عليه؟٢ فقال: أيها الأمير، إن الذي تم عليه بما ارتكبه من الخيانة، وقد كنت رأيت الإعراض عن إعلام الأمير بذلك، وأخذ أحمد يحدثه بما شاهده وما جرى له من حديث الجارية من أوله إلى آخره، لمَّا أنفذه لإحضار السبحة الجوهر، فدعا الأمير بتلك الجارية، واستقرها فأقرت بصحة ما ذكره أحمد، فأعطاه إياها وأمره بقتلها، ففعل، وازدادت مكانة أحمد عنده، وعلت منزلته لديه، وضاعف إحسانه إليه، وجعل أزِمَّة جميع ما تعلق به بيديه.٣
وقد مُهِّد لهذه القصة بعبارة مسجوعة، وعقب عليها بالفقرة الآتية:
فانظر إلى آثار الوفاء كيف يحمي من المعاطب، وينجي من قبضة التلف بعد إمضاء القواضب، ويقضي بصاحبه إلى ارتقاء غوارب المراتب، فهذا الغلام لما وفَّى لمولاه بعهده، وهو بشر مثله وليس في الحقيقة بعبده، واطلع الله — عز وجل — على صدق نيته وقصده، دفع عنه هذه القتلة الشنيعة بلطف من عنده. فإذا كان العبد مع خالقه ورازقه، وافيًا في طاعته بعقده، فكيف لا يفيض عليه من ألطافه ومواهب بره ورفده، ويفتح له من أنواع رحمته وأقسام نعمته ما لا ممسك له من بعده. ويقال: إنه ليس شيء أوفى من القمرية إذا مات ذكرها لم تقرب آخر بعده، ولا تزال تنوح عليه إلى أن تموت، والله أعلم.٤

هوامش

(١) الضرب — بالتحريك: العسل.
(٢) لا تنسَ أن هذه عبارة مصرية.
(٣) ص١٩٠–١٩٢ من التحفة البهية.
(٤) ص١٩٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤