الفصل الثامن

أبو بكر الخوارزمي

وهذه أيضًا شخصية عظيمة من الشخصيات التي نهضت بالأدب العربي وشغلت الناس عدة أجيال، والكاتب صاحب الشخصية — فيما نريد — هو الكاتب الذي يمتاز أسلوبه وتفكيره بخصائص ومميزات لا يمثلها كاتب سواه، وكذلك كان الخوارزمي؛ فهو في نثره عقل قوي يمتاز عن العقول التي سبقته أو عاصرته، وليس معنى ذلك أنه يفوقها جميعًا، فهو دون ابن العميد في سمو الغرض، ودون بديع الزمان في حلاوة التعبير، ودون التوحيدي في وفرة المحصول، ولكننا نريد أن نقول: إن له بلاغة خاصة تضمن له التفرد والاستقلال والنبوغ الأدبي. هو ذلك: فليس يطلب من الكاتب أو الشاعر أن يفوق جميع معاصرية ليوصف بالنبوغ، ولكن يكفيه أن يكون ينبوعًا مستقلًّا يشعر الناس بوجوده الخاص ويحسون فقده إن حجب عنه فيضه النمير.

وقد كان الخوارزمي شاعرًا، ولكن ديوانه ضاع، ولم يبق من شعره إلا القليل، فمن الصعب أن نعطي القارئ فكرة عن حياته الشعرية، وإن كان من السهل أن نجزم بأن خموله في الشعر كان أمرًا مقضيًّا؛ لأنه عاصر جماعة من الشعراء الذين لا يشق لهم غبار؛ منهم الشريف الرضي والمتنبي والمعري وأبو فراس، على أن ما أثر عنه من الشعر يدل على أن كتابته خير من شعره، وأن شعره ليس بجيد وإن لم يكن برديء، من ذلك قوله في بعض الأصدقاء:

رأيتك إن أيسرت خيمت عندنا
مقيمًا وإن أعسرت زرت لماما
فما أنت إلا البدر إن قل ضوءه
أغبّ وإن زاد الضياء أقاما

وقوله فيمن يطلب الصهباء وهو بخيل:

يا من يحاول صرف الراح يشربها
ولا يفك لما يلقاه قرطاسًا
الكاس والكيس لم يقض امتلاؤهما
ففرغ الكيس حتى تملأ الكاسا١

فليس لدينا إذن ما يمثل شخصية الخوارزمي غير رسائله، فلنكتف بها في درس ما له من قوة التفكير ودقة الأسلوب.

لا نعرف بالضبط متى ولد محمد بن العباس الخوارزمي، أما موته ففيه خلاف؛ فمن قائل: إنه توفي سنة ٣٨٣، ومن قائل: إنه توفي٢ سنة ٣٩٣، وسمي الخوارزمي؛ لأن أباه من خوارزم، وقد أقام بالشام مدة وسكن بنواحي حلب ثم انتقل إلى نيسابور فأقام بها إلى أن مات، وكان الخوارزمي معروفًا بقوة الحفظ، يشهد له بذلك أصدقاؤه وأعداؤه معًا، وإنهم ليذكرون أنه قصد الصاحب بن عباد وهو بأرجان، فلما وصل إلى بابه قال لأحد حجابه: قل للصاحب: على الباب أحد الأدباء وهو يستأذن في الدخول، فدخل الحاجب فأعلمه، فقال الصاحب: قل له: قد ألزمت نفسي أن لا يدخل عليَّ أحد من الأدباء إلا من يحفظ عشرين ألف بيت من شعر العرب، فخرج إليه الحاجب وأعلمه بذلك. فقال له أبو بكر: ارجع إليه وقل له: هذا القدر من شعر الرجال، أم من شعر النساء؟ فدخل الحاجب فأعاد عليه ما قال: فقال الصاحب: هذا يكون أبا بكر الخوارزمي.٣

ومن الواجب أن نقف قليلًا عند هذه الكلمة إذ كانت تحتاج إلى نقد: أفكان ممكنًا حقًّا أن يجد الخوارزمي عشرين ألف بيت من شعر النساء، أم هو غلو وإغراق من رجل عُرف بكثرة المحفوظ؟ الظاهر أن في هذه الكلمة شيئًا من المبالغة، فقد وجه نظرنا أستاذنا المرحوم محمد بك المهدي في محاضرته بالجامعة المصرية سنة ١٩١٦ إلى أن علماء اللغة ورواتها لم يهتموا بأشعار النساء، حتى إن الذين تخيروا الشعر الجيد منهم وجمعوه في ديوان ليحفظ لم يريدوا أن يختاروا قصيدة لامرأة لتكون بجانب قصائد الرجال، وهذا أبو زيد القرشي قد اختار تسعًا وأربعين قصيدة من القصائد الطوال ولم يجئ فيها بواحدة لامرأة، لا من الجاهلية ولا من الإسلام، وهذه المفضليات مائة وعشرون قصيدة وقطعة ليس فيها إلا خمسة أبيات لامرأة مجهولة من بني حنيفة.

غير أن أستاذنا — رحمه الله — أشار في الوقت نفسه إلى أن المرزباني جمع أشعار النساء في كتاب حافل يوجد منه الجزء الثالث في دار الكتب المصرية بخط أندلسي قديم مضى عليه نحو ثمانمائة سنة، وفي هذا دليل على أن الرواة شغلوا أيضًا بجمع أشعار النساء، وإن كان لا ينكر أن حظ المرأة في الشعر العربي ضئيل، حتى ليمكن القول بأن المرأة العربية لم تسمُ يومًا إلى منافسة الرجل في الشعر، وها نحن أولاء نعيش في عصر من عصور النهضة في اللغة وفي الأدب، فأين الشواعر المجيدات، وكم عددهن في هذا الجيل؟

ومهما يكن من شيء فقد كان لما حفظه الخوارزمي أثر كبير في أدبه؛ فقوي أسلوبه وتلون خياله، وصار من أقدر الكُتاب على الوصف، ومن أعرفهم بضرب الأمثال.

أما حياته فأظهر ما فيها حادثان: أولهما اتصاله بالصاحب بن عباد، وثانيهما مناظرته بديع الزمان.

واتصاله بالصاحب بن عباد يفسر لنا غرامه بالنيل من المتنبي والغض من شعره، فهجومه على المتنبي لم يكن إذن صادرًا عن نزعة فنية تحدوه إلى كشف عيوب المتنبي ومساويه، ولكنه اندفع في ذلك ترضية للصاحب بن عباد الذي كان يحقد على المتنبي لترفعه عن مدحه ولإشادته بابن العميد. وأشد ما عرف من هجاء الخوارزمي للمتنبي قوله في الرسالة التي كتبها إلى الحاجب أبي إسحاق لما نكبه الوزير ابن عباد:

ونظرت إلى أبي الطيب وإلى تناقض حكمته، وتفاوت طرفي فعلته؛ حيث قال في سيف الدولة:

لا تطلبن كريمًا بعد رؤيته
إن الكرام بأسخاهم يدًا ختموا

ثم قال في كافور الإخشيدي:

قواصد كافور توارك غيره
ومن قصد البحر استقل السواقيا
فلقد باع من الوفاء عِلقًا خطيرًا، واعتاض من الطمع ثمنًا يسيرًا، وحال ضباب الحرص والرجاء بينه وبين العهد والوفاء، وكان يضايق نفسه في اختيار المتاع، ويسامحها في اختيار المبتاع، ويخلع خلعة من نظمه تساوي بدرة، على عرض من لا يساوي بعرة، ويزن كريمة من كرائم شعره، إلى من لم تقم عنده كريمة، ولم تعرف له قيمة، لو رأى الطمع في جحر فأر لدخله، ولو أتاه الدرهم من است كلب لما غسله، فلا جرم أن الناس كما استحسنوا قوله، استقبحوا فعله، وكما أعجبوا بشعره، تعجبوا من غدره، يشكر ثم يشكو، ويمدح ثم يهجو، ويشهد ثم يجرح شهادته، ويعطي ثم يسترجع عطيته، وكم من حر فضله ثم ثلبه، وكم من عرض كساه ثم سلبه، وكم من صحفة أكل منها ثم بصق فيها.٤
وفي نص هذه الكلمة أن الخوارزمي كان يعجب بشعر المتنبي ولا يعيب عليه إلا أخلاقه وتنقله من حال إلى حال، وقد جره ذلك إلى التغني بخلقه هو، واحتفاظه بالود، ووفائه بالعهد، فقال: «ولكن في قميص أبي بكر رجلًا إذا أعطى لم يرتجع، وإذا أطلق لم يراجع، وإذا بنى لم يعد على بنائه بالهدم، وإذا مدح لم يطأ على عقب مديحه بالذم، وإذا طيب فكيه بالمدح لكريم، لم يلطخهما بمدح للئيم، وإذا زوج كرائمه كفؤًا حجبهن أن يتبرجن إلا لديه، ويجتليهن غير عينيه، وإنما الغدر من أخلاق النساء، فمن تعلق بطرف منه فقد رغب بنفسه عن كمال الذكران وجذبها إلى شق النسوان.»٥

فالمتنبي مؤنث الخلق؛ لأنه غادر، والخوارزمي مذكر الطبع؛ لأنه وفي!

هكذا حكم الخوارزمي لنفسه بالنبل، وحكم على المتنبي بالخساسة؛ لأن المتنبي يتغير ويتبدل، أما الخوارزمي فلا يتلون ولا يحول.

ولكن القدر شاء أن يعاقب الخوارزمي على بغيه الأثيم؛ فساءت الصلات بينه وبين ابن عباد فتحول عنه وشغل بذمه وقدحه بعد أن شغل بتمجيده والثناء عليه، واستطاع أن يرمي ممدوحه بمثل هذا السهم المسموم:

لا تحمدن ابن عباد وإن هطلت
يداه بالجود حتى أخجل الديما
فإنها خطرات من وساوسه
يعطي ويمنح لا بخلًا ولا كرمًا

وجرى في الناس في ذكر الخوارزمي بالتقلب والتحول حتى قال فيه أحمد بن شهيب:

أبو بكر له أدب وفضل
ولكن لا يدوم على الوفاء
مودته إذا دامت لخلٍّ
فمن وقت الصباح إلى المساء

وأنشد الصاحب حين بلغه خبر موته:

أقول لركب من خراسان قافل
أمات خوارزميكم قيل لي نعم
فقلت اكتبوا بالجص من فوق قبره
ألا لعن الرحمن من كفر النعم!

وقد اتصل الخوارزمي بكثير من الرؤساء، ولكنا لا نعرف تفاصيل ما وقع بينه وبينهم، وإن كانت طبيعة ذلك العصر تشير إلى أن استقامة الخلق كانت نادرة، وأن تبادل الضغائن والأحقاد كان من الظواهر الكثيرة الوقوع.

أما الحادث الثاني فهو مناظراته لبديع الزمان، وهو حادث مشئوم قضى عليه، ويرجع السر فيه إلى دسيسة بعض الرؤساء المستوحشين منه، والراغبين في إسقاطه،٦ وإلى مكر بديع الزمان ودهائه مع أنه كان لا يزال في غرارة الصبا، وغفلة الحداثة، وذلك أنه فطن إلى جانب الضعف فيمن يقودون الجماهير في ذلك الحين، وهو غلوهم في التشيع فانطلق يبكي القتلى من أهل البيت، ويستمطر الغضب والسخط على أعداء آل الرسول، وكذلك اجتمع على الخوارزمي كيد أعدائه في نيسابور ولؤم مناظره ومكره، فعاد وهو مقهور «وانخذل انخدالًا شديدًا، وانكسف باله، وانخفض طرفه، ولم يحل عليه الحول حتى خانه عمره.» كما قال ياقوت.٧

وقد سبقت تلك المناظرة بطائفة من الرسائل جرت بين الكاتبين مجرى العتاب، وهي رسائل جيدة تستحق الدرس، كان بديع الزمان فيها يعد الحملة ويتأهب للنزال، وكان الخوارزمي يقابل عتبه بأرق من النسيم في بعض الأحيان، وربما راجعه فذكر أن عتابه قبيح ولكنه حسن، وكلامه لين ولكنه خشن «أما قبحه فلأنه عاتب بريئًا، ونسب إلى الإساءة من لم يكن مسيئًا، وأما حسنه فلألفاظه الغرر، ومعانيه التي هي كالدرر، فهي كالدنيا ظاهرها يغر، وباطنها يضر، وكالمرعى على دمن الثرى، منظره بهي، ومخبره وبي» وربما أنشده:

يا بديع القول حاشا
لك من هجو بديع
وبحسن القول عوذ
تك من سوء الصنيع
لا يعب بعضك بعضا
كن مليحًا في الجميع

وقد مضى الخوارزمي يلاين بديع الزمان فيذكر أنه شريعة وده إذا وردها صافية، وأن ثياب بره إذا قبلها ضافية «هذا ما لم يكدر الشريعة بتعنته وتعصبه، ولم يخترق الثياب بتجنبه وتسحبه»، وهنالك يذكر الخوارزمي أنه لا يقول:

وإني لمشتاق إلى ظل صاحب
يرق ويصفو إن كدرت عليه

فإن قائل هذا البيت قاله والزمان زمان، والإخوان إخوان، وحسن العشرة سلطان، ولكنه يقول: وإني لمشتاق إلى ظل:

رجل يوازنك المودة جاهدًا
يعطي ويأخذ منك بالميزان
فإذا رأى رجحان حبة خردل
مالت مودته مع الرجحان
على أننا إذا تجاوزنا هذين الحادثين وأخذنا نتلمس شعور ذلك الرجل بأعباء الحياة وجدناه يمشي مثقل الظهر بطائفة من التكاليف تذل لها نفسه ويجرح بها كبرياءه، ألسنا نراه يزور أبا الحسن عبد العزيز صاحب ديوان الرسائل طمعًا في بره، فيكون هذا عند ظنه، فيكتب إليه رسالة تجيء فيها هذه الفقرة التي تمثل بؤسه أبشع تمثيل:
ومن أنقذ إنسانًا من الفقر، وانتشله من مخالب الدهر، وفكه من إسار العسر، فقد أعتقه من الرق الأكبر، ونجاه من الموت الأحمر، والرق رقان: رق الملك ورق الهوان، والأسر أسران: أسر العدو وأسر الزمان.٨
وقد ورد عليه كتاب من أحد تلاميذه ينبئه فيه بأنه عليل، فكتب الخوارزمي كتابًا جاء فيه:
وأظن أني لو لقيتك عليلًا لانصرفت عنك، وأنا أعل منك، فإني بحمد الله تعالى جلد على أوجاع أعضائي، غير جلد على أوجاع أصدقائي، ينبو عني سهم الدهر إذا رماني، وينفذ في إذا رمى إخواني، فأقرب سهامه مني، أبعد سهامه عني، كما أن أبعدهما عني، أقربها مني.٩

وهذه الفقرة تمثله جلدًا صبورًا، ولكن الصبر والجلد لا يطلبان إلا حين تشتد الكوارث وتقسو الخطوب.

وهذا الشعور بأعباء الحياة أنطقه بالحكمة في تعليل الحزن، فهو من أسبق الكتاب إلى الإفصاح عن علل العواطف والشهوات، وإنه ليحدثنا بأن الإنسان حين يحزن للمصيبة تحل بغيره، إنما يحزن لأنه يرى بعينه أن سيكون له مثل ذلك المصير؛ إذ كانت المآسي الإنسانية كأسًا تدور على الجميع، ولننظر كيف يقول وهو يعزي بعض الرؤساء في شقيق له:
ورد عليَّ خبر وفاة فلان فدارت بي الأرض حيرة، وأظلمت الدنيا حسرة، وملأ الوله والوهل قلبي وسواسًا وفكرة، وتذكرت ما كان يجمعني وإياه من سكرى الشباب والشراب، فعلمت أنه شرب بكأس أنا شارب من شرابها، ورمي بقوس سوف أرمى بها، فبكيت عليه بكاء لي نصفه، وحزنت له حزنًا لنفسي شطره.١٠
وهذه الحيرة المطبقة التي كان يعانيها الخوارزمي بين أحداث زمانه جعلته يتشاءم من صحبة من يقاسون إدبار الأيام، ويتفاءل بالتعرف إلى من ينعمون بإقبال الزمان، وهو يرى «أن من تعلق بذيل المقبل أقبل،١١ ويرى كذلك أن «أيام المحنة موج من تطاطا له تخطاه، ومن وقف على طريقه أرداه، ومن قابل أيام الإدبار بوجهه صدمته، ومن قاتل عساكر الإقبال في أيام كرهًا هزمته.»١٢ وعنده أن «الإقبال يستر العيوب، والدولة تجعل البعيد قريبًا، والجد يرى المخطئ مصيبًا، والمجدود يمس بيديه ما لا يراه المحدود بعينيه».
وكلمتا الإقبال والإدبار يجدهما القارئ في رسائله هنا وهناك؛ بحيث يمكن القول بأنه كان موسوسًا من هذه الناحية، وفي هذا الوسواس شيء من الحق والصدق، فكم من عقل ضاع، وكم من عبقرية أخمدت وأفلت بانصراف المفكر العبقري إلى مناصرة فئة تختصر، أو الدفاع عن فكرة تهم بالأفول، وفهم الخوارزمي للحياة على هذا النحو الدقيق أملى عليه الحرص على الحكمة يسديها إلى أصدقائه من حين إلى حين، من ذلك قوله في سياسة النفس: «ومن غلبت شهوته على رأيه شهد على نفسه بالبهيمية، وانخلع من ربقة الإنسانية، وحق على العاقل أن يأكل ليعيش، لا أن يعيش ليأكل، وكفى بالمرء عارًا أن يكون صريع مآكله، وقتيل أنامله، وأن يجني ببعضه على كله، ويعين فرعه على أصله، فكم من لقمة أتلفت نفس حر، وكم من أكلة منعت أكلات دهر، وكم من حلاوة تحتها مرارة الموت، وكم من عذوبة خلفها بشاعة الفوت، وكم من شهوة ذهبت بنفس لا تقوى لها العساكر، وقطعت جسدًا كانت تنبو عنه السيوف البواتر، وهدمت عمرًا هدمت به أعمار، وخربت بخرابه بيوت بل أمصار … والمشتهي عاش لنفسه، قليل البقيا على روحه، وكيف يحفظ أصدقاءه من لا يحفظ أعضاءه، وكيف يُبقي على غيره من لا يبقي على نفسه، وكيف يؤتمن على من لا يؤتمن على بعض منه.»١٣
ولننتقل بعد أن ألممنا بشيء من حياة الخوارزمي، ووقفنا على شيء من مطوى صدره ومكنون سره، إلى فنه الذي عرف به في إجادة الإنشاء، ولنذكر أولًا أنه دلنا على فهمه لسر البيان، إذ قال في إحدى رسائله في هجاء بعض معاصريه:
وإذا أردت أن تعلم أني في ذمك جاد، وفي مدحك لاعب، وأني في الشهادة عليك صادق، وفي الشهادة لك كاذب، فانظر إلى تهافت قولي إذ لاينتك وجاملتك، وإلى إصابتي الغرض وحزي المفصل إذ كاشفتك وصدقتك، وذلك أن الصادق مُعانٌ ومأخوذ بيديه، والكاذب مخذول مغضوب عليه.١٤

فسر البلاغة عند الخوارزمي يرجع إلى الصدق، وهذا دليل على أنه كان مأخوذًا بفنه مفتونًا به، فلن يكون للشاعر أو الكاتب وصول إلى سحر البلاغة وسحر البيان إلا إذا صدق، وفي الصدق وحده سر العبقرية والنبوغ، ومن هنا سقطت آثار المتكلفين من الكتاب والشعراء الذين سخروا أقلامهم وعقولهم، وباعوا ضمائرهم ونفوسهم، ورضوا بأن يكونوا أبواقًا تردد أصوات الآمرين والناهين من أرباب الملك وأصحاب الجاه. وحين يصدق القلب والحس والعقل يصبح الأدب جذوه خالدة تلهب ما تمس من أوتار المشاعر والعواطف والأحاسيس على مر القرون وتتابع الأجيال، وإذ ذاك لا يقوم الأدب بالأحجام والأوزان والمقادير كما يتوهم من يقيسون القصائد والرسائل والمؤلفات بالعرض والطول من أهل هذا الجيل، وإنما يقاس نبوغ الكاتب وتوزن عبقرية الشاعر بما فيها من نار ونور، وما تحمل من عناصر القوة الخالدة التي تجعل ربها أبًا وأخًا وأستاذًا وزميلًا لكل من يمرون بعده بهذه الأرض مهما باعدت بينه وبينهم ظروف الزمان والمكان.

فالصدق هو الهادي الأمين الذي يسير بنا في أودية الغرائز الإنسانية، فلا نعرف شر الزيغ ولا نقاسي ضر الضلال، وحين نصدق ونفنى في الصدق نتغنى وادعين بأحلام الإنسانية المبثوثة في ضمير الوجود، فلا يغلق عنا سمع، ولا يعزف عن أغانينا أحد من الموفقين، وإنما تفتح لنا صدور الناس وقلوبهم وأرواحهم فنكسب فيها ما صدقنا في الإيمان به من أصول الشر والخير، والظلمات والنور، والبر والفجور، فإن الحياة كما تعلم مجموعة من حلم الإنسان وجهله، وضلاله وهداه، والكاتب الإنسان هو الذي يصدق ويفنى في صدقه حين يواجه ما في الإنسانية من مشاكل عقلية، وأزمات روحية، وثورات نفسية ثم يتغنى بما في الطبيعة الإنسانية من نبل وسماحة ورفق وجمال، أو يصرخ مما فيها من شح ولؤم وجور وطغيان.

فأنا لا أريد إذن بصدق الكاتب أن يكون مشغولًا بالخير وحده لا يتغنى إلا به، ولا يتحدث إلا عنه، وإنما أريد أن لا يتكلم الكاتب أو الشاعر إلا صادقًا، يتغنى بالخير حين يؤخذ به، ويتغنى بالشر حين يفتن به، وفي صدقه السر كل السر في فتح ما أغلق من سرائر النفوس وضمائر القلوب فليصدق الفنان؛ إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر، فإن الصدق أساس النبوغ، أما الكاتب المنافق فمصيره إلى فناء؛ لأن النفاق أكبر مظهر من مظاهر الإخفاق، ولا ينافق إلا الضعيف المخبول الذي لا يشعر لنفسه بوجود خاص، ومن فقد شخصيته واطمأن إلى الاعتماد على سواه فجدير به أن ييئس من أن يروى له قول، أو يوزن له رأي، أو يرجى لبهرجه بقاء.

ونعود فنذكر أن الخوارزمي يضعف حينًا ويقوى أحيانًا، يسمو ويحلق حين يصدق، ويهوي ويسف حين يمين، وليس ضعفه بمحتمل ولا مقبول؛ لأنه يلتزم الصنعة والزخرف والسجع، فيبدو نثره الصعيف ثقيلًا ممجوجًا كالمرأة الفانية حين تتزين وتختال، ومن ذا الذي يسيغ قوله في وصف رجل:
إذا ناظره العربي صار أعجميًّا، وإذا ناظره الأعجمي صار عربيًّا، وإذا رآه المعجب بنفسه طلق كبره، وفارق فخره، فهو رفيق الجود وخليله، وزميل الكرم ونزيله، وغرة الدهر وتحجيله، حضرته حضرة الآجال والأموال، لا بل حضرة الأقوال والأفعال، لا بل حضرة الرجال، تنصب إليها موارد الرغبات، وتنشد فيها خيول الطلبات.١٥
وأثقل من هذا ورود الجناس في قوله من كتاب إلى محمد العلوي:
أذكره وإن كنت لا أنساه، وألقاه بقلبي وإن كنت لا ألقاه، وأسأل الله تعالى أن يرينا سلامته سليمة، واستقامة أحواله مستقيمة، فلا شيء أحوج من السلامة إلى السلامة، ولا إلى الاستقامة من الاستقامة.١٦
والحرص على السجع في مثل قوله: «لا تؤخر عمل اليوم إلى غد، ولا تهمل نفسك في شغل السبت إلى الأحد.»١٧ فإن كلمتي السبت والأحد لم تقعا هنا إلا ابتغاء السجع.

والقارئ يجد أمثال هذه الفقرات الضعيفة في مواضع كثيرة من رسائله، وعذر الخوارزمي أنه حمل نفسه ما لا يطيق من التزام الصنعة والسجع في جميع رسائله، حتى الموضوعات التي لا تحتمل التكلف، فكان من الحتم أن يقع في مهاوي الضعف والإسفاف.

والخوارزمي حين يجيد يسمو سموًّا عظيمًا، ويقدم من صور الجد والهزل ما يمتع النفس ويطرب الروح، وقد نراه يمرح فيستخفنا الطرب ونقبل عليه بنفس لعوب. وله كلمة ما قرأتها إلا تذكرت الصديق القديم الشيخ محمد عبد المطلب حين كان يخترق شوارع القاهرة على ظهر حمار، فقد اتفق للخوارزمي أن شكا وروده إلى بعض النواحي بعدما قاسى السير والسرى، وخاض غمار المهالك والردى، ونظر إلى الآخرة وهو في الدنيا. قال: «وأول ما مر بي سوء الدخول على ظهر الحمار، ومعاشرة الخمار، على أن الخمار أيضًا حمار، إلا أنه قصير الأذنين، يمشي بين رجلين، وكأني كنت بين حمارين، إلا أني كنت بين جنسين.»١٨
وله رسالة عن بستان ذكر أنه مرتع ناظره، ومتنفس خاطره، ومجال بصره، ومدار فكره؛ إذ ليست فيه زاوية إلا وقد صب عليه فيها كأس، ونام في حافتها وجه صبيح، وتقلب في أطرافها قدٌّ مليح. إلى هنا يمضي الكلام فتتذكر به بعض ما قصه فرانك هارين عن أوسكار ويلد، ولكن الخوارزمي يفاجئنا بأن بستانه ليس بذاك، ثم يقول: «وإنما أذكر بُقَيعة طولها باع، وعرضها ذراع؛ أعني باع البقة، وذراع الذرة،١٩ وأقل من لا، وأصغر من الجزء الذي لا يتجزأ، ولو طارت عليها ذبابة لغطتها، أو دخلتها نملة لسدتها، تسقى بالمسعط صباحًا، وتنكت بالخلال مساء، أشجارها مائة إلا تسعة وتسعين، وأنهارها خمسون إلا تسعة وأربعين.»٢٠

ولكن أمثال هذه الفكاهات تمر كالطيف فيما ترك ذلك الكاتب المجيد، فتلك فقرات تصيدناها من رسائله، وهيهات أن يكون لمثله طبع مرح وهو الذي قضى حياته يتعثر بين أحداث البؤس والهوان، فالفكاهة تقع تحت سن قلمه لا تزيد عن عبث الألفاظ، وتظل نفسه خامدة لا تطرب ولا تجذل ولا تعرف سر الدعابة ولا روح المزاح، ألسنا نستقي أدبنا مما نرد من موارد الحياة، ونقدم لقرائنا صورًا من أنفسنا وعواطفنا ومشاعرنا وأشجاننا وأحزاننا؟ وهذا لا يمنع أن لبعض المحزونين فكاهة ودعابة، غير أن الخوارزمي لم يكن من هؤلاء، فقد وقع بين قوتين تحولان دون حلاوة المزاح؛ الأولى: عيشه الضيق، والثانية: مهنة التعليم.

أما ضيق عيشه فقد عرفناه من تقلبه وحيرته بين أبواب الوزراء والرؤساء، وأما مهنة التعليم التي احترفها واكتوى بنارها وكابد ما تقضي به من التجمل والتوقر والاستحياء فقد عرفنا أخبارها من رسائله الكثيرة التي جرت بينه وبين تلاميذه. ومن عسى أن يكون أولئك التلاميذ؟ إنهم في الأغلب قوم ممن بسط لهم الله في الرزق، واستطاعوا أن يغلوا عنق ذلك الرجل بشيء من المال يقدمونه إليه ثمنًا لعلمه وفضله، وتلك محنة نتصورها خطرة بشعة ونكاد نحكم بأن لأوزارها وأثقالها أثرًا في كبت ذلك الروح وحبسه في حدود الجد والرزانة، حرمانه من نسمات اللهو المباح.

فإذا تركنا تلك الصور الفكاهية القليلة وانتقلنا إلى جد الخوارزمي وجدناه جدًّا رصينًا ينبئ عن نفس سامتها الأيام سوء العذاب، وأول ما يطالعنا منه غيرته على الأدب وتوجعه لأن يراه مما ينال اللئام، وإنه ليذكر أن «البخل بالعلم على غير أهله قضاء لحقه، ومعرفة لفضله» وأنه يغار على الأدب الكريم من المتأدب اللئيم، وينشد في ذلك:

وأرثي له من موقف السوء عنده
كمرثيتي للطرف والعلج راكبه
ويود أن يكون الأدب في جبهة الأسد ولو أصبحت الدفاتر في أنياب الأسود، ويتمنى لو يبعث الروقة بدينار، أو كتب الدفتر بقنطار، فلا يتأدب إلا شجا كمي، ولا يحرز الدفاتر إلا جواد سخي.٢١

وفي مثل هذه الصرخة دليل على أن الرجل كان يعاني آلامًا كثيرة من معاصريه، ويستكثر على فريق منهم أن يوسم بالأدب أو تصل يده إلى كتاب نفيس، وفيها كذلك إشارة إلى قلقه من بعض الطبائع الدنيئة التي يورثها العلم والأدب ألوانًا من العظمة البغيظة والكبرياء الممقوت، وهذا الصنف من المخلوقات هو الذي حمل بعض الناس على أن ينسب إلى الرسول هذا الحديث الذي نراه يدور على ألسنة الجماهير: «لا تعلموا أولاد السفلة العلم»، وكذلك كان طلاب الشهرة في عصر الخوارزمي يلجئون إلى التحرش بالشخصيات الكبيرة ليتم لهم ما يبتغون من الظهور، كما يفعل الخاملون في عصرنا هذا حين يهاجمون النابغين والعبقريين طمعًا في أن تذيع أسماؤهم ويعرفوا بصحة الفهم، وقوة النقد، وسعة الاطلاع.

ويظهر أن الخوارزمي ما زال يهاجم حتى وقع في روعه أنه مغلوب، فله فقرات تشعر بجزله وجنونه من إقبال بعض الناس عليه، فقد طلب منه أحد معاصريه نسخة من رسائله فكتب إليه في الجواب:
طلب الشيخ نسخة من رسائلي فمرحبًا بأنجح طالب، وأكرم خاطب، ومن سعادة الصهر كرم أختانه، ومن إقبال الكاتب والشاعر شرف من نظر في ديوانه، ولو قدرت لجعلت الورق من جلدي، بل من صحن خدي، والقلم من بناني، والمداد من ماء أجفاني، ولأمليت هذه النسخة على السفرة البربرة ليكتبوا بيد العصمة، ويخلدوه في بيت الحكمة، بل لو علمت أن مثل الشيخ يطلبه، وأن مثل يد الشيخ بسطها الله بالخيرات تكتبه، لحاسبت عليه بقلبي ولساني أدق حساب، وطالبت شيطاني بتهذيبه وتنقيحه أشد طلاب، ولقلت لخاطري دقق طرزك، وجود بزك، فإن المبتاع كريم، والثمن عظيم، وقد قيل: الرواية أحد الشاعرين، وأنا أقول: الرواية أحد الشعرين.٢٢
ويمكن أن يقال: إن التواضع في مثل هذه الفقرة مقصود؛ لأنه أرسل ذلك الجواب إلى رجل يرجو بره وهو أبو العباس كاتب محمد بن إبراهيم، ولأنه في مواطن أخرى يتعالى فيقول في عتاب أبي محمد العلوي: «إن قومًا أنا أصغرهم لكبار، وإن أمة أبو ذر شرها لخيار.»٢٣ ولكننا مهما قلبنا وجوه الرأي انتهينا إلى أن الخوارزمي كان مضطرب القول في تقدير أدبه ووزن فضله، وهو في ذلك معذور؛ لأنه كان يعيش من فيض قلمه، وهي حالة جعلتنا نرى المتنبي في عظمته وكبريائه يبدو في بعض الأحيان وكأنه تابع ذلول.
وللخوارزمي صور فنية يعرض بها الظالمين من أهل زمانه عرضًا بشعًا رهيبًا، مثال ذلك قوله في وصف بعض الولاة:
ورد علينا فلان ونحن نيام نوم الأمنة، وسكارى سكر الثروة، ومتكئون على فراش العدل والنصفة، فما زال يفتح علينا أبواب المظالم، ويحتلب فينا ضرعي الدنانير والدراهم، ويسير في بلادنا سيرة لا يسيرها السور في الفأر، ولا يستخيرها المسلمون في الكفار، حتى افتقر الأغنياء، وانكشف الفقراء، وحتى ترك الدهقان ضيعته، وجحد صاحب الغلة غلته، وحتى نشف الزرع والضرع، وأهلك الحرث والنسل، وحتى أخرب البلاد، بل أخرب العباد، وحتى شوق إلى الآخرة أهل الدنيا، وحبب الفقر إلى أهل الغنى، وحتى لقب بالجراد، وكني أبا الفساد، وحتى صار الدرهم في أيامه أقل من الصدق في كلامه، وصار الأمن في أعماله أعز من السداد في أفعاله، فليته إذ أوحش الرجال، حصل المال، وليته إذ ضيع المال أرضى الرجال، ولكنه حرم الاثنين، فأفلس من الجهتين، والله ما الذئب في الغنم بالقياس إليه إلا لمن المصلحين، ولا السوس في الخز في الصيف عنده إلا من المحسنين، ولا الحجاج بن يوسف الثقفي في أهل العراق إلا أول العادلين، ولا يزدجرد الأثيم في أهل فارس بالإضافة إليه إلا من النبيين والصديقين، ولا فرعون في بني إسرائيل إذا قابلته به إلا من الملائكة المقربين.٢٤

وفن الخوارزمي يظهر جيدًا في هذه الصورة، فقد وازن بين الحالتين: حال الأمن وحال الخوف، وقابل بين الخطتين: خطة العدل وخطة العسف، فأشار إلى أنهم كانوا قبل ورود ذلك الوالي في سكر الغنى وغفوة الأمان، وأنهم كانوا على فراش العدل متكئين، فلما قدم ذلك الوالي أذلهم وأذاقهم لباس الجوع والخوف، وفي قول الخوارزمي: «حتى افتقر الأغنياء، وانكشف الفقراء.» دقة بالغة، فإن انكشاف الفقراء غاية ما تصل إليه البأساء والضراء؛ إذ كان الفقر المحتمل يُداوى بالتجمل والتستر، وتسدل عليه أثواب الحياء، وحين تصبح الهيئة الاجتماعية مقسمة إلى غني افتقر، وإلى فقير ذل وخنع، فهنالك البؤس الجائر، والهول المبين.

وكلمات السوس والجراد والسنور والفأر تذكر بقول بديع الزمان في الشكوى من قاض ظالم: «وما رأيك في سوس لا يقع إلا في صوف الأيتام، وجراد لا يسقط إلا على الزرع الحرام، وذئب لا يفترس عباد الله إلا بين الركوع والسجود.»٢٥ وفي مثل هذا التوافق دليل على أن كُتاب ذلك العصر يبالغون في بعض التعابير، وأنهم كانوا يميلون إلى التمثيل بعوالم الحشرات والنبات والحيوان، وقوله: «حتى صار في أيامه أقل من الصدق في كلامه، وصار الأمن في أعماله أعز من السداد في أفعاله.» من العبارات الجميلة لولا أنه ترديد لما وقع من مثل هذه المقابلة في شعر الهجاء، وذكر الحجاج ويزدجرد وفرعون في الحديث عن الظالمين ليس بجديد، ولكنه ورد في صورة مقبولة تشعر بأنه كان يحسن استغلال ما ورد على ألسنة الأقدمين.
وللخوارزمي رسائل نحس فيها طيب النفس وخفة الروح، ولكنا نجد فيها كلمات قلقة نابية هي أثر الصنعة والتكلف والتزام السجع؛ كقوله في خطاب تلميذ له:
كتابي هذا ولو استقبلت من أمري ما استدبرت، وقدمت من رأيي ما أخرت، لما أمضى فينا الفراق حكمه، ولا أنفذ فينا سهمه، ولأقمنا جميعًا أو رحلنا معًا، وإني لأظلم الفراق إذا شكوته، وأتعنف الدهر إذا هجوته، وبيدي ضرباني، ومن سهمي رمياني، فأنا كالقاطع يده بيده، والفاجع نفسه بنفسه، ومطرق الفراق إلى قلبه، ومتجرع غصص البين وكربه.٢٦

والفقرتان الأخيرتان تكرار ثقيل، والمعنى كله مأخوذ من أبيات حورها الخوارزمي، وهي في الأصل الذي أثبته القالي:

تطوي المراحل عن حبيبك دائبًا
وتظل تبكيه بدمع ساجم
كذبتك نفسك لست من أهل الهوى
تشكو الفراق وأنت عين الظالم
ألا أقمت ولو على جمر الغضا
قبلت أو حد الحسام الصارم
ويقول الخوارزمي في هذه الرسالة يصف الأيام الماضية: «كانت أرق من حاشية البرد، وأحسن من طلوع السعد، وأحلى من إنجاز الوعد، وأعذب من القَنْد،٢٧ بل من النقد، وأعبق من الورد، وما أردت إلا ورد الخد، بل من المسك والند، وأطيب من القرب بعد البعد، ومن الوصل في أثر الصد، بل كانت أرق من نسيم الزهر في السحر، ومن قضاء الوطر على الخطر، بل كانت أقصر من ليل السكارى، أو نهار الحيارى.»٢٨

وهذه تعابير كانت تجمل وتظفر بالقبول لو لم يرم بها كاتبها على هذا النحو من الإسراف.

بقي أن نسأل هذا السؤال: هل للخوارزمي في جده وهزله فلسفة خاصة يقف عندها الباحثون؟

الظاهر أن فهم الخوارزمي للحياة كان واقفًا عند حدود أغراضه ومآربه ومطالبه الشخصية، وكان فنه وقفًا على حسن السفارة بينه وبين أولي الأمر من معاصريه، فليست رسائله في جملتها إلا شذرات من المديح والعتاب والاستعطاف والهجاء، وهذا أخطر مقتل في تلك الرسائل التي تعد من ذخائر الأدب العربي، وهو من أجل ذلك لا يصلح أستاذًا لكثير من المتأدبين، فإنه لم يهب شطرًا من منثوره في الدفاع عن فكرة فلسفية، أو نزعة وجدانية، ولم يرفع الأدب إلى أفق من آفاق الحب والمجد والإخلاص، ولم يسم به إلى سماء من سموات الفن الخالص الذي ينسينا آصار المادة وينقلنا إلى عالم الأرواح، وكل ما نجح فيه الخوارزمي أنه أشعرنا بوجوده، ووقفنا بجده أمام شخصية قوية لها في الحياة مطامع وأهواء، ولها في عصرها وجود ظاهر يحسب له حساب، ونحن لا نستقل هذا، ولكننا لا نكتفي به فإن الزعامة الأدبية مهما دلت على أخطار الزعماء لا ترضي وحدها عشاق الخير والحق والجمال.

ولقد انحاز الخوارزمي إلى مذهب الشيعة، وهو مذهب له خصائصه ومزاياه، وفي وصف هذا المذهب وقف وقفة مخيفة دلتنا على أنه رجل جلاد ونضال، ولكنه لم يشعرنا بحب ذلك المذهب، ولم يسكب في روحنا قطرة من الحنان نحو من بكاهم من الشهداء؛ لأنه كان يشوب تشيعه بالحقد الأسود على بني أمية وبني العباس، ونستطيع أن نقول: إنه في هذا الموضوع كان داعيًا صادقًا إلى فكرة لها قيمتها في الحياة الإسلامية، وإنه استطاع بالدفاع عنها أن يحشر في زمرة المجاهدين في الحياة السياسية، لولا أنه بسط لسانه بطائفة من العروات والهنات حين عرض للخلفاء في ألفاظ منكرة أخفها الحكم بأنهم جاءوا من نطف السكارى في أرحام القيان.٢٩
ومن الحق أن نقرر أن الرسالة المطولة التي بعث بها إلى الشيعة في نيسابور تبدو لمن يقرؤها وكأنها صاعقة تصب على رءوس من عادى من الرؤساء، وفي هذه الرسالة يبدو الخوارزمي وهو أزرق الناب مسموم اللعاب، كالحية النضناض، وفيها كذلك يبدو طيبه وخبثه، وكرمه ولؤمه، وشهده وصابه، فهو تارة مؤمن متبتل خاشع صبور حين يقول: «فإن أصابتنا نكبة فذلك ما قد انتظرناه، وعندنا بحمد الله تعالى لكل حالة آلة، ولكل مقامة مقالة؛ فعند المحن الصبر، وعند النعم الشكر.»٣٠ وهو تارة متحزن حقود يعدد آثام الخلفاء من بني أمية وبني العباس، ويذكر ما اقترفوه من الجرائم في تقريب المغنين، وإقصاء الفاطميين، وله في ذلك لذعات مسمومة يعف قلمنا عن تفصيل ما انطوت عليه من خبيث الذم وفاحش الهجاء.

ولا يفوتنا أن نشير إلى أن في تلك الرسالة إشارات إلى نواح من الأدب لها أهمية عظيمة؛ فقد لوح إلى أن هناك أشعارًا وضعت بعد الإسلام على ألسنة الجاهلية معارضة لأشعار المسلمين، ورواها مثل الواقدي ووهب بن منبه التميمي، ومثل الكلبي والشرقي بن القطامي والهيثم بن عدي، وهو بهذا ينص على أن أشعارًا وضعت للحط من علي بن أبي طالب، وعرفنا منه كذلك أن من شعراء الشيعة من قُطع لسانه ومزق ديوانه فضاع شعره وهو عبد الله بن عمار البرقي فصار لذلك من الشخصيات المجهولة في تاريخ الآداب.

وعرفنا منه أيضًا أن عبد الله بن مصعب، ووهب بن وهب البختري، ومروان بن أبي حفصة الأموي، وعبد الله بن قريب الأصمعي، وبكار بن عبد الله الزبيري، وأبا السمط بن أبي الجون الأموي، وابن أبي الشوارب العبشمي؛ هؤلاء جميعًا كانوا متهمين بالتحامل على آل أبي طالب.٣١

وهذا كلام ليس جديدًا في ذاته فقد أشار إلى مثله كُتاب التراجم، ولكن وروده على لسان الخوارزمي مضافًا إلى ما أفاض فيه من عيوب الخلفاء يوضح أشياء كثيرة لها أهميتها في تحديد الاتجاهات الفكرية والأدبية عند الكُتاب والشعراء والمؤلفين، ويدعو إلى الاحتراص مما نسب إلى كثير من المتقدمين.

هوامش

(١) انظر: بقية شعره في اليتيمة (٤ / ١٢٧–١٤٨).
(٢) ابن خلكان (٢ / ٣٥٦).
(٣) ابن خلكان (٢ / ٢٥٥).
(٤) ص٦ رسائل.
(٥) ص٧.
(٦) ياقوت (١ / ١٠٤).
(٧) (١ / ٢٠٦).
(٨) ص١٠٢ رسائل.
(٩) ١٠٥ رسائل.
(١٠) ص١٥.
(١١) ص ١٠٣
(١٢) ص٩٨.
(١٣) ص١١١، ١١٢.
(١٤) ص١٩٢.
(١٥) ص١٠٠.
(١٦) ص٩.
(١٧) ص٤٤.
(١٨) ص١٠٣.
(١٩) ورد ما يشبه هذا في كلام أبي الفتح بن العميد إذ قال: «وردت رقعة الشيخ أصغر من عنفقة بقة، وأقصر من أنملة نملة» (ص٣٣٥ ياقوت، ٣٦ ثمار القلوب). وقال الميكالي: كتابك أقصر من نبقة، وأصغر من بقة، وأخون من درة، وأخفى من ذرة. (٤ / ٢٥٥) يتيمة.
(٢٠) ص١١.
(٢١) ص١٠١.
(٢٢) ص١٠٢.
(٢٣) ص٩٩.
(٢٤) ص١٠٧، ١٠٨.
(٢٥) ص١٦٩ من رسائل بديع الزمان.
(٢٦) ص١٠ من رسائل الخوارزمي.
(٢٧) القند: عسل قصب السكر.
(٢٨) ص١١.
(٢٩) ص١٣٣ من رسائل الخوارزمي.
(٣٠) ص١٣٠.
(٣١) ص١٢٩، ١٣٠.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤