نقد آراء ابن فارس في فقه اللغة العربية
فالفقه — كما ترى — دقة الفهم ونفاذ البصيرة في التفريق بين حقائق الأشياء. وعبارة «فقه اللغة» لم يكد يتفق القدماء على إفرادها بمدلول خاص، وإنما نجدها في تعابير الكتاب والمؤلفين على سبيل الاختيار لا على وجه التعيين. والثعالبي يحدثنا بأن كتابه «فقه اللغة» إنما سمي بهذا الاسم وفقًا لاختيار الأمير الذي أهداه إليه، فدل ذلك على أن المنحى الذي سلكه في تأليفه لم يكن جريًا على خطة اتفق عليها الباحثون في ذلك الحين.
ويترتب على هذا التعريف كما ذكر السنيور جويدي أن يصبح هذا العلم من أوسع العلوم دائرة، وأن يصبح «الفيولوج» مضطرًّا إلى البحث عن أوائل الأدب حين يدرس درجة التمدن عند شعب من الشعوب، وإلى تأمل العلاقات التي كانت بينه وبين غيره، وما أثر فيه من الحوادث السياسية والتاريخية، ثم لا يكفي لمن يريد درس كتب المجوس الدينية مثلًا أن يقف عند معرفة اللغات الإيرانية، بل عليه أن يطيل النظر في كل وجوه الحياة عند الفرس، وما تأثر به هذا الدين مما اتصل به من العقائد والديانات.
هذا هو اتجاه السنيور جويدي الذي كان أستاذ فقه اللغة العربية بكلية الآداب، وهو كما يرى القارئ يجعل مهمة الباحث في هذا العلم شاقة عسيرة، ويرد ما تميز واستقل مع علوم اللغة إلى عمل واحد تنوء به عزائم الآحاد، وقد شعر الأستاذ نفسه بهذا فقرر أنه لا يمكن للباحث أن يجيد إلا جزءًا واحدًا من ذاك العلم الكثير الأجزاء!
على أن من الحق أن نقرر أن كلمة «فقه اللغة» التي اختيرت لترجمة كتاب الثعالبي لم يرم بها قائلها من غير أن يكون لها في نفسه مدلول خاص، فقد وردت هذه الكلمة في فاتحة كتاب ابن فارس إذ قال: «هذا الكتاب الصاحبي في فقه اللغة العربية وسنن العرب في كلامها.» وهو بالطبع كان يعرف ما ترمي إليه هذه التعابير، فلم يبق إلا أن يكون الباحثون في علوم اللغة العربية لذلك العهد قد فكروا في فن جديد غير ما عُرف من علوم البلاغة، وما اصطلح عليه من مسائل النحو والصرف والاشتقاق.
وهذا الفن الجديد الذي كاد ينفرد به رجال القرن الرابع والخامس لم يجد من يُعنَى بتدوين أصوله وتحقيق فروعه، حتى يستقل عن غيره بعض الاستقلال، وإنما ظل كما ابتدأ مسائل متفرقة ينقصها الترتيب والتفصيل، ويعوزها النقد والتمييز، وما إلى ذلك من أنواع العناية بمختلف الفنون. وعندي أن أهم ما يؤخذ على المؤلفين في فقه اللغة هو إهمال المصادر وإهمال التاريخ، ولنضرب لذلك الأمثال:
وجاء في الفصل السابع عشر من الباب الرابع والعشرين أن الإنسان إذا شرب فهو نشوان، وإن دب فيه الشراب فهو ثمل، فإذا بلغ الحد الذي يوجب الحد فهو سكران، فإذا زاد امتلاء فهو سكران طافح، فإذا كان لا يتماسك ولا يتمالك فهو ملتخ، فإذا كان لا يعقل شيئًا من أمره ولا ينطلق لسانه قيل: سكران بات وسكران ما يبت، وكان من الواجب أن يذكر لنا الثعالبي شيئًا عن أصول هذه التعابير، وأن يرينا متى وقعت كلمة (سكران طافح)، وكيف وقعت في شعر أو في نثر، وإذا كان مصدرها الشعر فمن يدرينا لعل الوزن والقافية دخلا في صبغها بصبغة التأكيد، وكل ما عمله الثعالبي أن دلنا على أن كلمة (ملتخ) منقولة عن الأصمعي، وأن (سكران بات وسكران ما يبت) كلاهما عن الكسائي، ولم يتعرض لأيهما الراجح وأيهما المرجوح.
وهذا المأخذ يسري على جميع الأبواب التي روعي فيها حصر الأوصاف والنعوت. فإن أكثر ما جرى عليه الثعالبي في «فقه اللغة»، وابن سيده في «المخصص»، وابن الأجدابي في «كفاية المتحفظ» لم يلحظ فيه اختلاف اللغات، وإنما كان الغرض منه جمع الأشباه والنظائر في الصفات والأسماء.
في كتاب ابن فارس طائفة من الأبحاث يتصل بعضها بأسرار اللغة، ويرجع بعضها إلى مسائل عرضية كانت مما يشغل الناس إذ ذاك، من هذا كلامه عن الخط العربي وأول من كتب به، وهو ينقل في سذاجة أن أول من كتب الكتاب العربي والسرياني والكتب كلها آدم عليه السلام قبل موته بثلاثمائة سنة، كتبه في طين وطبخه، فلما أصاب الأرض الغرق وجد كل قوم كتابًا فكتبوه، فأصاب إسماعيل الكتاب العربي.
وهذا التوقيف هو عند ابن فارس منشأ اللغات، وإنه لخطأ مبين، وقد خطر له أن النحاة يقولون: إن العرب فعلت كذا ولم تفعل كذا: من أنها لا تجمع بين ساكنين ولا تبتدئ بساكن، ولا تقف على متحرك، وأنها تسمي الشخص الواحد بالأسماء الكثيرة، وتجمع الأشياء الكثيرة تحت الاسم الواحد، وهذا دليل على أن للعرب شيئًا من الاختيار في كيفية التعبير، وهو يدفع ذلك بقوله: «إن العرب تفعل كذا بعد ما وطأناه من أن ذلك توقيف حتى ينتهي الأمر إلى الموقف الأول.» ويحسن أن نذكر أن ابن فارس لم يبالغ في تأييد هذا الرأي إلا عند الكلام عن منشأ اللغات، فقد انطلق عقله بعد ذلك وأدرك أن لاختلاف الأصقاع والأقاليم تأثيرًا في تكوين اللغة، وإن لم يعط هذا الوجه حقه من البيان.
وقد عُني ابن فارس وهو يتكلم عن الكتابة والقراءة والخط بمسألة تتعلق برسم المصحف وقراءته، فذكر بسنده أن عثمان أرسل إلى أبي بن كعب كتف شاة فيها «لم يتسن» و«فأمهل الكافرين» و«لا تبديل للخلق»، فدعا بالدواة فمحا إحدى اللامين وكتب «لخلق الله» ومحا «فأمهل» وكتب «فمهل» وكتب لم «يتسنه» ألحق فيها هاء.
ونقل عن الفراء أنه قال: «اتباع المصحف إذا وجدت له وجهًا من كلام العرب وقراءة القرآن أحب إليَّ من خلافه.»
المعروف أن العلوم العربية لم تنشأ إلا في الإسلام؛ فالنحو من وضع أبي الأسود الدؤلي، والعروض من وضع الخليل بن أحمد، والبلاغة من وضع عبد القاهر الجرجاني، إلى آخر ما يهجس به أدعياء التاريخ، وقد تنبه ابن فارس إلى استبعاد هذه البداية للعلوم العربية، فذكر أن علم العروض أقدم من عهد الخليل. قال: والدليل على صحة هذا وأن القوم قد تداولوا الإعراب أنا نستقرئ قصيدة الحطيئة التي أولها:
وهنا يجب أن نشير إلى غلطة وقع فيها ابن فارس وهو يذكر أن علم العربية وعلم العروض كانا قبل الدؤلي والخليل، فقد نص على «أن هذين العلمين قد كانا قديمًا وأتت عليهما الأيام وقلا في أيدي الناس ثم جددهما هذان الإمامان.»
ومعنى هذا أن النحو الذي نعرفه علم مجدد لا مبتكر، وكذلك العروض، وهذا خطأ إن أردنا أن النحو والعروض كانا قديمًا على مثل هذا الوضع، والحق أنه يبعد أن لا يكون العرب فكروا في ضبط لغتهم منذ العهود القديمة، ولكنه يبعد كذلك أن يكون ما عرفوه وتواضعوا عليه من الضوابط والقواعد مماثلًا لما عرف بعد الإسلام؛ لأن النحو الذي نعرفه هو اللغة القرشية، فكلمة «العرب» في عبارة ابن فارس تحتاج إلى تحديد.
ولابن فارس رأي في التعابير الأدبية، فقد نقل لنا تعابير كثيرة ضاعت مغازيها من أذهان المتكلمين وبقيت خلوًّا من المدلول، وهو يرى أن كثيرًا من الكلام ذهب بذهاب أهله، وأن علماء اللغة يختلفون في كثير مما قالته العرب، فلا يكاد واحد منهم يخبر عن حقيقة ما خولف فيه، بل يسلك طريق الاحتمال والإمكان، وأنه لا يعرف أحد منهم حقيقة قول العرب في الإغراء: «كذبك كذا»، وما جاء في الحديث من قوله: «كذب عليكم الحج.» و«كذبك العسل.»
وقول القائل:
وقول الآخر:
ونحن نعلم أن قوله: «كذب» يبعد ظاهره عن باب الإغراء، وكذلك قولهم: «عنك في الأرض» عنك شيئًا، وقول الأفوه:
ومن ذلك قولهم: «أعمد من سيد قتله قومه.» أي: «هل زاد؟».
وقال ابن ميادة:
قال الخليل وغيره: «معناه هل زدنا على أن كفينا»، قال ابن فارس: فهذا من مشكل الكلام الذي لم يفسر بعد. وقول أبي ذؤيب:
قال ابن فارس: فقوله «مسبع» لم يفسر حتى الآن تفسيرًا شافيًا.
ومن هذا الباب قولهم: «يا عيد ما لك» و«يا هيء ما لك» و«يا شيء ما لك» ولم يفسروا قولهم: «صه» و«يهك» و«إنيه» ولا قول القائل:
ويقولون: «خائبكما وخائبكم.» فأما الرجز والدعاء الذي لا يفهم موضعه، فكثير كقولهم: «حي»، و«حي هلا»، و«بعين ما أرينك» في موضع اعجل، و«هج» و«هجا» و«دع» و«دعا» و«لعا» للعائر يدعون له، وينشدون:
ويروى عن النبي أنه قال «لا تقولوا: دعدع ولا لعلع، ولكن قولوا: اللهم ارفع وانفع». قال ابن فارس: فلولا أن للمتكلمين معنى مفهومًا عند القوم ما ذكرهما النبي. وكقولهم في الرجز: «أخر» و«أخرى» و«دها» و«هلا» و«هاب» و«ارحبي» و«عد» و«عاج» و«ياعط» و«يعاط» وينشدون:
وكذلك «إجد» و«أجدم» و«حدج».
تأمل أيها القارئ في هذه التعابير المجهولة، وأذكر أنها لم تجهل إلا لأنها كانت متصلة بقبائل تناساها المحدثون، ولو كانت هذه التعابير متأصلة في لغة قريش لبقيت معروفة المدلول، وهنا نشير إلى أنه لا بد من وضع قاموس يراعى فيه جانب التاريخ. فإن المعاجم العربية جمعت الألفاظ والتعابير من هنا وهناك من غير أن تعين ما عرف في عصر ثم جهل، وما استعمل ثم تجافاه الاستعمال، وقد نجد من كتاب العصر الحاضر من يظن المعاجم صورة صادقة لما كان يذهب إليه العرب في طرائق التعبير وهو خطأ لو يعلمون شنيع!
وقد تنبه ابن فارس إلى التعابير التي لا يمكن الوصول فيها إلى تعيين المراد والمشتبه الذي لا يقال فيه اليوم إلا بالتقريب والاحتمال، وما هو بغريب اللفظ، ولكن الوقوف على كنهه معتاص. وذكر من ذلك قولنا: «الحين» و«الزمان» و«الدهر» و«الأوان»، فإنك لا تدري إذا قال الحالف: «والله لا كلمته حينًا أو زمانًا أو دهرًا» إلى أي حد يتصل الإعراض، وكذلك «بضع سنين» مشتبه.
وقد أراد ابن فارس أن يثبت للغة العرب خصائص ليست لغيرها من سائر اللغات، فزعم أنها انفردت بالبيان؛ لقوله جل ثناؤه: وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ.
ثم أعقب هذا الشاهد الذي لا يقيم حجته بهذه العبارة: «فإن قال قائل: فقد يقع البيان بغير اللسان العربي؛ لأن كل من أفهم بكلامه على شرط لغته فقد بين. قيل له: إن كنت تريد أن المتكلم بغير اللغة العربية قد يعرب عن نفسه حتى يفهم السامع مراده فهذا أخس مراتب البيان؛ لأن الأبكم قد يدل بإشارات وحركات له على أكثر مراده ثم لا يسمى متكلمًا، فضلًا عن أن يسمى بينًا أو بليغًا.
يا أصمعي، إن الغريب عندك لغير غريب! فقال: «يا أمير المؤمنين، ألا أكون كذلك وقد حفظت للحجر سبعين اسمًا.» وكان من آثاره أيضًا أن أفرد الصاحب بن عباد هذه المترادفات بكتاب!
ولقد جرى ذكر هذه «الثروة اللغوية» في درس طه حسين، فأشار إلى أن هذا غير طبيعي، أو أنه على الأقل إسراف، وهو يرجح أن كثرة المترادفات إلى هذا الحدث ليست إلا أثرًا من عبث الرواة ولعبهم بالجماهير، ويرى أنها ترجع إلى السياحات العديدة التي كان يرمي بها الرواة واللغويون إلى جمع ما تفرق من أحشاء البادية من مختلف الصفات والأسماء ليعودوا إلى الحواضر مثقلين بمادة المكاثرة والتعجيز، ثم لا يتحرجون من أن يقولوا: إن العرب تعرف للأسد خمسين ومائة اسم، وللسيف خمسمائة، وللحية مائتين.
فمن هم هؤلاء العرب أيها الناس؟ أليسوا في أنفسكم كل من أقلت الجزيرة العربية من شتيت القبائل وعديدة الأحياء؟ ولكن ألا تذكرون أننا حين نذكر لغة العرب لا نريد لغة قريش التي نزل بها القرآن؟ أفتستطيعون أن تثبتوا أن قريشًا عرفت للحجر سبعين اسمًا، وللكلب ما لا ندري كم تعدون من الأسماء؟
وقد غفل ابن فارس عن تأثير الإقليم في اللغة العربية، فظن التعابير التي انفرد بها العرب لما تتأثر به أسماعهم وأبصارهم فضلًا تطول به لغتهم سائر اللغات، وكذلك يرى أنه لا يمكن لغير العرب أن يعبر عن قولهم: «رحب العطن، وغمر الرداء، ويخلق ويفري، وهو ضيق المجم، قلق الوضين، وهو ألوى بعيد المستمر، وهو شراب بأنقع، وهو جذيلها المحكك، وعذيقها المرجب، وعي بالإسناف».
ولو تأمل ابن فارس قليلًا لعرف أن هذه التعابير ليست إلا تمثيلًا لما يراه العرب في باديتهم من الحيوان والنبات والجماد، وأنه من المعقول أن يكون للهند والفرس والروم تعابير كهذه أخذت مما تقع عليه أبصارهم من أنواع الموجودات، ولا يستطيع العرب أن يسيغوها؛ لأنها وقعت على غير ما يألفون.