الفصل الثالث عشر

نثر ابن شهيد

اتفق من ترجموا لابن شهيد على وصفه بالبراعة في الإنشاء، فقال ابن حيان: «كان أبو عامر يبلغ المعنى ولا يطيل سفر الكلام، وإذا تأملته ولسنه، وكيف يجر في البلاغة رسنه، قلت عبد الحميد في أوانه، والجاحظ في إبانه، والعجب منه أنه كان يدعو قريحته لما شاء نظمه ونثره في بديهته ورويته، فيقود الكلام كما يريد من غير اقتناء لكتب، ولا اعتناء بالطلب، ولا رسوخ في الأدب، فإنه لم يوجد له — رحمه الله — فيما بلغني بعد موته كتابٌ يستعين به على صنعته، ويشحذ من طبعه إلا ما قدر له، فزاد ذلك في عجائبه، وإعجاز بدائعه، وكان في تنميق الهزل والنادرة الحادة أقدر منه على سائر ذلك، وشعره عند أهل النقد تصرف فيه تصرف المطبوعين، فلم يقصر عن غايتهم، وله رسائل كثيرة في فنون الفكاهة وأنواع التعريض والأهزال، قصار وطوال، برز فيها شأوه، وأبقاها في الناس خالدة، وكان في سرعة البديهة وحضور الجواب وحدته مع رقة حواشي كلامه، وسهولة ألفاظه، وبراعة أوصافه، ونزاهة شمائله وأخلاقه — آيه من آيات خالقه.»١
وقال الثعالبي: «فنثره في غاية الملاحة، وشعره في غاية الفصاحة.»٢
وقال ابن بسام: «وقد أخرجت أنا من أشعاره الشاردة، ورسائله الباقية الخالدة، ونوادره القصار والطوال، وتعريضاته السائرة الأمثال، ما يحل له الوقور حُباه، ويحن معه الكبير إلى صباه.»٣

وقال الحناط وهو يهاجمه: «الإسهاب كلفة، والإيجاز حكمة، وخواطر الألباب سهام يصاب بها أغراض الكلام، وأخونا أبو عامر يسهل نثرًا، ويطيل نظمًا، شامخًا بأنفه، ثانيًا من عطفه، مخيلًا أنه أحرز السبق في الآداب وأوتي فصل الخطاب، فهو يستصغر أساتيذ الأدباء، ويستجهل شيوخ العلماء.

وابن اللبون إذا ما لُزَّ في قرن
لم يستطع صولة البزل القناعيس٤

وهذه الآراء التي نقلناها عن ابن حيان والثعالبي والحناط تمثل رأي جمهور الناقدين في ابن شهيد، وتدلنا على أنه شغل الناس حينًا من الزمان، ولو انتقلنا إلى رأيه في نفسه لرأيناه مفتونًا أشنع الفتون بما اعتقده من إجادة النظيم والنثير، والتفوق البالغ على كتاب المشرق والمغرب، وقد آن أن يوزن نثره بمعيار النقد ليعرف ما فيه من الزائف والصحيح.

سئل أبو العلاء المعري رأيه في شعر ابن هانئ الأندلسي فأجاب: «رحى تطحن قرونًا» وهو جواب حذق وذكاء، فضلًا عما فيه من روعة التصوير، وأخشى أن يكون الأمر كذلك في نثر ابن شهيد، فهو في الأكثر جعجعة وقعقعة وقلقلة في غير نفع ولا غناء، ويسوءنا والله أن يكون ذلك ما نراه في نثر ذلك الرجل الذي نعتقد فيه دقة الفهم، ورقة الطبع، وسلامة الذوق، ولكن ما الحيلة وقد قلبنا نثره على وجوهه، وراجعنا ما بقي منه أكثر من عشرين مرة، فلم نزد إلا اقتناعًا بأنه كان في إنشائه من المتكلفين.

وربما كان من أسباب الالتواء الذي نشهده في نثر ابن شهيد غرام الرجل — كان — بمقارعة كتاب المشرق، ومواجهة كتاب المغرب بألوان من الفن كان لها في زمانه بريق يغشي العيون، وكان النثر في ذلك العصر قد أخذ ينافس الشعر منافسة جدية، واستطاع ابن شهيد أن يناضل معاصريه برسائل محبرة موشاة، تؤدي في عالم النثر ما كانت تؤدي النقائض في عالم الشعر، فوقع له من الإفليلي والحناط وغيرهما منافرات كان لها في مجالس المغرب دوي شديد، هذا مع أن الرجل كان من فحول الشعراء وكان يستطيع أن يقارع خصومه بالشعر، وأن يقيم من المعارك الشعرية ما يعيد به عهد الأخطل والفرزدق وجرير من شعراء الهجاء، ولكنه أراد أن يحيي في بلاده معارك نثرية كالمعارك التي كانت تقع في الشرق بين أمثال الخوارزمي وبديع الزمان. وفي هذا إغناء للنثر وسعيٌ إلى إمداده بمختلف المعاني والأغراض، ولكنه انحدار بالنثر إلى موضوعات لا يصلح لها إلا قليلًا، فإن الهجاء كما تسيغه الطبيعة العربية لا يؤدى إلا بالبيت السائر أو الكلمة الشرود.

ومع ما في نثير ابن شهيد من القلق والغموض والاضطراب فإنه يغري القارئ بالبحث عما فيه من نتاج الفكر والذكاء، وهو يشبه بعض التلال التي يوقن المتطلع بأن فيها كنوزًا، فلا يزال يقلب أكداس الخزف والتراب حتى يصل إلى بعض ما يُنشد من الذهب الدفين.

ومن أمثلة ذلك أنه اندفع مرة يشتم نحاة قرطبة، ويقرع أبا القاسم الإفليلي فلم يقل ذا بال، ولكنه ختم رسالته بهذه الكلمات الخبيثة في وصف الإفليلي:
ليست مشيته مشية أديب، ولا وجهه وجه أريب، ولا جلسته جلسة عالم، ولا أنفه أنف كاتب، ولا نغمته نغمة شاعر.٥
غير أن ابن شهيد لا يظل في جميع أحواله أسير القلق والغموض، فإن له أحيانًا يفصح فيها ويبين، كقوله يخاطب أحد الأمراء:
من عزَّ بزَّ، ومن ريش طار، ومن سارت به الأيام سار؛ جدٌ كبا، وحسامٌ نبا، وآمال تفرقت أيدي سبا، كلمات أنثرها عليك، وآمال أصرفها إليك، كنا قبل أن ترمي بنا النوى مراميها، وتلقي علينا الخطوب مراسيها، وتمخضنا الأيام مخضًا، وتركض بنا الليالي ركضًا، تِربي صحبة، وحليفَي صبوة، قد تخلينا عن الأنساب، وانتسبنا إلي الآداب، والدار إذ ذاك صقب، والملتقى كثب، الزمان غر، وحواصلنا صُفر، نترنم ترنم الحمام، على زرق الجمام،٦ ثم ألقت الأيام علينا بكلكل … فنشرنا بكل فج عميق، وأفق سحيق، ونفحت عليك رياح السد، وجادتك المنى من تهامة ونجد، وامتطيت ظهر الجوزاء، وافترشت لبدة العواء،٧ وكلما دعيت للنزال والعراك، تترست بالثريا وطعنت بالسِّماك، فزحمت منكب الدهر، وقضيت أربك منه على قصر، فكان أول حيصتك عن الوفاء، وحيدتك عن رعاية قديم الإخاء، أن تركت المخاطبة، وأضربت عن المكاتبة، خشية أن يكون كلنا عليك، ورغبتنا فيما لديك، وهيهات! يأبى ذلك كرم محض، وهمة علياء نالها خفض، ثم قلت: الحمل على حسن الظن أجمل، والقضاء بأكرم العهد أقبل، قد يشغل بالرؤساء، ويجاذب العظماء، وعينه مع ذاك راعية، وأذنه واعية، وإنما الوصل بالفؤاد، لا بالمداد، ولا التقاء بالحلوم، لا بالجسوم، فانطويت على ود، وثبت على صحة عهد … إلخ.٨
وهذا نثر مقبول، لا يؤخذ عليه إلا شيء من التوعر قليل. وأوضح منه وأفصح قوله يصف إحدى المنافرات:

لما قدم زهير الصقلبي فتى بني عامر، حضرة قرطبة من المريه، وجه أبو جعفر عباس وزيره عن لمة من أصحابنا منهم ابن برد وأبو بكر المرواني وابن الحناط والطبني، فسألهم عني وقال: وجهوا عنه، فوافاني رسوله مع دابة له بسرج محلى ثقيل فسرت إليه ودخلت المجلس وأبو جعفر غائب، فتحرك المجلس لدخولي وقاموا جميعًا إليَّ، حتى طبع أبو جعفر علينا، ساحبًا لذيل لم ير أحد سحبه قبله، وهو يترنم، فسلمت عليه سلام من يعرف حق الرجال، فرد رد الطغيان، فعلمت أن في أنفه نعرة لا تخرج إلا بسعوط الكلام، ولا تراض إلا بمستحكم النظام، فرأيت أصحابي يصيخون إلى ترنمه، فسألتهم عن ذلك فقال الحناط — وكان كثير الانحناء عليَّ، جالبًا في المحافل ما يسوء إليَّ: الوزير حضره قسيم من الشعر، وهو يسألنا عن إجازته، فعلمت أني المراد، فأنشده، وهو:

مرضُ الجفون ولثغةٌ في المنطقِ
… … … …

فأخذت القلم وكتبت بديهًا:

مرض الجفون ولثغة في المنطق
شيئان جرا عشق من لم يعشق
من لي بألثغ لا يزال حديثه
يذكي على الأكباد جمرة محرق
ينبي فينبو في الكلام لسانه
فكأنه من خمر عينيه سقي
لا ينعش الألفاظ من عثراتها
ولو انها كتبت له في مُهرق
ثم قمت عنهم فلم ألبث أن وردوا عليَّ، وأخبروني أن أبا جعفر لم يرض بما جئنا به من البديه: وسألوني أن أحمل مكاوي الكلام على اختباره، وذكروا أن إدريس هجاه وأفحش، فلم أستحسن الإفحاش، فقلت فيه معرضًا إذ التعريض من محاسن القول.٩

وهناك رسائل رضي عنها ابن شهيد، وحدثنا في «التوابع والزوابع» أنه قرأها على شعراء الجن فاستجادوها، وهي رسالته في صفة البرد والنار والحطب، ورسالته في الحلواء وكلماته في وصف جارية، ونعت الماء والثعلب والبرغوث والبعوض، وهذه الرسائل في جملتها تدل على غنى في اللغة وبراعة في الصنعة، ولكنها خالية من الروح. ويظهر أن الجن الذين استجادوها لم يكونوا من أصحاب الأذواق في نقد الكلام، مع أنهم كانوا من أقطار مختلفة، وصاحبو الأفذاذ من شعراء الحجاز والشام والعراق!

وأجود ما وقع في تلك الرسائل «المستجادة» قوله في وصف ماء صاف:

كأنه عصير صباح، أو ذوب قمر لياح.

وقوله في وصف البعوض:
تنقض العزائم وهي منقوضة، وتعجز القوى وهي بعوضة، ليرينا الله عجائب قدرته، وضعفنا عن أضعف خليقته.١٠

ورسالته في وصف الحلواء قالها تحقيرًا لفقيه نهم لقيه في المسجد الجامع، فلما طالعوا الحلواء «اضطرب به الألم واستخفه الشره، فدار في ثيابه، وأسال من لعابه، وازورَّ جانبه، وخفق شاربه.» ثم أخذ يدور حول صنوف الحلوى ويصفها واحدًا واحدًا، فالفالوذج «مجاجة الزنابير خالطها لباب الحبة فجاءت أطيب من ريق الأحبة.» والخبيص «جليد سماء الرحمة، تمخضت به فأبرزت منه زبد النعمة، تجرجه اللحظة، وتدميه اللفظة.»

ثم يقول ابن شهيد بعد كلام: «فأمرت الغلام بابتياع أرطال تجمع أنواعها التي أنطقته، وتحتوي على ضروبها التي صرعته، فجاء بها فوضعها بين يديه، فلما عاينها انحنى عليها بلبانه، وألقى عليها بجرانه، وجعل يركل برجليه، ويجاحش بفخذيه، مانعًا عنها ومدافعًا، فصحت به لا عليك حكمها، فجعل يقطع ويبلع، ويوجر فاه ويدفع، وعيناه تبصان، كأنهما جمرتان، وقد برزتا عن وجهه كأنهما خصيتان، وأنا أقول: على رسلك يا فلان! البطنة تذهب الفطنة! وهو يقول: أكلها دائم وظلها، حتى التقم جماهرها، وألحق أولها بآخرها، فهبت منه ريح عقيم، قرن إقبالها بالعذاب الأليم، نثرتنا شذر مذر، وفرقتنا في كل شعب شعر بغر، فالتمحنا منه الظِّربان، صدق فيه الخبر العيان.»١١
وعندي أن ابن شهيد في رسالة الحلواء عارض بديع الزمان في المقامة البغدادية، والنكتة في الرسالتين متشابهة، فهي عند ابن شهيد سخرية من فقيه أكول، وعند بديع الزمان استهزاء بفلاح منهوم، ولكن بديع الزمان كان أكثر إصابة لغرضه من ابن شهيد؛ ولننظر كيف يقول وقد استدرج سواديًا بالكرخ:١٢
فقلت: فهلم إلى البيت نصب غداء، أو إلى السوق نشتري شواء، والسوق أقرب، وطعامه أطيب، فاستفزته حُمة القرم، وعطفته عطفة النهم، وطمع، ولم يعلم أنه وقع، ثم أتيت شواء يتقاطر شواؤه عرقًا، ويتسابل جوذابه مرقًا،١٣ فقلت: أبرز لأبي زيد من هذا الشواء، ثم زن له من تلك الحلواء، واختر من تلك الأطباق، ونضد عليها أوراق الرقاق، وشيئًا من ماء السماق،١٤ ليأكله أبو زيد هنيئًا، فأنحى الشواء بساطوره، على زبدة تنوره، فجعلها كالكحل سحقًا، وكالطين دقًّا، ثم جلس، وجلست، ولا نبس ولا نبست، حتى استوفيناه وقلت لصاحب الحلواء: زن لأبي زيد من اللوزينج رطلين، فإنه أجرى في الحلوق، وأسرى في العروق، وليكن ليلي العمر يومي النشر، رقيق القشر، كثيف الحشو، لؤلؤي الدهن، كوكبي اللون يذوب كالصمغ، قبل المضغ، ليأكله أبو زيد هنيئًا، ثم قعد وقعدت، وجرد وجردت، واستوفيناه.
ثم قلت: يا أبا زيد! ما أحوجنا إلى ماء يشعشع بالثلج، ليقمع هذه الصارة١٥ ويفثأ١٦ هذه اللقم الحارة! اجلس أبا زيد، حتى آتيك بسقاء، يحيينا بشربة من ماء. ثم خرجت، وجلست بحيث أراه ولا يراني، أنظر ما يصنع به، فلما أبطأت عليه قام السوادي إلى حماره، فاعتلق الشواء بإزاره، وقال: أين ثمن ما أكلت؟ فقال: ما أكلته إلا ضيفًا، فقال الشواء: هاك وآك، متى دعوناك؟ زن يا أخا القحبة عشرين، وإلا أكلت ثلاثًا وتسعين! فجعل السوادي يبكي ويمسح دموعه بأردانه، ويحل عقده بأسنانه، ويقول: كم قلت لذلك القُرَيد، أنا أبو عبيد، وهو يقول: أنت أبو زيد!

وإنما افترضنا أن ابن شهيد عارض بديع الزمان وحاكاه؛ لأنه كان مشغوفًا بأدبه ومعنيًّا بمعارضته، فقد حدثنا في «التوابع والزوابع» أنه قابل بأرض الجن (زبدة الحقب) صاحب بديع الزمان، وجرت بينهما مصاولة انتصر فيها ابن شهيد. هذا يدل على أن رسائل بديع الزمان كانت وصلت كاملة إلى الأندلس، وفعلت فعلها في أنفس الأدباء هناك، وأن ابن شهيد كان بها من المعجبين.

أما وصف الجارية الذي رضي عنه ابن شهيد، وقدمه كذلك إلى شعراء الجن فاستجادوه، فهو رسالة فيها فقرات تنم عن قلب غزل ونفس طروب، وفيها كذلك كلمات تُليح بمغامز الفتك والمجون، وكانت جاريته «أخت نعمة، وربيبة نعمة، كأن شعرها على غرتها الغراء، غراب يسفد حمامة بيضاء … تكلمك بألحاظها، وتأسوك بألفاظها، تقابلك من خدها بوردة، ومن عينها بنرجسة، كأنما ثغرها من جوهر، وشفتها خيط حرير أحمر، تقبل عليك بقضيب بان، ثمرته رمانتان، وتنفتل عليك بكفل مائج كأنه كثيب عالج … المنظر منظر غلام، والمخبر مخبر فتاة، إن علوتها تدفعت إليك، أو علتك تداركت عليك، وإن أعطشك فراشها سقتك من شراب، إن شئت قلت خمرة أو رضاب، أو أجاعك عراكها أطعمتك من لسان، يصل إليك وصول الإيمان.»١٧
ورسالته عن النار والحطب تمثل فزع أهل الأندلس من البرد، ولكنها — كأكثر ما كتب — مثقلةٌ بالصنعة، خالية من الروح، وهي رسالة مهداة إلى صديق نفحه بأحمال من الحطب الجزل — والحطب ما يهدى في تلك البلاد لما يعاني أهلها من قسوة الشتاء — ولننظر كيف يصور اصطدام النار بالوقود:
حبستنا اليوم خيل البرد مغيرة … فجعلتُ مجني حطبًا دل على نفسه، وتشظى بين يبسه، فسلطت عليه صاحب الشرر، ورميته منها ببينات الحديد والحجر، فواقعه قليلًا، وعاركه طويلًا، فكان لها عجيج، وله من حرها ضجيج، ثم خر لها صريعًا، واستولت عليه صعبًا منيعًا، فبددت شمله وألفت شملها، واستحالت حية لا نستلذ قتلها، ترمي بألوان، وتتهدد بلسان، فلذعت البرد لذعة، ونكزته على فؤاده نكزة، خر لها على جبينه، ومات بها من حينه.١٨

وبعد، فإن نثر ابن شهيد — على ما فيه من مآخذ وعيوب — دليل على أن الرجل كان يتناول اللغة بعزائم الفحول، وليس يعيبه أن نراه نحن أقل من شهرته، فإنا نحكم على أدبه بأذواق تختلف عن أذواق معاصريه أشد الاختلاف، والنثر الفني كالشعر، له دقائق قلما يتفق في تذوقها الناقدون، وكان للرجل في حياته نجاح مرموق، فقد وصل نثره وشعره إلى الشرق على عسر الوصول، وتداوله المؤلفون، وكان لا يزال من الأحياء، وفي هذا برهان على أن الرجل أمد عصره بروحه واستولى بقوة على عرش البيان.

ولا ننس أن نثر ابن شهيد لم يصل إلينا منه إلا شيء قليل، ولم يدون منه إلا الجانب البراق، الذي طرب له كتاب الصنعة في المشرق والمغرب، وللفن البراق أعمار قد تقصر وقد تطول، ولو وصلت إلينا جملة صالحة من نثره الذي جرى فيه على سليقته وفطرته، وانحاز فيه إلى فيض عقله وروحه، لرجونا أن يكون لنا فيه رأي غير هذا الرأي، وخاصة إذا لاحظنا أن رسائله في صناعة النقد والبيان تدل على أنه كان من أصفى الناس ديباجة، وأسدهم رأيًا، وأصدقهم فراسة، إذا مضى يشرح مزالق الأفكار ومزلات العقول.

ولا ننس أيضًا أن ابن شهيد كان يمتح من قليب فكره، ولم تكن له مراجع للثقافة الأدبية، إلا ما قدر له من الكتب كما حدث ابن حيان، وذلك كان في عصر مضطرب أشنع اضطراب، يقاسي شعراؤه وكتابه ومتأدبوه أهوالًا من الفتن قل أن يصفو معها فكر أو ينضج بيان.

فلنحمد إذن ما أسداه ابن شهيد، فإن جهد المقل غير قليل، ولنذكر أننا ننقد وننقض، في سلامة وعافية لم يحلم بهما أولئك الأسلاف الذين نازلوا الأقدار، ورفعوا أعلامهم بين أمم الصليب فوق هامات الأسود.

فعلى ذكراهم تحيةٌ وسلام!

هوامش

(١) الذخيرة (١/٩٤).
(٢) اليتيمة (١/٣٩٤).
(٣) الذخيرة (١/٩٤).
(٤) الذخيرة ص٢٣٢. والبزل: جمع بازل وهو البعير يبلغ تسع سنين، والقناعيس: جمع قنعاس بالكسر؛ وهو العظيم من الإبل، ومن الرجال الشديد المنيع.
(٥) الذخيرة (١ / ١٢٣).
(٦) الجمام: المياه الكثيرة، والمفرد جم، وهو في الأصل الكثير من كل شيء.
(٧) العواء: من منازل القمر.
(٨) الذخيرة (١ / ١٥).
(٩) ما سماه ابن شهيد تعريضًا هو أيضًا إفحاش لم نر روايته؛ لأننا لم نستجز رواية الهجاء القبيح الذي يجرح الأدب والذوق. وبقية هذا الحديث في (١ / ١٥٤) من الذخيرة.
(١٠) اليتيمة (١ / ٣٩٢).
(١١) وردت رسالة الحلواء في الذخيرة (١ / ١٣٦، ١٣٧) وفي اليتيمة (١ / ٣٩٢، ٣٩٣) وفي النسختين اختلاف شديد، وفيها كذلك كثير من التحريف، والفقرات التي اخترناها مأخوذة مما صح لدينا نظمه على اختلاف النسختين.
(١٢) الكرخ: محلة كانت في الجانب الغربي من بغداد.
(١٣) الجواذب: خبز يوضع في التنور ومعه طائر أو لحم.
(١٤) السماق: حب أحمر صغير شديد الحموضة شجره يشبه الرمان.
(١٥) الصارة: العطش.
(١٦) يفثأ: يسكن.
(١٧) اليتيمة (١ / ٣٩٤).
(١٨) اليتيمة (١ / ٣٩٠).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤