الفصل العاشر

أبو إسحاق الصابي

تلك شخصية جذابة امتحنت بالحوادث، وعرفت أسرار الناس وصروف الزمان، فقد كان من حظ الصابي أن رأى الأيام في إقبالها وإدبارها، وشهد من ألوان البؤس أضعاف ما شهد من ألوان النعيم، فكان لذلك أثر في صفاء نفسه، ودقة حسه، والحظ الذي يعطي ثم يأخذ بالشمال ما أعطى باليمين أجدى على الكاتب والشاعر من الحظ المواتي الذي تتواتر ألطافه وعطاياه، وكذلك عرف الصابي صفو الحياة حين تولى الإنشاء ببغداد عن الخليفة وعن عز الدولة بختيار بن معز الدولة بن بويه سنة ٤٣٩، ثم واجه بأساء الحياة حين ملك عضد الدولة بغداد واعتقله في سنة ٣٦٧، وعزم على إلقائه تحت أرجل الفيلة لولا شفاعة الشافعين، وظل يعاني أحداث الأيام إلى أن توفي في شوال سنة ٣٨٤ ببغداد وعمره ٧١ سنة.

وأول ما يلفت النظر من أخلاق الصابي أنه كان رجلًا ألوفًا حلو الشمائل، بليغ التأثير في أنفس معاصريه، كان صابئيًّا، وعرض عليه عز الدولة أن يسلم فامتنع، وقيل: بذل له ألف دينار على أن يأكل الفول فلم يفعل — والصابئون يحرمون الفول والحمام١ — ولكن حرصه على دينه لم يحل بينه وبين التحلي بأكرم الخصال في رعاية الإسلام؛ فقد كان يصوم رمضان مساعدة وموافقة للمسلمين وحسن عشرة منه، ويحفظ القرآن حفظًا يدور على طرف لسانه وسن قلمه،٢ وفي هذا أصدق الدلالة على أن الرجل كان سليم الذوق، كريم الطبع، تجافت نفسه عن معاداة الإسلام وترفع قلبه عن إضمار البغض للمسلمين.

وفي حفظه القرآن كفاية لعصمة روحه من وضر الشرك وقبح الزيغ، فإن القرآن أقوى ما عرفنا من الآثار الأدبية في حمل حافظه على الأنس به والخضوع له والتسليم بما يدعو إليه من صدق الإيمان، والصداقة الروحية أقوى الصداقات، فقد نجد عند أنصار اللغة العربية من مختلف الديانات روحًا إسلاميًّا عاليًا يسمو بلطفه وكرم جوهره عن أرواح كثير ممن وقع إسلامهم في ظل الأوضاع والتقاليد، وقد يظن أن لا حاجة إلى مثل هذه الوقفة عند الكلام عن مجاملة الصابي للمسلمين، لولا أني أرى فيها مظهرًا كبيرًا من نبل النفس، وعظمة الروح، فليس باليسير أن يسمو الرجل عن الأحقاد الصغيرة التي يوجبها اختلاف العقائد، وليس من السهل أن يصل الرجل إلى حقيقة العظمة الروحية حين يرى القرآن أجل من أن يعادى، ويراه لذلك جديرًا بالحفظ والإجلال.

وقد جوزي الصابي على هذا الرفق أجمل جزاء، فصحت له صداقة الشريف الرضي إمام الأشراف في عصره، وأصدق شاعر أفصح من نوازع الوجدان، ومهما قدرنا الظروف التي جمعت بين الشريف الرضي وبين الصابي وافترضنا ما شئنا من أسباب الوفاق السياسي الذي جعل من الصابي نصيرًا للشريف٣ فلن نستطيع أن ننكر أن لوفاء الصابي وكرم نحيزته وطهارة قلبه أكبر الأثر في التوفيق بين تينك النفسين الغاليتين، ويكفي أن يعرف القارئ أن الشريف الرضي بكى الصابي حين مات بقصيدة تعد من روائع شعره، قصيدة طويلة بلغت ٨٢ بيتًا، وهي في طولها محكمة النسج، جيدة السبك، تنبئ عن لوعة صادقة وحزن عميق.

ومن الخير أن نشير إلى أن الرضي صور في تلك القصيدة جانبين من أهم الجوانب في بكاء مثل ذلك الفقيد؛ الأول: حزنه لفقده، والثاني: نكبة الأدب في ذلك القلم البليغ. ولننظر كيف صور حزنه وتفجعه في قوله:

بُعدًا ليومك في الزمان فإنه
أقذى العيون وفت في الأعضاد
لا ينفد الدمع الذي يبكى به
إن القلوب له من الأمداد
أعزز عليَّ بأن أراك وقد خلت
من جانبيك مقاعد العواد
أعزز عليَّ بأن يفارق ناظري
لمعان ذاك الكوكب الوقاد
أعزز عليَّ بأن نزلت بمنزل
متشابه الأمجاد والأوغاد

إلى أن يقول:

يا ليت أني ما اقتنيتك صاحبًا
كم قُنية جلبت أسى لفؤادي
برد القلوب لمن تحب بقاءه
مما يجر حرارة الأكباد
ويقول من لم يدر كنهك إنهم
نقصوا به عددًا من الأعداد
هيهات أدرج بين برديك الردى
رجل الرجال وأوحد الآحاد

ويقول في تعليل ما كان بينهما من الود على بعد ما بينهما من الأصول والأنساب:

الفضل ناسب بيننا إن لم يكن
شرفي مناسبه ولا ميلادي
إن لم تكن من أسرتي وعشيرتي
فأنت أعلقهم يدًا بودادي
لو لم يكن عالي الأصول فقد وفى
شرف الجدود بسؤدد الأجداد

ويقول في الحنين إلى أيامهما الخوالي، وضيق الأرض بالباكي بعد ذهاب الأليف:

ليس التنافث بيننا بمعاود
أبدًا وليس زماننا بمعاد
ضاقت عليَّ الأرض بعدك كلها
وتركت أضيقها عليَّ بلادي
لك في الحشا قبر وإن لم تأوه
ومن الدموع روائح وغوادي
سلُّوا من الأبراد جسمك وانثنى
جسمي يسل عليك في الأبراد
إن الدموع عليك غير بخيلة
والقلب بالسلوان غير جواد
سودت ما بين الفضاء وناظري
وغسلت من عيني كل سواد
ري الخدود من المدامع شاهد
أن القلوب من الغليل صواد
ما كنت أخشى أن تضن بلفظة
لتقوم بعدك لي مقام الزاد٤
وفي هذه القطع التي اخترناها بيان لتلك الألفة الوثيقة التي كانت بين ذينك الرجلين، وقد عوتب الشريف على هذه القصيدة،٥ واستكثر الناس عليه في دينه وجاهه أن يبكي رجلًا صابئًا بمثل هذا الشعر الحزين، ولكنه أجاب بأنه إنما بكاه لفضله. وأي فضل هذا الذي ينسي الشريف الرضي منزلته الدينية والاجتماعية؟ إنه فضل ذلك الرجل المهذب الذي رأى من حسن العشرة أن يصوم رمضان ويحفظ القرآن.

أما القطعة التي وقعت في هذه القصيدة وصفًا لبلاغة الصابي فهي غاية في الجودة، وهي شاهد على احترام الشريف لأسلوبه وإعجابه ببراعته، ولننظر كيف يقول:

وصحائف فيها الأراقم كمنٌ
مرهوبة الإصدار والإيراد
تدمي طوائفها إذا استعرضتها
من شدة التحذير والإبعاد
حمر على نظر العدو كأنما
بدم يخط بهن لا بمداد
يقدمن إقدام الجيوش وباطلٌ
أن ينهزمن هزائم الأجناد
وتكون سوطا للحرون إذا ونى
وعناق عنق الجامح المتمادي
ترقى وتلدغ في القلوب وإن يشأ
حط النجوم بها من الأبعاد
ومما يتصل بنبل الصابي وسموه ورغبته في حسن الأحدوثة، ورفعة شأنه بين النابهين من معاصريه ما وقع بينه وبين المتنبي؛ ذلك أنه راسل أبا الطيب في أن يمدحه بقصيدتين ووسط بينه وبينه رجلًا من وجوه التجار، فقال أبو الطيب:

قال: والله ما رأيت بالعراق من يستحق المدح غيرك، ولا أوجب عليَّ في هذه البلاد أحد من الحق ما أوجبته، وأنا إن مدحتك تنكر لك الوزير — يعني: المهلبي — وتغير عليك لأنني لم أمدحه، فإن كنت لا تبالي هذه الحال فأنا أجيبك إلى ما التمست، وما أريد منك منالًا، ولا عن شعري عوضًا.

وكان الصابي عرض عليه خمسة آلاف درهم،٦ فكان المتنبي بذلك أعرف منه بمقتضيات الأحوال، وفي هذا الخبر بيان لمنزلة الصابي في صدر رجل كالمتنبي، وإشارة إلى ما كان يسمو إليه من التطلع إلى حظوظ الوزراء والملوك الذين ظفروا بمدائح ذلك الشاعر العظيم.
وقد نالت الدنيا من الصابي ما نالت، وطمع الصاحب بن عباد في استقدامه إليه تشوقًا أو تشرفًا، ولكن الصابي احتمل عدوان زمانه وظلم أيامه، ولم يتواضع للاتصال بالصاحب صلة التابع بالمتبوع بعد أن كان من نظرائه في أيام الإقبال.٧
ومن العجيب أن هذا الإباء لم يغير الصاحب الذي عرف عنه الطمع المفرط في استعباد الكتاب والشعراء، فظل يحنو عليه ويبره ويعترف بأنه أحد أربعة من كتاب الدنيا في عصره، وفي أخبار الصاحب٨ اعتذار رقيق من الصابي عن تخلفه عن حضرة الصاحب.
تلك الجوانب المشرقة من نفس ذلك الكاتب جعلت منه قيثارة إنسانية كثيرة الرجع والحنين، لقد عرف حلو العيش ومره، فكان له بذلك أصدقاء أدناهم منه النعيم وأقصاهم عنه البؤس، وتلك أزمة يعانيها كل رجل كريم النفس عرف بأساء الحياة ولينها، ورأى كيف تتغير الأخلاق وتتبدل النفوس. ولننظر كيف يقول في خطاب بعض الأصدقاء:

لو حملت نفسي على الاستشفاع والسؤال، لضاق عليَّ فيه المرتكض والمجال؛ لأن الناس عندنا ما خلا الأعيان الشواذ الذين أنت — بحمد الله — أولهم طائفتان: طائفة مجاملة ترى أنها قد وفتك خيرها، إذا كفتك شرها، وأجزلت لك رفدها، إذا أجنبتك كيدها، ومكاشفة تنزو إلى القبيح نزو الجنادب، أو تدب دبيب العقارب، فإن عوتبوا حسروا قناع الشقاق، وإن غولطوا تلثموا بلثام النفاق، والفريقان في ذلك كما قلت منذ أيام:

أيا رب كل الناس أبناء علة
أما تعثر الدنيا لنا بصديق!
وجوهٌ بها من مضمر الغل شاهدٌ
ذوات أديم في النفاق صفيق
إذا اعترضوا عند اللقاء فإنهم
قذى لعيون أو شجا لحلوق
وإن أظهروا برد الوداد وظله
أسروا من الشحناء حر حريق
أخو وحدة قد آنستني كأنني
بها نازل في معشر ورفيق
فذلك خير للفتى من ثوائه
بمسبعة من صاحب وصديق٩

وبمناسبة هذا الشعر نقرر أن الصابي يمتاز بين معاصريه من الكتاب برقة الشعر وعذوبته، ويكاد يمر على أنه شاعر فحل، ولهذا أهميته في تقدير كفايته النثرية، إذا لاحظنا أن النثر الفني الذي أغرم به معاصروه هو نثر شعري، لا يختلف عن الشعر إلا في الوزن وفي بعض الأغراض.

ومن جيد شعره قوله في القد الرشيق يشبه بالغصن الرطيب:

إن نحن قسناك بالغصن الرطيب فقد
خفنا عليك به ظلمًا وعدوانا
الغصن أحسن ما نلقاه مكتسيًا
وأنت أحسن ما نلقاك عريانا

وقوله في أثر العناق:

إلى الله أشكو ما لقيت من الهوى
بجارية أمسى بها القلب يلهجُ
إذا امتزجت أنفاسنا بالتزامنا
توهمت أن الروح بالروح يمزجُ
كأني وقد قبلتها بعد هجعة
ووجدي ما بين الجوانح يلعج
أضفت إلى النفس التي بين أضلعي
بأنفاسها نفسًا إلى الصدر تولج
فإن قيل لي اختر أيما شتت منهما
فإني إلى النفس الجديدة أحوج
وبديع الزمان في المقامة الجاحظية يدلنا على فهم أهل ذلك العصر للرجل البليغ، فهو عندهم: «من لم يقصر نظمه عن نثره، ولم يزر كلامه بشعره.»١٠ وكذلك كان الصابي؛ فهو يجيد في الصناعتين إجادة لم تتفق لغيره إلا قليلًا.

هوامش

(١) ياقوت (١ / ٣٢٤).
(٢) ياقوت (١ / ٣٢٦).
(٣) ص٣ من مقدمة الديوان.
(٤) تجد بقية القصيدة في الصفحات ٢٩٤–٢٩٨ من ديوان الشريف الرضي ج١.
(٥) ابن خلكان (١ / ٢١).
(٦) ياقوت (١ / ٣٤٦).
(٧) ياقوت (١ / ٧٣٧).
(٨) (٢ / ٣٣٥، ٣٣٦).
(٩) ياقوت (١ / ٣٤٠، ٣٤١).
(١٠) راجع: المقامة الجاحظية ص٧٧.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤