الفصل الخامس

أبو محمد بن حزم

كان الناس يعرفون عن ابن حزم١ أشياء قليلة من حياته الخاصة، ولم يعرف الجمهور أكثر من أنه كان أكبر علماء الأندلس في عصره، ومن أشهر أئمة الإسلام وأعرفهم بالمذاهب الفلسفية والدينية التي تأصلت جذورها عند علماء المسلمين، وكتابه «الفصل في الملل والأهواء والنحل» كان ولا يزال من أهم المراجع لعلوم الفلسفة ومذاهب التوحيد.

ويعد ابن حزم أفصح كاتب عرفته اللغة العربية في الفقه والتشريع.

ولكن تبين أخيرًا أنه كان لذلك الإمام قلب خفاق، وأنه حمل راية الحب في زمانه واستهدف على عظمته للقيل والقال، وأول ما عرف ذلك كان في دوائر المستشرقين حين طبع كتابه «طوق الحمامة» في لندن ١٩١٤ بعناية المأسوف عليه الأستاذ بتروف. وقد أحدث ذلك الكتاب رجة عنيفة جدًّا في أوربا وتناولته المجلات الأدبية بالنقد والتحليل، وكان موجب تلك الضجة أنه لم يثبت أن كتابًا ألف في «فن الحب» قبل ذلك الكتاب لا في اللغات القديمة ولا في اللغات الحديثة؛ لأن أوربا في القرن العاشر للميلاد كانت معارفها قليلة جدًّا في الشئون الوجدانية، فكان من المستظرف حقًّا أن يكتشف الباحثون أنه كان في ذلك العصر كاتب عربي يتناول حديث الحب والعشق والهيام في تفصيل شائق جذاب، هو آية الآيات في فهم أسرار الأهواء والشهوات والقلوب، وذلك كله يقع من رجل كان إمامًا من أئمة الدين ومثالًا يحتذى في أدب النفس، وكرم الطبع، ومتانة الخلق.

وما كاد ينشر كتاب «طوق الحمامة» حتى أقبل على نقده وتصحيحه جماعة من كبار المستشرقين أشهرهم: جولد يزهير، ودوزي، وبروكلمان، والدكتور سنوك هوجرنيه، والمسيو مرسيه، وتسابق المستشرقون الألمان والنمسويون والهولنديون والفرنسيون والإنجليز والأمريكيون إلى استغلال ذلك الكتاب وتلخيصه أو ترجمته والتعليق عليه.

وكان تصحيحه يعد رياضة أدبية لكبار المستشرقين، فما زالوا يبدئون ويعيدون حتى جاء المسيو مرسيه فوضع بحثًا مهمًّا جدًّا بالفرنسية استدرك به كل ما فات أولئك المصححين من الأغلاط، وقد رأى أحد المصريين وهو في باريس أن يداعب المسيو مرسيه فعاد إلى طوق الحمامة فراجعه مراجعة دقيقة كشف بها طائفة من الأغلاط غفل عنها المسيو مرسيه حين أراد أن ينطق بالقول الفصل في تحرير ذلك الكتاب، ثم قدمت تلك التصحيحات إلى جامعة باريس فأقرها المسيو دي مومبين والمسيو ماسينيون.

في كتاب طوق الحمامة كلمة عن غرام ابن حزم، وهو يحدثنا بأنه كانت له صبوات في عهد الطفولة، وأنه قال قصيدة قبل بلوغ الحلم أولها:

دليل الأسى نار على القلب تلفح
ودمع على الخدين يهمي ويسفح
إذا كتم المشغوف سر ضلوعه
فإن دموع العين تبدي وتفضح
إذا ما جفون العين سالت شئونها
ففي القلب داء للغرام مبرح٢
ويرى ابن حزم أن المحبة لا تصح إلا بعد كثرة المشاهدة وتمادي الأنس، ويقول في ذلك:

وإني لأطيل العجب من كل من يدعي أنه يحب من نظرة واحدة، ولا أكاد أصدقه ولا أجعل حبه إلا ضربًا من الشهوة، وما لصق بأحشائي حب قط إلا مع الزمن الطويل، وبعد ملازمة الشخص لي دهرًا، وأخذي معه في كل جد وهزل، وكذلك أنا في السلو والتوق، فما نسيت لي ودًّا قط، وإن حنيني إلى كل عهد تقدم لي ليغصني بالماء، ويشرقني بالطعام، وقد استراح من لم تكن هذه صفته، وما مللت شيئًا قط بعد معرفتي به، ولا أسرعت إلى الأنس بشيء قط أول لقائي له، ولا رغبت الاستبدال إلى سبب من أسبابي مذ كنت لا أقول في الألّاف والإخوان وحدهم، لكن في كل ما يستعمل الإنسان من ملبوس ومركوب ومطعوم وغير ذلك، وما انتفعت بعيش ولا فارقني الإطراق مذ ذقت طعم فراق الأحبة، وإنه لشجى يعتادني وولوع هم ما ينفك يطرقني، ولقد نغص تذكري ما مضى كل عيش أستأنفه، وإني لقتيل الهموم في عداد الأحياء، ودفين الأسى بين أهل الدنيا، والله المحمود على كل حال لا إله إلا هو، وفي ذلك أقول شعرًا منه:

محبة صدق لم تكن بنت ساعة
ولا وريت حين ارتياد زنادها
ولكن على مهل سرت وتولدت
لطول امتزاج فاستقر عمادها
فلم يدن منه عزمها وانتفاضها
ولم ينأ عنها مكثها وازديادها
يؤكد ذا أنا نرى كل نشأة
تتم سريعًا عن قريب نفادها
ولكنني أرض عزازٌ صليبة
منيع إلى كل الغروس انقيادها
فما نفذت منها لديها عروقها
فليست تبالي أن يجود عهادها٣
ويرى ابن حزم أن دوام الوصل لا يودي بالحب، وله في ذلك كلمة لم أقرأ أبلغ منها في شعر ولا نثر، وانظر كيف يقول:
إني ما رويت قط من ماء الوصل ولا زادني إلا ظمأ، وهذا حكم من تداوى بدائه وإن رفه عنه سريعًا، ولقد بلغت من التمكن بمن أحب أبعد الغايات التي لا يجد الإنسان وراءها مرمى فما وجدتني إلا مستزيدًا، ولقد طال بي ذلك فما أحسست بسآمة ولا رهقتني قترة، ولقد ضمني مجلس مع بعض من كنت أحب فلم أجل خاطري في فن من فنون الوصل إلا وجدته مقصرًا عن مرادي وغير شافٍ وجدي ولا قاضٍ أقل لبانة من لباناتي، ووجدتني كلما ازددت دنوًا ازددت تلددًا،٤ وقدحت زناد الشوق نار الوجد بين ضلوعي. فقلت في ذلك المجلس:
وددت بأن القلب شق بمدية
وأُدخلت فيه ثم أطبق في صدري
فأصبحت فيه لا تحلين غيره
إلى منقضى يوم القيامة والحشر
تعيشين فيها ما حييت فإن أمت
سكنت شغاف القلب في ظلم القبر
وما في الدنيا حالة تعدل محبين إذا عدما الرقباء، وأمنا الوشاة، وسلما من البين، ورغبا عن الهجر، وبعدا عن الملل، وفقدا العزال، وتوافقا في الأخلاق، وتكافيا في المحبة، وأتاح الله لهما رزقًا دارًّا، وعيشًا قارًّا، وزمانًا هاديًا، وكان اجتماعهما على ما يرضي الرب في الحال.٥
وكان ابن حزم مغرمًا أشد الإغرام بتتبع أخبار العشاق والمحبين ممن عاصروه وبخاصة الكتاب والشعراء والوزراء، وكان يجد في ذلك متعة نفسية غريبة، ومن تلك الأخبار التي عرفها بنفسه أو نقلت إليه عن معاصريه كانت مادة كتابه «طوق الحمامة»، فهو يتحدث عن الواقع لا عن الخيال، وقد تلقط كثيرًا من محاسن العشاق ومساويهم، ودون في كتابه أخبارًا غريبة عن أهل العشق وأهل العفاف … ومن ذا الذي لا يستطيب قوله:

وإنى لأعلم من نأت دار محبوبه زمنًا ثم تيسرت له أوبة فلم يكن إلا بقدر التسليم واستيفائه حتى دعته نوى ثانيةٌ فكاد أن يهلك، وفي ذلك أقول:

أطلت زمان البعد حتى إذا انقضى
زمان النوى بالقرب عدت إلى البعد
فلم يك إلا كرة الطرف قربكم
وعاودكم بعدي وعاودني وجدي
كذا حائر في الليل ضاقت وجوهه
رأى البرق في داج من الليل مسود
فأخلفه منه رجاء دوامه
وبعض الأراجي لا تفيد ولا تجدي.»٦

ولننظر بأي رقة يتكلم عن رسائل الحب — وللقارئ أن يسأل نفسه بعد ذلك كيف صحت التجارب لرجل كان يعيش للفقه والفلسفة والدين في أواخر القرن الرابع وصدر القرن الخامس: «وللكتب آيات، ولقد رأيت أهل هذا الشأن يبادرون بقطع الكتب وبحلها في الماء وبمحو أثرها، فرب فضيحة كانت بسبب كتاب، وفي ذلك أقول:

عزيز عليَّ اليوم قطع كتابكم
ولكنه لم يلف للود قاطع
فآثرت أن يبقى وداد ويمتحى
مدام فإن الفرع للأصل تابع
فكم من كتاب فيه ميتة ربه
ولم يدره إن نمقته الأصابع

وينبغي أن يكون شكل الكتاب ألطف الأشكال وجنسه أملح الأجناس، ولعمري إن الكتاب للسان في بعض الأحايين؛ إما لحصر في الإنسان، وإما لحياء، وإما لهيبة. نعم حتى إن لوصول الكتاب إلى المحبوب وعلم المحب أنه قد وقع بيده ورآه للذة يجدها المحب عجيبة تقوم مقام الرؤية، وإن لرد الجواب والنظر إليه سرورًا يعدل اللقاء، ولهذا ما نرى العاشق يضع الكتاب على عينيه وقلبه ويعانقه، ولعهدي ببعض أهل المحبة ممن كان يدري ما يقول ويحس الوصف ويعبر عما في ضميره بلسانه عبارة جيدة، ويجيد النظر ويدقق في الحقائق لا يدع المراسلة وهو ممكن الوصل، قريب الدار، داني المزار، ويحكي أنها من وجوه اللذة، وأما سقي الحبر بالدمع فأعرف من كان يفعل ذلك ويقارضه محبوبه بسقي الحبر بالريق. وفي ذلك أقول:

جواب أتاني عن كتاب بعثته
فسكن مهتاجًا وهيج ساكنا
سقيت بدمع العين لما كتبته
فعال محب ليس في الود خائنا
فما زال ماء العين يمحو سطوره
فيا ماء عيني قد محوت المحاسنا
غدا بدموعي أول الخط بيننا
وأضحى بدمعي آخر الخط بائنا
ولقد رأيت كتاب محب إلى محبوبه وقد قطع يده بسكين له فسال الدم واستمد منه وكتب إليه الكتاب أجمع، ولقد رأيت الكتاب بعد جفوفه فما شككت أنه بصبغ اللك.٧

وفي هذه الفقرات صور لألوان من الحياة الوجدانية التي كانت يجيدها أهل الأدب والفلسفة وبعض رجال الدين في تلك العصور.

وفي اهتمام ابن حزم بتدوين تلك الأخبار دليل على أن العرب في الأندلس كانوا ينظرون إلى الحب في القرن العاشر بنفس العين التي كان ينظر بها الفرنسيون والإنجليز والألمان إلى الحب في القرن التاسع عشر.

ولم تكن تلك النظرة خاصة بعرب الأندلس، وإنما كانت معروفة عند العرب في الشرق، ومن العجب أن فقهاء الشريعة الإسلامية هم الذين انفردوا من بين رجال الأدب العربي بإجادة هذا النوع من التأليف، وخاصة فقهاء الظاهرية؛ كابن حزم، ومحمد بن داود صاحب كتاب الزهرة الذي ألفه لمعشوقه محمد بن جامع.

ودراسة الحب باب من علم النفس لا يتقنه إلا الأقلون، والناس يحسبون الكلام في الحب لونًا من العبث؛ لأنهم يغفلون عن طبائع النفس الإنسانية التي لا تخلو من صبوات في كهولة أو شباب.

وقد عرف كتاب الغرب وشعراؤه ومفكروه قيمة تلك الدراسات النفسية فأضافوا بها إلى علم النفس ثروة عظيمة لا تخطر لكتاب الشرق في بال.

وقد وصل ابن حزم إلى نتائج كبيرة من دراسته للحب والجمال، ففهمنا منه مثلًا أن الحسن يتلون وفاقًا لألفتنا له، فهو يذكر أنه يفضل الشعر الأشقر؛ لأن الفتاة التي أحبها لأول عهده بالحب كانت شقراء الشعر، وفي هذا يقول:
ولقد شاهدت كثيرًا من الناس لا يتهمون في تمييزهم، ولا يخاف عليهم سقوط في معرفتهم، ولا تقصير في حدسهم، قد وصفوا أحبابًا لهم في بعض صفاتهم بما ليس بمستحسن عند الناس ولا يُرضى في الجمال، فصارت هجيراهم وعرضة لأهوائهم ومنتهى استحسانهم، ثم مضى أولئك إما بسلو أو بين هجر أو بعض عوارض الحب وفارقهم استحسان تلك الصفات، ولا بان عنهم تفضيلها على ما هو أفضل منها في الخلقة٨ ولا مالوا إلى سواها، بل صارت تلك الصفات المستجادة عند الناس مهجورة عنده وساقطة لديهم إلى أن فارقوا الدنيا، وانقضت أعمارهم حنينًا منهم إلى من فقدوه وألفة لمن صحبوه.
وما أقول: إن ذلك كان تصنعًا، لكن طبعًا حقيقيًّا واختيارًا لا دخلة فيه ولا يرون سواه، ولا يقولون في طي عقدهم بغيره، وإني لأعرف من كان في جيد حبيبه بعض الوقص٩ فما استحسن أغيد ولا غيداء بعد ذلك، وأعرف من كان أول علاقته بجارية مائلة إلى القصر فما أحب طويلة بعد هذا، وأعرف أيضًا من هوى جارية في فمها فَوَه لطيف فلقد كان يتقذر كل فم صغير ويذمه ويكرهه الكراهية الصحيحة، وما أصف من منقوصي الحظوظ في العلم والأدب لكن عن أوفر الناس قسطًا في الإدراك وأحقهم باسم الفهم والدراية، دعني أخبرك أني أحببت في صباى جارية لي شقراء الشعر فما استحسنت من ذاك الوقت سوداء الشعر، ولو أنه على الشمس أو على صورة الحسن نفسه، وإني لأجد هذا في أصل تركيبي من ذلك الوقت، لا تواتيني نفسي على سواه ولا تحب غيره البتة.
وهذا العارض بعينه عرض لأبي (رضي الله عنه)، وعلى ذلك جرى إلى أن وافاه أجله.١٠

ومثل هذا الكلام النفيس يفسد بطول الشرح والتعليق، فليتأمله القارئ إن شاء، وليعلم أن هذا منهج جميل في علم النفس، وبمثل هذه الملاحظات الشخصية تتكون حقائق كثيرة في تقييد ألوان الطباع والغرائز والنفوس.

ولنعرض لرأي ابن حزم في طبيعة المرأة لنرى ما فطرت عليه في علاقاتها مع الرجال، فقد شقي الناس قبلنا في فهم ذلك المخلوق اللطيف الذي يقسم الخطوط في خبث ولؤم، ويقضي بن المحبين بمثل ما تقضي به الحية العمياء حين تدخل أبراج الحمام.

وفي ذلك متعة عقلية وروحية، فإن المرأة تبدو للرجل في صور مختلفة بعضها كريه وبعضها مقبول، وفقًا لما تتلون به من غدر أو وفاء، وهي في حاليها سم حلو المذاق، فهي سر ما نلقى في دنيانا من رشد وغي، وبؤس ونعيم.

وليعرف القارئ أولًا أن مثل هذه الدراسات لا يراد به أن تكون عونًا على فهم المرأة فستظل معقدة مهما كثرت الشروح والتفاسير، ولكن الجميل في مثل هذه الدراسات أنها تقدم إلى القارئ صورة حية لنفس صدقت في الحب؛ هي نفس ابن حزم، وهو رجل قليل الأمثال بين رجال الوجدان.

وإني لأعترف بأني أرى — حين أدرس مثل هذه الآراء — أن نفس الرجل لم تتغير في تذوق المرأة، وأن المرأة لم تتغير في حبها للرجل وطغيانها عليه، فنحن نحب أن نفترض أن هناك فروقًا جوهرية في الأذواق، والأحاسيس، وأن الزمان باعد بين القدماء والمحدثين في فهم طبائع الأشياء، ولكننا حين نستمع ما قال الأسلاف في صدق وإخلاص، نجد الطبيعة الإنسانية هي هي لم تتغير إلا بقدر ضئيل، وهذا هو السر في تعلقنا بالأدب القديم وحرصنا عليه، فقد يكون «القطم» لونًا لغويًّا يرجع إلى طرائق التعبير، ثم يظل الأدب على اختلاف العصور متقاربًا جدًّا في شرح أسرار النفوس.

كان ابن حزم منذ طفولته مغرمًا بدرس المرأة، ولننظر قوله:
لقد شاهدت النساء، وعلمت من أسرارهن ما لا يكاد يعلمه غيري؛ لأني ربيت في حجورهن ونشأت بين أيديهن ولم أعرف غيرهن، ولا جالست الرجال إلا وأنا في حد الشباب أو حين تبقل وجهي، وهن علمنني القرآن، وروينني كثيرًا من الأشعار، ودربنني في الخط، ولم يكن وكدي وأعمال ذهني مذ أول فهمي وأنا في سن الطفولة إلا تعرف أسبابهن والبحث عن أخبارهن وتحصيل ذلك، وأنا لا أنسى شيئًا مما أراه منهن، وأصل ذلك غيرة شديدة طبعت عليها، وسوء ظن في جهتهن فطرت به، فأشرفت من أسبابهن على غير قليل.١١

ويستخلص من هذه الفقرة أن تربية الأطفال وتعليمهم الخط والقرآن والأدب كان يوكل أحيانًا إلى النساء في الأندلس في أواخر القرن الرابع، ويستخلص منها أيضًا أن النساء في منازل الوزراء — كما هو الحال في جميع بقاع الأرض — كانت تقع منهن هفوات تلفت أنظار الأطفال وتحملهم على الشك وسوء الظن، والطفل كثير التطلع إلى أخبار من يعاشر من النساء.

ولم تقف معرفة ابن حزم للمرأة عند تلك الحدود الضيقة التي كان يتلقى فيها الدروس، بل اتفق وهو يافع أن أحب جارية كانت له اسمها «نعم»، وكانت أمنية المتمني، وغاية في حسن الخَلق والخُلق، وقد فجعته فيها الأقدار، واخترمتها الليالي وسنه دون العشرين، وكانت هي دونه في السن، وفي فجيعته بها يقول:
لقد أقمت بعدها سبعة أشهر لا أتجرد عن ثيابي، ولا تفتر لي دمعة على جمود عيني وقلة إسعادها، وعلى ذلك فوالله ما سلوت حتى الآن، ولو قبل فداء لفديتها بكل ما أملك من تالد وطارف، وما طاب لي عيش بعدها ولا نسيت ذكرها، ولا أنست بسواها، ولقد عفا حبي لها على كل ما قبله وحرم ما كان بعده.١٢
تحدث ابن حزم كثيرًا عن وفاء المرأة وغدرها، وتلك المسألة لا حكم فيها لغير الطباع والظروف، وأروع ما حدثنا به القصة الآتية:
أدركت بنت زكريا بن يحيى التميمي، وكانت متزوجة بيحيى بن محمد ابن الوزير يحيى بن إسحاق، فعاجلته المنايا وهما في أغض عيشهما، وأنضر سرورهما، فبلغ من أسفها عليه أن باتت معه في دثار واحد ليلة مات، وجعلته آخر العهد به وبوصله، ثم لم يفارقها الأسف بعده إلى حين موتها.١٣

وهذه قصة تستثير الدمع، وفيها أبلغ معاني الوفاء.

ويشبه هذه القصة الموجهة قوله في كلمة ثانية:
وأنا أخبرك عن أبي بكر أخي — رحمه الله — وكان متزوجًا بعاتكة بنت قند صاحب الثغر الأعلى أيام المنصور أبي عامر، وكانت التي لا مرمى وراءها في جمالها وكريم خلالها، ولا تأتي الدنيا بمثلها في فضائلها، وكانا في حد الصبا وتمكن سلطانه يغضب كل واحد منهما للكلمة التي لا قدر لها؛ فكانا لم يزالا في تغاضب وتعاتب منذ ثمانية أعوام، وكانت قد شغفها حبه وأضناها الوجد فيه وأنحلها شدة كلفها به، حتى صارت كالخيال المتوسم، لا يلهيها من الدنيا شيء، ولا تسر من أموالها بكثير ولا قليل إذ فاتها اتفاقه معها، وسلامته لها، إلى أن توفي أخي — رحمه الله — فما انفكت منذ بان عنها من السقم الدخيل والمرض والذبول إلى أن ماتت بعده بعام في اليوم الذي أكمل فيه هو تحت الأرض عامًا، ولقد أخبرتني عنها أمها وجميع جواريها أنها كانت تقول بعده: ما يقوى صبري ويمسك رمقي في الدنيا ساعة واحدة بعد وفاته إلا سروري وتيقني أنه لا يضمه وامرأة مضجع أبدًا، فقد أمنت هذا الذي ما كنت أتخوف غيره، وأعظم آمالي اليوم اللحاق به.١٤
والمرأة — كما عرفها ابن حزم — أكثر مواساة وإسعادًا في الحب من الرجل، وعند النساء من المحافظة على سر الحب والتواصي بكتمانه ما ليس عند الرجال. ويقول في ذلك:

وما رأيت امرأة كشفت سر متحابين إلا وهي عند النساء ممقوتة مستثقلة، وإنه ليوجد عند العجائز في هذا الشأن ما لا يوجد عند الفتيات؛ لأن الفتيات منهن ربما كشفن ما علمن على سبيل التغاير، وهذا لا يكون إلا في الندوة، وأما العجائز فقد يئسن من أنفسهن، فانصرف الإشفاق محضًا إلى غيرهن.

وإني لأعلم امرأة ميسورة ذات جوار وخدم، فشاع على إحدى جواريها أنها تعشق فتى من أهلها ويعشقها، وأن بينهما معاني مكروهة، وقيل لها: إن جاريتك فلانة تعرف ذلك، وعندها جلية أمرها، فأخذتها — وكانت غليظة العقوبة — فأذاقتها من أنواع الضرب والأذى ما لا يصبر على مثله جلداء الرجال، رجاء أن تبوح لها بشيء مما ذكر لها، فلم تفعل البتة … وإني لأعلم امرأة جليلة حافظة لكتاب الله عز وجل ناسكة مقبلة على الخير، وقد ظفرت بكتاب لفتى إلى جارية كان يكلف بها، وكان في غير ملكها فعرفته الأمر، فرام الإنكار فلم يتهيأ له ذلك. فقالت له: ما لك؟ وما ذا الذي عُصم؟ فلا تبال بهذا، فوالله لا أطلعت على سركما أحدًا أبدًا، ولو أمكنني أن أبتاعها لك من مالي لو أحاط به كله لجعلتها لك في مكان تصل إليها فيه لا يشعر بذلك أحد.١٥

هذه الفقرة تشعرنا أن الدنيا تغيرت، وأن زمن الخير مضى وراح!

وقد فكر ابن حزم في تعليل هذا الخلق، وهو يرى أن السر في تمكن طبع المواساة من النساء أنهن متفرغات البال من كل شيء إلا من الحب ودواعيه، والغزل وأسبابه، والتأليف ووجوهه، ولا كذلك الرجال؛ فإنهم مشغولون بطلب العلم وكسب المال ومكابدة الأسفار، ومباشرة الحروب، وملاقاة الفتن، وتحمل المخاوف، وعمارة الأرض، وهذا كله صارف للنفس في فهم معاني المواساة والإسعاد، ومن هنا يحدثنا ابن حزم أنه قرأ في سير ملوك السودان أن الملك منهم يوكل ثقة له بنسائه يلقي عليهن ضريبة من غزل الصوف يشغلن بها أبد الدهر؛ لأنهم يقولون: إن المرأة إذا بقيت بغير شغل إنما تتشوق إلى الرجال.١٦

وهذا الذي يشير إليه ابن حزم هو الحقيقة الباقية؛ فالفراغ كان ولا يزال هو الأصل في فساد النساء، وهو كذلك الأصل في فساد الرجال؛ فإن العلائق الدنسة المنحطة لا تقع إلا من الفارغين، ومن أجل ذلك يظن كثير من المفكرين أن النساء اللائي ينهضن ببعض الواجبات الفردية أو الاجتماعية لا يتعرضن لمثل ما تتعرض له النساء الفارغات مهما زعموا أن الاتصال بالناس هو أصل الفساد، وأن التحجب هو أصل الصيانة والعفاف.

ولا يتوهمن أحد أن المراد من شغل المرأة هو القضاء على الصلات الجنسية، فإن تلك الصلات أساس المجتمع، وهي كذلك أصل الحياة ومنها تفرعت البنات والأمهات، وإنما المراد أن نقضي بالرياضات المعقولة على النزق والطيش والإسراف في الشهوات، وملاك الأمر في هذا كله الحياء، وهو خلق يستفاد من إدراك المسئوليات والتبعات، وذلك لا يتيسر للفارغين العاطلين من رجال أو نساء.

ومن رأي ابن حزم أن المرأة والرجل سواء في الضعف، ليس أحدهما بأقوى من الآخر على ضبط النفس، فما من رجل عرضت له امرأة جميلة بالحب وطال ذلك ولم يكن ثم مانع إلا وقع في شرك الشيطان، ولا امرأة دعاها رجل باسم الحب إلا وأمكنته إن طال الزمان.

ولكن هل معنى ذلك أن الرجال والنساء جميعًا معرضون للفساد؟ اسمع ما يقول ابن حزم في هذا المعنى، فإنه خير ما قرأت في الأدب القديم والحديث:

ولست أبعد أن يكون الصلاح في الرجال والنساء موجودًا، وأعوذ بالله أن أظن غير هذا.

وإني رأيت الناس يغلطون في معنى هذه الكلمة — أعني: الصلاح — غلطًا بعيدًا، والصحيح في حقيقة تفسيرها أن الصالحة من النساء هي التي إذا ضُبطت انضبطت، وإذا قطعت عنها الذرائع امتسكت، والفاسدة هي التي إذا ضبطت لم تنضبط، وإذا حيل بينها وبين الأسباب التي تسهل الفواحش تحيلت أن تتوصل إليها بضروب من الحيل. والصالح من الرجال لا يداخل أهل الفسوق، ولا يتعرض للمناظر الجالبة للأهواء، ولا يرفع بصره إلى الصور البديعة التركيب، والفاسق من يعاشر أهل النقص وينشر بصره إلى الوجوه البديعة الصنعة، ويتصدى للمشاهد المؤذية، ويحب الخلوات المهلكات، والصالحان من الرجال والنساء كالنار الكامنة في الرماد لا تحرق من جاورها إلا بأن تحرك، والفاسقان كالنار المشتعلة تحرق كل شيء.١٧
كان ابن حزم — كما أشرنا — مغرمًا بدرس المرأة، ونضيف إلى ذلك أنه حدثنا بأنه قضى حياته في البحث عن أخبار النساء وكشف أسرارهن، وكن قد أنسن منه بكتمان فكن يطلعنه على غوامض أمورهن، فاطلع منهن على عورات كثيرة، وعرف من تنبههن في الشر ومكرهن فيه عجائب تذهل الألباء، ومثل هذا السلوك مهلكة للرجل، فإن التحدث إلى النساء والاطلاع على أسرارهن باب إلى الغواية. ولكن اسمع ما يقول في ذلك:
ومع هذا يعلم الله وكفى به عليمًا أني بريء الساحة، سليم الأديم، صحيح البشرة، نقي الحجزة،١٨ وإني أقسم بالله أجل الأقسام أني ما حللت مئزري على فرج حرام قط، ولا يحاسبني ربي بكبيرة الزنا منذ عقلت إلى يومي هذا، والله المحمود على ذلك والمشكور فيما مضى والمستعصم فيما بقي.١٩

والظاهر أن ابن حزم كان يجد حرجًا من الكتابة في الحب والحديث عن الجمال، وكان أهل زمانه يتهمونه بالميل إلى الإثم والفسوق، فجاء يقسم بالله أنه بريء الساحة سليم الأديم.

حلفت فلم أترك لنفسك ريبة
وليس وراء الله للمرء مذهب

وقد يهز ناس أكتافهم حين يسمعون مثل هذا القسم من رجل قضى حياته في درس أسباب الهوى وفهم أسرار الجمال؛ لأنهم لا يفهمون كيف يكون الحسن نفسه أهلًا للدرس، ومن هنا استبعد جماعة من الفقهاء أن يكون «طوق الحمامة» من وضع ابن حزم؛ ظنًّا منهم أنه لا يهتم بمثل هذه الأبحاث إلا الفاسقون، وكان ابن حزم من أئمة الإسلام، فلا يعقل — في ظنهم — أن يشغل بسفاسف الحب والجمال!

وهذا الغلط يرجع إلى حقيقة ثابتة؛ فإن الفسق حجاب كثيف يحول دون فهم الحسن والعشق، وأكثر الناس لا يتمثلون الحب إلا موصلًا بالفسوق، وهؤلاء عذرهم واضح إذا أنكروا على مثل ابن حزم أن يشغل نفسه بالكلام عن الحب والمحبين.

أقسم ابن حزم أنه لم يرتكب كبيرة منذ عقل «والحر مؤتمن وإن لم يقسم»، وهذا التصون من جانب ابن حزم هو سر عبقريته، فإن الجمال أعز وأمنع من أن يدرك أسراره من يسومونه الهوان حين يطمعون في الدون من ملذات الحياة؟

الجمال أهل للدرس، وليس بكثير عليه أن تنقضي في درسه أعمار الأئمة وعظماء الباحثين، فإنه أشرف وأنفس ما في الوجود.

والذين يستهجنون درس الجمال لا يدركون كيف كانت تكون المصيبة لو انصرف الباحثون إلى درس ما في وجوههم من دمامة، وما في طباعهم من عوج، وما في عقولهم من التواء.

إنما مثل الجمال كمثل النور المشرق الوهاج لا يثبت في مواجهته إلا أصحاء العيون، فلا يحسب قوم أننا نرتاب في عمى بصائرهم حين نراهم يستكثرون أن يشغل مثل ابن حزم بدرس أسرار الجمال!

هوامش

(١) كان ابن حزم خليقًا بأن يكتب في ترجمة حياته فصل خاص، ولكنا راعينا أن شخصيته فلسفية وفقهية قبل أن تكون أدبية، ولولا كتابه في الحب لما عرضنا لنثره الفني في هذا الكتاب، ولد أبو محمد بن حزم سنة ٣٨٣ في قرطبة، وتوفي سنة ٤٥٦، ومن جيد شعره:
وإن مكانًا ضاق عني لضيق
على أنه فسح مهامهه سهب
وإن رجالًا ضيعوني لضيع
وإن زمانًا لم أنل خصبه جدب
(٢) طوق الحمامة ص١٧.
(٣) طوق الحمامة ص٢٣، ٢٤.
(٤) التلدد: التلهف والحيرة.
(٥) ص٥٨، ٥٩.
(٦) ص٨١.
(٧) ص٣١، ٣٢. واللك — بالفتح: نبات يصبغ به، وبالضم: عصارته.
(٨) في الأصل: (الخليقة).
(٩) الوقص، بالتحريك: قصر العنق.
(١٠) ص٢٥، ٢٦.
(١١) ص٤٦، ٤٧.
(١٢) ص٨٥.
(١٣) ص٦١.
(١٤) ص١٠٩.
(١٥) ص٤٥، ٤٦.
(١٦) انظر ص٤٦.
(١٧) ص١١٦.
(١٨) الحجزة، بالضم: معقد الإزار، ومن السراويل موضع التكة.
(١٩) ص١١٨.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤