الفصل الثاني

كتاب الوساطة

«الوساطة بين المتنبي وخصومه» كما سماه صاحب وفيات الأعيان، أو «الوساطة بين المتنبي وخصومه ونقد الشعر» كما سماه صاحب كشف الظنون؛ هو كتاب في النقد لأبي الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني، يقع في ٣٦١ صفحة بالقطع الكبير، طبعه وصححه وشرح بعض ألفاظه حضرة أحمد عارف الزين من أدباء صيدا في سنة ١٣٣١ هجرية، نقلًا عن نسختين مخطوطتين؛ إحداهما بمصر وأخراهما بالعراق، ولم تسلم هذه الطبعة مع ما بذل فيها من الجهد من مظاهر النقص والتحريف. أحسن الله لناشرها الجزاء.

ذكر الثعالبي أنه لما عمل الصاحب بن عباد رسالته المعروفة في إظهار مساوي المتنبي عمل القاضي أبو الحسن كتاب الوساطة بين المتنبي وخصومه.١

أما المؤلف فيذكر أنه رأى أهل الأدب في المتنبي فئتين؛ فئة تطنب في تقريظه وتتناول من ينقصه بالاحتقار والتجهيل، وفئة تجتهد في إخفاء فضائله وإظهار معايبه. وكلا الفريقين إما ظالم له أو للأدب فيه، وأنه رأى من البر بالآداب — وهي أرحام لأبنائها — أن يقول كلمة الحق في الفصل بين المتنبي وخصومه المسرفين.

ويقول في الحرص على الأواصر الأدبية: «وما مَن حفظ دمه أن يسفك بأولى ممن رعى حريمه أن يهتك، ولا حرمة أولى بالعناية وأحق بالحماية وأجدر أن يبذل الكريم دونها عرضه ويمتهن في إعزازها ماله ونفسه من حرمة العلم الذي هو رونق وجهه، ووقاية قدره، ومنار اسمه، ومطية ذكره، وبحسب عظم مزيته، وعلو مرتبته، يعظم حق التشارك فيه، وكما تجب حياطته تجب حياطة المتصل به وبسببه. وما عقوق الولد البر، وقطيعة الأخ المشفق، بأشنع ذكرًا، ولا أقبل وسمًا من عقوق من ناسبك إلى أكرم آبائك، وشاركك في أفخر أنسابك، وقاسمك في أزين أوصافك، ومت إليك بما هو حظك من الشرف، وذريعتك إلى الفخر.»٢
وهذا الحرص على بنوة العلم وأخوة الأدب لا يحمل القاضي الجرجاني على التعصب المطلق، وإنما يزين له أن يحوطه بالعدل والإنصاف فيقول في ذلك:
وكما ليس من شرط صلة رحمك أن تحيف لها على الحق، أو تميل في نصرها عن القصد، فكذلك ليس من حكم مراعاة الأدب أن تعدل لأجله عن الإنصاف، أو تخرج في بابه إلى الإسراف، بل تتصرف على حكم العدل كيف صرفك، وتقف على رسمه كيف وقفك، فتنتصف تارة وتعتذر أخرى، وتجعل الإقرار بالحق عليك شاهدًا لك إذا أنكرت، وتقيم الاستسلام للحجة إذا قامت محتجًا عنك إذا خالفت، فإنه لا حال أشد استعطافًا للقلوب المنحرفة، وأكثر استمالة للنفوس المشمئزة، من توقفك عند الشبهة إذا عرضت، واسترسالك للحجة إذا قهرت.٣
وأخوة الأدب هذه عُرفت قبل هذا القاضي الأديب في شعر أبي تمام، وديك الجن، وعلي بن الجهم، والبحتري، وعلي بن محمد الكوفي، وللقارئ أن يرجع إلى ما قيل فيها من جيد الشعر في الجزء الثالث من زهر الآداب٤ ليرى كيف تأثر هذ الكاتب المبدع بما أطال النظر فيه من دقائق الشعر البليغ.

وضع القاضي الجرجاني لكتاب الوساطة مقدمة طويلة تكلم فيها عن أغلاط الشعراء في الجاهلية وعن تأثير الطباع والأمكنة في رقة الشعر وجفائه، وانتقل إلى الكلام عن أبي تمام والبحتري وجرير وأبي نواس فذكر ما لهم من المحاسن والعيوب.

وساقه هذا إلى بحث الاستعارة والجناس والتصحيف والتقسيم، ثم أخذ في الحديث عن المتنبي فذكر السخيف والمعقد من شعره، وتكلم عن تخلصه ومطالعه واعتذاره وفلسفته وسرقاته الشعرية، وما أنكر العلماء عليه، وما قبل في الاعتذار عنه، وقد جرته هذه الأبحاث إلى الكلام عن التشبيه واختلاف الناس في التشبيهات، وتفاوت الشعراء في صوغ اللفظ والمعنى واختلافهم في أخذ الألفاظ والمعاني، إلى غير ذلك مما كان يوجبه الأنس بالاستطراد عند المتقدمين.

ونريد في هذا الفصل أن ندرس مع القارئ بعض النظريات الأساسية لصاحب الوساطة، وأن نتبين معه ما فيها من القوة أو الضعف، وأن نكشف عنها ما قد يلابسها أحيانًا من الغموض، راجين أن يكون في هذه المراجعة فائدة لمن تعنيهم دراسة الآداب.

انفرد الجرجاني — أو كاد — بالشك في سلامة الشعر الجاهلي من الضعف واللحن، فقد كانت جمهرة الباحثين ترى أن شعراء الجاهلية أعز من أن تؤخذ عليهم هفوة أو تحسب عليهم سقطة، وكان من النحاة من يعني نفسه بتصويب الجاهليين والمخضرمين والأمويين حين يجد الناقد في شعرهم ما يذهب بقيمته من شنيع الأخطاء، وقبيح الأغلاط، ولكن الجرجاني يرى أن الدواوين الجاهلية لا تسلم فيها قصيدة من بيت أو أكثر يمكن القدح فيه؛ إما في لفظه ونظمه، أو ترتيبه وتقسيمه، أو معناه وإعرابه، ويقول:
ولولا أن أهل الجاهلية جدوا بالتقدم، واعتقد الناس فيهم أنهم القدوة والأعلام والحجة لوجدت كثيرًا من أشعارهم معيبة ومسترذلة ومردودة منفية، لكن هذا الظن الجميل والاعتقاد الحسن ستر عليهم ونفى الظنة عنهم، فذهبت الخواطر في الذب عنهم كل مذهب، وقامت في الاحتجاج لهم كل مقام.٥

وهو يستنكر تسكين الفعل من غير موجب في قول امرئ القيس:

فاليوم أشرب غير مستحقب٦
إثمًا من الله ولا واغل٧

وإسقاط النون لغير إضافة ظاهرة في قوله:

لها متنتان خطاة٨ كما
أكب على ساعديه النمر

وتسكين الفعل بغير عامل في قول لبيد:

تراك أمكنة إذا لم أرضها
أو يرتبطْ بعض النفوس حمامها

وقول الأسدي:

كنا نرقعْها وقد مزقت
واتسع الخرق على الراقع

وقول الآخر:

تأبى قضاعة أن تعرف لكم نسبًا
وابنا نزار فأنتم بيضة البلد

وحذف النون في قول طرفة:

قد رفع الفخ فماذا تحذري
… … … …

ورفع ما يجب نصبه في قول الفرزدق:

وعض زمان يا بن مروان لم يدع
من المال إلا مسحتًا أو مجلَّف

وخفض ما يجب رفعه في قول امرئ القيس:

كأن ثبيرًا من عرانين٩ وبله
كبير أناس في بجاد١٠ مزمل١١

وقد أطال الجرجاني في سرد الأمثلة وفيما ذكرناه كفاية، ثم أشار إلى أنه تصفح ما تكلفه النحويون لشعراء الجاهلية من الاحتجاج إذا أمكن تارة بطلب التخفيف عند توالي الحركات ومرة بالإتباع والمجاورة وتغيير الرواية إذا ضاقت الحجة، وتثبيت ما راموه في ذلك من المرامي البعيدة وارتكبوا لأجله من المراكب الصعبة التي يشهد القلب بأن الباعث عليها شدة إعظام المتقدم والكلف بنصرة ما سبق إليه الاعتقاد وألفته النفس.

ونحن لا نحب أن نكتفي بما أشار إليه الجرجاني من تعسف المنافحين عن شعراء الجاهلية ومن قاربهم من المخضرمين والأمويين، فقد لا تغني هذه الإشارة وإنما نذكر ما قالوه في توجيه قول الفرزدق:

وعض زمان يا بن مروان لم يدع
من المال إلا مسحتًا أو مجلفُ

فإنهم يذكرون أنه رفع «مجلف» بعد نصب «مسحتًا» تبعًا للمعنى؛ لأن المراد أنه لم يبق من المال إلا مسحت أو مجلف، ومثله قول الهذلي وهو من شواهد المفصل:

على أطرقا باليات الخيام
إلا الثمامَ وإلا العصيُّ
بنصب الثمام؛ لأنه استثناء من موجب، ورفع العصي حملًا على المعنى.١٢

وكذلك قول الآخر:

غداة أحلت لابن أصرم طعنة
حصينٌ عبيطات السدائف والخمر

برفع الخمر على توهم رفع العبيطات؛ لأنه إذا أحلتها الطعنة فقد حلت هي، إلى آخر ما يتأول النحاة!!

تأمل هذا أيها القارئ وسل نفسك: أكان هؤلاء الشعراء يفكرون حقًّا في أنهم نصبوا الاسم الأول على الاستثناء ورفعوا الثاني وفقًا للمعنى؟ أكان الهذلي والفرزدق يحسبان حساب النحاة في مثل ذلك التأويل؟ لا شيء من ذلك، وإنما أتعب النحاة أنفسهم كلفًا بنصرة ما سبق إليه الاعتقاد وألفته النفس، كما يقول أبو الحسن الجرجاني. أو هو لحن صريح، فإننا نرتاب في سلامة الأعراب من اللحن والغلط ونرى أنهم قد يلحنون كما يلحن المولدون، وأن من الخطأ إهمال القياس اتباعًا لما يؤثر عنهم من الشذوذ١٣ … وهذا المذهب في استقراء أغلاط القدماء خير من التورط في النفح عنهم بما لا يغني ولا يفيد، فقد كان الفراء يذكر أن من العرب من يقول في «أنظر»: أنظور، وينشد لبعض الأعراب:
الله يعلم أنا في تلفتنا
يوم الفراق إلى جيراننا صور
وأنني حيث ما يثني الهوى بصري
من حيث ما سلكوا أرنو فأنظور١٤

وهذا لحن لا ينبغي أن يتمحل له الصواب، فإن ديباجة هذا الشعر تبعد أن يكون قائله من قبيلة مهجورة تسيغ هذا التعبير.

وقد تكلم الجرجاني عن تأثير المكان والطبع في رقة الشعر وجفائه، وهو يرى أن للبادية أثرًا في خشونة الشعر وقوة أسره وصلابة معجمه، وأن للحاضرة فضلًا على رقة الشعر وعذوبته وسلامته من الوعورة والجفاء! ومن هنا كان شعر عدي وهو جاهلي أسلس من شعر الفرزدق ورجز رؤبة وهما آهلان؛ لملازمة عدي الحاضرة وبعده عن جلافة البدو وخشونة الأعراب.١٥

وقد يكون من البر بالأدب أن نذكر في تأييد هذه النظرية قطعة من رائية المنخل اليشكري وهو جاهلي صقلته الحضارة ودمثه الترف في قصور الملوك، ولننظر كيف يقول في أخذ الفتى بأعطاف الفتاة، وقد ختلتها هدأة الخدر وغفوة الرقيب:

ولقد دخلت على الفتا
ة الخدر في اليوم المطير
الكاعب الحسناء تر
فل في الدمقس وفي الحرير
فدفعتها فتدافعت
مشي القطاة إلى الغدير
ولثمتها فتنفست
كتنفس الظبي الغرير
فدنت وقالت يا منخل
ما بجسمك من حرير
ما شف جسمي غير حبـ
ـك فاهدئي عني وسيري
وأحبها وتحبني
ويحب ناقتها بعيري
وأظرف ما تنبه إليه الجرجاني إشارته إلى أن للطبع وللخلقة أثرًا في رقة الشعر وجفائه، فإن سلاسة اللفظ تتبع سلاسة الطبع، ودماثة الكلام بقدر دماثة الخلقة. ويقول:
وأنت تجد ذلك في أهل عصرك، وأبناء زمانك، وترى الجافي الجلف منهم كز الألفاظ معقد الكلام وعر الخطاب، حتى إنك ربما وجدت ألفاظه في صورته ونغمته وفي جرسه ولهجته، ومن شأن البداوة أن تحدث بعض ذلك.١٦

ولك أيها القارئ أن تبحث عن ذلك أيضًا في أهل عصرك وأبناء زمانك، فقد تجد تعقيد بعض المعاني أثرًا لالتواء بعض الوجوه والنفوس!!

أما أنا فأشهد بصحة هذه النظرية حين أوازن بين مقامات الحريري ومقامات بديع الزمان، أو شعر أبي تمام وشعر أبي نواس، وقد يكون الفرق بين شعر الشباب وشعر الكهول راجعًا إلى هذه الناحية الخلقية؛ فطالما يأتي الشاعر وهو فتى بما لم يستطعه وهو كهل، وما أقوى سلطان الجسم والروح في حياة العقول؟ وهنا وجه آخر لدماثة الشعر ورقته؛ هو نفس الشاعر حين يتيمه الحب ويأسره العشق. ولم يذكر الجرجاني أمثلة لذلك اكتفاء بوضوح الفكرة، ولو شاء لتمثل بقول بعض الأعراب:

وفي الجيرة الغادين من بطن وجرة
غزال كحيل المقلتين ربيب
فلا تحسبي أن الغريب الذي نأى
ولكن من تنأين عنه غريب

وقول الآخر:

فيا رب إن أهلك ولم ترو هامتي
بليلى أمت لا قبر أعطش من قبري
وإن أك عن ليلى سلوت فإنما
تسليت عن يأس ولم أسل عن صبر
وإن يك عن ليلى غنى وتجلد
فرب غنى نفس قريب من الفقر

وقد نص الجرجاني على أنه لا يريد بالسهل الضعيف، ولا يقصد من الرشيق المؤنث وهو يتكلم عن سهولة الشعر ورشاقته، وإنما يريد النمط الأوسط الذي ارتفع عن الساقط السوقي وانحط عن البدوي الوحشي، وهو لا يوصي بإجراء الشعر كله مجرى واحدًا، وإنما يرى أن تقسم الألفاظ على رتب المعاني فلا يكون الغزل كالفخر، ولا المديح كالوعيد، ولا الهجاء كالاستبطاء، ولا الهزل كالجد، ولا التعريض كالتصريح، فإن المدح بالشجاعة، واليأس يتميز عن المدح باللباقة والظرف، ووصف الحرب والسلاح ليس كوصف المجلس والمدام؛ فلكل واحد من الأمرين نهج هو أملك به، وطريق لا يشاركه الآخر فيه.

ثم يقول: «وليس ما رسمته لك في هذا الباب بمقصور على الشعر دون الكتابة، ولا بمختص بالنظم دون النثر، بل يجب أن يكون كتابك في الفتح والوعيد خلاف كتابك في التشوق والتهنئة واقتضاء المواصلة، وخطابك إذا حذرت وزجرت أفخم منه إذا وعدت ومنيت، فأما الهجو فأبلغه ما جرى مجرى الهزل والتهافت، وما اعترض به التصريح والتعريض، وما قربت معانيه وسهل حفظه وأسرع علوقه بالقلب ولصوقه بالنفس.»١٧
فأما القذف والإفحاش فهو سباب محض، وليس الشاعر إلا إقامة الوزن وتصحيح النظم، ويقول بعد كلام «وملاك الأمر في هذا الباب خاصة ترك التكلف ورفض التعمل، والاسترسال للطبع، وتجنب الحمل عليه والعنف به، ولست أعني بهذا كل طبع، بل المهذب الذي قد صقله الأدب، وشحذته الرواية، وجلته الفطنة، وأُلهم الفصل بين الرديء والجيد، وتصور أمثلة الحسن والقبيح.»١٨
والذي يتعقب النقد عند العرب يرى الجرجاني مسبوقًا في هذه الآراء، فليس له إلا فضل الترتيب والتنسيق، وهو فضل ليس باليسير، على أنك تشعر وأنت تراه يتصرف في هذه الأفكار تصرف المالكين أن عقله أشرب مذاهب النقد والمفاضلة بين طبقات النثر الجيد والشعر البليغ؛ بحيث يتعذر عليه هو نفسه أن يميز بين ما استفاده بالدرس والمراجعة وما أمدته به قريحته المتوقدة وذوقه السليم … وللقارئ أن يرجع إلى صحيفة بشر بن المعتمر١٩ ووصية أبي تمام للبحتري٢٠ فسيرى عناصر هذه النظريات التي يسوقها الجرجاني في سياسة النفس وتقويم البيان.

ولكنه سيرى كذلك أن الجرجاني أنهض بحجته، وأملك لرأيه، وأقرب إلى نفس قارئه من الذين سبقوه في هذا الباب، وتلك دلالة على استقلاله بما أودع كتابه من الآراء.

وقد رأى أبو الحسن الجرجاني أن يفرق بين الشعر والدين، وأن يميز بين غاية الأدب وغاية الأخلاق، وهو يعجب ممن ينتقض المتنبي ويغض من شعره لأبيات وجدها تدل على ضعف العقيدة وفساد المذهب في الديانة، كقوله:

يترشفن من فمي رشفات
هُنَّ فيه أحلى من التوحيد

وقوله:

وأبهر آيات التهامي أنه
أبوكم وإحدى ما لكم من مناقب

مع أنهم احتملوا إسراف أبي نواس في مثل قوله في انتهاب اللذات والشك في عذاب الآخرة:

فدع الملام فقد أطعت غوايتي
ونبذت موعظتي وراء جداري
ورأيت إيثار اللذاذة والهوى
وتمتعًا من طيب هذي الدار
أحرى وأحزم من تنظر آجل
ظني به رجمٌ من الأخبار
إني بعاجل ما ترين موكل
وسواه إرجاف من الآثار
ما جاءنا أحد يخبر أنه
في جنة مذ مات أو في نار
ويقول في تأييد هذه النظرية: «فلو كانت الديانة عارًا على الشعر، وكان سوء الاعتقاد سببًا لتأخير الشاعر لوجب أن يمحى اسم أبي نواس من الدواوين ويحذف ذكره إذا عدت الطبقات، ولكان أولاهم بذلك أهل الجاهلية ومن تشهد الآية عليه بالكفر، ولوجب أن يكون كعب بن زهير وابن الزبعرى وأضرابهما ممن تناول رسول الله ، وعاب من أصحابه بكمًا خرسًا، وبكاء مفحمين، ولكن الأمرين متباينان، والدين بمعزل عن الشعر.»٢١

ويجب أن نذكر أن صاحب هذه الفكرة هو «قاضي القضاة» وسيد الفقهاء في الري وجرجان، لنعرف إلى أي حد كانت النزعة الفنية مسيطرة على مشاعر هذا القاضي الأديب، غير أننا نلاحظ أن الشعر الذي تمثل به لأبي نواس لا يشفع في تأييد هذا الرأى الخطير، فليست الشاعرية أن يعلن الرجل كفره أو إيمانه في تعابير لا رونق لها ولا ماء، كما أعلن كفره أبو نواس، وكما يعلن الأشياخ والأحبار والرهبان حرصهم على الدين والأخلاق، وإنما الشاعرية روح يتمرد به الشاعر، فيهز نفس القارئ أو السامع هزًّا عنيفًا يحمله على أن يؤمن وهو طائع ذلول بما يدعو إليه الشاعر من تزيين الإثم والبغي أو تقبيح الغي والفسوق.

ومن ذا الذي لا تروقه روعة الفتك في قول ديك الجن:

لما نظرت إليَّ عن حدق المها
وبسمت عن متفتح النوار
وعقدت بين قضيب بان أهيف
وكثيب رمل عقدة الزنار
عفرت خدي في الثرى لك طائعًا
وعزمت فيك على دخول النار

أو من ذا الذي لا يخشع لعظمة الفضل والوقار في قول معن بن أوس:

لعمرك ما أهويت كفي لريبة٢٢
ولا حملتني نحو فاحشة رجلي
ولا قادني سمعي ولا بصري لها
ولا دلني رأيي عليها ولا عقلي
وأعلم أني لم تصبني مصيبة
من الدهر إلا قد أصابت فتى قبلي
ولست بماش ما حييت لمنكر
من الأمر لا يمشي إلى مثله مثلي
ولا مؤثر نفسي على ذي قرابة
وأوثر ضيفي ما أقام على أهلي

والشاعر الواحد قد يرضيك جده وهزله، ويروقك شكه ويقينه، حين يصدر عن ألوان نفسه، ويتحدث صادقًا عن أسرار قلبه، ولا عيب على الشاعر في أن تخلتف آراؤه باختلاف ذوقه وإحساسه؛ فإن الشعر كالمرآة. والنفس دنيا ثانية تتراءى صورها المختلفة في لوحة الشعر الجميل، وماذا تريدون من الشعر والأدب أيها الناس! أتريدون أن تعلنوا الأحكام العرفية على الكُتاب والشعراء والفنانين لئلا ينظروا بعيونهم، ويفقهوا بقلوبهم؛ فيكون من آثارهم ما ينقض ما تواضعتم عليه منذ أجيال؟ إن الله الذي يلون العالم كل يوم بلون جديد، وتفتن يده الصناع في تزيين الأرض والسموات وينفخ من روحه فيمن اصطفاهم للشعر والبيان، هو وحده — جل شأنه — القادر على أن يقول: هذا ما أريد أن يكون، وذلك ما أنكر أن يكون!! وسيظل الأدب الحق أداة يعرب بها الشعراء عما تريد القدرة أن تصور به محاسن هذا الوجود.

فهنيئًا لمن أراد الله أن يشربهم صفوة الحياة ليكون للعالم من أدبهم فرقان وإنجيل.

تلك نواحٍ كشفنا عنها وبيناها من كتاب الوساطة، راجين أن يعود إليه القارئ طلبًا للمزيد، فليس النقد إلا وسيلة إلى إثارة الرغبة في المراجعة والشوق إلى الاطلاع.

هوامش

(١) يتيمة (٣ / ٢٣٩).
(٢) الوساطة ص١٠.
(٣) الوساطة ص١٠.
(٤) ص١٧٠–١٧٣ (ط) أولى.
(٥) الوساطة ص١٢–١٥.
(٦) يقال: احتقب الإثم إذا اكتسبه، كأنه شيء محسوس حمله (مصباح).
(٧) الواغل: المستتر، وغل في الشجر وغولًا: توارى فيه، ودخل على القوم واغلًا، وقصده هنا غير مستتر.
(٨) الخظاة: المكتنزة من كل شيء.
(٩) جمع عرنين وهو الأنف، وعرانين الوبل: أول المطر.
(١٠) البجاد: كساء مخطط تلبسه العرب.
(١١) مزمل: أي ملتف في ثوبه، وكان يجب رفعه.
(١٢) راجع: المفصل ص٨.
(١٣) ويجب أن نذكر أن الشعر الجاهلي والأموي كان يجري على قواعد من النحو لم تأخذ صبغة نهائية في التحديد والترتيب، كما اتفق ذلك في العصر العباسي فأغلاط الجاهليين والأمويين ليست أغلاطًا بالقياس إلى لغتهم هم؛ وإنما هي أغلاط بالإضافة إلى اللغة التي حدد قواعدها النحويون.
(١٤) انظر: الصاحبي ص١٢.
(١٥) ص٢١.
(١٦) وساطة ص٢١.
(١٧) وساطة ص٢٦، ٢٨.
(١٨) وساطة ص٢٦، ٢٨.
(١٩) البيان والتبيين ص٥٨.
(٢٠) زهر الآداب (١ / ١٠١)، ط (أولى).
(٢١) الوساطة: ص٥٧، ٥٨.
(٢٢) الريبة، بكسر الراء: التهمة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤