«في الليل على فراشي طلبت من تحبه نفسي. طلبته فما وجدته»
لم يغمض لشوشو جفن في تلك الليلة، وإن كانت — على خلاف عادتها — قد بكرت في الذهاب إلى مخدعها، وتركت أختها نجية وحدها مع طفليها، وزعمت أن جفونها مثقلة، وجعلت تتثاءب وتهوم وتتناوم حتى قالت لها نجية: قومي يا حبيبتي. لا تتحاملي على نفسك.
وكانت الأشجار ترى في ضوء غرفتها. وأكثرها قد ذهب مع الربيع رونقه، ولكن بعضها وأدناها إلى النافذة كان مورقًا رفافًا منوّرا، وكان ضوء القمر ينفذ إلى الأوراق الخضراء، ويومض في صفحاتها كأنه قطرات لامعة من الفضة. واستراحت الأطيار والضفادع إلى سكون الليل وسهوم القمر، فانطلقت هذه تنقنق وتلك تصدح أو تصفّر، وودت شوشو في هذه الساعة لو أنها كانت عصفورًا يذهب إلى حيث يشاء ويحلّق في الجو، ويسبح في الفضاء، ويبصر وهو ناشر جناحيه كل ما بين الأرض والسماء — عصفورًا ينحدر على شعاع من نور الشمس أو خيط من ضوء القمر — عصفورًا يرفع منقاره وهو طائر ويتلقى في فمه الدقيق قطرة من المطر — عصفورًا يحط على أعلى فنن في أسمق شجرة، أو يهوي إلى الأرض ويخطو بين أغصان البرسيم فتحجبه، ويضع بيضه الصغير حيث يروقه أو يؤلف عشه، ويمد منقاره إلى الماء حيث يجده ويمص قطرة ويتلفت — عصفورًا ثيابه ولا يبدل أفواف ريشه ولا يكون في رأي العين مع ذلك إلا جميلًا. آه إنه روح الكون ولا شك في العصافير والسحب — سابحة تجوب الآفاق؛ وهي الأزهار والأشجار التي لا تكون إلا عطرة ولا تبدو إلا حالية مونقة ولا يعتورها قلق ولا يساورها اضطراب. آه! لماذا تقلق النفس؟ لأي شيء تطلب ما ليس في اليد وتريد أن تحس وأن تعلم وتبغي أن تحب وأن تَحب؟
ولما بلغ بها التفكير هذا المدى اعتمدت بكوعها على النافذة واتخذت من كفيها كأسًا لذقنها. لقد تغيرت الدنيا كلها في يومين اثنين، لا بل في يوم واحد، نعم؛ كانت تحب إبراهيم من قبل كما يمكن أن تحب أخاها لو أن لها أخًا، غير أنها لم تكن تحس بمثل هذا الحنين إليه. ولا كانت تصبو إلى مشاطرته كل شيء؛ بل إلى أن تهبه وتمنحه نفسها وتسليه وتحميه وتفوز منه بالروح والراحة — الراحة من أي شيء؟ أهذا هو الحب الذي تصفه القصص الفرنسية التي قرأت منها عشرات؟ كلا! تلك حكايات لفقها الخيال النشيط، ومن أين لكتَّاب تلك القصص المزورة أن يعرفوا كيف يثب القلب إلى الحلق وتضطرم النفس وتعود كالبركان الذي يوشك أن ينفجر ويقذف بالحمم؟ أيكون الحب طاغيًا عنيفًا كما تجده هي؟ ويا ليت من يدري كيف صارت تخجل الآن، وتشعر النار تندلع في وجنتيها وبالدموع كأنها ستطفر من عينيها كلما رأته بعد أن طما في نفسها هذا العباب الزاخر وهي بين ذراعيه عند باب الحديقة! إن لهذا الحب روعة ليست لسواه.
وإبراهيم؟ إنه وعر مرّ النفس — لماذا يا ترى؟ ألا تستطيع أن تستدرجه حتى يكاشفها بما تنطوي عليه أضالعه لتحيط خبرًا بدواعي هذه المرارة؟ ولكنه حتى كثير الجهامة، وإن كان من واجبي أن أعترف أنه ظريف الدعابة مليح الفكاهة حين تسلس نفسه ويصفو أفقه، وآه من عينه على رقتها! لم تر شوشو أحدّ منها ولا أنفذ، هي عين تأخذ كل ما دق وجل مما يقع تحتها فليس يفوتها شيء حتى ما هو مغيّب في الصدور. وياما كان أحلاها هنيهة على قصرها، وأنا بين ذراعيه ورأسي على كتفه! وما كان أرقه وأحناه وهو ينحيني عنه وقد تصلبت عضلات وجهه حتى صار كالدمية المنحوتة من الصخر، والورود البيضاء ترف في حوضها كأنها مصوغة من ذوب أشعة القمر، والبقرة التي أزعجته وأضحكتنا في الصباح منه مثقلة الأثداء تنظر بعيني نائمة، والأفنان تهتز وتترنح فوق رأسينا ولأوراقها حفيف مطرب، والسماء تبدو من خلالها شتى الشكول، وندى الصباح على وجهينا، والسكون واسع عظيم؛ وكأن الدنيا كلها في صلاة وتسبيح، وقلبي مثلها يسبّح بحمد الله. لقد كنت سعيدة، وأظنه هو أيضًا كان سعيدًا على الرغم مما كان في وجهه. ما أشد سحر هذا الحب الذي يجمِّل الدنيا ويفيض عليها من الفتنة ما لم يكن لها، ويحيلها كالحلم اللذيذ لا بل كالصوت الجميل … كالنغمة العذبة … كالغناء الملائكي. لكأن روحي هائمة مع روحه الآن.. لم تعد روحي في بدني فليتها تظلُ معه هائمة، فما أريد أن ترتد على جسمي.. لست ابغي أكثر من هذا. أبدًا. أبدًا! إيه أيتها الغبطة، نشدتك الحب ألا ما بقيت معي! لا تنقضي.. لا تذهبي عني!
ولكنه يفزعني … سبحات عقله تخيفني ووثبات خياله ترعبني فأتضاءل وأتضاءل، أحس كأني لم أعد شيئًا! ما أقساه حين يفتح عينيه كأنما يريد أن يلتهم بهما الدنيا. ويروح يتكلم كأنْ ليس معه أحد. لا يحسني في تلك اللحظات ولا أظنه يراني، ويخيل إلى أنه يبصر ما ورائى من خلال بدني.. وانتَفَضَتْ كأنما سرت في جسمها رعدة فلفّت شملة الصوف التي كانت على كتفيها وجمعت أطرافها على يديها فوق صدرها ومضت إلى السرير، وقعدت وتنهدت، وقد طاف برأسها أن هناك سرًا هو علة هذه الأطوار الغريبة من إبراهيم. فإن له ساعات يطول فيها وجومه فلا تتحرك حتى شفتاه؛ وأحيانًا ينفجر غاضبًا بما لا يكاد تفهمه فيحيرها ويروعها، وطورًا تنبسط نفسه إلى الحياة والدنيا وتهش روحه فلا يكاد يطيق جسمه، وطورًا آخر يضحك ويلعب كأنه جديد في الدنيا لا يعرف إلا صفحتها المشرقة — ليس كل هذا عفوًا! ترى ماذا يجيش في صدره هذا؟ ألا يمكن أن أعلم؟ كلا! لا أمل. فإنه كتوم، كتوم متكبر كما يقول، يعد الإفضاء بما في نفسه ضربًا من الشكوى. وكل شكوى عنده ضعف لا يليق بالرجل. وا أسفاه! لن أعرف أيحبني كما أحبه؟ لن أسمع اللغة التي أود لو يخاطبني بها. لغة الحب المجنحة. لغة القلب النارية. كلا لا أمل في هذا أيضًا. لأنه شيء ينكره خلقه الوعر.
واشتهت أن تقول بشجوها، وأن تصب في أذن إنسان ما حديث حبها، وأن تطرح عن قلبها ثقل هذا الكتمان. ولكن لمن؟ ألأختها؟ واأسفاه! إن هذا يكون جنونًا مطبقًا، فما تستطيع أختها أن تقدر الحب إلا بين زوجين، وحتى بين الزوجين لا يليق عندها أن يجري كلام فيه، أختها نجية؟ إنها ليستْ سوى كذا قنطار من اللحم، وما عرفت قط إلا العفاريت والخرافات. ولا عهدتها شوشو تستطيع أن تنزل عن شيء مما درجت عليه.
ووجدت شوشو نفسها تنحى على أختها كأن لها عندها ثارًا. فعجبت لهذا وأسفت وانثنت واعتذرت لها بنشأتها وجهلها، ولكن أسُدَّت الدنيا فلا سبيل إلى أحد تبّثه ما في نفسها؟ وخطر لها أن أختها الوسطى سميحة أقدر على الفهم، غير أن سميحة في الإسكندرية مع ابن عمها (زوج نجية)، وعلى أن مكاشفتها بهذا الحب، مسألة فيها نظر كثير. فإن سميحة أكبر من شوشو، والكبرى تسبق الصغرى إلى الزواج، وليس بمجهول أن سميحة ما انفكت منذ سنتين تتحبب إلى إبراهيم وتحاول أن تستولي على هواه وتقتنص قلبه، وابتسمت شوشو وهي تفكر في هذا، فما يخفى عليها أن إبراهيم لا يطيق سميحة، إنه على الرغم مما هو معهود فيه ومعروف عنه من ضبط النفس والقدرة على كتمان عواطفه، لا يحاول أن يداجي سميحة أو يداريها، ولا يتكلف أن يكتمها أنه يمقتها، فهو يحرّف اسمها ويدعوها «سوسة» ولا يكون إلا سيئ الخلق في حضرتها، بل لا يزال يفر من مجلسها كلما وسعة ذلك. وهي؟ واأسفاه! لا تنهزم ولا تبالي هذه الجفوة ولا تحفل نفوره منها، بل تزداد شدًا عليه ومطاردة له، ومع أنه سرّ شوشو أن تشعر أن في وسعها أن تكون على يقين من أن «سوسة» لا أمل لها في إبراهيم، وأن لها «أي شوشو» أن تطمئن، إلا أنه لم يخف عليها أن كون «سوسو» لم تتزوج بعد، سيكظ الطريق بالعقبات والمصاعب، ويجعل أملها هي، أي شوشو لا أقرب ولا أيسر. فنكست رأسها وقد اغرورقت عيناها وزايلتها الغبطة التي كانت تحسها، وحلّ محلها الاكتئاب، وبدأ اليأس يدب في صدرها فأحست أنها توشك أن تختنق. ماذا تصنع؟ أين القلب الذي يمكن أن يعطف عليها ويرثيَ لها في هذه المحنة؟ بل أين المخلوق الذي تستطيع أن تبيحه دخيلتها وتفضي إليه بسرها؟ لا أحد! وهالها أن تشعر بالوحدة في هذا العالم الزاخر، وأن ترى إلى أى حد أرضاها حبها لإبراهيم مستفردة، وفى هذه اللحظة فقط أدركت أن حولها أربعة جدران سميكة، وأن هذه الجدران الأربعة — من ورائها ومن قدامها وعن يمينها وعن شمالها — محيطة بها مسدودة عليها حيثما تكون من الأرض. لماذا خلقها الله في مصر؟ لماذا يضرب عليها هذا الشقاء؟ حتى إبراهيم لا يسعها أن تذهب إليه وتقول له: «إني أحبك» كلا! هذا أيضًا مستحيل. لأن التقاليد والآداب تأبى ذلك. وإنها لواثقة الآن أن إبراهيم يحبها وأنه يتمنى لو استطاع أن يعلن لها حبه، ولكنه مثلها تقيد لسانه التقاليد والآداب. وما أدراها؟ لعله الآن — في هذه اللحظة بعينها — تؤرقه الحيرة والكمد — إلا أن في هذا العزاءَ لقلبها. وبحسبها أن تعلم أنه مثلها موجع مكروب مهموم مؤرق. ولكن من يدري! حتى هذا العزاء التافه فيه شك كبير! ألا تستطيع أن تذهب إليه وترى؟ واأسفاه! كان هذا أمس — أمس فقط — ممكنًا! لشدّ ما يتغير كل شيء في يوم وليلة، بل في ساعة واحدة، لم تكن أمس قد انتهت إلى الاعتراف والإقرار فيما بينها وبين نفسها بهذا الحب، فلم تكن تخجل أن تجري إليه وتدفع الباب في جرأة وتوقظه إذا كان نائمًا، وتجره من رجليه، وتمازحه وتداعبه، وتكون معه كما تكون الأخت المدللة مع أخيها الذي يحبها، أما اليوم، فقد سدّ شيطان الحب هذا الطريق. ولكن لماذا؟ لا تدري، وكل ما تدريه هو أنها صارت تستحي حتى أن تلقاه بعد أن عرفت ما في نفسها له.
ولكن ألا سبيل مع ذلك إلى معرفة ما تصبو إلى معرفته؟ ألا يمكن أن توفد.. من؟ فاطمة؟ ليس ثم غيرها. إنها أمينة مخلصة وفيها وفاء. وانشرح صدرها فتسللت من غرفتها إلى حيث فاطمة نائمة. وكانت ملفوفة في لحافها ولا شيء يبدو منها، فكشفت عن وجهها وجعلت تحركها حتى أيقظتها. وأشارت إليها أن تتبعها في صمت، ولما صارتا في غرفة شوشو قالت فاطمة وهي تفرك عينيها: نعم ياستى.
فابتسمت لها شوشو ودنت منها ووضعت كلتا يديها على كتفيها وقالت: أريد منك أن تذهبى إلى السلاملك وتنظري ماذا يصنع إبراهيم. فأفاقت المسكينة جدًا ودقت على صدرها بكفها وقالت: «أنا؟ أنا ياستى»؟
فأسرعت شوشو تزجرها عن رفع صوتها وقالت: «هس. لا تدعى أحدًا يسمع. نعم أنت، وما الضرر»؟
قالت: «الضرر؟ أتريدين أن يقتلني! إن سيدي إبراهيم صعب لا يا ستي»!
قالت شوشو: «لا عليك. سأعطيك فستاني الأخضر. إنه جديد».
فقالت فاطمة وهي لا تفهم: «ولكن لماذا لا تذهبين أنت»؟
نعم لماذا لا تذهب هى؟ يا ليت من يدري كيف صار هذا عسيرًا؟ ورأت فاطمة أن ستها شوشو واقفة مطرقة وفى وجهها سهوم غريب. فأدركها العطف على ستها، ولكن خوفها من إبراهيم كان أعظم من رثائها لشوشو فقالت: ثم إنه لا يليق يا ستي أن أذهب إليه في الليل هكذا؟ هذا عيب! ماذا يقول عني؟ لا لا يا ستي؟ أتريدين يقتلني سيدي الشيخ؟
ولكن هذا العذر الذي تقدمت به فاطمة لتنجو، هو بعينه الذي هوّن الأمر على شوشو ويسّر لها الحل فقالت: لن تذهبى وحدك. سأرافقك. وأقف فى الصالة وأن تتقدمين إلى الباب وتفتحينه بلطف وتنظرين. فإذا سألك أو زجرك أسرعت إلى نجدتك. افعلى لأجل خاطرى يافاطمة.
– ولكنه لا شك الآن نائم يا ستى.
– لا، لا، لا.
– كيف تعرفين؟
وزادت دهشة الخادمة وصار اللغز فيما ترى أعوص. ولكنها ليست مطالبة بالتفكير ولا بحل الألغاز، وتذكرت الفستان الأخضر وأن سيدها لم يشتر لها في هذا الشتاء كسوة، وسيدتها نجية لم تخلع عليها شيئًا من ثيابها القديمة، فتوكلت على الله وخرجت تطلب المصباح فمنعتها شوشو. ومضيا معًا في الظلام والبرد، وشوشو تسأل نفسها: «ما آخر هذا الحب يا ترى؟».