الفصل السادس عشر

نثر بديع الزمان

أول ميزة لبديع الزمان أنه يشعرك بفهمه للحياة، فهو يتحدث عن أشجان وأغراض هي في صميمها ألوان للنفوس الإنسانية، وإذا كان هناك كتاب يخاطبونك بما لا تفهم لأنهم يتحدثون عن نفس بعيدة عن نفسك، وقلب أجنبي عن قلبك، فإن بديع الزمان يطالعك بطائفة من الأزمات النفسية والروحية هي أزماتك أنت لو درست نفسك وتطلعت إلى وجدانك، وهذا هو السر في أن بديع الزمان لا يزال أدبه حيًّا، ولا تزال آراؤه وأفكاره قريبة منا على بعد العهد وتعاقب الأجيال، ومن العجب أننا نتقبل منه الزهو والخيلاء؛ لأننا نشعر أنه في زهوه وخيلائه لا يكذب ولا يمين. ولننظر كيف يقول:
فإني وإن كنت في مقتبل السن والعمر، قد حلبت شطري الدهر، وركبت ظهري البر والبحر، ولقيت وفدي الخير والشر، وصافحت يدي النفع والضر، وضربت إبطي العسر واليسر، وبلوت طمعي الحلو والمر، ورضعت ضرعي العرف والنكر، فما تكاد الأيام تريني من أفعالها غريبًا، أو تسمعني من أحوالها عجيبًا، ولقيت الأفراد، وطرحت الآحاد، فما رأيت أحدًا إلا ملأت حافتي سمعه وبصره، وشغلت حيزي فكره ونظره.١
وهذه الفقرة تمثل شعوره بأرزاء الدهر ونكبات الحياة، وتمثل حرصه على أن يشغل البارزين من معاصريه، وقد كانت لبديع الزمان غضبات تظهر فيها فورات نفسه وهي مضطرمة متأججة، فنرى في كتاباته صورة نفسه وهي تتوثب كما تتوثب ألسنة الجحيم، كقوله في خليفة أبي نصر الميكالي بهراة:
وحدثت عن هذا الخليفة، بل الجيفة أنه قال: قضيت لفلان خمسين حاجة منذ ورد هذا البلد، وليس يقنع، فما أصنع؟ فقلت: يا أحمق، إن استطعت أن تراني محتاجًا فاستطع أن أراك محتاجًا إليك، أف لقولك وفعلك، ولدهر أحوج لمثلك!٢

وليتأمل القارئ «إن استطعت أن تراني محتاجًا فاستطع أن أراك محتاجًا إليك.» فإنه غاية في التهكم اللذاع.

وفي مثل هذا المعنى يقول من كلمة ثانية:
هذا الخليفة يزعم أني طعام، فلا والله إن لحمي حرام، وفيه عروق وعظام، ولو كنت طعامًا لكنت الأكلة التي تمنع الأكلات … ومن شتمني من خلف، فجزاؤه مائة ألف، وإذا انتهت الدعوة إليَّ فقد عزل عزرائيل، ولم يبق في ولايته إلا قليل، والله ما يصلح لحمي القديد، ولا يحسن فوق الثريد، وإنه ليأبى في المضغ، وينشب في الحلق، ويقلق في البطن، ولا يخرج من المعي إلا مع الأمعاء، وكانوا لا يصيدون ابن آوى، وإن كانوا شهاوى.٣
وكان بديع الزمان شديد الحقد على أبي بكر الخوارزمي، وكان لذلك مغرمًا بالنيل منه والوقوع فيه، ومرض الخوارزمي فكتب أحد أصدقاء بديع الزمان يهنئه بمرض عدوه، فغضب لذلك ورأى في هذه التهنئة لؤمًا لا يرضى عنه كرمه، ولا يغفر مثله نبله، وقذف صديقه ذاك بالكلمة الآتية:٤

الحر — أطال الله بقاك — لا سيما إذا عرف الدهر معرفتي، ووصف أحواله صفتي، إذا نظر علم أن نعم الدهر ما دامت معدومة فهي أماني، فإن وجدت فهي عواري، وأن محن الزمان وإن مطلت فستفد، وإن لم تصب فكأن قد، فكيف يشمت بالمحنة من لا يأمنها في نفسه، ولا يعدمها في جنسه؟ والشامت إن أفلت فليس يفوت، وإن لم يمت فسيموت، وما أقبح الشماتة بمن أمن الإماتة، فكيف بمن يتوقعها بعد كل لحظة، وعقب كل لفظة، والدهر غرثان طعمه الخيار، وظمآن شربه الأحرار، فهل يشمت المرء بأنيات آكله، أم يسر العاقل بسلاح قاتله؟ وهذا الفضل — شفاه الله — وإن ظاهرناه بالعداوة قليلًا، فقد باطناه ودًّا جميلًا، والحر عند الحمية لا يصطاد، ولكنه عند الكرم ينقاد، وعند الشدائد تذهب الأحقاد، فلا تتصور حالي إلا بصورتها من التوجع لعلته، والتحزن لمرضه، وقاه الله المكروه، ووقاني سماع السوء فيه، بحوله ولطفه.

وهذه الرسالة من أعلى الرسال في أسلوبها وموضوعها، وله رسالة تشبهها كتبها إلى أبي عامر الضبي يعزيه في بعض أقاربه وفيها يقول:

أحسن ما في الدهر عمومه بالنوائب، وخصوصه بالرغائب، فهو يدعو الجفلى إذا ساء، ويختص بالنعمة إذا شاء، فلينظر الشامت فإن كان أفلت، فله أن يشمت، ولينظر الإنسان في الدهر وصروفه، والموت وصنوفه، من فاتحة أمره، إلى خاتمة عمره، هل يجد لنفسه أثرًا في نفسه، أم لتدبيره عونًا على تصويره، أم لعلمه تقديمًا لأمله، أم لحيله تأخيرًا لأجله؟ كلا، بل هو العبد لم يكن شيئًا مذكورًا، خلق مقهورًا، ورزق مقدورًا، فهو يحيا جبرًا، ويهلك صبرًا، وليتأمل المرء كيف كان قبلًا، فإن كان العدم أصلًا، والوجود فضلًا، فليعلم الموت عدلًا.

والعاقل من رفع من حوائل الدهر ما ساء ليذهب ما ضر بما نفع، وإن أحب أن لا يحزن فلينظر يمنة، هل يرى إلا محنة، ثم ليعطف يسرة، هل يرى إلا حسرة؟ ومثل الشيخ الرئيس من تفطن لهذه الأسرار، وعرف هذه الدار، فأعد لنعيمها صدرًا لا يملؤه قرحًا، ولبؤسها قلبًا لا يطيره جزعًا، وصحب الدهر برأي من يعلم أن للمتعة حدًّا، وللعارية ردًّا، ولقد نعي إليَّ أبو قبيصة — قدس الله روحه، وبرد ضريحه — فعرضت عليَّ آمالي قعودًا، وأماني سودًا، وبكيت والسخي يجود بما يملك، وضحكت وشر الشدائد ما يضحك، وعضضت الإصبع حتى أدميته، وذممت الموت حتى تمنيته، والموت خطب قد عظم حتى هان، وأمر قد خشن حتى لان، ونكر قد عم حتى عاد عرفًا، والدنيا قد تنكرت حتى صار الموت أخف خطوبها، وجنت حتى صار أصغر ذنوبها، وأضمرت حتى صار أيسر غيوبها، وأبهمت حتى صار أظهر عيوبها … إلخ.

وهذه الرسالة تعطينا صورة من نفس ذلك الرجل الحساس، فهو هنا يدرس قيمة الإنسان وينتهي بالدرس إلى أنه أثر ضئيل بين آثار الوجود، فقد خلق من حيث لا يريد، ورزق من حيث لا يحتسب، فهو بهذا ألعوبة صغيرة في يد القدر يرفعها حين يشاء، ويرمي بها في الفناء حين يشاء.

ولا يقف بديع الزمان عند هذا الحد، وإنما يمضي فيدعوك إلى سياسة نفسك، فيحدثك بأن من العقل أن تجسم حسنات الدهر لتضؤل بجانبها سيئاته، ويروضك على أن تنظر حواليك لترى أن لكل إنسان نصيبه من بأساء الحياة، ويدعوك إلى أن تعد لنعم الدنيا صدرًا لا يملؤه الفرح، وقلبًا لا يطيره الجزع، وتلك هي السياسة الرشيدة عند من يفقهون.

وقد أعطانا البديع في هذه الرسالة أجمل صورة للجزع عند فقد الأعزاء، فقد أضحكه الحزن وأبكاه، وحدثنا بأنه بكى؛ لأن البكاء غاية ما يملك الحر في رد العزيز المفقود، وأنه ضحك؛ لأن الشدائد المرة ترمي المحزون بقهقهة المجانين. وقد وصل البديع إلى قرار الحكمة حين حدثنا بأن الموت خطب قد عظم حتى هان، ووصل إلى أسمى غايات الخيال حين حدثنا بأن الدنيا أبهمت حتى صار الموت أظهر ما فيها من العيوب. وهو بهذا ينظر إلى الوجود وكأنه عدو فاجر لا ينتهي ما لديه من الشؤم المبيت والشر المستطير.

لكن هذه السماحة النفسية ليست سمة غالبة في بديع الزمان، فهو في أكثر الأحوال رجل ماكر خبيث، ومقاماته تنتهي إلى فلسفة واحدة هي السخرية من العالم واقتناص ما يملكون بشتى الحيل والمداورات من غير تورع ولا استحياء. ففي المقامة الأصفهانية يحتال أبو الفتح الإسكندري فيحتجز المصلين في المسجد ولا يزال بهم حتى يملأ جيبه ثم يقول في السخر من أولئك المتصدقين:

الناس حُمرٌ فجوِّز
وابرز عليهم وبرز
حتى إذا نلت منهم
ما تشتهيه ففروز

وفي المقامة الكفوفية ينشد أبو الفتح بعد أن يصل إلى بغيته وقد تعامى طلبًا للمال:

أنا أبو قلمون٥
في كل لون أكون
اختر من الكسب دونًا
فإن دهرك دون
زجّ الزمان بحمق
إن الزمان زبون٦
لا تكذبن بعقل
ما العقل إلا جنون

وفي المقامة القزوينية يعترف أبو الفتح بأن النسبة صورة من صور المنافع ويقول:

أنا حالي من الزما
ن كحالي من النسب
نسبي في يد الزما
ن إذا سامه انقلب
أنا أمسى من النبيـ
ـط وأضحى من العرب

وفي المقامة الساسانية يقول:

هذا الزمان مشوم
كما تراه غشومُ
الحمق فيه مليحٌ
والعقل عيب ولُومُ
والمال طيف ولكن
حول اللئام يحوم

وهذه الأبيات تمثل حقده على الأغنياء، ورميه إلى أن كل غني لئيم، ومثل هذا قوله في المقامة المصرية:

الفقر في زمن اللئا
م لكل ذي كرم علامه
رغب الكرام إلى اللئا
م وتلك أشراط القيامه٧
والذي يتصفح رسائل بديع الزمان ومقاماته يراه في أكثرها يحارب معاصريه من الكتاب والرؤساء، ولا يقع نظره على الجوانب الطيبة من حياة الناس إلا قليلًا، ولا يمكن أن تكون لبديع الزمان سياسة نفسية غير تلك الخطة الصاخبة التي ألفها في حياته وهي العنف المطبق في البحث عن أسباب الغنى والجاه، ومن دلائل حقده وبغيه أن واليًا عزل وكتب إليه بعد عزل يستميل فؤاده، فكتب إليه البديع يؤنبه ويصوره بصورة المعشوق الذي انقطت أيام حسنه، ولم تبق منه بقية يحتمل معها الدلال. فمن تلك الرسالة قوله:

تناسيت أيامك إذ تكلمنا نزرًا، وتلحظنا شزرًا، وتجالس من حضر، وتسترق إليك النظر، ونهتز لكلامك، ونهش لسلامك. فاقصد الآن فإنه سوق كسد، ومتاع فسد، ودولة عرضت، وأيام انقضت:

وعهد نفاق مضى
وخطب كساد نزل
وخدٌّ كأن لم يكن
وخطٌّ كأن لم يزل

ويوم صار أمس، وحسرة بقيت في النفس، وثغر فاض ماؤه فلا يرشف، وريق خدع فلا ينشف، وتمايل لا يعجب، وتثن لا يطرب، ومقلة لا تجرح ألحاظها، وشفة لا تفتن ألفاظها! وقد بلغني الآن ما أنت متعاطيه من تمويه يجوز بعد الفلق في الغسق … وإفنانك لتلك الشعرات حفًا وحصًا، وسيكفينا الدهر مئونة الإنكار عليك، بما يزف من بنات الشعر وأمهاته إليك:

ما يفعل الله باليهود
ولا بعاد ولا ثمود
ولا بفرعون إذ عصاه
ما يفعل الشعر بالخدود٨
وهي رسالة طويلة اكتفينا منها بهذه الفقرات، وقد تأثر بهذه الرسالة وحاكاها في أسلوبها وموضوعها جماعة من الكتاب أشهرهم في المتقدمين أبو المغيرة الوزير عبد الرحمن بن حزم الأندلسي،٩ وأشهرهم في المتأخرين المرحوم الشيخ عبد العزيز جاويش.

ولو كان لبديع الزمان غرض يرمي إليه في مجموع كتاباته لوصل إلى أبعد حد من حدود النجاح؛ لأنه أبرع من حمل القلم بين أهل عصره، ولا نعرف كاتبًا التزم السجع، ووفق إلى الدقة والرشاقة والعذوبة كما وفق بديع الزمان. والقاعدة التي اختارها أساسًا لفلسفته وهي سوء الظن بالناس تلاشى أثرها في مقاماته؛ لأنه أعطى لبطل تلك المقامات صورة مشوهة هي صورة الاستجداء، ثم التزم منهجًا واحدًا لا يختلف إلا قليلًا بحيث لا يبدأ القارئ إلا وهو يعلم ما ستنتهي إليه المقامة.

ومهما يكن من شيء فلن يمكن نكران ما وفق إليه بديع الزمان من نقد طائفة كبيرة من خصال اللؤم والنفاق والضعة والإسفاف، وما إلى ذلك من الهنات التي يوصم بها من تساعدهم الظروف على التغلب والاستعلاء، ثم لا يكونون في أنفسهم وفي سلوكهم إلا برهانًا على فساد الحياة ونقص الأحياء.

هوامش

(١) ص١٠١، ١٠٢ من رسائل بديع الزمان.
(٢) ص٥٤.
(٣) ص٣٣٩ رسائل.
(٤) ص٣٣٩.
(٥) أبو قلمون: ثوب رومي من الأبريسم يظهر للعين في ألوان مختلفة بصناعته.
(٦) الزبون: الناقة التي تدفع بثفنات رجلها عند الحلب.
(٧) وقد تهكم بديع الزمان بالأدب وأهله غير مرة؛ حيث ترى أنه يرى الأدب واللغة والتفسير ضروبًا من الحمق «لا يبيع بها ذو عقل باقة بقل»، وفي ص٢٢٢ يرى أنه لا قرابة بين الأدب والذهب، وأن الأدب لا يمكن ثرده في قصعة، ولا صرفه في ثمن سلعة … إلخ.
(٨) ص٨٤–٨٨.
(٩) الذخيرة (١ / ٦٦).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤