الفصل التاسع

أبو علي الحاتمي

أبو علي محمد بن الحسن بن المظفر الحاتمي من الشخصيات القوية التي غابت أخبارها عن الناس فلم يعرفها منهم إلا القليل؛ وسبب ذلك يرجع إلى أن جمهورنا لا يعرف من أعيان الشعر والنثر والنقد إلا من وصلت إليه من آثارهم ضبابات كافية تميط اللثام عن بعض الجوانب من أدبهم المجهول، ونحن من بين الأمم لا نعرف من أدبنا القديم إلا قليلًا؛ لأن نهضتنا الحديثة تشبه يقظة المخمور الذي ينظر حواليه فتتراءى له صور وأشباح لا يميزها إلا بجهد شديد، من أجل ذلك قل عندنا من صحت عزيمته على النظر إلى أدب العرب بمثل ما ينظر الأوربيون إلى أدب اليونان والرومان، وسيرى القارئ في هذا الفصل بوارق من ذهن الحاتمي تشعره بأن من المخجل أن ينسى مثل هذا الرجل في عصر يزعم ناشئوه أنهم طلاب مجد، وأنهم حريصون على وصل ما انقطع من تراثهم الفكري المجيد.

ألف أبو علي الحاتمي عدة كتب في اللغة والأدب والنقد؛ منها حلية المحاضرة في صناعة الشعر، والموضحة في مساوي المتنبي، والهلباجة في صناعة الشعر، وسر الصناعة في الشعر أيضًا، والحالي والعاطل في الشعر كذلك، وكتاب المجاز في الشعر أيضًا.١ وهذا الإلحاح في الكتابة عن الشعر يدل على أنه كان من المولعين بدرس الشعر ونقده، وأنه كان من أئمة زمانه في هذا الباب، وقد ضاعت كتبه النقدية مع الأسف الموجع، ولم يبق منها إلا شواهد ضئيلة تذكي الحسرة في أنفس من يقدورن قيمة النقد الحق في دلالته على ثقابة الذهن، ومتانة العقل، وسلامة الذوق، وإفصاحه عن تطور الحياة العقلية في مختلف الأجيال.
ولنسارع فنقدم للقارئ كلمة حفظت في «زهر الآداب» تمثل فهم الحاتمي لوحدة القصيدة إذ يقول:

مثل القصيدة مثل الإنسان في اتصال بعض أعضائه ببعض، فمتى انفصل واحد عن الآخر وباينه في صحة التركيب غادر الجسم ذا عاهة تتخون محاسنه، وتعفي معالمه. وقد وجدت حذاق المتقدمين، وأرباب الصناعة من المحدثين، يحترسون في مثل هذه الحال احتراسًا يجنبهم شوائب النقصان، ويقف بهم على محجة الإحسان، حتى يقع الاتصال، ويؤمن الانفصال، وتأتي القصيدة في تناسب صدورها وأعجازها، وانتظام نسيبها بمديحها، كالرسالة البليغة والخطبة الموجزة لا ينفصل جزء منها عن جزء، وهذا مذهب اختص به المحدثون لتوقد خواطرهم، ولطف أفكارهم، واعتمادهم البديع وأفانينه في أشعارهم، وكأنه مذهب سهلوا حزنه، ونهجوا درسه.

فأما الفحول الأوائل ومن تلاهم من المخضرمين والإسلاميين فمذهبهم التعالم عن كذا إلى كذا، وقصارى كل أحد منهم وصف ناقته بالعتق والنجابة والنجاء، وأنه امتطاها فادّرع عليها جلباب الليل، وربما اتفق لأحدهم معنى لطيف يتخلص به إلى غرض لم يعتمده، إلا أن طبعه السليم، وصراطه في الشعر المستقيم، نضا بتاره، وأوقد بالبقاع ناره. فمن أحسن تخلص شاعر إلى معتمده قول النابغة الذبياني:

فكفكفت عني عبرة فرددتها
على النحر منها مستهلٌّ ودامع
على حين عاتبت المشيب على الصبا
وقلت ألما أصح والشيب وازع
وقد حال همٌّ دون ذلك شاغل
مكان الشغاف تبتغيه الأصابع
وعيد أبي قابوس في غير كنهه
أتاني ودوني راكس فالضواجع
وهذا كلام متناسب تقتضي أوائله أواخره، ولا يتميز منه شيء عن شيء، ولو توصل إلى ذلك بعض الشعراء المحدثين الذين واصلوا تفتيش المعاني، وفتحوا أبواب البديع، واجتنوا ثمر الآداب، وفتحوا زهر الكلام؛ لكان معجزًا عجبًا، فكيف بجاهل بدوي إنما يغترف من قليب قلبه، ويستمد عفو هاجسه.٢

أليس في هذه الفقرات دليل على أن الحاتمي كان بعيد الغور في نقد الشعر؟ ألا تسمو نظراته هذه إلى أدق ما وصل إليه النقاد في العصر الحديث؟ وأي تمثيل أصدق من تمثيل القصيدة بالإنسان في اتصال بعض أعضائه ببعض؟ يضاف إلى ذلك جرأته في رمي الجاهليين ومن تلاهم من المخضرمين والإسلاميين بقلة الفهم لأسرار الصناعة، وقصر ذلك على المحدثين الذين توقدت خواطرهم ولطفت أفكارهم واعتمدوا أفانين البديع. وإنما عدننا ذلك جرأة؛ لأن الرأي الغالب في تلك الأيام كان يميل إلى تفضيل القدماء واختصاصهم بالإمامة في الشعر ورمي من عداهم بالتخلف والإسفاف، على أن الحاتمي لم يفته أن يقرر أن البدوي الجاهل قد يغترف من قليب قلبه ويستمد عفو هاجسه فيأتي بالمعجز الذي يعز أحيانًا على العارفين بأسرار البيان.

ولكن هذه البراعة التي يمثلها ما بقي للحاتمي من الشذرات القليلة لم ترفع به كثيرًا في الأوساط الأدبية لعصره، ولم يتحدث عنه معاصروه إلا القليل، فما تعليل ذلك؟ إننا نفترض أن خمول الحاتمي يرجع إلى انصراف الناس عنه لصلفه وكبريائه وذهابه بنفسه إلى أبعد غايات الزهو والخيلاء، وقد حدثنا ياقوت أنه كان مبغضًا إلى أهل العلم فهجاه ابن الحجاج وغيره بأهاج مرة.٣
ولم يكن لهذا البغض من سبب — فيما نفترض — غير إسراف الحاتمي في العجب ودعواه التفرد بالحذق واللوذعية والذكاء، والحذلقة من أخطر ما يُرزأ به العلماء والأدباء، وهي تجلب إلى أصحابها من ألوان العدواة والبغضاء ما يذهب بما لهم من وطيد المجد وكريم الصيت، وقد يتفق لأهل العلم والأدب أن يشغلوا بالإعلان عن مواهبهم وكفاياتهم فيكون ذلك أسرع إلى هدمهم وتهوين أقدارهم في أنفس الناس. وكيف لا يضيق الجمهور صدرًا بحذلقة الحاتمي وهو يقول عن نفسه في مقدمة كتاب وضعه في سر صناعة الشعر:

وقد خدمت سيف الدولة — تجاوز الله عن فرطاته — وأنا ابن تسع عشرة سنة، تميل بي سنة الصبا وتنقاد بي أريحية الشباب بهذا العلم، وكان كلفًا به علقًا علاقة المغرم بأهله، منقبًا عن أسراره، ووزنت في مجلسه تكرمة وإدناء وتسوية في الرتبة — ولم تسفر خداي عن عذاريهما — بأبي علي الفارسي وهو فارس بالعربية وحائز قصب السبق فيها منذ أربعين سنة، وبأبي عبد الله بن خالويه وكان له السهم الفائز في علوم العربية تصرفًا في أنواعه، وتوسعًا في معرفة قواعده وأوضاعه، وبأبي الطيب اللغوي وكان كما قيل: حتف الكلمة الشرود حفظًا وتيقظًا، وتنازعت العلماء ومدحت في مصنفاتهم، وعددت في الأفراد الذين منهم أبو سعيد السيرافي وعلي بن عيسى الرماني وأبو سعيد المعلى، واتخذت بعضًا ممن كان يقع الإيماء عليه سخرة، وأنا إذ ذاك غزير الغرارة، تميد بي أسرار السرور، ويسري عليَّ رخاء الإقبال، وأختال في ملاءمة العز في بلهنية من العيش وخفض من النعيم، وخطوب الدهر راقدة وأيامه مساعدة.

فعلام يدل هذا الكلام؟ ألا يدل على أن الحاتمي كان مفتونًا بنفسه أشد الفتنة، ومسرفًا في الزهو أشنع الإسراف؟ وقد نفهم أن يدافع الرجل عن نفسه فيذكر من مناقبه ومحامده ما يشاء حين يرى الجمهور يجحد فضله، ويطمس محاسنه، ولكنا نعرف كذلك أن هذا لا يقع إلا من المشغوفين بالشهرة والصيت؛ لأنهم يتوهمون دائمًا أنهم مغبونون، وأن الجمهور لفضلهم كنود.

وقد اصطدم كبرياء الحاتمي بكبرياء المتنبي، وكانا متعاصرين يضمر كلاهما لصاحبه أقتم ألوان البغضاء. والشاعر والناقد حين يختصمان يصلان إلى أبشع صور التحامل والعدوان، ولا سيما إذا اصطبغت الخصومة بصبغة سياسية ظاهرها التعصب للأدب وباطنها التحزب الشنيع، وهذا هو الذي وقع في خصومة الحاتمي والمتنبي؛ فقد كان الحاتمي صديقًا أو تبعًا للوزير المهلبي، وكان المهلبي يبغض المتنبي بغضًا شديدًا لترفعه عن مدحه واتصاله بأنداده من الوزراء والرؤساء، وكذلك تربص الحاتمي وانتظر قدوم المتنبي إلى بغداد ليناظره ويؤلب العامة عليه ويزهدهم في شعره، فتم له من ذلك ما أراد.

ترك الحاتمي رسالتين في نقد المتنبي؛ أولاهما: خلاصة ما جرى في المجلس الذي تلاقيا فيه لأول مرة، وهي رسالة مغرضة بالطبع؛ لأنه تكلم وحده وقص ظروف المناظرة على هواه، ولكن ذلك لا يمنع من أن نصدق الحاتمي حين يذكر أنه ضايق المتنبي؛ لأننا نعرف أن كل ناقد أقوى من كل شاعر؛ لأن كل معول يؤثر في كل بناء، والناقد يستطيع كل شيء متى استباح لنفسه الظلم واختلاق العيوب، والمتنبي كان رجلًا واسع الشهرة، والمشاهير في الغالب جبناء، يتوهم أكثرهم أن سوء القالة يذهب بأمجد الأعمال، ويأتي على أرفع الأقدار، وبعض هذا الوهم صواب.

ولنترك الحاتمي يتحدث قليلًا لنرى خيلاءه وقد قارع المتنبي:
كان أبو الطيب المتنبي عند وروده مدينة السلام التحف رداء الكبر، وأذال ذيول التيه، وصعر خده، ونأى بجانبه، وكان لا يلقى أحدًا إلا نافضًا مذرويه،٤ رافلًا في التيه في برديه، يخيل إليه أن العلم مقصور عليه، وأن الشعر بحر لم يغترف نمير مائه غيره، وروض لم يرع نُوَّاره سواه، فدل بذلك مديدة … حتى تخيل أنه القريع الذي لا يقارع، والنزيع الذي لا يجارى ولا ينازع، وأنه رب الغلب، ومالك القصب، وثقلت وطأته على أهل الأدب بمدينة السلام، فطأطأ كثير منهم رأسه، وخفض جناحه، وطامن على التسليم له جأشه، تخيل أبو محمد المهلبي أن أحدًا لا يقدر على مساجلته ومجاراته، ولا يقوم لتتبعه بشيء من مطاعنه، وساء معز الدولة أن يرد عن حضرة عدوه رجل فلا يكون في مملكته أحد يماثله في صناعته ويساويه في منزلته، نهدت حينئذ متتبعًا عواره، ومتعقبًا آثاره، ومهتكًا أسراره، ومقلمًا أظفاره، وناشرًا لمطاويه، وممزقًا جلباب مساويه … إلخ.٥
والرسالة تقع في أربع عشرة صفحة كلها مقارعة ونضال، وهي تمثل طريقة الحاتمي في الكتابة ومذهبه في النقد، وفيها فقرات قوية؛ كقوله يجيب المتنبي وقد سأله عن خبره في تثاقل وفتور: «أنا بخير، لولا ما جنيت على نفسي من قصدك، وكلفت قدمي في المسير إلى مثلك.»٦ ونقدات الحاتمي في هذا المجلس لا تخرج عن أخذ المتنبي بالسرقات الشعرية وسوء التعبير في طائفة من الأبيات اشتهر أمرها بين الناقدين، وقد ختمت هذه الرسالة بفقرات تفصح عن سرور المهلبي ومعز الدولة بهزيمة المتنبي، وهي كذلك دليل على ما وصفنا به الحاتمي من الإسراف في التيه والخيلاء.
أما الرسالة الثانية فهي أعظم أثر وصلنا عن الحاتمي، وهي رسالة رد فيها حكم المتنبي إلى أصولها من كلام أرسططاليس، وقد وضع لها مقدمة صغيرة أراد أن يشعرنا بها أنه في نقده عف نزيه إذ حدثنا أنه يدافع عن المتنبي «حين اتهم بسرقة ما في شعره من أغراض فلسفية ومعان منطقية.»٧ لأن ذلك إن كان وقع من المتنبي «عن فحص ونظر وبحث فقد أغرق في درس العلوم، وإن يكن ذلك منه على سبيل الاتفاق فقد زاد على الفلاسفة بالإيجاز والبلاغة.»٨ وهو في الحالين على غاية من الفضل، ونهاية النبل.

وقد رأيت بعد الاطلاع على هذه «الرسالة الحاتمية» أن صاحبنا نال من المتنبي باللطف ما لم ينله بالعنف، فقد أخذ يسرد كلمات أرسططاليس ثم يعقبها بشعر المتنبي، فاستطاع بذلك أن يفضح المتنبي فضيحة شنعاء. وفي الحق أن هذا العمل كان غاية في اللؤم من جانب الحاتمي؛ لأن حكم المتنبي تبدو فطرية لأول وهلة، وذلك سر سحرها في أنفس القراء، ولكنها تبدو متكلفة مصنوعة حين تقرن إلى ما نقلت عنه من كلام أرسططاليس، وذلك سهم من النقد مسموم.

ومن أمثلة ذلك أن يقول المتنبي:

فإن قليل الحب بالعقل صالح
وإن كثير الحب بالجهل فاسد
وهو بيت مقبول، ولكنه أقل قيمة من الحكمة التي أخذ عنها في قول أرسططاليس: «يسير من ضياء الحس خير من كثير من حفظ الحكمة.»٩

وقول المتنبي:

يراد من القلب نسيانكم
وتأبى الطباع على الناقل
يبدو للقارئ متنافر المعنى بعض الشيء، ثم يُفضح تنافره حين ينظر إلى أصله في قول أرسططاليس: «روم نقل الطباع من رديء الأطماع شديد الامتناع.»١٠

وقول المتنبي:

إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا
أن لا نفارقهم فالراحلون هم
أقل عمقًا من قول أرسططاليس:
من لم يردك لنفسه فهو النائي عنك وإن كنت قريبًا منه، ومن يردك لنفسك فأنت قريب منه وإن تباعدت عنه.١١

وقول المتنبي:

لعل عتبك محمود عواقبه
فربما صحت الأجسام بالعلل
أقل وضوحًا من قول أرسططاليس:
وقد يفسد العضو لصلاح الأعضاء؛ كالكي والفصد اللذين يفسدان الأعضاء لصلاح غيرها.١٢

وقول المتنبي:

وما التيه طي فيهمو غير أنني
بغيض إليَّ الجاهل المتعاقل
أقل تعليلًا من قول أرسططاليس:
إن الحكيم تريه الحكمة أن فوق علمه علمًا فهو يتواضع لتلك الزيادة، والجاهل يظن أنه قد تناهى فيسقط بجهله فتمقته النفوس.١٣

وقول المتنبي:

ومن ينفق الساعات في جمع ماله
مخافة فقر فالذي فعل الفقر
منقول من قول أرسططاليس:
من أفنى مدته في جمع المال خوف العدم فقد أسلم نفسه للعدم.١٤

والرسالة الحاتمية تقع في خمس عشرة صفحة نقد بها مؤلفها نحو عشرين ومائة بيت من شعر المتنبي، وهي كما أشرنا طعنة نجلاء يهون بجانبها كل ما لقي المتنبي من خصومه المسرفين.

ولكن لا يتوهم القارئ أن الحاتمي أصاب في كل ما رمى به المتنبي من سرقة معاني أرسططاليس، فقد يتفق الرجلان أحيانًا في المعنى وينفرد المتنبي بجمال الصورة.

فقول المتنبي:

إذا اعتاد الفتى خوض المنايا
فأهون ما يمر به الوحول
أروع بلا جدال من قول أرسططاليس:
من استمرت عليه الحوادث لم يألم بحلولها.١٥

وقول المتنبي:

انعم ولَذَّ فللأمور أواخرٌ
أبدًا كما كانت لهن أوائل
معنى عادي، فلا قيمة للادعاء بأنه مسروق من قول أرسططاليس:
كل ما له أول تدعو الضرورة إلى أن له آخرًا.١٦

وقول المتنبي:

نحن بنو الموتى فما بالنا
نعاف ما لا بد من شربه
أفعل في النفس من قول أرسططاليس:
كره ما لا بد من كونه عجزٌ في صحة العقل.١٧

ولنا أن نأخذ على الحاتمي وقوفه عند أرسططاليس، كأن المتنبي لم يعرف فيلسوفًا سواه، وهذا يشعر بأن أرسططاليس كان معروفًا جدًّا عند العرب لذلك العهد، حتى استطاع الحاتمي أن يرجع إليه طائفة كبيرة من حكم المتنبي، ويشعر كذلك بأن الشعراء كانوا يتصرفون فيما يقرءون تصرف الخبرة والعقل، فقد نظر المتنبي إلى قول أرسططاليس: «ليس جمال الإنسان بنافع له إذا كان ميت الحس من العلم.»

ثم أداره في نفسه وما زال به حتى أغرقه في لجة من الشعر حين قال:

لا يعجبن مضيمًا حسن بزته
وهل يروق دفينًا جودة الكفن

ولنا أن نلاحظ أن الرسالة الثانية للحاتمي أوفر أدبًا من رسالته الأولى عن المتنبي، وقد يكون السبب في ذلك أنها كتبت بعد موت الشاعر، بدليل قوله في أول المراجعة: «قال المتنبي رحمه الله!»

ولنا أن نلاحظ كذلك أن الحاتمي كتب رسالته الثانية وقد اكتهل وغلب عليه الوقار وفارقه النزق الذي ساد في رسالته الأولى، وحسبنا أن نقرأ قوله في مقدمة الرسالة الثانية:
أما بعد؛ فإن أحق ما احتكمت إليه نفوس أولي النظر، وانقادت إليه آراء أهل الفكر، وجلت الشبه عنه نواظر المتصفحين، وأمضت به عزائمها قلوب المعتبرين: العدل، فإنه سنخ١٨ العقل، وحليف النهى، وصنو الفهم، وعدو الهوى.

هذا؛ وكان الحاتمي متين الشعر، كما كان رصين النثر، وهو الذي يقول:

لي حبيب لو قيل لي ما تمنى
ما تعديته ولو بالمنون
أشتهي أن أحل في كل جسم
فأراه بلحظ تلك العيون

وهو القائل في قصر الليل:

يا رب ليل سرور خلته قصرا
كعارض البرق في أفق الدجى برقا
قد كاد يعثر أولاه بآخره
وكاد يسبق منه فجره الشفقا

وهو القائل في وصف الثريا:

وليل أقمنا فيه نعمل كأسنا
إلى أن بدا للصبح في الليل عسكر
ونجم الثريا في السماء كأنه
على حلة زرقاء جيب مدنر
ومات رحمه الله سنة ٣٨٨، وكان أبوه كذلك شاعرًا، أثبت له صاحب اليتيمة عدة مقطوعات، فليرجع إليها القارئ هناك.١٩

هوامش

(١) ياقوت (٦ / ٥٠٢).
(٢) (٣ / ١٧، ١٨).
(٣) معجم الأدباء (٦ / ٥٠١).
(٤) المذروان، بالكسر: أطراف الألية، بلا واحد، أو هو المذري، ومن الرأس ناحيتاه، ومن القوس ما يقع عليها طرف من الوتر من أعلى وأسفل. وجاء ينفض مذرويه باغيًا متهددًا (قاموس).
(٥) ياقوت (٦ / ٥٦٥)، وقد وردت القصة أيضًا في وفيات الأعيان (٢ / ٢٣٢) باختلاف قليل.
(٦) ص٥٠٦.
(٧) الرسالة الحاتمية (ص١٤٤ من مجموعة التحفة البهية).
(٨) ص١٤٦.
(٩) ص١٤٦.
(١٠) ص١٤٥.
(١١) ص١٤٧.
(١٢) ص١٤٧.
(١٣) ص١٤٨.
(١٤) ص١٥٠.
(١٥) ص١٤٥.
(١٦) ص١٥٥.
(١٧) ص١٥٨.
(١٨) السنخ — بالكسر: الأصل.
(١٩) (٣ / ١٢).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤