الفصل السابع

التوابع والزوابع

سياحة شاعر في وادي الشياطين

التوابع جمع تابع وتابعة؛ وهو الجنيُّ والجنية يكونان مع الإنسان يتبعانه حيث ذهب، والزوابع جمع زوبعة؛ وهو اسم شيطان أو رئيس الجن، ومنه سمي الإعصار زوبعة؛ إذ يقال فيه شيطان مارد كما جاء في القاموس المحيط.

والتوابع والزوابع اسم رسالة نفسية — لم يبق منها إلا شذرات في كتاب مخطوط هو الذخيرة — ألفها أبو عامر بن شهيد الأندلسي،١ ولم نجد لها صدى يذكر في كتب القدماء، وأول من وجه نظرنا إليها هو المرحوم الأستاذ محمد المهدي في محاضراته بالجامعة المصرية سنة ١٩١٥، ثم عاد الدكتور أحمد ضيف فحدثنا عنها في سنة ١٩٢٢، ومن رأي الدكتور ضيف أن التوابع والزوابع محاكاة لرسالة الغفران، وأن ابن شهيد كان يقلد أبا العلاء؛ لأنه أدرك عصره، ولأن شهرة أبي العلاء كانت ذائعة في المشرق والمغرب، وكان أهل الأندلس يقلدون أهل المشرق في كل شيء. وأقوى حجة عند الدكتور ضيف أن عصر ابن شهيد يندرج في عصر أبي العلاء؛ فقد عاش من سنة ٣٨٢ إلى سنة ٤٢٦، وعاش المعري من سنة ٣٦٣ إلى سنة ٤٤٩. ٢
وقد رأينا أن نحقق هذه الرسالة فبحثنا طويلًا عن التاريخ الذي وضعت فيه رسالة التوابع والزوابع فلم نهتدِ، ولكن رأينا في الرسالة نفسها ما يدل على أنه وضعها وهو كهل؛ فقد جاء على لسانه ما يشير إلى أن من إخوانه (من بلغ الإمارة وانتهى إلى الوزارة)٣ وألقي إليه على لسان إوزة جِنِّية هذا السؤال: «ما أبقت الأيام منك؟»٤

وفي هذا السؤال إشارة إلى أنه كان قد ودع نضارة الشباب.

ولكن لا ينبغي أن تخدعنا هذه التعابير، فهناك نص يدل على أنه وضعها وهو شاب، فقد حدثنا في «التوابع والزوابع» أن الجن قالوا له: «قد بلغنا أنك لا تجاري في أبناء جنسك، ولا يملُّ من الطعن عليك، والاعتراض لك، فمن أشدهم عليك؟» وأنه أجاب: «جاران دارهما صقب، وثالث نابته نوب، فامتطى ظهر النوى، وألقت به في سرقسطة العصا، انتضى عليَّ لسانه عند المستعين، وساعدته زرافة من الحاسدين … إلخ.»٥
وهذا الكلام يشعر بأنه كتب هذه الرسالة في عهد المستعين، والمستعين هذا هو سليمان بن الحكم بن سليمان بن عبد الرحمن الناصر الأموي، الذي بويع بقرطبة منتصف ربيع الأول سنة ٤٠٠، بعد مقتل هشام بن سليمان، وجدِّدت له البيعة سنة ٤٠٣، ثم مات مقتولًا سنة ٤٠٧. ٦

ومن هنا يمكن أن نرجح أن رسالة «التوابع والزوابع» كتبت بين سنة ٤٠٣ وسنة ٤٠٧.

هذا جانب من المسألة، أما الجانب الآخر فهو التاريخ الذي وضعت فيه رسالة الغفران.

وقد بحثنا طويلًا في كتب التراجم عن التاريخ الذي كتب فيه المعري رسالة الغفران فلم نهتدِ، ولكنا وصلنا بعد التأمل إلى تقريب التاريخ، ذلك أن رسالة الغفران جواب على رسالة ابن القارح، وقد عدنا إلى رسالة ابن القارح فدرسناها فقرة فقرة، حتى انتهينا إلى قوله: «وكيف أشكو من قاتني وعالني نيفًا وسبعين سنة».٧ فعرفنا أنه وضعها بعد أن جاوز السبعين، ثم نظرنا فوجدناه ولد سنة ٣٥١، فإذا أضفنا إلى هذا الرقم ٧٠، وجدناه كتب رسالته حوالي سنة ٤٢١، وتكون النتيجة أن رسالة الغفران كتبت حوالي سنة ٤٢٢، وإذا قدرنا أن ابن القارح قال: نيفًا وسبعين — وللنيف دلالته — وقدرنا أن أبا العلاء اعتذر عن تأخير الإجابة بأنه مستطيع بغيره؛ كان من الممكن أن تكون رسالة الغفران كتبت بين سنة ٢٢ و٢٤. ٨

ونتيجة هذا التحقيق أن رسالة الغفران كتبت بعد رسالة التوابع والزوابع بنحو عشرين سنة، وبذلك يتبين أن الدكتور ضيف لم يكن مصيبًا حين افترض أن ابن شهيد قلَّد أبا العلاء، وصار من المرجح أن يكون أبو العلاء هو الذي قلد ابن شهيد، وكما كان الأندلسيون يقلدون أهل المشرق في كل شيء، كان أهل المشرق يحرصون أشد الحرص على متابعة الحركة الأدبية في الأندلس، بدليل أن رسائل ابن شهيد ذاعت في الشرق ودوَّنها المؤلفون الشرقيون قبل أن يموت وقبل أن توضع رسالة الغفران.

والواقع أن التشابه تام بين الرسالتين، فالموضوع واحد؛ وهو عرض المشاكل الأدبية والعقلية بطريقة قصصية، والخلاف في جوهر الموضوع يرجع إلى روح الكاتبين؛ فأبو العلاء يحرص أولًا وقبل كل شيء على عرض المعضلات الدينية والفلسفية، وابن شهيد يحرص على عرض المشكلات الأدبية والبيانية، ويتفق كلا الرجلين على التعريض بمعاصريه، وشرح ما أخذ على المتقدَّمين من أساطين العقل والبيان. والمسرح واحد تقريبًا؛ فهو عند ابن شهيد وادي الجن في الدنيا، وهو عند أبي العلاء وادي الإنس في الأخرة؛ أي الفردوس والجحيم. فالممثلون عند ابن شهيد جنٌ يسخرون، وعند أبي العلاء إنس تسخِّرهم الملائكة والشياطين، وكان لكل إنسان في عرفهم ملَك وشيطان.

وجَّه ابن شهيد رسالته إلى أبي بكر بن حزم فبيَّن في فاتحتها أنه كان في حداثته يحن إلى الآداب، ويصبو إلى تأليف الكلام، فابتاع الدواوين، وجلس إلى الأساتيذ، فنبض فيه عرق الفهم، ودرَّ له شريان العلم، وأنه كان في أوائل صبوته هوى اشتد له كلفه، ثم لحقه ملل في أثناء ذلك الميل فاتفق أنه مات من كان يهواه مدَّة ذلك الملال، فجزع وأخذ في رثائه فقال:

تولى الحِمام بظبي الخدور
وفاز الردى بالغزال الغرير

إلى أن انتهى إلى الاعتذار من الملل الذي كان، فقال:

وكنت مللتك لا عن قلى
ولا عن فساد ثوى في الضمير

ثم أُرتج عليه فإذا هو بفارس بباب المجلس على فرس أدهم قد اتكأ على رمحه وصاح به: «أعجزٌ يا فتى الإنس.»

فأجاب: «لا وأبيك! للكلام أحيان وهذا شأن الإنسان.» فقال: قل بعده:

كمثل ملال الفتى للنعيم
إذا دام فيه وحال السرور

فأثبت إجازته وقال: «وبأبي من أنت؟» قال: زهير بن نمير من أشجع الجن، تصوَّرت لك رغبة في اصطفائك.

فقال ابن شهيد: «أهلًا بك أيها الوجه الوضاح! صادفت قلبًا إليك مقلوبًا، وهوى نحوك مجنونًا»،٩ وهنا ينطلق ابن شهيد فيقص علينا أنهما تحادثا وتذاكرا أخبار الخطباء والشعراء ومن كان يألفهم من التوابع والزوابع، وأنه سأل صاحبه زهير بن نمير أن يحتال له في لقاء من اتفق من الشياطين، فيمضي زهير ليستأذن شيخ الجن ويعود وقد أذن له، فيركب ابن شهيد مع صاحبه على متن الأدهم ويسيران كالطير يجتاب الجوَّ فالجو، ويقطع الدوَّ فالدوَّ، حتى يلمحا أرضًا لا كأرضنا، ويشارفا جوًّا لا كجونا، متفرع الشجر، عطر الزهر، وهناك يقول الجني مخاطبًا ابن شهيد:

حللت أرض الجن، أبا عامر، فبمن تريد أن تبدأ؟

فيجيب ابن شهيد: «الخطباء أولى بالتقديم، ولكني إلى الشعراء أشوق.»

ومن هنا نفهم أنه كان للخطباء والكتاب شياطين، كما كان للشعراء شياطين، وهذه أول مرة أرى فيها أن العرب كانوا يعتقدون وجود الشياطين للكتاب والخطباء، وقد حدثنا ابن شهيد أنه صادف في أرض الجن شيطان الجاحظ، وشيطان بديع الزمان، وشيطان عبد الحميد، فهل كان العرب يرون ذلك أم هو اختراع ابن شهيد؟١٠
رسالة التوابع نفسية جدًّا، ومؤلفها خفيف الظل إلى حدَّ بعيد، وقد وقعت له فيها فكاهات تبعث الأُنس إلى النفس، من ذلك ما قصَّه علينا من أنه أشرف بأرض الجن «على قرارةٍ عيناء، تفتر عن بركة ماء، وفيها عانة من حمير الجن وبغالها قد أصابها أولق؛١١ فهي تصطك بالحوافر، وتنفخ من المناخر، وقد اشتد ضراطها، وعلا شحيجها ونهاقها».

فلما بصرت بهم أجفلت وهي تقول: «جاءكم على رجليه.»

فارتاع ابن شهيد وتبسم زهير وقد عرف القصد، وقال له: تهيأ للحكم.

قال ابن شهيد: فلما لحقتْ بنا بدأتني بالتفدية، وحيتني بالسكينة. فقلت: ما الخطب — حمى حماك أيتها العانة وأخصب مرعاك؟! قالت: شعران لبغل وحمار من عشاقنا اختلفنا فيهما وقد رضيناك حَكَمًا. قلت: حتى أسمع! فتقدمت إليَّ بغلة شهباء عليها جلها وبرقعها لم تدخل فيما دخلت فيه العانة من سوء العجلة وسخف الحركة، فقالت: الشعر لبغل من بغالنا وهو:

على كل صبٍّ من هواه دليلُ
سقامٌ على جِدِّ الهوى ونحولُ
وما زال هذا الحب داء مبرحًا
إذا ما اعترى بغلًا فليس يزول
بنفسي التي أما ملاحظ طرفها
فسحرٌ وأما خدها فأسيل
تعبتُ بما حُمِّلت من ثقل حبها
وإني لبغلٌ للثقال حمول
وما نلت منها نائلًا غير أنني
إذا هي بالت بُلْت حيث تبول

والآخر لدكين الحمار وهو:

دهيت لهذا الحب منذ هويثُ
وراثت إراداتي فلست أريث
كلفت بإلفي منذ عشرين حجة
يجول هواها في الحشا ويعيث
وغيَّر منها قلبها لي نميمة
نماها أحمُّ الخصيتين خبيث
وما نلت منها محرمًا غير أنني
إذا هي راثت رثت حيث تروث
قال ابن شهيد: فاستضحك زهير وتماسكتُ وقلت للمنشدة: ما هويث؟ قالت: هويت بلغة الحمير! قلت: والله إن للروث لرائحة كريهة ولقد كان أنف الناقة أجدر أن يحكم في الشعرين! فقالت: فهمت عنك، وأشارت إلى العانة أنَّ ركبنا مغلوب، وانصرفت قانعة راضية.١٢
وتتفرع عن هذه الفكاهة نكتة أبدع وأظرف؛ إذ يقول ابن شهيد:

وقالت لنا البغلة: أما تعرفني، أبا عامر؟ قلت: لو كان ثَمَّ علامة! فأماطت لثامها فإذا هي بغلة أبي عيسى، والخال على خدها، فتباكينا طويلًا، وقد أخذنا في ذكر أيامنا فقالت: ما أبقت الأيام منك؟ قلت: ما ترين! قالت: شبَّ عمرو عن الطوق! وما فعل الأحبة؟

قلت: شب الغلمان، وشاخ الفتيان، وتنكرت الأخلاق، ومن إخواننا من بلغ الإمارة، وانتهى إلى الوزارة. فتنفستْ الصُّعداء وقالت: سقاهم الله سَبَل العهد، وإن حالوا عن العهد ونسوا أيام الود! بحرمة الأدب إلا أقرأتهم سلامي! فقلت: كما تأمرين.

وهناك فكاهة من مبتكرات ابن شهيد تدل على فهمه لعالم الطير، كما دلت الفكاهات الماضية على فهمه لعالم الحيوان، ذلك أنه يحدثنا عن إوزة كانت في البركة بالقرب منهم:

إوزة بيضاء شهباء في مثل جثمان النعامة، كأنما ذُرَّ عليها الكافور، أو لبست غِلالة من دمقس الحرير … في ظهرها صفاء، تثني سالفتها وتكسر حدقتها، وتلولب قَمحدُوتها، فترى الحسن مستعارًا منها، والشكل مأخوذًا عنها.

وقد صاحت تلك الإوزة بالبغلة: «لقد حكمتم بالهوى، ورضيتم من صاحبكم بغير الرضى.»

فيسأل ابن شهيد صاحبه: ما شأن هذه الإوزة؟ فيجيبه: «هي تابعة شيخ من مشيختكم تسمى العاقلة، وتسمى أم عفيف، وهي ذات حظ من الأدب فاستعدَّ لها.»

فيقول لها ابن شهيد: «أيتها الإوزة الجميلة، العريضة الطويلة، لجمال صفتك باعتدال منكبيك، واستقامة جناحيك، وطول جيدك، وصغر رأسك، تقابلين الضيف بمثل هذا الكلام، وتلقين الطائر الغريب بشبه هذا المقال، وأنا الذي همت بالإوز صبابة، واحتملت في الكلف بها عض كل مقالة، وأنا الذي استرجعتها للوطن المألوف، وحببتها إلى كل غطريف، فاتخذتها السادة بأرضنا، واستهلك عليها الظرفاء منا، ورضيتها بدلًا من العصافير، ومتكلمات الزرازير، ونسيت لذة الحمام، ونقار الديوك، ونطاح الكباش.»

عند ذلك داخلها العجب من كلام ابن شهيد، ثم تدفعت وقد اعترتها خفة شديدة في مائها، فمرة سابحة، ومرة طائرة، تغطس هنا وتخرج هناك، وهذا الفعل معروف عند الأوز عند الفرح والمرح، ثم سكنت وأقامت عنقها، وعرضت صدرها، وقالت لابن شهيد: «أيها الغارُّ المغرور! كيف تحكم في الفروع وأنت لا تُحكم الأصول؟ ما الذي تحسن؟» ثم يلاحيها وتلاحيه حول الشعر والخطابة والنحو والغريب إلى أن يسألها: يا أم عفيف! بالذي جعل رداءك ماء، وحشا رأسك هواء، أيهما أفضل؛ الأدب أم العقل؟ فتجيب: بل العقل. فيقول ابن شهيد: وهل تعرفين في الخلائق أحمق من إوزة؟

فتجيب: لا!

فيقول: فتطلَّبي عقل التجربة إذ لا سبيل لك إلى عقل الطبيعة!١٣
وابن شهيد في رسالته التوابع مغرم بأن ينطق الجن بالآراء التي كان يحرص عليها من يُنسبون إليهم، من ذلك أنه حين اتصل بأبي عنيية عتبة بن أرقم شيطان الجاحظ سمع منه هذا الكلام: «إنك لخطيب وحائك للكلام مجيد، لولا أنك مغرم بالسجع فكلامك لا نثر.»١٤ وهذا هو مذهب الجاحظ الذي كان يؤثر الكلام المرسل على المسجوع، ويميل في نثره إلى المقابلة والازدواج.
وقد ساقت هذه المناسبة ابن شهيد إلى أن يعلن رأيه في لغة معاصريه من أهل الأندلس فيقول: «ليس هذا — أعزك الله! مني جهلًا بأفن١٥ السجع، وما في المماثلة والمقابلة من فضل، ولكني عدمت ببلدي فرسان الكلام، ودهيت بغباوة أهل الزمان، وبالحري أن أحدثهم بالازدواج، ولو فرشت للكلام فيهم طوله، وتحركت لهم حركته، لكان أرفع لي وأولج في قلوبهم.»١٦

فيدهش الجني ويقول: «أهذا على تلك المناظر، وكبير تلك المحابر، وكمال تلك الطيالس؟»

فيجيب ابن شهيد: «نعم، إنما يجنى الشجر، وليس له ثمر ولا عِتَر.»

فيقول الجني: كيف كلامهم بينهم؟

فيجيب ابن شهيد: ليس لسيبويه فيه عمل، ولا للفراهيدي إليه طريق، ولا للبيان عليه سمة، إنما هي لكنة يؤدون بها المعاني تأدية المجوسيِّ والنبطيِّ.

فيصيح الجني: إنا لله! ذهبت العرب وكلامها، ارمهم بسجع الكهان فعسى أن ينفعك عندهم، ويطير لك ذكرًا فيهم، وما أراك مع ذلك إلا ثقيل الوطأة عليهم، كريه المجيء إليهم.١٧

وفي تضاعيف الرسالة فقرات تشعر بأن ابن شهيد كان مبتلى بحقد معاصريه وحسدهم وإسرافهم في الكيد له والغض من شأنه، فقد حدثنا أنه قرأ على الجن رسالة في وصف الحلواء فاستحسنوها وقالوا: «إن لسجعك موضعًا من القلب، ومكانًا في النفس، وقد أعرته من طبعك، وحلاوة لفظك، وطلاوة سوقك، ما أزال أفنه، ورفع غبنه، وقد بلغنا أنك لا تجارى في أبناء جنسك، ولا يملُّ من الطعن عليك والاعتراض لك، فمن أشدهم عليك؟»

«وهنا يجيب ابن شهيد: بأن أشد أعدائه جاران تصاقب دارهما داره، وثالث امتطى ظهر النوى، فألقت به في سرقسطة؛ حيث ينتضي عليه لسانه عند المستعين، وتساعده على إفكه زرافة من الحاسدين» وأنه أنشد في أولئك الأعداء:

وبلَّغت أقوامًا تجيش صدورهم
عليَّ وإني منهمو فارغ الصدر
أصاخوا إلى قولي فأسمعت مُعجزًا
وغاصوا على سري فأعياهمو أمري١٨
ولا يكتفي ابن شهيد بإعلان حزنه لتحامل معاصريه، بل يضيف إلى ذلك صرخته من عدوان زمانه فينطق الجن — وقد استجادوا شعره — بهذه الكلمة الموجعة: «ما أنت محسنٌ على إساءة زمانك.»١٩
وابن شهيد مغرم بمعارضة كتَّاب المشرق وشعرائه، حريص على التفوق عليهم، فقد حدثنا أنه قابل بأرض الجن «زبدة الحقب» شيطان بديع الزمان فقال له: اقترح عليَّ وصف جارية. فوصفها، فقال له الجني: أحسنت! فقال له ابن شهيد: أسمعني وصفك للماء. فقال الجني: ذلك من العقم «يريد أنه معنى لا تمكن معارضته»، ثم انطلق يقول: «أزرق كعين السِّنور، صاف كقضيب البلور، انتُخِب من الفرات، واستعمل بعد البيات، فكان كلسان الشمعة، في صفاء الدمعة.»٢٠
ويعارضه ابن شهيد فيقول: «انظر يا سيدي كأنه عصير صباح، أو ذوب قمر لياح، ينصبُّ من إنائه، انصباب الكوكب الدري من سمائه، العين كانونه، والقمر عفرينه، كأنه خيط من غزل فلَق، أو مخصرة ضربت من ورق، يرفع عنك فتروى، ويصدع به قلبك فتحيا.»٢١

عندئذ ضرب الشيطان بديع الزمان الأرض برجله فانفجرت له عن عين تدهدى إليها فاجتمعت عليه وغاب وهو خجل خزيان!

ولم يقف الزهو بابن شهيد عند إعلان التفوق على كتَّاب المشرق، بل مضى يحدثنا أنه ناوش شيطان أنف الناقة وانتصر عليه بحيث علتْ أنف الناقة كآبة، واختلط كلامه، وبدت منه ساعئتذ بوادٍ في خطابه رحمه لها من حضر، وأشفق عليه منها من نظر، فشمر له عن ساعد فتًى من الجن كان إلى جنب أنف الناقة وقال: «وهل يسوء قريحتك، أو ينقص من بديتهك، لو تجافيت لأنف الناقة وجُدت له، فإنه على علاته زي علم، وزنبيل فهم، وكنف رواية؟»

فقال ابن شهيد لصاحبه زهير: من هذا؟ فقال له: هو أبو الآداب صاحب أبي إسحاق بن حمام جارك.

فقال له ابن شهيد: رفقًا على أخيك يغرب لسانك! وهل كان يضر أنف الناقة وينقص من علمه، ويفلُّ شفر فهمه، أن يصبر لي على زلة تمرُّ به في شعر أو خطبة، فلا يهتف بها بين تلاميذه ويجعلها طرمذة من طراميذه!

فقال الفتى الجني: إن الشيوخ قد تهفوا أحلامهم في الندرة.

فيقول ابن شهيد: إنها المرة بعد المرة.٢٢

ثم يحدثنا وهو مزهوٌّ مفتون أن أساطين الجن حاروا في أمره فلم يدروا: أشاعر هو أم خطيب، وأنهم انصرفوا والأبصار له ناظرة، والأعناق نحوه مائلة.

ومثل ابن شهيد في عبقريته يعذر في مثل هذا الفُتُون.

ويتصل بحرص ابن شهيد على إظهار تفوقه وفضله ما نراه في غير موطن من التوابع من النص على أن زعماء الجن أجازوه، وبلغ الأمر بأحدهم أن فتن ببيت من شعره فقام يردده ويرقص، قال ابن شهيد: ثم أفاق وقال: «والله هذا شيء لم نلهمه نحن، ثم استدناني فدنوت منه، فقبَّل بين عيني وقال: اذهب فإنك مُجازٌ على بظر أم الكاره!»٢٣

وأولئك الكارهون هم بالطبع من عالم الإنس، يضاف إليهم من ناوأه من زعماء الجن.

وفي رسالة التوابع إشارة لطيفة إلى رأي ابن شهيد في البيان، وهو يعتقد أن البيان نفحة سماوية لا صلة بينها وبين معرفة النحو والتصريف، فليس يكفي أن يختلف الإنسان إلى الأساتذة يتلقى عنهم، وليس يغني أن يراجع الكتب والدواوين، وإنما يجب أن تكون هناك فطرة سمحة وطبيعة سخية يصدر عنها النثر الجيد والشعر البليغ.٢٤

وفي هذا يحدثنا ابن شهيد أنه اصطدم في وادي الجن بشيطان أنف الناقة، وأنه استطال على ذلك الشيطان وقال له: طارحني كتاب الخليل وشرح ابن درستويه.

فقال الجني: «دع عنك هذا، أنا أبو البيان.»

فقال ابن شهيد: لاهًا لله! إنما أنت كمغن وسط لا يحسن فيطرب، ولا يسيء فيلحَى.

قال الجني: «لقد علمنيه المؤدبون.»

فقال ابن شهيد: «ليس هو من شأنهم، إنما من تعليم الله حيث يقول: الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ. ليس من شعره يفسر، ولا أرض تكسر، حتى يكون نفسك من أنفاسك، وقليبك من قلبك، وحتى تتناول الوضيع فترفعه، والرفيع فتضعه، والقبيح فتحسنه».٢٥

ومعنى هذه الفقرات أن البيان شيء آخر غير الكلام المفيد، فمن الناس من تقرأ له فلا تحمده ولا تذمه، وشر الكتَّاب من يمرون على القراء فلا يكون لهم قادح ولا مادح، ولا عدو ولا صديق.

ولا عيب فيما رآه ابن شهيد إلا أنه قدم له شواهد في وصف الثعلب والبرغوث تدل على ذكاء، ولكنها بعيدة عن سحر البيان.٢٦

في رسالة التوابع إشارات كثيرة تدل على رأي ابن شهيد في شعره، وهو عند نفسه أشعر الناس وخاصة في باب الرثاء، فإن الجن حين يطارحونه الشعر يسألونه عن مراثيه، وإلى القارئ نموذجًا مما اختاره من شعره في الرثاء:

أفي كل عام مصرعٌ لعظيم
أصاب المنايا حادثي وقديمي
فكيف لقائي الحادثات إذا سطت
وقد فلَّ سيفي منهمو وعزيمي
وكيف اهتدائي في الخطوب إذا دجت
وقد فقدت عيناي ضوء نجومي
مضى السلف الوضاح إلا بقيةً
كغرة مُسودِّ القميص بهيم
أما وأبى الأيام لولا اعتداؤها
لظاهرتُ في ساداتها بقروم
وقارعت من يبغي قراعيَ منهمو
بأحلام بطش أو بطيش حلوم
أنا السيف لم يتعب له كف ضارب
صروم إذا صادفت كف صريم
سعيت بأحرار الرجال فخانني
رجال ولم أنجب بجد عظيم
وضيعني الأملاك٢٧ بدءًا وعودة
فضعت بدار منهمو وحريم٢٨

هوامش

(١) انظر: ترجمة ابن شهيد في الجزء الثاني، وانظر تحليل نثره، وراجع آراءه في النقد الأدبي.
(٢) راجع: بلاغة العرب في الأندلس ص٤٨.
(٣) الذخيرة (١ / ١٥٢).
(٤) الذخيرة (١ / ١٥٢).
(٥) الذَّخيرة (١ / ١٣٨).
(٦) في الذخيرة تفاصيل مزعجة لما وقع بين المستعين وبين هشام بن سليمان، وصور شنيعة لما كان يجري في الأندلس من اشتعال الفتنة واغتلاء العصبية لذلك العهد. انظر: (١ / ١٧–٢٤).
(٧) سالة البلغاء ص١١٢.
(٨) بعد تحرير هذه المسألة وصلنا إلى نص في رسالة الغفران يدل على أنها كتبت سنة ٤٢٤، إذ يقول المعري: «ولا يجوز أن يخبر مخبر منذ مائة سنة أن أمير حلب — حرسها الله — في سنة أربع وعشرين وأربعمائة اسمه فلان ابن فلان». راجع: (٢ / ٤٨) من الطبعة الثانية لرسالة الغفران شرح الأديب كامل كيلاني.
(٩) ص١٢٥، ١٢٦.
(١٠) في كتاب البيان والتبيين للجاحظ (١ / ١٥٩) ما يفيد أنه كان للكهان شياطين، وكان فيهم الكتَّاب والخطباء.
(١١) الأولق: الجنون.
(١٢) راجع: ص١٥١، ١٥٢.
(١٣) راجع: ص١٥٢، ١٥٣.
(١٤) ص١٣٥.
(١٥) في الأصل «بأفق» وهو تحريف، والأفن معناه العيب، وهي لفظة يستعملها ابن شهيد. راجع: ص١٣٨ من الذخيرة.
(١٦) ص١٣٥.
(١٧) ص١٣٥، ١٣٦.
(١٨) راجع: ص١٣٨.
(١٩) ص١٣٠.
(٢٠) مأخوذ من المقامة المضيرية.
(٢١) ص١٣٩، ١٤٠.
(٢٢) راجع: ص١٤١، ١٤٢.
(٢٣) ص١٣٣.
(٢٤) تجد آراء ابن شهيد في النقد الأدبي مبسوطة بالجزء الثاني من هذا الكتاب.
(٢٥) ص١٣٩.
(٢٦) راجع: أوصافه للثعلب والبرغوث في الذخيرة (١ / ١٣٩)، ويتيمة الدهر (١ / ٣٩١).
(٢٧) الأملاك: الملوك.
(٢٨) في يتيمة الدهر طائفة صالحة من شعر ابن شهيد تجدها في الصفحات ٣٨٢–٣٨٩ من الجزء الأول.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤