الفصل الخامس

أبو الفرج الببغا

الببغا هو عبد الواحد بن نصر المخزومي، وإنما لقب بالببغا للثغة ظريفة كانت تزين لسانه، نشأ في نصيبين واتصل بسيف الدولة في شبابه، فلما مات صاحبه تنقلت به الأحوال بين الموصل وبغداد، فنادم الملوك والرؤساء، وقضى حياته مقسم الحظ بين النجاح والإخفاق؛ ينعم تارة ويشقى أخرى، حتى وافاه حمامه لثلاث بقين من شعبان سنة ٣٩٨.

قال الثعالبي: «وآخر ما بلغني من خبره ما سمعت الأمير أبا الفضل عبد الله بن أحمد الميكالي يورده من ذكر التقائه معه عند صدره من الحج وحصوله ببغداد في سنة تسعين وثلاثمائة ورؤيته بها شيخًا عالي السن، متطاول الأمج، نظيف اللبسة، بهي الركبة، مليح اللثغة، ظريف الجملة، قد أخذت الأيام من جسمه وقوته، ولم تأخذ من ظرفه وأدبه … ثم عرض عليَّ القاضي أبو بشر الفضل بن محمد بجرجان سنة إحدى وتسعين كتاب أبي الفرج الوارد عليه من بغداد مشتملًا من النظم والنثر على ما أثر فيه حال من بلغ ساحل الحياة، ووقف على ثنية الوداع.»١

كان الببغا من أركان الحياة الأدبية في زمانه، ولكن المؤلفين لم يتحدثوا عنه إلا قليلًا، فكان من نتائج ذلك أن قلت المصادر التي تكفي لتعيين اتجاهاته الأدبية، وإقلال المؤلفين من الحديث عنه يعين بعض صفاته؛ لأن المؤلفين يهتمون في الأغلب بتقييد ما يصل إليهم من أخبار المشاغبين من الكتاب والشعراء، فأكثر من عرفت حالهم من رجال الأدب كانوا في حياتهم رجال دسائس ومكائد وسفاهات، وأكثر ما يكونون من طبقات الوزراء أو أمناء الملوك والوزراء.

فإن ظفرت بكاتب خامل الذكر أو شاعر مجهول القدر فلا تنس أن تلاحظ أن هذا لم يكن إلا لأن ذلك المغبون كان في حياته هادئ النفس، قليل المطامع، محدود الآمال، ومجموعة ما وصل إلينا من شعر الببغا ورسائله وقصصه تدلنا على أنه لم تصل بملوك زمانه على نحو ما كان يتصل الصاحب بن عباد أو أبو الفضل بن العميد.

وإنما كانت صلاته بالملوك والرؤساء عند الحدود الضيقة؛ حدود السمر والأنس حول بساط السلاف.

وإنا لنراه يدور حول شهواته وأغراضه النفسية في أكثر ما أثر عنه من المقطوعات والرسائل والأقاصيص؛ بحيث نستطيع أن نقدر أنه كان لا يرجو من صلات الملوك والوزراء والرؤساء أكثر من أن ينضو عن نفسه ثوب الفاقة والإملاق، وأن يكون في يده من الذهب ما يقتنص به شوارد اللذات، وأوابد الأهواء.

وفي هذا الذي نقضي به تعليل لصفاء شعره الوجداني، فقد كان شعر الببغا يُغنَّى به، وكان متع السامرين في الشام والعراق، ولننظر كيف يقول في محبوب رمدت عيناه:

بنفسي ما يشكوه من راح طرفه
ونرجسه ما دهى حسنه ورد
أراقت دمي ظلمًا محاسن وجهه
فأضحى وفي عينيه آثاره تبدو
غدت عينه كالخد حتى كأنما
سقى عينه من ماء توريده الخد
لئن أصبحت رمداء مقلة مالكي
لقد طال ما استشفت بها مقل رمد٢

ولننظر كذلك كيف يقول في محبوب فصده مبضع الطبيب:

يأبى الغائب الذي لم يغب عني
فأشكو إليه هم المغيب
باشرته كف الطبيب فلو نلـ
ـت الأماني قبلت كف الطبيب
فعلت في ذراعه ظبة المبـ
ـضع أفعال لحظه بالقلوب
فأسالت دمًا كأن جفوني
عصفرته بدمعها المسكوب
طاب جدًّا فهو به سمح الدهـ
ـر لأمسى عطري وأصبح طيبي٣

وهذه معانٍ دقيقة لا يحسنها إلا من يفرغ لأمثالها من شعراء الوجدان.

وإنا لنتأمل في شعره فنجده يرتقب فرص زمانه فيقول مثلًا في الورد والربيع والشراب:

زمن الورد أظرف الأزمان
وأوان الربيع خير أوان
أدرك النرجس الجني وفزنا
منهما بالخدود والأجفان
أشرف الزهر زار في أشرف الدهر
فصل فيه أشرف الإخوان
وأجل شمس العقار في يد بدر الـ
ـحسن يخدمك منهما النيران
وأدرها عذراء وانتهز الإمـ
ـكان من قبل عائق الإمكان
في كئوس كأنها زهر الخشـ
ـخاش ضمت شقائق النعمان
واختدعها عند البزال بألفا
ظ المثاني ومطربات الأغاني
فهي أولى من العرائس إن زفـ
ـت بعزف النايات والعيدان٤

وللقارئ أن يتأمل احتفاء الشاعر بالصهباء ودعوته إلى اختداعها كما تختدع العروس بالناي والعود.

ومما يؤكد أن أطماع الببغا من الاتصال بالملوك كانت طفيفة لا تعدو مطالب الرزق أن نراه يقول:

ما الذل إلا تحمل المنن
فكن عزيزًا إن شئت أو فهن
إذا اقتصرنا على اليسير فما العلة
في عتبنا على الزمن٥

وفي هذا المعنى يقول من كلمة ثانية:

صبحت الدهر في سهل وحزن
وجربت الأمور وجربتني
فلم أر مذ عرفت محل نفسي
بلوغ منًى يساوي حمل مَنِّ
ولم تتضمن الدنيا لحظي
منال مسرة إلا بحزن
وليس علي غير الجد فيما
سعيت له لأستغني وأغني
فإن أحرم فلم أحرم لعجز
وإن أبلغ فنفسي بلغتني٦

وأدل من هذا على اهتمامه بالوجدانيات أن التنوخي يحدثنا أنه روى عنه قول سيف الدولة:

وقالوا يعود الماء في النهر بعدما
عفت منه آيات وسُدَّتْ مشارِعُ
فقلت إلى أن يرجع الماء جاريًا
وتعشب جنباه تموت الضفادع٧

وحرص الببغا على رواية مثل هذين البيتين يمثل حسرته على أيامه السوالف ولياليه الخوالي.

وخلوص الببغا من مشاكل دنياه مكنه من أن ينظر إلى أهل الأدب نظر العطف والإخاء، ومن شواهد ذلك شوقه إلى رؤية أبي إسحاق الصابي، وقد اتفق له أن زار بغداد والصابي معتقل منذ مدة طويلة فلم يصبر عنه فزاره في محبسه، ولكنه شغل عن معاودته فكتب إليه الصابي:

أبا الفرج اسلم وابق وانعم ولا تزل
يزيدك صرف الدهر حظًّا إذا نقص
مضى زمن تستام وصلي غاليًا
فأرخصته والبيع غالٍ ومرتخص
وأنستني في محبسي بزيارة
شفت كمدًا من صاحب لك قد خلص
ولكنها كانت كحسوة طائر
فواقًا كما يستفرص السارق الفرص
وأحسبك استوحشت من ضيق محبسي
وأوجست خوفًا من تذكرك القفص
كذا الكرز٨ اللماح ينجو بنفسه
إذا عاين الأشراك تنصب للقنص
فحوشيت يا قس الطيور فصاحة
إذا أنشد المنظوم أو درس القصص٩

وقد أجابه الببغا بأبيات جاء فيها قوله:

فإن كنت بالببغاء قدما مقلبا
فكم لقب بالجور لا العدل مخترص
وبعد فما أخشى تقنص جارح
وقلبك لي وكر ورأيك لي قفص١٠

وما أحب أن تشغلني الرغبة في الإيجاز عن إثارة بعض ما دار بين الصابي والببغا من المراسلات، ولأكتف بما كان بينهما من وصف «الببغاء» فإن صاحبنا أبا الفرج لما لقب بالببغا للثغته استطاع الصابي أن يحاوره محاورة طريفة في وصف الببغاء، فهو مثلًا يعتذر عن إهماله الرجوع إليه لزيارته في السجن بقوله:

وأحسبك استوحشت من ضيق محبسي
وأوجست خوفًا من تذكرك القفص

ولننظر كيف يقول في وصف الببغاء:

أنعتها صبيحة مليحه
ناطقة باللغة الفصيحه
عُدَّت من الأطيار واللسان
يوهمني بأنها إنسان
تُنهي إلى صاحبها الأخبارا
وتكشف الأسرار والأستارا
سكاء إلا أنها سميعة
تعيد ما تسمعه طبيعة
فربما لُقنت العضيهة
فتغتذي بديهة سفيهة
زارتك من بلادها البعيدة
واستوطنت عندك كالقعيدة
ضيفٌ قراه الجوز والأرز
والضيف في أبياتنا يعز
تراه في منقارها الخلوقي
كلؤلؤ يلقط بالعقيق
تنظر من عينين كالقصين
في النور والظلمة بصاصين
تميس في حلتها الخضراء
مثل الفتاة الغادة العذراء
خريدة خدورها الأقفاص
ليس لها من حبسها خلاص
تحبسها وما لها من ذنب
وإنما تحبسها للحب
تلك التي قلبي بها مشغوف
كنيت عنها واسمها معروف
نشرك فيها شاعر الزمان
والكاتب المعروف بالبيان
وذاك عبد الواحد بن نصر
تقيه نفسي عاديات الدهر١١

وقد أجاب الببغا على هذه الأرجوزة البديعة بأرجوزة أطول ولكنها تافهة لم يعجبنا منها إلا قوله في الببغاء:

تزهي بدوَّاج١٢ من الزمرد
ومقلة كسبج في عسجد
وحسن منقار أشم قان
كأنما صيغ من المرجان
صيرها انفرادها في الحبس
بنطقها من فصحاء الإنس
تميزت في الطير بالبيان
عن كل مخلوق سوى الإنسان
تحكي الذي تسمعه بلا كذب
من غير تغيير لجد أو لعب
غذاؤها أزكى طعام رغدًا
لا تشرب الماء ولا تخشى الصدى
ذات شُعًى١٣ تحسبه ياقوتًا
لا ترتضي غير الأرز قوتًا
كأنما الحبة في منقارها
حبابة تطفو على عقارها
إقدامها ببأسها الشديد
أسكنها في قفص الحديد١٤

وهذا الوصف وصف الببغاء الذي أجاد فيه الشاعران أتاحته لنا لثغة أبي الفرج التي أبدع في وصفها الصابي حين قال:

وما هجنت منك المحاسن لثغةٌ
وليس سوى الإنسان تلقاه ألثغا
أتعرفها فيما تقدم خاليًا
لغير إذا ما صاح أو جمل رغا
فيا لك حرفًا زدت فضلًا بنقصه
فأصبحت منه بالكمال مسوغا١٥

واللثغة تكون أحيانًا أملح من النطق الصحيح، فيكون النقص بها فضلًا كما أشار الصابي، وإن كنا لا نرتضي بقية التمثيل.

ولا يفوتنا أن نقيد هنا أن شعر أبي الفرج تغلب عليه النزعة الوصفية، وذلك يتصل بمذهبه في النثر أشد اتصال، وهو وإن لم يستطع مصاولة فحول القرن الرابع؛ كالرضي والمتنبي وأبي فراس يبدع أحيانًا ويروع حتى لنعده في طليعة الشعراء. ولننظر كيف تتدفق الحياة في قوله يصف قتلى الحرب:

فتركتهم صرعى كأنك بالظبا
عطيتهم في الروع كأس مدام
متهاجرين على الدنو كأنما
أنفت رءوسهمو عن الأجسام١٦

وقوله يخاطب سيف الدولة ويذكر وقعة كانت له مع بني كلاب وعفوه عنهم:

إذا استلك الجانون أغمدك الحلم
وإن كفك الإبقاء أنهضك العزم

ومن مختار هذه القصيدة:

ومن لم يؤدبه لفرط عتوه
إذا ما جنى الإنصاف أدبه الظلم
إذا العرب لم تجز اصطناع ملوكها
بشكر تعاوت في سياستها العجم
أعدها إلى عادات عفوك محسنًا
كما عودتها قبل آباؤك الشم
فإن ضاق عنها العذر عندك في الذي
جنته فما ضاق التفضل والحلم١٧

وله أوصاف حية جدًّا تكاد تنطلق بمعاني الموصوف، من ذلك في وصف معصرة:

ومعصرةٍ أنخت بها
وقرن الشمس لم يغب
فخلت قزازها بالرا
ح بعض معادن الذهب
وقد زرفت لفقد الكر
م فيها أعين العنب
وجاش عباب واديها
بمنهل ومنسكب
وياقوت العصير بها
يلاعب لؤلؤ الحبب
فيها عجبًا لعاصرها
وما يغني به عجبي
وكيف يعيش وهو يخو
ض في بحرٍ من اللهب١٨

وقوله في وصف الخيل على صهواتها الفرسان:

وكل بعيد قرب الحين نحوه
سلاهبك الجرد الخفاف قريب
تباشر أقطار البلاد كأنها
رياح لها في الخافقين هبوب
تماشي بفتيان كأن جسومهم
لخفتها فوق السروج قلوب١٩

هوامش

(١) يتيمة الدهر (١ / ١٤٧).
(٢) يتيمة (١ / ١٩٥).
(٣) يتيمة (١ / ١٩٥).
(٤) يتيمة (١ / ١٩٩).
(٥) يتيمة (١ / ٢٠٠).
(٦) يتيمة (١ / ٢٠٠).
(٧) نشوار المحاضرة ص١٣٤.
(٨) الكُرز، بضم الكاف: الصقر.
(٩) يتيمة (١ / ١٨٧).
(١٠) يتيمة (١ / ١٨٨).
(١١) يتيمة (١ / ٨٨، ١٧٩).
(١٢) الدواج على وزن رمان وغراب: اللحاف يلبس (قاموس).
(١٣) الشعى كهدى: خصل الشعر، والمشعان والشعوانة الجمة منه (قاموس).
(١٤) يتيمة (١ / ١٩٠).
(١٥) يتيمة (١ / ١٩١).
(١٦) نشوار المحاضرة ص٦١.
(١٧) نشوار ص٥٦.
(١٨) يتيمة (١ / ١٩٥).
(١٩) يتيمة (١ / ٢٠٣).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤