الفصل الثالث

«كل لتكون فيك قوة إذ تسير في الطريق..»

صعد إبراهيم وشوشو — أم ترى ينبغي أن نقول شوشو وإبراهيم؟ إلى غرفة الطعام فألفيا حول المائدة «نجية» كبرى أخوات شوشو، وابنيها. وهي سيدة جميلة الوجه، ولكنها ضخمة الجسم مترهلة اللحم، ذات معدة — وما لنا لا نقول «كرشًا»؟ — تمشى أمامها. ولها إيمان راسخ بالمشائين في الظلام، ونعني بهم الشياطين والعفاريت والأرواح، وبأولياء الله الصالحين، غير أن إيمانها بأولئك أقوى وأعمق منه بهؤلاء، وأكثر ما تدور أحاديثها وقصصها بالليل عنهم، وما أقل من لم تقل له «لا شك أنك رأيت عفريتًا. لقد رأيتهم انا بعينى هذه مرات عديدة في البيت وحوله. ولكنهم لا يؤذونك إلا إذا كلمتهم أو تعرضت لهم».

وللعفاريت معها حادثة لا تكف عن ذكرها كلما عرضت مناسبة. وتلك أنها فيها مضى من الزمن وفي مفتتح حياتها مع زوجها، قامت بالليل إلى حاجتها واستصحبت معها خادمتها فاطمة الزنجية التي عرفتها في الفصل السابق، فلم تكد تبلغ الحمام حتى سمعت وقع حوافر المعيز صاعدة ونازلة على السلم، وعابثة في المطبخ، فصرخت وعادت تعدو إلى غرفتها ولكن زوجها أبى أن يصدق أو يلتفت إلى سبب فزعها «فلما أصبحنا وجدنا كل الأطباق التي كانت في المطبخ مكسرة، ووجدنا ثلاثة من الغنم ميتة. فهل كسرت الأطباق نفسها؟ ومع ذلك يأبى ابن عمي (أى زوجها) أن يصدق»!

وتضرب بطن يسراها على ظهر يمناها فوق كرشها الكروية ومن أجل هذا تعنى قبل الذهاب إلى مخدعها بأن تمر بغرفة بنيها، ومن تكون في ضيافتها من أخواتها، وأن تمسح رؤوسهم وتتلو آية الكرسي ثم تستودعهم الله وتمضي.

وهي من الطراز المحافظ الذي يستنكر كل جديد ويعده بدعة يجب أن يستغفر الله منها ويعاذ به من شرها. ولزوجها بيت في رمل الإسكندرية مدَ إليه أسلاك الكهرباء فاعترضت وقاومت ما استطاعت، فلما أعياها الأمر وأصر زوجها على الكهرباء أبت كل الإباء أن تدخلها غرفة نومها! فرأى زوجها أن يرضيها بهذه التضحية الصغيرة. ولا يزال البيت تضيئه الكهرباء إلا هذه الغرفة التي بقيت كأنها قطعة ممتلكة من الزمن الغابر. وجهز زوجها الحمام بالأدوات الحديثة فأغضبها منه هذا، وأصرت على الاستحمام في «الطشت» وإهمال الحوض!

أما التليفون فله في بيتها بالرمل عشر سنوات ومع ذلك لا تعرف كيف تستعمله، وتقول شوشو عنها إنها تطلب الرقم هكذا «٩ الرمل ١٥» بدلًا من الرمل ١٥٩ مثلًا!

ومقياس الصحة عندها مقدار ما يصيبه المرء من طعام، فأصح الناس من يلتهمه التهامًا ويأتى على ما أمامه كأنه لن يصيب رزقه غدًا. بل قيمة المرء رهن بذلك، فأحق الناس بالإكبار الأكول البطين أما من يأكل بقدر أو لا يأكل حتى يجوع فهو طفل لم يكبر ولم يشب عن الطوق ولو جلله الشيب وقوست قناته السنون أو الحادثات. وأثمن ما تهديه من النصائح إلى المريض أو الضعيف أو الحزين أن «كل ثم كل ثم كل»! هذا عندنا الدواء من الحمى والمغص والصداع الخ. ولا تصدق الأطباء فإنهم يميتون الناس قبل أن تفرغ آجالهم! وما بعجيب بعد ذلك أن صغر في عينها صاحبنا إبراهيم وإن كان قد ناهز الثامنة والعشرين وماتت له زوجة وبنون لم يعش منهم إلا واحد.

وجعلت تسأله على الطعام عن صحته، وعن العملية الجراحية التي أجريت له وكيف احتمل الكلوروفورم — أو البنج كما تعرفه — وعن المستشفى الذي أقام به حتى شفي وتقول: يا ابن خالتي! كيف رضيت بالبنج؟

فيقول: «وهل كان من الممكن أن أحتمل العملية بغير ذلك»؟

فتهز رأسها غير مصدقة، وتسأل: «وهل كانت العملية ضرورية؟ لقد لبثت لا أنام منذ علمت بخبرها، حتى طمأنني ابن عمي وأنبأني أنك خرجت من المستشفى، ومع ذلك لم أطمئن تماما إلا بعد أن علمت أنك آت إلينا. وكيف صحتك الآن»؟

– كما ترين، حسنة.

– لقد كان دخولك المستشفى حماقة! فكر.. إن المستشفى كالمجزرة، ولا بد أنه مملوء بالعفاريت.

– لا، لا، لا عفاريت ولا ….

– كيف يمكن؟ الدم … والذين يموتون فيه. إن بيتنا هذا جديد، ومع ذلك فيه عفاريت. ولو كان زوجي هنا لقص عليك كيف تطلع وتنزل كالمعيز على السلم الخشبي.

– ابن ابن خالتي ينام وحده في ذلك الجناح، ولا يحسن أن يعرف هذه الحكاية التي سمعناها مائة مرة.

فقال إبراهيم: «دعيها يا شوشو تقصها، فإن سِيَرَ العفاريت لا تفزعني، ولكم تمنيت أن يظهر لي عفريت! ولكم سرت عمدًا بين المقابر في الظلام الحالك، آملًا أن أرى واحدًا».

فصاحت به نجية: «ماذا تقول؟ أمجنون أنت»؟

فلم يغضب إبراهيم لأنه كان أعرف بها من أن يثيره كلامها ولم يزد على أن قال لها: وما الضرر؟

– الضرر؟ أحذر أن تصنع هذا هنا! لقد كان أحمد خادمنا عائدًا على حماره من المحطة في بعض الليالي، فلما دنا من البيت وقف الحمار بغتة، ونشر أذنيه وأدار رأسه، ونظر أحمد فإذا الطريق قد سدّه مارد، ولكن الله ألهمه أن يتلو آيات من كتاب الله، وأن يستحث الحمار فنجا ولم يكد. فحاذر أن تخرج في الليل وحدك! إنك لست في مصر، ولا آمن عليك إن خرجت، وسأمر على الخدم أن يخبروني كلما هممت بذلك! يجب أن تعود سليمًا إلى بيتك.

•••

وكانوا قد فرغوا من الطعام، فمضت به شوشو إلى غرفة أخرى، وجلست إلى جانبه تستخبره عن المستشفى، وكيف كان يقضي لياليه فيها، ومن كان يؤنسه في وحدته، وكان يوجز ما استطاع في أجوبته، وتأبى هي إلا الإطناب وتلح فيه: قل لي. قل بالله (وأحاطت عنقه بذراعها اليمنى) أكنت تقضي الليل كله وحدك؟

– نعم.

– ألا يجالسك أحد؟

– الزوار.

– وإذا لم يزرك أحد؟

– أنا أحب الوحدة.

– ولكن هبني مكانك. فأنا لا أحب الوحدة ولا أطيقها.

– هناك الممرضات.

– آه. أهن شابات أم عجائز؟

– لا أعرف إلا المستشفى الذي كنت فيه.

– حدثني عنه إذًا! لماذا لا تتكلم! إن هذه ليست عادتك! أهناك شيء لا يصح أن أعرفه؟

– كلا.

– إذًا لماذا تأبى الكلام عن المستشفي؟

– لأنها ذكرى.. تؤلمنى.

– هذا صحيح! ولكنك جدير بأن تحمد الله على شفائك مع ذلك.

فصمت قليلًا وقال وهو مطرق: «لا أدري»!

فاعتدلت ونظرت إليه بعينيها العميقتين، ووضعت يمناها على جبينه، ورفعت رأسه وسألته: «كيف لا تدري؟ لست أفهم»!

فقال وجفنه مرخى، ونظرته إلى الأرض، وإصبعه ينفض السيجارة.

– شوشو! اسمعي! إنك لا تزالين صغيرة.

– كلا! لست صغيرة! أنا أطول منك. أما ترى.

ونهضت ورفعت أطراف كفيها إلى كتفيها، وعيناها إلى صدرها ثم هوت يديها إلى ركبتيها ووضعتهما عليهما، وانحنت إليه، وحدقت في وجهه باسمة، وهمت بالكلام، ولكن هيئته صدتها، فأسرعت إلى مكانها بجانبه وجذبته من كتفه وقالت: مالك؟ قل لي!

فقال وهو منحنِ إلى الأرض: لا شيء! اطمئني! كل شيء..

– كل ماذا؟

فنهض ومضى إلى النافذة ويداه في جيبي معطفه، وجعل ينظر من خلال الزجاج دون أن يرى شيئا، ولحقت به ووقفت إلى يساره هنيهة، فلما لم يلتفت إليها طوقته بذراعيها وقالت وهي تجذبه جذبة بعد كل كلمة: إبراهيم! ابن خالتي! مالك؟ تكلم! لست أفهم!

– ربما كان خيرًا لك ألا تفهميني.

فأدارت إليه وجهها وقالت: ولكني لا أستطيع أن أراك هكذا! ألست بنت خالتك؟ أم أنت تستصغرنى؟

– كلا يا شوشو.

– قل لي إذًا ولا تدعني أتألم من أجلك هكذا بسبب جهلي ما يؤلمك.

– ماذا أقول؟ لقد دخلت المستشفى لأتداوى من مرض فشفيت. ولكني خرجت بمرض جديد شرً ما فيه أنه لاطبيب له، إلا..

– إلا من؟ قل أسرع!

– لا أقوى على أكثر من هذا يا شوشو. بل أقول إني ما أتيت إلى هنا إلا لأتداوى ولكن بلا جدوى على ما يظهر.

فجرى ببال شوشو خاطر لَمحت إليه ومنعها الحياء والأدب والمحافظة على كرامة ابن خالتها أن تفصح عنه وجعلت تتمتم: آ.. سامحني ولكن أأنت في حاجة إلى … ما ….

فالتفت إليها بسرعة وقد أدرك غرضها ولم يدعها تتم الكلمة وصاح وقد فاضت نفسه بالإحساس المكتوم.

– يا بلهاء.

وانطلق هاربًا من الغرفة. وخلّفَها واقفة مبهوتة واجمة تحملق في أثره وفمها مفتوح من الدهشة؛ حتى كأنما أحالها بصيحته هذه تمثالًا للبلاهة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤