الفصل السادس

نثر أبي الفرج الببغا

يمتاز نثر الببغا بعدة ميزات؛ أظهرها أنه يمثل عصره من الوجهة الفنية، ويمثل الكاتب في ميوله الذوقية والوجدانية، فهو من جهة الصورة نثر مسجوع تغلب عليه الفطرة حينًا ويسوده التكلف أحيانًا، وهو من جهة الموضوع يتصل في أكثر نواحيه بما يمس الكاتب من حيث هو رجل مودات ومجاملات، وقل أن يمثل صاحبه رجل فكرة اجتماعية أو فلسفية، على نحو ما نجد عند بعض كتاب القرن الرابع، ولذلك نقرأ نثر الببغا في طمأنينة وسكون تتراءى أمام خيالنا أشباح المشاكل الطريفة التي تشغل الرجل المهذب الذي يحرص على مجاملة الأوداء والأصدقاء والرؤساء، بدون أن يُعنَى كثيرًا بما تصطرع حوله الأفئدة، وتتصاول في حماه العقول.

وأول ما يطالعنا من نثر الببغا هو رسائله الإخوانية، كما كان يعبر القدماء، وهي الرسائل التي بث فيها شوقه إلى أصحابه وأُلّافه وأخدانه، بطريقة وجدانية تقرب في روحها من قصائد النسيب، كأن يقول:
شوق المملوك إليه شوق الظمآن إلى القطر، والساري إلى غرة الفجر.١
أو يقول:
شوقي إليه شوق من فقد بالكره سكنه، وفارق بالضرورة وطنه.٢
وقد يحاول تعليل صبره على بعد مودوده، فيقول:
ولولا أن المملوك يخمد نار الاشتياق، ويبرد أُوار الفراق، بالتخيل الممثل لمن نأت محلته، والتفكير المصور لمن بعدت شقته، لأُلهبت أنفاسه، وأسعرت حواسه، وهمت دموعه، وأنقضت ضلوعه، والله المحمود على ما وفق له من تمازج الأرواح، عند تباين الأشباح.٣
وله في هذا المعنى الطريف كلمة مستجادة تهش لها النفس، وتسكن إليها الروح، وانظر كيف يقول في رفق أشبه بتناجي المحبين:
إن تزايلت الأشباح، فقد تواصلت الأرواح، وإن نزحت الأشخاص وبعدت، فقد دنت الأنفس وتقاربت؛ فلا تمض الفرقة وتؤلم، وتغص النوى وتكلم، وقد ينال بتناجي الضمائر، وتحاور السرائر، ما لا تصل إليه الإشارة، ولا تدل عليه العبارة؛ إذ الأنفس البسيطة أرق مسرى، وأبعد من الألسنة مرمى.٤

ونحن نفهم هذا، فقد نعيش على صلة الأرواح مع أصدقاء أقصتهم الليالي عيشًا لا نجده في وجوه من نساكنهم ونلاقيهم صباح مساء، والود ود القلوب.

وفي رسائل الببغا تفسيرٌ لبعض الجوانب الاجتماعية، وتأكيدٌ لما عرف عن العرب من بعض الخلال، من ذلك رسالته في التهنئة بمولودة، فهي تأكيد لما درج عليه العرب والهنود من بغض البنات، ولهذا نراه في هذه الرسالة يقف موقف الواعظ لا موقف المهنئ، فيقول:
لو كان الإنسان متصرفًا في أمره بإرادته، قادرًا على إدراك مشيئته؛ لبطلت دلائل القدرة، واستحالت حقائق الصنعة، ودرست معالم الآمال، وتسارى الناس ببلوغ الأحوال غير أن الأمر لما كان بغير مشيئته مصنوعًا، وعلى ما عنه ظهر في الابتداء مطبوعًا، كان المخرج له إلى الوجود من العدم، فيما ارتضاء له غير متهم، ومولانا — أيده الله! — مع كمال فضله وتناهي عقله، وحدة فطنته، وثاقب معرفته، أجل من أن يجهل مواقع النعم الواردة من الله تعالى، أو يتسخط مواهبه الصادرة إليه، فيرمقها بنواظر الكفر، ويسلك بها غير مذاهب الشكر، وقد اتصل بي خبر المولود، كرم الله غرتها وأطال مدتها، وعرف مولانا البركة بها، وبلغه أمله فيها، ومن كان تغيره عند اتضاح الخبر، وإنكار ما اختاره له سابق، فعجب المملوك من ذلك واستنكره، من مولانا وأنكره؛ لضيق العذر في مثله عليه، وقد علم مولانا أنهن أقرب إلى القلوب، وأن الله تعالى بدأ بهن بالترتيب، فقال جل من قائل: يَهَبُ لِمَن يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ، وما سماه الله هبة فهو بالشكر أولى، وبحسن التقبل أحرى، ولكم نسب أفدن، وشرف استحدثن؛ من طرق الأصهار، والاتصال بالأخيار، والملتمس من الذكر نجابته، لا صورته وولادته، ولكم ذكر الأنثى أكرم منه طبعًا، وأظهر منه نفعًا، فمولانا يصور الحال بصورتها، ويجدد الشكر على ما وهب منها، ويستأنف الاعتراف له تعالى بما هو الأشبه ببصيرته، والأولى بمثله، إن شاء الله تعالى.٥
ويظهر أن هذا النوع من التهاني كان من الموضوعات الملحوظة في القرن الرابع، فقد عقد له الحصري فصلًا في زهر الآداب، ومن طريف ما جاء فيه تفضيلًا للأنثى على الذكر قول بعض الكُتاب:
الدنيا مؤنثة والرجال يخدمونها، والنار مؤنثة والذكور يعبدونها، والأرض مؤنثة ومنها خلقت البرية، وفيها كثرت الذرية، والسماء مؤنثة وقد حليت بالكواكب، وزينت بالنجوم الثواقب، والنفس مؤنثة وهي قوام الأبدان، وملاك الحيوان، والحياة مؤنثة ولولاها لم تتصرف الأجسام، ولا عرف الأنام، والجنة مؤنثة وبها وعد المتقون، وفيها ينعم المرسلون.٦
ويتصل بهذا المعنى ما اقترحه سيف الدولة على الببغا من الكتابة إلى من تزوجت أمه، وكان العرب يكرهون أن يتزوج أمهاتهم كرهًا شديدًا. وقد اتفق لعمرو بن مسعدة أن سأله سائل: كيف تكتب لمن تزوجت أمه؟٧ وهذا دليل على أن كُتاب القرن الثاني يعدون ذلك من فنون الإنشاء، أما في القرن الرابع فكان ذلك الفن ظاهرًا أشد الظهور، وفصل الكلام عنه مؤلف زهر الآداب: فذكر أن من الحق ما يستحسن تركه، ويستهجن عمله، وأشار إلى أنه رأى من لا يحضر تزويج كريمته ويولي أمرها غير نفسه، وأنه عرف من تزوجت أمه فعظم لذلك همه، وانفرد عن أودائه، وتوارى عن أصفيائه؛ حياءً من لقائهم، وكرهًا لتهنئتهم أو عزائهم، ثم بين نماذج ما يكتب في مثل هذه الحال،٨ وإلى القارئ نص رسالة الببغا التي اقترحها سيف الدولة بن حمدان:
من سلك إليك — أعزك الله! — سبيل الانسباط، لم يستوعر مسلكًا من المخاطبة فيما يحسن الانقباض عن ذكر مثله، واتصل بي ما كان من خبر الواجبة الحق عليك المنسوبة بعد نسبك إليها إليك — وفر الله صيانتها — في اختيارها ما لولا أن الأنفس تتناكره، وشرع المروءة يحظره؛ لكنت من مثله بالرضا أولى، وبالاعتداد بما جدده الله في صيانتها أحرى، فلا يسخطنك من ذلك ما رضيه وجوب الشرع، وحسنه أدب الديانة، ومباح الله أحق أن يتبع، وإياك أن تكون ممن لما عدم اختياره تسخط اختيار القدر له، والسلام.٩
ولا يفوتنا أن نذكر أن الببغا تأثر في رسالته هذه خطوات ابن العميد في نفس الغرض، ولكن رسالة ابن العميد أكثر وحشية وأدل على كره العرب لتزوج الأمهات، وأي وحشية أخشن وأغلظ من أن يخاطب من تزوجت أمه بمثل هذه اللهجة فيقول:
وهَناك الله الذي شرح للتقوى صدرك، ووسع في البلوى صبرك، ما ألهمك من التسليم بمشيئته، والرضا بقضيته … وجعل الله تعالى حده ما تجرعته من أَنَف، وكظمته من أسف معدودًا يعظم الله عليه أجرك، ويجزل به ذخرك، وقرن بالحاضر من امتعاضك لفعلها والمنتظر من ارتماضك١٠ لدفنها، وعوضك من أسرة فرشها أعواد نعشها، وجعل ما ينعم عليك بعدها من نعمة، معزى من نقمة، وما يوليك بعد قبضها من منحة، مبرأ من محنة.١١
ونحن حين نصف ذلك بالوحشية متأثرون بروح العصر الذي نعيش فيه، ولو خلونا إلى فطرتنا لرأينا ابن العميد يعبر عن نوازع إنسانية، ولا نقول شرقية؛ لأن الغيرة على الأمهات غيرة فطرية لا يسلم منها إنسان ولا حيوان، فلنقف عند تدوين ما يدل عليه الأدب من مظاهر الاجتماع والأخلاق وقفة النزاهة والحياد، وما خصصنا العرب والهند بكره البنات إلا لظهور ذلك في أدبهم ظهورًا قويًّا،١٢ وإلا فقد استجوبنا الناس من جميع الأجناس فرأيناهم يؤثرون البنين على البنات، وما نحن على الفطرة الإنسانية بمسيطرين.
ومن النواحي الطريفة في نثر الببغا رسائله في استهداء الشراب، وكان هذا الفن من الكتابة مما يؤثره كتاب القرن الرابع، ولهم فيه فقرات حسان تدل على فتوة القلوب، وشباب الأرواح، وفي طي ذلك الاستهداء معنى لطيف؛ فقد كان المستهدى يشير غالبًا إلى أن لديه «زائرين أعزاء» يسره أن يجمع شملهم حول بساط السلاف، وقد يومئ إلى أن لديه (محجوبًا) أسعده بزيارته، وأنه يجب أن لا يكون المجلس محرومًا من نفحة الصهباء، وانظر ماذا يقول أبو الفرج — سامحه الله:
من كان للفضل نسبًا، ولفلك الفتوة قطبًا، لم تفزع القلوب من الهم إلا إليه، ولم تعول الأنفس في استماحة المسار إلا عليه، وقد طرقني من إخواني من كان الدهر يماطلني بزيارته، وينفس١٣ عليَّ بقربه ومشاهدته، فصادفني من المشروب معسرًا، ووجدت الانبساط في التماسه من غيرك عليَّ متعذرًا، وإلى تفضلك تفزع مروءتي في الإسعاف منه بما يلم شعث الألفة، ويجمع شمل المسرة، ويجعلنا لك في رق الاعتداد بالمنة، ويقضي عني بتفضلك حقوق المودة.١٤
وفي المعنى نفسه يقول من كلمة ثانية:
ألطف المنن موضعًا، وأجلها من الأنفس موقعًا، ما عمر أوطان المسرة وطرد عوارض الهم والفكرة، وجمع شمل المودة والألفة، وأدى إلى اجتناء ثمرة اللذة، وبذخائرك من المشروب مع هذه الأوصاف ما يسترق حر الشكر، ويحرز قصب السبق إلى الثناء وجميل الذكر، فإن رأيت أن تنجد بالممكن منه مروءتي، على قضاء حق من أوجب علي المنة بزيارتي، فعلت.١٥
وعلام يدل هذا النوع من الاستهداء؟ يدل أولًا على أن الشراب كان إذ ذاك مما تفرضه المروءة — كما يعبر أبو الفرج — في السهرات الإخوانية، ويدل ثانيًا على أن الشراب لم يكن من الكثرة بحيث يجده الراغب حيث شاء، كما يقع ذلك اليوم في أكثر الحواضر الشرقية، وإنما كان مما يدخره المترفون، حتى استطعنا أن نرى أكثر الأدباء يستهدونه وينمقون في طلبه الرسائل الملاح، والاستهداء والاستجداء كلمتان متقاربتان في الرسم والنطق المدلول.١٦
وهناك استهداء أظرف وأشرف؛ وهو استهداء الدواة والمداد، ونحن نعلم قيمة ذلك في أنفس الكتاب، وقد استهدى الببغا دواة فقال:
أنفس الذخائر وأشرف الآمال ما كان للفضل نسبًا، وللصناعة والحظوة سببًا، وبالدوي تجتنى ثمرة الصناعة، ويحتلب در الكتابة، وقد أوحش المملوك الدهر مما كنت أقتنيه من نفائسها، وضايقه في وجود الرضي على الحقيقة منها، فإن رأى مولانا أن يميط ببعض ما يستخدمه من حاليها أو عاطلها سمة عطلة المملوك، ويسمح بإهدائها إلى أهل تصريفه، ويقابل بالنجح والتقبل رغبته، فعل، إن شاء الله تعالى.١٧
واستهدى مدادًا فقال:
التنافس — أيدك الله! — في أدوات الكتابة وآلات الصناعة بحسب التفاخر في ظهور النعمة، والتخير لبيان الإمكان والقدرة، وإلا فسائر الدوي سواء فيما تصدره الأقلام عنها، وتستمده بطون الكتب منها، وأولى آلاتها بأن تتوفر العناية عليه، وينصرف التخير بالضرورة إليه، المداد الذي هو ينبوع الآداب، وعتاد الكتاب، ومادة الإفهام، وشرب الأقلام … ولا معدل بي عن استماحة خزائنك — عمرها الله! — الممكن من جيده، فإن رأيت أن تستنقذ دواتي من خمول العطلة، وتنزه قلمي عن ظمأ الغلة، وتكشف عنها سمة النقصان والخلة، فعلت، إن شاء الله تعالى.١٨
ولنلاحظ أن الببغا لا يستهدي دواة كيف وقعت، ولا مدادًا كيف كان، وإنما يستهدي دواة (نفيسة) ولو كانت معطلة، ويستهدي مدادًا (جيدًا) ينزره قلمه عن ظمأ الغلة، وهذا تعبير يتنفس عن شعر بليغ، واختيار الدواة والمداد كان ولا يزال من أوضح الدلائل على أذواق الكتاب، وللدواة النفيسة والمداد الجيد تأثير قوي جدًّا في بعث نشاط الكاتب، وكذلك تفعل الأقلام الجيدة، وهذا كلام فصلناه في المقدمة الفرنسية التي صدرنا بها «الرسالة العذراء» فليرجع إليه القارئ هناك.١٩
وقد لاحظنا أن الببغا يكتب في الموضوع الواحد غير مرة، وفقًا للظروف، من ذلك رسائله في التهنئة بالزواج،٢٠ والتهنئة بولاية عمل،٢١ والتهنئة بالقدوم من السفر،٢٢ والتهنئة بالمواسم والأعياد.
وهذا كله طبيعي ومقبول، ولكن الطريف أن يتكرر كلامه في التهنئة بالصرف عن الولاية، فقد نفهم أن يهنأ المرء بولاية عمل، ولكنا لا نفهم كيف يهنأ بالعزل، وما ننكر أن يقع ذلك، ولكنه في رأينا من التكلف الممجوج، وإن كان يدل على لباقة وذكاء، ولننظر كيف يحتال الببغا في مثل هذه الحال:
من حل محله — أيده الله تعالى! — من رتب الرياسة والنبل، كان معظمًا في حالتي الولاية والعزل، لا يقدح في قدره تغير الأحوال، ولا ينقله عن موضعه من الفضل تنقل الأعمال، إذ كان استيحاشها للفائت من بركات نظره، بحسب أنسها — كان — بما أفادته من محمود أثره.٢٣
لو كان لمستحدث الأعمال ومستجد الولايات زيادة على ما اختصك به من كمال الفضل، ومأثور النبل، لحاذرنا انتقال ذلك بانتقال ما كنت تتولاه بمحمود كفايتك، وتحوطه بنواظر نزاهتك وصيانتك … فالأسف فيما تنظر فيه عليك لا منك، والفائدة فيما تتقلده بك لا لك؛ ولذلك كنت بالصرف مهنأ مسرورًا، كما كنت في الولاية محمودًا مشكورًا.٢٤
وهذا الاستطراف لا يفارق الببغا، فقد كتب عدة رسائل في التهنئة بالشفاء من المرض، يدور أكثرها حول معنى واحد؛ هو أنه يشارك صديقه في العلة والشكوى، ويعجبنا من ذلك قوله:
ما كنت أعلم أن عافيتي مقرونة بعافيتك، ولا سلامتي مضافة لسلامتك إلى أن تحققت ذلك من مشاركتي إياك في حالتي الألم والصحة، والمرض والمحنة، فالحمد لله الذي شرف طبعي بمناسبتك، وجمل خلقي بملاءمتك فيما ساء وسر، وإياه تعالى أشكر على ما خصني به من كمال عافيتك وسبوغ سلامتك وسرعة إقالتك.٢٥
ولكنا نبتسم حين نراه يهنئ صديقًا بالمرض فيقول:
في ذكر الله سيدي بهذا العارض أماطه الله وصرفه، وجعل صحة الأبد خلفه ما ما دل على ملاحظته إياه بالعناية، إيقاظًا له من سنة الغفلة، إذ كان تعالى لا يذكّر بطروق الآلام، وتنبيه العظات، غير الصفوة من عباده الخيرة من أوليائه، فهنأه الله الفوز بأجر ما يعانيه، وحمل عنه بألطافه ثقل ما هو فيه.٢٦

ولكن لا عجب فالمرض والعزل من الطوارئ التي تحتاج إلى التلطف في المواساة؛ وإخراجها مخرج التهنئة فيه طرافة تغري بالعزاء.

وقد يتفق للببغا أن يكرر العبارات والألفاظ حين يعاود الكتابة في موضوع واحد كقوله في التعزية:
اتصل بي خبر المصيبة، فجدد الحسرة، وسكب العبرة، وأضرم الحرقة، وضاعف اللوعة.٢٧
فنراه يعيد هذه التعابير في كلمة ثانية فيقول:
اتصل بي خبر المصيبة، فأضرم الحسرة، وسكب العبرة، وقدح اللوعة، وامترى الدمعة.٢٨

وله في هذا عذره؛ فإن اللغة محدودة، وبعض المعاني يعسر الافتنان في تلوينها أحيانًا، على أنه استطاع أن يخفي فقره قليلًا حين قال: (أضرم الحسرة) مقابل (جدد الحسرة) وقال: (قدح اللوعة) مقابل (أضرم الحرقة)، وإن كان كرر (سكب العبرة) بلفظها في الرسالتين.

وكذلك كرر المعنى والعبارة في قوله تعزية لصديق:
أحسن الله في العزاء هدايته، وحرس في فتن المصائب بصيرته.٢٩
وقوله:
وحرس يقينك من اعتراض الشبهة، وأحسن إلى جميل الصبر هدايتك، وتولى من فتن المحن رعايتك.٣٠
ويلاحظ مثل ذلك فيما كتب من رسائل الاعتذار٣١ والتهنئة بالمنزل الجديد،٣٢ وإن كان في هذا يكرر المعاني أكثر مما يكرر الألفاظ.
لقد ضاعت رسائل الببغا ولم يبق منها إلا القليل، وما حفظه منها القلقشندي غير موشح بالشعر، ولكن ما حفظه الثعالبي رصع بالمستجاد من أبياته الحسان، حتى نجده يترجم لرسائله فيقول:

فصل في بيان غرر من رسائله الموصولة بمحاسن شعره.

لهذا نرجح أن يكون القلقشندي اختصر ما اختار من رسائله، فأسقط ما وصلت به من الشعر البليغ، ونرجح أن يكون الغالب على نثره أن يرصع بالشعر على عادة بعض الكتاب من الشعراء، وإلى القارئ نموذجًا من رسالة في مدح سيف الدولة:٣٣

الشجاعة أقل أدواته، والبلاغة أصغر صفاته، يطرق الدهرُ إذا نطق، وينطق المجد إذا افتخر، فالآمال موقوفة عليه، والثناء أجمع مصروف إليه، نهض بما قعدت الملوك عن ثقله، وضعف الدهر عن معاناة مثله، بهمم سيفية، وعزائم علوية، فرد شمل الدين جديدًا، وذميم الأيام حميدًا، بحق أوضحه، وخلل أصلحه، وهدى أعاده، وضلال أباده.

فلا انتزع الله الهدى عز بأسه
ولا انتزع الله الوغى عز نصره
وأحسن عن حفظ النبي وآله
ورعي سوام الدين توفير شكره
فما تدرك المداح أدنى حقوقه
بإغراق منظوم الكلام ونثره

لأن أدنى نعمة تستغرق جميع الشكر، وأيسر منة تفوت المبالغة في جميل الذكر … إلخ.

هذا؛ ولا ننس أن نذكر القارئ بأن فضل الببغا في رسائله لا يقاس إلى فضله وبراعته في نثره المرسل الذي دبج به قصصه الغرامية، وقد حفظ له منها شاهد يعز على من رامه من أندى الكتاب قلمًا وأسماهم بيانًا.٣٤

هوامش

(١) صبح الأعشى (٩ / ١٤٣).
(٢) صبح الأعشى (٩ / ١٤٣).
(٣) صبح الأعشى (٩ / ١٤٣).
(٤) صبح الأعشى (٩ / ١٤٤).
(٥) صبح الأعشى (٩ / ٦١، ٦٢).
(٦) زهر الآداب (٢ / ٦٥) الطبعة الثانية.
(٧) صبح الأعشى (١ / ١٤٥).
(٨) زهر الآداب (٢ / ٦٢، ٦٣) الطبعة الثانية.
(٩) صبح الأعشى (٩ / ٧٩).
(١٠) الارتماض: الحزن.
(١١) زهر الآداب (٢ / ٦٣).
(١٢) بغض العرب للبنات معروف وقد سجله القرآن، أما بغض الهنود للبنات فيكفي في بيانه قول مؤلف كليلة ودمنة: «وكان يقال: إن العاقل يعد أبويه أصدقاء، والإخوة رفقاء، والأزواج ألفاء، والبنين ذكرًا، والبنات خصماء، والأقارب غرباء، ويعد نفسه فريدًا.»
(١٣) ينفس: يحسد.
(١٤) صبح الأعشى (٩ / ١٢٣).
(١٥) صبح الأعشى (٩ / ١٢٣).
(١٦) في هذه اللفتة شيء من الحق، وكل ما بين الكلمتين من الفرق أن الاستجداء يكون فيما يحتاج إليه المعوزون كالطعام، وأن الاستهداء يكون فيما يحتاج إليه المترفون في أذواقهم وإن كانوا فقراء.
(١٧) صبح الأعشى (٩ / ١٢١).
(١٨) صبح الأعشى (٩ / ١٢١).
(١٩) وللقارئ أن يراجع كذلك ما أثبته صاحب زهر الآداب من (أوصاف آلات الكتابة والدوي والأقلام) ص٢٢٩، ٢٣٠ الطبعة الثانية.
(٢٠) أثبت صاحب الصبح أربع رسائل (٩ / ٥٤، ٥٥).
(٢١) أثبت له مؤلف الصبح ثلاث رسائل (٩ / ٢٢، ٢٣).
(٢٢) أثبت له أربع رسائل (٩ / ٣٤، ٣٥).
(٢٣) الصبح (٦ / ٧٧).
(٢٤) الصبح (٩ / ٧٧).
(٢٥) ص٦٥.
(٢٦) ص٧٦.
(٢٧) ص٩٦.
(٢٨) ص٩٧.
(٢٩) ص٩٦.
(٣٠) ص٩٧.
(٣١) ص١٧٠، ١٧١.
(٣٢) صبح الأعشى (٩ / ٧٢، ٧٣).
(٣٣) راجع: ما اختار صاحب اليتيمة من رسائله (١ / ١٨٢–١٩٢).
(٣٤) تجد هذا الشاهد في باب «الأخبار والأقاصيص» بالجزء الأول من هذا الكتاب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤