الفصل السادس

أبو منصور الثعالبي

كان عبد الملك بن محمد الثعالبي١ من أظهر الشخصيات في عصره، وقد صدق صاحب الذخيرة إذ قال فيه: «كان في وقته راعي تلعات العلم، وجامع أشتات النثر والنظم، ورأس المؤلفين في زمانه، وإمام المصنفين بحكم أقرانه، سار ذكره سير المثل، وضربت إليه آباط الإبل، وطلعت دواوينه في المشارق والمغارب، طلوع النجم في الغياهب.»٢

وعبارة ابن بسام هذه قد تبدو كأنها نوع من المدح الفضفاض الذي يقال بلا حساب، ولكن الواقع أن الثعالبي فوق كل مدح، وفضله على اللغة العربية أكبر من أن يقدر، وما ظنك برجل لو ضاعت مؤلفاته لفقدت اللغة العربية جزءًا عظيمًا جدًّا من ثروتها الأدبية، ومن الذي يستطيع أن يحدد خسارة الأدب لو ضاعت يتيمة الدهر أو ثمار القلوب؟

ولد الثعالبي سنة ٣٥٠ وتوفي سنة ٤٢٩، والثعالبي نسبة إلى خياطة جلود الثعالب. قيل له ذلك؛ لأنه كان فراء قبل أن يظهر أدبه ويعلو نجمه، ويبعد صيته، اتصل بطائفة من رجال الأدب والملك في عصره؛ منهم عبيد الله بن أحمد الميكالي، ومأمون بن مأمون خوارزم شاه، وكان — فيما يظهر — مرضيًّا عنه من جميع من صحبهم من الرؤساء والوزراء.

كان الثعالبي شاعرًا وكاتبًا، وإن لم يكن شعره في الطبقة العالية، وقد يستجاد قوله في النسيب:

لما بعثت فلم توجب مطالعتي
وأمعنت نار شوقي في تلهبها
ولم أجد حيلة تبقي على رمقي
قبلت عين رسولي إذ رآك بها

أما نثره فجيد، يغلب عليه السجع، ولكنه بريء من التكلف ومن الغموض. وانظر قوله في وصف عبيد الله الميكالي: «ومن أراد أن يسمع سر النظم، وسحر النثر، ورقية الدهر، ويرى صوب العقل، وذوب الظرف، ونتيجة الفضل، فليستنشد ما أسفر عنه طبع مجده، وأقره عالي فكره، من ملح تمتزج بأجزاء النفوس لنفاستها، وتشرب القلوب لسلاستها … وايم الله ما من يوم أسعفني فيه الزمان بمواجهة وجهه، وأسعدني بالاقتباس من نوره، والاغتراف من بحره، فشاهدت ثمار المجد والسؤدد تنتثر من شمائله، ورأيت فضائل أفراد الدهر عيالًا على فضائله، وقرأت نسخة الكرم والفضل من ألحاظه، وانتهبت فرائد الفوائد من ألفاظه، إلا تذكرت ما أنشدنيه — أدام الله تأييده — لابن الرومي:

لولا عجائب صنع الله ما نبتت
تلك الفضائل في لحم ولا عصب
وما أنس لا أنس أيامي عنده بفيروزآباد، إحدى قراه برستاق جوين، سقاها الله ما يحكي أخلاق صاحبها من سبل القطر! فإنها كانت بطلعته البدرية، وعشرته العطرية، وآدابة العلوية، وألفاظه اللؤلؤية، مع جلائل إنعامه المذكورة، ودقائق إكرامه المشهورة، وفوائد مجالسه المعمورة، ومحاسن أقواله وأفعاله التي يعيا بها الواصفون، أنموذجات من الجنة التي وعد المتقون، فإذا تذكرتها في تلك المرابع التي هي مراتع النواظر، والمصانع التي هي مطالع العيش الناضر، والبساتين التي إذا أخذت بدائع زخرفها، ونشرت طرائف مطارفها، طوي لها الديباج الخسرواني، ونفي معها الوشي الصنعاني، فلم تشبه إلا بشيمه، وآثار قلمه، وأزهار كلمه، تذكرت سحرًا وسيمًا، وخيرًا عميمًا، وارتياحًا مقيمًا، وروحًا وريحانًا ونعيمًا.٣

أهمية الثعالبي من الوجهة الفنية لا ترجع إلى شغله بأزمات النفوس، وشهوات القلوب، ونزوات الرءوس، وثورات العقول، وإن كان يظهر من ثنايا كلامه أنه رجل خبر النفس الإنسانية، وعرف ما ترزأ به من بلايا الحب والبغض، والرغبة والإشفاق، والطمع والإخفاق، وتمرس بأهوال الإقبال والإدبار، والغنى والفقر، والنعيم والبؤس، وعرف كيف يصطرع الشك واليقين، والهدى والضلال.

وإنما هو كاتب شغل بتدوين الفنون الأدبية واللغوية، فقدم لأهل عصره ولقراء اللغة العربية في مختلف الممالك وعلى اختلاف الأجيال غذاء قويًّا للعقول والمشاعر والأذواق، ووضع أمام قرائه صورًا مختلفة للقرائح والعبقريات التي عرفها بنفسه أو سمع بأخبارها، أو قرأ آثارها، حتى ليمكن الحكم بأن القرن الرابع كان يمحى أو يكاد لو لم يظفر بذلك الحافظ الأمين.

للثعالبي مؤلفات كثيرة؛ منها كتاب الكنايات، وضعه للكناية عما يستهجن ذكره ويستقبح نشره، أو يستحيا من تسميته، أو يتطير منه بألفاظ مقبولة تؤدي المعني، وتحسن القبيح، وتلطف الكثيف، فيحصل بها المراد مع العدول عما ينبو عنه السمع، ولا يأنس به الطبع.

وقد ذكر أنه لم يسبق بتأليف مثله، وهذا إن صح كان دليلًا على تفوقه في الابتكار.

ولكني رأيت أحمد بن محمد الجرجاني المتوفى سنة ٤٨٢ يذكر في مقدمة كتابه في الكنايات أن تصنيفه كذلك مبتكر مخترع لم يسبق إليه، ولم يزاحم من قبل عليه مع أن الثعالبي سبقه بنحو ثمانين سنة، ألا يمكن أن يكون الثعالبي أيضًا يدعي السبق ادعاءً، وأن المؤلفين من قبله قد نحوا ذلك المنحى في جمع أنواع التعريض والكنايات؟ ذلك ما لا نستطيع الجزم به، وإن كنا أثبتنا هذا الفرض لمناسبة ما ادعاه الجرجاني من الابتكار مع أنه مسبوق.

كتاب الكنايات كتاب جيد ممتع، لا تمل معاودته، ولا تنصرف النفس عن الرجوع إليه، وهو يمثل براعة العرب وافتنانهم في التعبير، ولعل أجمل ما فيه ما يستحيا من نقله، ولكننا نذكر بعض الكنايات المستملحة التي أودعها الثعالبي كتابه مع الاعتراف بأننا تخيرنا أقل ما فيه روعة؛ إيثارًا للتحفظ والوقار.

حكى الصولي عن المكتفي في حديث له قال: سهرت البارحة فذكرت بعض أدوية السهر، فأنست فنمت. قال: فقلنا له: والله ما سمعنا بأحسن من هذه الكناية قط. قال: والله ما سمعتها قبل وقتي هذا، وإنما ساقها اللفظ.٤

وكتب الصاحب: إن سيدي امتطى الأشهب فكيف وجد ظهره، وركب الطيار فكيف شاهد جريه، وهل سلم على حزونة الطريق، وكيف تصرف، أفي سعة أم ضيق؟ (وهذه قطعة من خطاب كتبه إلى صديق دخل على عروسه).

قال: ومن طريف الكناية عن أخذ العذرة٥ ما قرأته في أخبار بشار بن برد حين قال له يزيد بن منصور في دار المهدي: يا شيخ ما صناعتك؟ قال: ثقب اللؤلؤ. وأرى الصاحب أخذ منه قوله لأبي العلاء المعري وقد دخل بأهله:
وقد مضى يومان من شهرنا
فقل لنا هل ثقب الدر

وله يقول أيضًا:

قلبي على الجمرة يأبى العلا
فهل فتحت الموضع المقفلا
وهل فككت الكيس عن ختمه
وهل كحلت الناظر الأحولا

ولابن العميد في هذا المعني:

أنعم أبا حسن صباحًا
وازدد بزوجتك ارتياحا
قد رُضت طرفك خاليًا
فهل استلنت له جماحا
وطرقت منغلقًا فهل
سنَّى الإله له انفتاحا

وأنشد أبو الفضل الميكالي لنفسه في مداعبة كانت له بين أهله:

أبا جعفر قد فضضت الصدف
وهل إذ رميت أصبت الهدف
وهل جبت ليلًا بلا وحشة
لهول السرى سدفًا في سدف
قال الثعالبي: وبلغني عن ابن عمر القاضي أنه كان لا يجلس للخصوم حتى ينال من الطعام والشراب ويلم بأهله احتياطًا على دينه، وتعففًا بالحلال عما عساه تتوق نفسه إليه من الحرام إذا بدرت منه لحظة لمن عساها تتحاكم إليه من النساء الحسان. فقرأت لأبي إسحاق الصابي فصلًا في هذا المعنى بعينه من كتاب عهد سلطاني لبعض القضاة تعجبت من حسن عبارته، ولطف كنايته وهو:
وأمره أن يجلس للخصوم وقد نال من المطعم والمشرب طرفًا يقف به عند أول الكفاية، ولا يبلغ به إلى آخر النهاية، وأن يعرض نفسه على أسباب الحاجة كلها، وعوارض البشرية بأسرها، لئلا يلم به ملم، أو يطيف به طائف، فيحيلان عن رشده، ويحولان بينه وبين سداده.٦
ومن مؤلفات الثعالبي: «كتاب ثمار القلوب في المضاف والمنسوب»٧ وهو كتاب بناه على ذكر أشياء مضافة ومنسوبة إلى أشياء مختلفة يتمثل بها، ويكثر في النظم والنثر وعلى ألسن الخاصة والعامة استعمالها: كقولهم: غراب نوح، ونار إبراهيم، وذئب يوسف، وعصا موسى، وخاتم سليمان، وحمار عزير، وكقولهم: كنز النطف، وقوس حاجب، وقرطا مارية، وصحيفة المتلمس، وحديث خرافة، ومواعيد عرقوب، وجزاء سنمار، ويوم عبيد، وعطر منشم، ونسر لقمان … إلخ.

ونحن نقول بدون تحفظ: إن هذا الكتاب من أنفس ما كتب باللغة العربية، ولغة الثعالبي فيه تمتاز عن لغته في سائر كتبه بالخلو من السجع، والجري على السجية السمحة بلا تعثر ولا التواء، وقد جمع الثعالبي في كتابه هذا أكثر ما عرف لعهده من الطرف والنوادر والفكاهات والأقاصيص، وهو يصور علم معاصريه وجهلهم أتم تصوير، ولهذه الملاحظة قيمتها، فليس كل ما في كتاب ثمار القلوب حقائق ثابتة، وإنما هو مجموعة من الحقائق والأكاذيب التي قبلها معاصروه، وعدوها من العلم الصحيح.

فمن أغلاطه الكلام عن ثعابين مصر إذ ارتضى قول الجاحظ: الثعابين لا تكون إلا بمصر، وإليها حول الله تعالى عصا موسى عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: فَأَلْقَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ، يعني: أنه حولها ثعبانًا. والثعبان عجيب الشأن في إهلاك بني آدم، فليس له عدو إلا النمس وهي إحدى عجائب الدنيا، وذلك أنها دويبة متحركة، فإذا رأت الثعبان دنت منه فينطوي الثعبان عليها يريد أن يعضها ويأكلها فتجس في بطنها ريحًا، وتزفر زفرة فتقد الثعبان قطعتين، ولولا النمس لأكلت الثعابين أهل مصر، وهي هناك أنفع لأهلها من القنافذ لأهل سجستان.

وهذه فكرة غير صحيحة، فالثعابين موجودة في مصر وفي غير مصر، وليس للثعابين في مصر كل هذا الخطر، فقد تمضي القرون ولا يسمع بملدوغ، وإن كان في فطرة الأهالي عداوة الثعبان ومهاجمته حيث وجدوه، وهي فطرة الناس في جميع البلاد.

وقد عرض الثعالبي لصناعة أهل الصين فدلنا على أن معاصريه لم يكونوا بارعين في النقش والتصوير إذ قال: «وأهل الصين مختصون بصناعة اليد والحذق في عمل الطُّرَف، يقولون: أهل الدنيا ما عدانا عُمي إلا أهل بابل، فإنهم عور. ولهم الإغراب في خرط التماثيل، والإبداع في عمل النقوش والتصاوير، حتى إن مصورهم يصور الإنسان ولا يغادر منه شيئًا، ثم لا يرضى بذلك حتى يصوره ضاحكًا أو باكيًا، ثم لا يرضى بذلك حتى يفصل بين ضحك الشامت وضحك الخجل، وبين المبتسم والمستغرب، وبين ضحك المسرور وضحك الهازي، فيصور صورة في صورة.»٨

وهذا الذي يراه الثعالبي غريبًا من أهل الصين عادي لا غرابة فيه عند الأمم التي تُعنى بالتصوير، ولكن عذر الثعالبي وعذر معاصريه وأسلافه أن النقش والتصوير كانا مما يحاربه رجال الدين، فبقيت لذلك صناعات اليد خاملة أو ضعيفة عند كثير من الناس.

ومن دقائق الإضافات في ثمار القلوب أنها ترينا فهم العرب لكثير من الطباع الإنسانية والحيوانية، من ذلك «عرق الخال» فإن العرب تقول: عرق الخال لا ينام. يريدون أن عرق الخال أنزع من عرق العم، قالوا: والدليل على أن نصيب الأمهات في الأولاد أكثر وأنها على الشبه أغلب، أن أكثر ما تلد الأمهات الإناث، وكذلك جميع الحيوان، فإذا أردت أن تعرف حق ذلك من باطله فاحص سكان عشر دور من يمينك وعشر من شمالك وعشر من خلفك وعشر من أمامك، فانظر أيها أكثر، رجالهم أم نساؤهم، واعتبر ذلك في الإبل والبقر والشياه.

وهم يعللون ذلك بأن الولد لا يخلق من ماء الأب دون ماء الأم، والأب إنما يقذف مثل المخطة أو البصقة ثم يعتزل أو يغب أو يموت أو يكون حاضرًا، والأم منها الرحم وهو القالب الذي يطبع على الولد وتفرغ فيه النطفة كما يفرغ الرصاص المذاب في القالب، فإذا وقع ماء الرجل وماء المرأة في القالب وفي قرار الرحم فامتزجا تشعب خلق الولد على قدر تشعب الرحم، ثم لا يتغذى إلا من دم الأم، ولا يمص إلا من قواها، ولا يجذب إلا من الأجزاء التي فيها من لطائف الأغذية، وله ذلك ما دام في جوفها، فإذا ظهر غذته بلبنها، ولا يشك الأطباء في أن اللبن دم استحال عند خروجه، فهي تغذوه بدمها مرتين، وتزيد في خلقه من أجزائها دفعتين، ولذلك صار حب النساء للأولاد أشد من حب الرجال.٩

وهذا رأي قد يرتاب علماء اليوم في بعض تفاصيله، ولكنه في جملته يدل على دقة الملاحظة عند علماء العرب وعند جمهور العرب نفسه، فقد تغنى الشعراء في الجاهلية وفي صدر الإسلام بفضل الخال وعدوه من جملة الآباء.

وفي ثمار القلوب إشارة إلى كتيب للثعالبي اسمه «حشو اللوزينج» يبين غرامه بتصيد دقائق الأساليب، وحشو اللوزينج يضرب مثلًا للشيء يكون حشوه أجود من قشره، وذلك أن حشو اللوزينج خير منه فيشبه به الحشو في الكلام يستغنى عنه وهو أحسن منه، وهو نادر في كلام العرب، ومن أشهره قول عوف بن محلم:

إن الثمانين وبلغتها
قد أحوجت سمعي إلى ترجمان

فقوله: (وبلغتها) حشو مستغنى عنه، ومعنى الكلام يتم بدونه، ولكنه أحسن من جملته.

قال الثعالبي: سمعت أبا الفرج يعقوب بن إبراهيم يقول: سمعت أبا سعد رجاء يقول: دخلت يومًا على أبي الفضل بن العميد فقال لي: امض إلى أبي الحسين بن سعد فقل له: هل تعرف لقول عوف: (إن الثمانين وبلغتها) ثانيًا في كون الحشو أحسن من المحشو؟ قال: فسرت إليه وبلغته الرسالة، فقال: سألني عنه محمد بن علي بن الفرات فسألت أبا عمرو غلام ثعلب فقال: سألت عنه ثعلبًا فلم يأت بشيء، ثم بلغني أن عبيد الله بن عبد الله سأل المبرد عنه فأنشده قول عدي بن زيد لابنه زيد بن عدي في حبس النعمان:

فلو كنت الأسير ولا تكنه!
إذن علمت معدٌّ ما أقول

قوله: (ولا تكنه) حشو مستغنى عنه، ولكنه في الحسن نظير (وبلغتها).

واستطرد الثعالبي فنقل عن كتابه حشو اللوزينج أن المأمون قال يومًا ليحيى بن أكثم: هل تغذيت اليوم؟ فقال: لا، وأيد الله أمير المؤمنين! فقال المأمون: ما أظرف هذه الواو وأحسن موقعها! وذلك أنه لو قال: لا، أيد الله أمير المؤمنين، لكان أشبه بالدعاء عليه لا له، ولكنه استظهر بالواو وجعلها حاجزة بين «لا» و«أيد الله أمير المؤمنين» حذرًا من وقوع الشبهة. وكان الصاحب يقول: هذه الواو أحسن من واوات الأصداغ في خدود المر الملاح.١٠

وعناية الثعالبي بالبحث عما عجز عنه أئمة اللغة والأدب واضح الدلالة على شغفه بأسرار البيان، لا سيما وقد أطال التنقيب عن دقائق التعابير التي وقعت لمعاصريه؛ كالصاحب والميكالي والخوارزمي وبديع الزمان.

وفي ثمار القلوب تفسير روائي لبعض الأمثال؛ كقولهم: (ماء عناق) وهو مثل يضرب للداهية، وخلاصة حديثه أن رجلًا كان يسقي وبيته تلقاء وجهه فنظر فإذا برجل قد عانق امرأته يقبلها، فأخذ العصا وأقبل مسرعًا، فلما رأته المرأة أخفت الرجل فيما بين المتاع، فنظر يمنة ويسرة فلم ير شيئًا، فنظر في الأرض فلم يبصر أحدًا، فكذب بصره وكر راجعًا، فلما كان الورد الثاني قالت المرأة: هل لك في أن أكفيك السقي وتتورع اليوم؟ قال: نعم، إن شئت. فأقام في البيت، وانطلقت تسعى، وتحينت منه غفلة، فأخذت العصا وأقبلت حتى علت بها رأسه، فقال: ويلك! ما دهاك؟ قالت: أين المرأة التي رأيتك معها معانقًا لها؟ فقال: والله ما كان عندي امرأة! قالت: بل أنا نظرت إليها وأنا على الماء، فتحالفا، فلما أكثرت قال: إن تكوني صادقة فإن ماءكم هذا ماء عناق.١١

وفي كتاب ثمار القلوب كثير من أمثال هذه الأقاصيص، وهي فكاهات اخترعها الكُتاب تفسيرًا للأمثال التي جهلوا مواردها، وربما اخترعوا المثل والقصة وأذاعوهما في الناس، فيظن من لا رأي له أنها من أثر الواقع لا من صنع الخيال.

وأشهر مؤلفات الثعالبي «يتيمة الدهر» وهو كتاب عظيم أودعه أخبار من عاصره من الشعراء، ألفه سنة ٣٨٤، ثم استمر في تحريره والإضافة إليه عدة سنين، فكان يبني فيه وينقض ويمحو ويثبت، وصار مثله فيه كمثل من يتأنق في بناء داره التي هي عشه، وفيها عيشه، فلا يزال ينقض أركانها، ويعيد بنيانها، ويستجدها على أنحاء عدة وهيئات مختلفة، فإن مات فيها مغفورًا له انتقل إلى من جنة إلى أخرى، وورد من جنة الدنيا على جنة المأوى، كما قال.١٢
وقد قسم الكتاب أربعة أقسام، يشتمل كل قسم منها على أبواب وفصول:
  • القسم الأول: في محاسن أشعار آل حمدان وشعرائهم، وغيرهم من أهل الشام وما يجاورها ومصر والموصل.
  • والقسم الثاني: في محاسن أشعار أهل العراق والدولة الديلمية من طبقات الأفاضل، وما يتعلق بها من أخبارهم ونوادرهم وفصوص من فصول المترسلين منهم.
  • والقسم الثالث: في محاسن أشعار أهل الجبل وفارس وجرجان وطبرستان من وزراء الدولة الديلمية وكتابها وقضاتها وشعرائها وسائر فضلائها.
  • القسم الرابع: في محاسن أهل خراسان وما وراء النهر من الدولة السامانية والغزنية، والطارئين على الحضرة ببخارى من الآفاق والمتصرفين على أعمالها، وما يستظرف من أخبارهم، وخاصة أهل نيسابور والغرباء الطارئين عليها والمقيمين بها.

والثعالبي في اليتيمة يؤثر السجع، ولا يتركه إلا في أحوال قليلة، ولكن سجعه على كل حال مقبول.

وهو قليل التعليل لأحكامه على الكتاب والشعراء، فإذا بدا له أن يعلل ويحلل وينقد فعل بلا تعمق ولا استقصاء، ومن أمثلة تعليله قوله في تفضيل شعراء الشام وما يقاربها على شعراء سائر البلدان:
والسبب في تبريز القوم قديمًا وحديثًا على من سواهم في الشعر قربهم من خطط العرب، ولا سيما أهل الحجاز، وبعدهم عن بلاد العجم، وسلامة ألسنتهم من الفساد العارض لألسنة أهل العراق بمجاروة الفرس والنبط ومداخلتهم إياهم.١٣

وفي بعض الأحيان يطيل في ترجمة الشعراء والكتاب، ولا يفعل ذلك إلا حين يعرض لمن كثر خصومهم وأنصارهم وتشعبت فيهم الأقاويل؛ كالمتنبي والصاحب وأبي فراس، وفيما عدا ذلك يلم إلمامًا خفيفًا قد يصل به إلى ترجمة كاتب أو شاعر في نصف صفحة، وذلك جانب من الضعف في ذلك الكتاب النفيس.

الثعالبي في اليتيمة مفتون بالإسراف في إطراء من يتحدث عنهم من مشاهير الرجال، وله في ذلك تعابير تكاد تكون واحدة يدور بها هنا وهناك، فأبو علي الزوزني الكاتب «يغرس الدر في أرض القراطيس، وينشر عليه أجنحة الطواويس.»١٤
وأبو الفرج الببغا «ظرف الظرف، وينبوع اللطف، له كلام، بل مدام، بل نظام من الياقوت، بل حب الغمام.»١٥
وأبو القاسم الإسكافي «لسان خراسان وغرتها وعينها وواحدها وأوحدها في الكتابة والبلاغة، ومن لم تخرج مثله في البراعة والصناعة.»١٦
وبديع الزمان «نادرة الفلك، وفرد الدهر، وغرة العصر، ومن لم يلق نظيره في ذكاء القريحة، وسرعة الخاطر، وشرف الطبع، وصفاء الذهن، وقوة النفس.»١٧
وعبد الرحمن الشيرازي «روضة مجد وشرف، وحديقة فضل وأدب.»١٨
ومع أن الثعالبي يميل إلى الطنطنة في التعريف بالكتاب والشعراء، فإنه لا يلتزم هذه الخطة، وإنما يعود إليها في الحين بعد الحين، ويغلب على ظني أنه لا يفعل ذلك إلا حين تكون نفسه مستعدة لتنميق الإنشاء، وإذ ذاك لا يكون مشغولًا بتقديم الصفات الحقة لمن يترجم لهم، وإنما يشغل بعرض مواهبه هو وقدرته على التصرف في فنون الكلام، فتارة يقول في ابن نباتة السعدي «من فحول شعراء العصر وآحادهم، وصدور مجيديهم وأفرادهم، الذين أخذوا برقاب القوافي، وملكوا رقي المعاني، وشعره مع قرب لفظه بعيد المرام، ممر النظام، يشتمل على غرر من حر الكلام، كقطع الرياض غب القطر، وفقر كالغنى بعد الفقر، وبدائع أحسن من مطالع الأنوار وعهد الشباب، وأرق من نسيم الأسحار وشكوى الأحباب.»١٩
وحينًا يقول في محمد بن حامد: «يجمع بين قول فصل، وأدب جزل، ويؤلف بين أشتات المناقب، وينظم عقود المحامد، وله خط يستوفي أقسام الحسن، ونثر كنثر الورد، ونظم كنظم الدر.»٢٠
وآنًا يقول في المتنبي: «نادرة الفلك، وواسطة عقد الدهر في صناعة، شاعر سيف الدولة المنسوب إليه المشهور به، إذ هو الذي جذب بضبعه، ورفع من قدره، ونفق سعر شعره، وألقى عليه شعاع سعادته، حتى سار ذكره مسير الشمس والقمر، وسافر كلامه في البدو والحضر، وكادت الليالي تنشده، والأيام تحفظه.»٢١
ولنقيد هنا أن الثعالبي كثير الاستغلال لألفاظ معاصريه، فهو لا يملك كل ما في نثره من الاستعارات والتشبيهات، وله عذره في ذلك فقد شغل بجمع طرائف التعبير، حتى ليمكن الحكم بأن أخيلة غيره كانت تسبق إليه من حيث لا يحتسب، وإن كنا لا نبرئه من قصد السرقة ونية الانتهاب.٢٢

وأخيرًا نذكر أن من أقتل عيوب كتاب اليتيمة إغفال الوفيات، فقد يندر أن يذكر مؤلفه في أي عام مات من يحدثنا عنه، وفي أي وقت لقيه أو سمع به، ولو أن الثعالبي عُني بتدوين الوفيات لأدى لتاريخ الأدب حقًّا من أوجب الحقوق.

ومن أهم مؤلفات الثعالبي كتاب «فقه اللغة»، وهو كتاب جيد في ثلاثين بابًا، رتبت فيه الألفاظ على حسب المعاني، وليس كتاب فقه اللغة في جملته من صنع الثعالبي، فقد نقل فصولًا برمتها عن أمثال ابن دريد والخوارزمي وأبي الحسن الجرجاني، وابن الأعرابي، ولكن له فضل الترتيب والتبويب، ويزيد هذا الفضل إذا لاحظنا أن المصادر التي نقل عنها ضاعت ولم يبق لها أثر إلا في كتابه، وهو يذكر في الفصول التي ينقلها عن غيره أنه عرضها على مظانها فصح أكثرها أو قارب الصحة،٢٣ وقد يجد مؤلفًا وضع في تفصيل طائفة من المعاني فيعمد إليه فيخرج منه ما يراه أصلح لكتابه،٢٤ وفي الكتاب فصول مهمة فيما يجري مجرى الموازنة بين العربية والفارسية والرومية.٢٥
ويلاحظ على كتاب فقه اللغة أنه مختصر في موضوعه، وأنه خالٍ من الشواهد؛ بحيث يظن أن المؤلف حكم فيه هواه، ولو أنه ضرب الأمثال من الشعر والنثر لتحديد المعاني التي رَمَى إلى تحديدها في كتابه لأصبح ذلك السفر كتاب أدب ولغة، ولكان متعة لا تملها النفس، وأساسًا لدرس تطورات المعاني والألفاظ والتعابير.٢٦

ونحن — بعدما وجهناه من النقد إلى الثعالبي — نعترف بأنه رجل خفيف الروح، نقرأ كتبه ورسائله برغبة ولذة وشوق، وهو لذلك عميق الأثر في نشر ما عرف لعهده من أنواع الثقافة الأدبية، طيب الله ثراه!

هوامش

(١) كان الثعالبي بين كُتاب النقد الأدبي أليق من مكانه بين كتاب الآراء والمذاهب، ولكنا لاحظنا أن له اتجاهات نفسية تقربه من كُتاب هذا الباب.
(٢) وفيات (١ / ٥٢١).
(٣) انظر: مقدمة فقه اللغة.
(٤) ودواء السهر كناية عن النكاح وعن السكر.
(٥) العذرة: البكارة.
(٦) انظر: ص١١، ١٢، ١٤.
(٧) طبعه المرحوم محمد بك أبو شادي سنة ١٣٢٦ﻫ.
(٨) ص٤٣٢.
(٩) ص٢٨٥.
(١٠) انظر: بقية الشواهد في ص٤٨٩، ٤٩٠.
(١١) ص٤٤٧.
(١٢) ص٤ من المقدمة.
(١٣) ص٦.
(١٤) (٣ / ٧٠).
(١٥) (١ / ١٣٧).
(١٦) (٤ / ٢٩).
(١٧) (٤ / ١٦٧).
(١٨) (٣ / ٩٧).
(١٩) (٢ / ١٤٣).
(٢٠) (٤ / ١٦٠).
(٢١) (١ / ٧٨).
(٢٢) انظر: مقدمة سحر البلاغة ص١١٤، ١١٥، ج٥ زهر الآداب.
(٢٣) ص٤٣٢.
(٢٤) ص٤٣٩.
(٢٥) ص٤٥٠–٤٥٦.
(٢٦) مضت بعض الملاحظات على هذا الكتاب فيما كتبناه عن ابن فارس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤